نظام الاستبداد المعمم في سوريا مقدماته ومراحله - 19
لومــــــوند : نبيل ملحم
التاسع عشر: الإطار الطبقي لسيرورة ترييف وتطييف الدولة والسلطة:
لا يمكن باعتقادي معرفة وتحديد الإطار الطبقي لسيرورة ترييف وتطييف الدولة والسلطة في سوريا بدءاً من 8 آذار 1963 بشكل عام، وانطلاقاً من 16 تشرين الثاني من عام 1970 بشكل خاص، وهو تاريخ صعود النظام الأسدي إلى أعلى سدة السلطة في سوريا من خلال الانقلاب العسكري الذي أطلق عليه النظام اسم الحركة التصحيحية، أقول : لا يمكن معرفة ذلك من دون معرفة وتحديد الاقتصاد السياسي الخاص بنظم الاستبداد المعمم من جهة أولى، وكذلك معرفة الطبيعة الحثالية لهذا النوع من النظم من جهة ثانية، يضاف إلى ذلك معرفة الطبيعة الخاصة لنشوء وتشكل ونوع الطبقات الاجتماعية في ظل نوع كهذا من النظم من جهة ثالثة، فالسؤال الذي يطرح نفسه يقول: ما هو الاقتصاد السياسي الخاص والمميز لنظم الاستبداد المعمم، وحيث أن الاقتصاد السياسي لنظام الاستبداد المعمم الأسدي في سوريا يشكل حالة نموذجية مميزة لنوع كهذا من الاقتصاد السياسي والذي يمكن أن نشتق منه أي حالة قريبة أو بعيدة أو مشابهة له؟؟؟
الاقتصاد السياسي لنظام الاستبداد المعمم الأسدي
يمكن القول: في كل النظم الاجتماعية السياسية الطبيعية التي عرفها التاريخ القديم والوسيط والحديث، يتحدد موقع الفرد في سلم الهرم الاجتماعي والطبقي - كقاعدة عامة، ومع شيء من التبسيط - من خلال علاقته بوسائل الإنتاج المادية، ففي النظم الاجتماعية البرجوازية الطبيعية، ينتمي الفرد إلى الطبقة البرجوازية عندما يكون مالكاً للمصنع أو الورشة أو رأس المال أو حتى مالك لقدرات عقلية علمية أو تقنية عالية، أو ينتمي إلى الطبقات الفقيرة من عمال وغيرهم من المنتجين عندما لا يملك الفرد أي شيء من هذا. وفي النظم الاجتماعية الإقطاعية الطبيعية كان ينتمي الفرد إلى الطبقة الإقطاعية عندما يكون مالكاً كبيراً للأراضي، وبالمقابل كان ينتمي الفرد في هكذا مجتمعات لطبقة الفلاحين الفقراء (أو الأقنان) عندما لا يملك الأراضي أو أي قطعة من الأرض. أما في حالة نظم الاستبداد المعمم (وهي نظم اجتماعية سياسية استثنائية) والتي تتحدد وتقوم من خلال احتلال واحتكار الدولة / السلطة للمجال السياسي والاقتصادي والإيديولوجي المكونة للبناء الاجتماعي، وحيث يستبطن هنا نتيجة هذا الاحتلال والاحتكار لمجالات البناء الاجتماعي نمط الإنتاج في أحشاء الدولة، إن كان ذلك في نظم الاستبداد المعمم القديمة العبودية أو الإقطاعية أو الحديثة البرجوازية.
أقول: في هذه الحالات فإن موقع الفرد في سلم التراتب الطبقي الاجتماعي يتحدد أساساً لا من خلال علاقته بوسائل الإنتاج المادي، وإنما من خلال الشرب من وعاءين اثنين، وعاء الولاء للسلطة السياسية من جهة أولى، ووعاء الفساد الذي تنتجه وتعممه هذه السلطة من جهة ثانية، مع الانتباه أن الوعاءين موصولان مع بعضهما بقناة السلطة ويحكمهما مبدأ الأواني المستطرقة، فالشرب من الوعاء الأول سيقود بالضرورة إلى الشرب من الوعاء الثاني والعكس صحيح، فبمقدار ما تشرب من هذين الوعاءين ترتقي في سلم التراتب الاجتماعي الطبقي، وبمقدار ما ترفض الشرب من هذين الوعاءين القذرين تراوح في نفس المكان وأغلب الأحيان تنحدر إلى الأسفل على درجات هذا السلم، فهنا في هذه الحالة لا تتشكل الطبقات الاجتماعية بشكلها الكلاسيكي من خلال العلاقة بوسائل الإنتاج والملكية، فنجد سادة وعبيداً أو إقطاعاً وفلاحين أو برجوازية وطبقة عاملة، بل يتشكل نوع جديد من الطبقات الاجتماعية يتم من خلال التموضع السياسي والأخلاقي داخل البناء الاجتماعي لكيان الدولة بأجهزتها ومؤسساتها المختلفة الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية والعسكرية والأمنية ...إلخ، أي هنا لا يسعى أفراد المجتمع إلى تغيير واقع علاقتهم بالملكية من خلال تغيير النظام الاجتماعي والسياسي القائم أو من خلال السعي لتغيير علاقتهم بملكية وسائل الإنتاج، بل من خلال إعادة توضعهم وتموضعهم السياسي والأخلاقي داخل أجهزة الدولة المختلفة في إطار نفس النظام الاجتماعي والسياسي القائم، حيث نجد في قمة الهرم الطبقي ما يمكن تسميته بالطبقة العليا للدولة الاستبدادية المعممة، وفي أسفل هذا الهرم نجد طبقة يمكن أن نسميها الطبقة السفلى أو الطبقة الدنيا للدولة الاستبدادية المعممة، وحيث تتوضع بين هاتين الطبقتين الرئيسيتين الطبقة الوسطى للدولة الاستبدادية المعممة.
إن ما يميز هذه النظم ليس شكل وبنية الطبقات الاجتماعية التي تنشأ وتولد في أحشاء الدولة، وليس الشكل الخاص للصراع الطبقي السياسي الذي يدور بينها، إن ما يميز هذه النظم الاجتماعية، وما هو خطير في قيامها في أي مجتمع يتجلى في:
أولاً: إن هذه النظم تعمل على إقامة سوق واسع ودائم ومفتوح ليل نهار لبيع الكرامة الإنسانية في سوق السلطة السياسية، إن كان بيعها من خلال تقديم الولاء السياسي للسلطة السياسية - وتحديداً الولاء لرأس النظام - مع الاستعداد الدائم للرقص على طبلها ومزمارها، وفي كل المناسبات، وكما تشاء السلطة وحيثما تشاء، أو من خلال قبول الفرد الدخول إلى عالم الفساد داخل مؤسسات وأجهزة الدولة المختلفة، وحيث أن سرقة أموال قطاع الدولة هو الوجهة والمجال الذي يتم فيه الفساد والإفساد وتجميع الثروة والصعود في السلم الوظيفي وداخل الهرم الطبقي الاجتماعي العام. ففي هذه السوق التي يتم فيها بيع الكرامة الإنسانية، نجد قانوناً جديداً للتطور والصعود الطبقي والاجتماعي، قانون لا يختلف عن القانون الحاكم في ظل النظم الاجتماعية والسياسية الطبيعية فحسب، بل قانون جديد يخالف حتى قانون دارون في تطور الكائنات الحية، فإذا كان قانون دارون لتطور الكائنات الحية في الطبيعة، يقول: إن البقاء والصعود في سلم التطور هو للأقوى أي لمن لديه قدرة أكثر من غيره من الكائنات الحية لمقاومة شروط الطبيعة وتقلباتها، أو لمن لديه قدرة أكثر على التأقلم مع شروط الطبيعة وتقلباتها، فإن قانون الصعود والتطور الطبقي في ظل نوع كهذا من النظم يقول: إن البقاء الطبقي والصعود الطبقي والتطور الطبقي هو للأوطى، وبما يعني أن الصعود الطبقي متاح لمن لديه استعداد أكثر من غيره لبيع كرامته الإنسانية وهدرها أمام أبواب وعتبات السلطة وأصحاب السلطة، أو لمن لديه قدرة أكثر على التأقلم مع شروط بيع كرامته الإنسانية في سوق النخاسة التابع للسلطة السياسية.
ثانياً: وفق هذه الآلية للفرز والتفارق الطبقي داخل المجتمع لا ينقسم المجتمع إلى طبقات وشرائح أفقية فحسب، بل يوّلد ذلك انقساماً عمودياً حاداً يقسم المجتمع إلى شرائح عمودية تخترق الهرم الطبقي الاجتماعي من قمته إلى قاعدته، فعند كل مستوى في سلم التراتب الوظيفي داخل أجهزة ومؤسسات الدولة ينطلق سباق محموم يوَلده وهم الصعود والارتقاء الوظيفي والاجتماعي والطبقي من خلال الشرب أكثر من وعاءي الولاء والفساد، وهذا السعي نحو الصعود يولد صراعاً مكشوفاً ومفتوحاً داخل كل الشرائح الاجتماعية والطبقية، إن كان منها الواقع داخل مجتمع الدولة (أجهزتها ومؤسساتها المختلفة) أو حتى القسم الواقع خارج كيان الدولة من المجتمع ما يسمى القطاع الخاص.
أقول: وهم الصعود لأن إمكانية الوصول والصعود ليست متاحة للجميع بالمعنى الواقعي والعملي، ولكن الجميع يقعون فريسة الوهم، والكل يسعى لأن يكون الوصول من نصيبه، بهذه الطريقة يتم فتح ثم توسيع عالم الولاء وفتح وتوسيع عالم الفساد إلى الدرجة والحد الذي يمكننا بأن نقول: عن مجتمع دولة الاستبداد المعمم بأنه عالم يعج بالفساد والولاء بامتياز، حيث يطال الفساد والتلوث في الفساد الجميع، من المراتب الدنيا في سلم التراتب الوظيفي إلى المراتب العليا في هذا السلم، وبهذه الطريقة تستطيع نظم الاستبداد المعمم أن تجد لها في بعض المراحل ولا سيما في مرحلة الصعود والازدهار من عمر الدولة الاستبدادية المعممة، وحيث أن الدولة في تلك المرحلة تكون قادرة أن تمتص وتبتلع أقصى عدد ممكن من أفراد المجتمع في أحشائها( مؤسساتها وأجهزتها المختلفة)، أقول: تستطيع أن تبني قاعدة بشرية أو قاعدة اجتماعية ترتكز إليها وتستخدمها في عملية الضغط على باقي أفراد المجتمع من أجل جعلهم يركعون عند أقدام الدولة الاستبدادية المعممة. إن الصراع المكشوف داخل الشرائح (وحتى داخل العائلة الواحدة) من أجل الوصول والارتقاء يجعل الصراع الطبقي في بعض المراحل في غير مكانه الطبيعي، أي يجعله صراعاً بين أفراد المجتمع، داخل الشريحة الواحدة، وداخل العائلة الواحدة (بين الأخوة)، لا بين طبقة عليا وطبقة سفلى للدولة، فالصراع هنا بين الصاعدين والهابطين داخل كل الشرائح وفي كل المستويات، بين من قبلوا أن يشربوا ويدخلوا إلى عالم الولاء والفساد وبين من يرفضون ولا يقبلون الدخول إلى هذين العالمين. وهنا ينبغي التنويه إلى أن الصعود في السلم الوظيفي - كقاعدة عامة مع بعض الاستثناءات النادرة - لا يتم على أساس الكفاءة، وإنما يتم من خلال القدرة (الأخلاقية) على الولوج والدخول إلى عالم الولاء والفساد، وأن الوهم في الصعود والارتقاء ينشأ من خلال رؤية صعود بعض الأفراد من مرتبة إلى مرتبة أعلى من دون أن يمتلكوا أي مؤهلات وكفاءات وظيفية ومهنية، وإنما من خلال إتقانهم (نتيجة انحطاطهم الأخلاقي) لعملية الغوص في عالم الولاء والفساد الذي تفتحه الدولة أمام هؤلاء المنحطين أخلاقيا وسياسياً.
ثالثاً: إن الانحطاط الأخلاقي لمن يبيعون كرامتهم الإنسانية في سوق النخاسة الذي تفتتحه السلطة السياسية لا يتأتى من تقديم الولاء والتأييد لسلطة ونظام مستبد وفاسد ومفسد فحسب، بل تأتي كذلك من أن ثمن هذا التأييد أو قبول السلطة لهذا التأييد يمر من خلال استعداد وانخراط وتطوع الفرد لأن يكون في خدمة الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، ففي ظل نظم الاستبداد المعمم فإن تقديم الولاء للنظام السياسي يمر من بوابة الأجهزة الأمنية، أي يمر الولاء من خلال الوشاية والإخبار عن الآخرين من أفراد المجتمع، الإخبار عن زميل في العمل أو عن أي فرد من أبناء الحي أو الشارع الذي يقيم فيه أو على أحد الأقرباء أو الأصدقاء أو حتى على أحد أفراد العائلة في المنزل الذي يعيش تحت سقفه. ففي ظل نوع كهذا من النظم وفي حمأة الصراع والسباق والتهاوش من أجل الصعود الطبقي نجد ولادة حالة من التجنيد الطوعي لجيش من الأفراد المخبرين بعضهم على بعض، في شروط نوع من النظم تفوق فيه عدد المستقبلات من الأفرع الأمنية وأنواعها وأصنافها عناصر جدول مندلييف للعناصر الكيمائية. إن هذا لا يسهل وقوع المجتمع بما فيه عقل المجتمع وما يدور في خلد أبنائه في قبضة النظام وأجهزته الأمنية فحسب، بل يضع الجميع تحت المراقبة، أقصد بذلك مراقبة من هم في أسفل الهرم الطبقي أو في أسفل السلم الوظيفي ومن هم في القمة، فرأس النظام الذي يضع كل الأجهزة الأمنية تحت تصرفه، يتوفر لديه كل ما يلزم من المعلومات والتقارير لجعل الجميع تحت سيف المحاسبة، محاسبة الذين يرفضون تقديم الولاء من المعارضين لنظامه أو محاسبة أي من الموالين الفاسدين داخل نظامه إذا ما فكر أحدهم بهز ذيله أو تحريك أذنيه بعكس رياح النظام وإرادته.
رابعاً: عدم وجود طبقة سائدة مالكة للثروة بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، فهنا يتم إنتاج وإعادة إنتاج الطبقة السائدة المالكة للثروة والسلطة وفق مشيئة وإرادة رأس هذه السلطة، فرأس هذه السلطة هو موزع الأرزاق ومحددها، فيحرم من يحرم ويغدق على من يريد، وبما يعني أن النظام ورأسه كان قادراً على القضاء على الطبقة المالكة للثروة القديمة التي عرفها المجتمع قبل قيام النظام وصياغة طبقة جديدة مربوطة بشكل وثيق به، أي أن النظام قام بتوليد سلالة طبقية جديدة وعلى جثة السلالة الطبقية القديمة المالكة للثروة، وحيث أن أهم وظائف هذه السلالة الطبقية الجديدة تأييد مشروع تأبيد واستمرار رأس السلطة إلى الأبد في الحكم، أي أن هذه الطبقة الجديدة أصبحت مربوطة بشكل وثيق بمشروع رأس النظام في تشكيل سلالة عائلية حاكمة، فوفق هكذا نوع من الاقتصاد السياسي فقط يمكن فهم نشوء ظاهرة الجمهوريات الملكية في واقعنا العربي، إن كان في سوريا زمن حافظ الأسد الذي استطاع تدشين وتجسيد هذا المشروع على أرض الواقع من خلال توريث السلطة إلى الأسد الابن (بشار الأسد) عام 2000 بعد وفاة الأسد الأب(حافظ الأسد)، وهي ظاهرة كان يمكن لها أن تتكرر في أكثر من ساحة عربية، ففي العراق ولولا عملية إسقاط نظام صدام حسين عام 2003 بفعل الغزو الأمريكي للعراق لكان المجال مفتوحاً أمام ابنه عدي لوراثة عرش أبيه بعد وفاته، كما كانت عملية توريث السلطة ممكنة في ساحات أخرى لولا انطلاق الربيع العربي أواخر العقد الأول من القرن الواحد والعشرين بدءاً من تونس - وهنا يمكن القول استطراداً أن أحد محركات عجلة الربيع العربي كانت لقطع الطريق على تكرار السيناريو السوري في أكثر من "جمهورية" عربية -، ففي ليبيا كان معمر القذافي يعد العدة لتوريث نظامه لابنه سيف الإسلام القذافي، وفي اليمن كان علي عبدالله صالح يعد العدة لتوريث نجله أحمد رأس السلطة اليمنية، وفي مصر كان حسني مبارك يعمل على تهيئة الظروف لتوريث السلطة إلى نجله علاء مبارك.
خامساً: وفق هذا النوع من الاقتصاد السياسي فقد كانت هذه الأنظمة قادرة على تشكيل قاعدة اجتماعية طائفية (الحالة العراقية والسورية) أو قبلية (الحالة اليمنية والليبية) إلى جانب قاعدتها الطبقية السياسية، وبما يعني أن هذه النظم استندت في وجودها واستمرارها على عصبية طبقية مضافاً إليها دعم ومساندة عصبية طائفية أو قبلية، وهو الأمر الذي جعل جبروت وقوة هذه النظم يفوق قوة وقدرة المجتمع، وهي حالة الدولة التي تصبح أقوى من المجتمع. ففي شروط ما أطلقت عليه فيما تقدم من هذا البحث اقتصاد (الوظيفة الحكومية) والذي ساد في سوريا مع مجيء البعث إلى السلطة في 8 آذار عام 1963، وتعميق هذا الاقتصاد ولا سيما طابعه الأمني والعسكري والارتزاقي بعد استحكام النظام الأسدي بها فيما بعد انطلاقاً من 16 تشرين الثاني 1970 بشكل خاص، ففي شروط تحطيم الأطر الصناعية والإنتاجية للبرجوازية التقليدية بدءاً من عمليات التأميم أيام الوحدة مع مصر 1958 مروراً بعمليات وإجراءات التأميم في ظل حكم البعث والتي بلغت ذروتها في عام 1965، حيث لم يبق من البرجوازية التقليدية غير جناحها الكمبرادوري الطفيلي التجاري والعقاري غير المنتج، أقول: في هذه الشروط، وفي ظروف توسع التعليم الجامعي في سوريا، ومع ازدياد تدفق خريجي التعليم الجامعي إلى سوق العمل، فقد استغل النظام الأسدي حاجة أبناء الريف السوري عموماً وأبناء الطائفة العلوية خصوصاً إلى الوظيفة الحكومية كونها شكلت لهم كما ذكرت سابقاً في هذا البحث المصدر الوحيد للعيش والترزق، وحيث أن شروط الدخول إلى الوظيفة الحكومية في ظل النظام الأسدي كما في غيره من نظم الاستبداد المعمم يمر كما يعلم كل السوريين عبر فلترة الجميع من بوابة الولاء للسلطة السياسية بالدرجة الأولى، وحيث أن العبور والارتقاء الطبقي والاجتماعي والوظيفي يمر من خلال المرور من بوابة الدخول إلى عالم الفساد والإفساد ونهب قطاع الدولة من جهة ثانية، أقول: من خلال ذلك استطاع النظام الأسدي إضافة إلى أسباب أخرى ذكرتها فيما تقدم من هذا البحث، وسوف أذكر غيرها من الأسباب السياسية فيما بعد، أقول: استطاع تجميع الطائفة العلوية تحت خيمة السلطة الأسدية (وهي خيمة الولاء والفساد) على شكل ما أطلقت عليه عصبية طائفية علوية أصبحت لها مصلحة اقتصادية طبقية وسياسية وثيقة مع النظام الأسدي، وأصبحت تشكل له سنداً اجتماعياً وسياسياً وطائفياً أضافها النظام إلى رصيده من القاعدة الطبقية السياسية العامة التي تشكلت في سياق صعوده واستمرار وجوده لعقود من الزمن في قمة هرم السلطة والدولة في سوريا.
سادساً: إن هذا النوع من الاقتصاد السياسي لهذه النظم جعل الفساد يتوسع خارج حدود الدولة ليشمل قطاعات كبيرة من المجتمع طالت كل الطبقات الاجتماعية، وهو الأمر الذي قاد إلى خلق نوعين من الانقسام داخل المجتمع: انقسام أفقي وانقسام عمودي، وحيث طال ذلك كل البنى الاجتماعية المكونة للمجتمع بدءاً بالأسرة وصولاً إلى الطبقات الاجتماعية والكيانات الاجتماعية الدينية أو القومية.
سابعاً: لقد استطاع النظام الأسدي عبر سياسة بيع الكرامة الإنسانية في سوق الشرب من وعاءي الولاء والفساد، إفساد الطبقة الوسطى من المجتمع، وهي الطبقة التي تتوسط الهرم الطبقي الاجتماعي وتتوسط الهرم الوظيفي في كيان الدولة، فالطبقة الوسطى للدولة الاستبدادية المعممة والتي يتضخم وجودها الطبقي في فترات ازدهار الدولة الاستبدادية المعممة، وكونها أول من يتلقف الفساد من الطبقة العليا للدولة الاستبدادية نتيجة قربها الطبقي والجغرافي من الطبقة العليا للدولة في سلم التراتب الوظيفي في أجهزة ومؤسسات الدولة المختلفة، وكونها تعيش أكثر من غيرها هاجس الطموح والصعود نحو الأعلى، وكي تبرر وتغطي على ما تقوم به أخلاقياً وثقافياً، فإنها تقوم بتعميم ثقافة الفساد الأخلاقي الذي تجرعته من الطبقة العليا للدولة في كل المستويات وعلى كل الطبقات الاجتماعية، فمن المعروف أن الطبقة الوسطى في أي مجتمع وبحكم مكانتها الثقافية وموقعها في وسط الهرم الطبقي الاجتماعي، فإنها تكون قادرة أكثر من غيرها على إعادة إنتاج وصياغة القيم الأخلاقية والثقافية لكل الطبقات الاجتماعية، فهي الطبقة التي تقوم بتعميم القيم على كل المجتمع وطبقاته، فمع إفساد الطبقة الوسطى داخل المجتمع وتحديداً داخل مجتمع الدولة، يتم نقل هذا الفساد والخراب الأخلاقي إلى كل الطبقات الاجتماعية بشكل شبه تلقائي وآلي.
ثامناً: إن الاقتصاد السياسي لهذه النظم يقوم على فتح المجال لكي يتربع على رأس الهرم الطبقي الاجتماعي حثالة كل وجود بشري أي فتح الأبواب والمجال لصعود حثالة الطبقات الاجتماعية وحثالة العائلات الاجتماعية وحثالة الطوائف والقبائل والعشائر والأقوام والأحزاب والنخب السياسية والثقافية والفنية والعلمية والرياضية .... إلخ. وهنا من المهم التنويه إلى أن القاعدة الاجتماعية لنظم الاستبداد المعمم الشمولية بشكل عام تكونت ونشأت بوصفها قاعدة اجتماعية كلبية وحثالية ويسهل استخدامها كأداة للأعمال القذرة التي تقوم بها النظم الاستبدادية الشمولية.
إن ما هو خطير في صعود هذه الحثالات إلى أعلى الهرم الطبقي الاجتماعي السياسي ليس كونها حثالات كل وجود بشري داخل المجتمع، وإنما مستوى انحطاطها الأخلاقي الذي تتجرعه في طريق صعودها ووصولها للأعلى، وهو الأمر الذي يجعل هذه الطبقة الحثالية إذا ما وضعت في حالة مواجهة مع المجتمع مستعدة لفعل أي شيء متحررة من أي التزام أدبي أو أخلاقي إنساني يلجم أفعالها وأعمالها، أي أن ما هو خطير في المجتمعات التي تعرف هذا النوع من الطبقات الحثالية ونظامها الحثالي هو استعداد هذه الطبقة / النظام لتدمير المجتمع برمته وحتى الأساس المادي لوجوده، وهو ما أطلق عليه السوريون تدمير البشر والحجر والشجر، وإذا ما أردنا التحدث عن كل القاعدة الاجتماعية والطبقية التي ارتكزت عليها هكذا نظم أستطيع القول: بأنه لم يحدث في تاريخ الصراعات البشرية أن كانت نسبة كبيرة وطاغية من الموالين لهذه النظم بهذا المستوى من الانحطاط الأخلاقي. وإذا أردنا التحدث عن المجتمع بشكل عام يمكن القول: بأنه في ظل نوع كهذا من الاقتصاد السياسي القائم على فكر تعفيش الدخل الوطني أي سرقة قطاعات ومؤسسات الدولة المختلفة لصالح العصبية الاجتماعية الطبقية السياسية الحاكمة بشكل عام، فإن أخطر ما يمكن أن تواجهه المجتمعات التي تعيش في ظل دولة الاستبداد المعمم لا تكمن في وجود وانتشار ظاهرة التعفيش للدخل الوطني في صفوف الحاكمين فحسب، بل أن الخطر الأكبر والكارثة الأعظم من ذلك تكمن في نشوء وتعميم هذه الظاهرة لتطال قطاعات خارج إطار وصفوف الحاكمين، حيث تشمل قطاعات كبيرة من المجتمع، وهو الأمر الذي كشف وأعلن عن نفسه في سياق الثورات التي حدثت في العقود الأخيرة على نظم الاستبداد المعمم في العالم، وأقصد هنا نشوء قوى سياسية واجتماعية داخل صفوف الثورة تقوم بتعفيش الثورة لصالحها وعلى حساب وجثة الثورة الحقيقية. ففي قلب نوع كهذا من الاقتصاد السياسي يكمن تفسير الانحطاط السياسي والأخلاقي لمن حلوا حكاماً في العراق بعد نظام صدام حسين، ومن حلوا حكاماً على جثة الاتحاد السوفييتي- نظام بوريس يلتسين المنحط الوضيع وبعده نظام بوتين المافيوي- أو من حلوا حكاماً في بعض ساحات أوروبا الشرقية، كما يمكن تفسير أحد أهم مفارقات بعض ثورات الربيع العربي، وبالأخص السورية والتي تمثلت في كونها من الثورات التي قدمت أكبر عدد من الضحايا على مذبح الحرية في الوقت الذي ظهر إلى جوار ذلك وبموازاته أكبر عدد من لصوص الثورات داخلها.
لا يمكن باعتقادي معرفة وتحديد الإطار الطبقي لسيرورة ترييف وتطييف الدولة والسلطة في سوريا بدءاً من 8 آذار 1963 بشكل عام، وانطلاقاً من 16 تشرين الثاني من عام 1970 بشكل خاص، وهو تاريخ صعود النظام الأسدي إلى أعلى سدة السلطة في سوريا من خلال الانقلاب العسكري الذي أطلق عليه النظام اسم الحركة التصحيحية، أقول : لا يمكن معرفة ذلك من دون معرفة وتحديد الاقتصاد السياسي الخاص بنظم الاستبداد المعمم من جهة أولى، وكذلك معرفة الطبيعة الحثالية لهذا النوع من النظم من جهة ثانية، يضاف إلى ذلك معرفة الطبيعة الخاصة لنشوء وتشكل ونوع الطبقات الاجتماعية في ظل نوع كهذا من النظم من جهة ثالثة، فالسؤال الذي يطرح نفسه يقول: ما هو الاقتصاد السياسي الخاص والمميز لنظم الاستبداد المعمم، وحيث أن الاقتصاد السياسي لنظام الاستبداد المعمم الأسدي في سوريا يشكل حالة نموذجية مميزة لنوع كهذا من الاقتصاد السياسي والذي يمكن أن نشتق منه أي حالة قريبة أو بعيدة أو مشابهة له؟؟؟
الاقتصاد السياسي لنظام الاستبداد المعمم الأسدي
يمكن القول: في كل النظم الاجتماعية السياسية الطبيعية التي عرفها التاريخ القديم والوسيط والحديث، يتحدد موقع الفرد في سلم الهرم الاجتماعي والطبقي - كقاعدة عامة، ومع شيء من التبسيط - من خلال علاقته بوسائل الإنتاج المادية، ففي النظم الاجتماعية البرجوازية الطبيعية، ينتمي الفرد إلى الطبقة البرجوازية عندما يكون مالكاً للمصنع أو الورشة أو رأس المال أو حتى مالك لقدرات عقلية علمية أو تقنية عالية، أو ينتمي إلى الطبقات الفقيرة من عمال وغيرهم من المنتجين عندما لا يملك الفرد أي شيء من هذا. وفي النظم الاجتماعية الإقطاعية الطبيعية كان ينتمي الفرد إلى الطبقة الإقطاعية عندما يكون مالكاً كبيراً للأراضي، وبالمقابل كان ينتمي الفرد في هكذا مجتمعات لطبقة الفلاحين الفقراء (أو الأقنان) عندما لا يملك الأراضي أو أي قطعة من الأرض. أما في حالة نظم الاستبداد المعمم (وهي نظم اجتماعية سياسية استثنائية) والتي تتحدد وتقوم من خلال احتلال واحتكار الدولة / السلطة للمجال السياسي والاقتصادي والإيديولوجي المكونة للبناء الاجتماعي، وحيث يستبطن هنا نتيجة هذا الاحتلال والاحتكار لمجالات البناء الاجتماعي نمط الإنتاج في أحشاء الدولة، إن كان ذلك في نظم الاستبداد المعمم القديمة العبودية أو الإقطاعية أو الحديثة البرجوازية.
أقول: في هذه الحالات فإن موقع الفرد في سلم التراتب الطبقي الاجتماعي يتحدد أساساً لا من خلال علاقته بوسائل الإنتاج المادي، وإنما من خلال الشرب من وعاءين اثنين، وعاء الولاء للسلطة السياسية من جهة أولى، ووعاء الفساد الذي تنتجه وتعممه هذه السلطة من جهة ثانية، مع الانتباه أن الوعاءين موصولان مع بعضهما بقناة السلطة ويحكمهما مبدأ الأواني المستطرقة، فالشرب من الوعاء الأول سيقود بالضرورة إلى الشرب من الوعاء الثاني والعكس صحيح، فبمقدار ما تشرب من هذين الوعاءين ترتقي في سلم التراتب الاجتماعي الطبقي، وبمقدار ما ترفض الشرب من هذين الوعاءين القذرين تراوح في نفس المكان وأغلب الأحيان تنحدر إلى الأسفل على درجات هذا السلم، فهنا في هذه الحالة لا تتشكل الطبقات الاجتماعية بشكلها الكلاسيكي من خلال العلاقة بوسائل الإنتاج والملكية، فنجد سادة وعبيداً أو إقطاعاً وفلاحين أو برجوازية وطبقة عاملة، بل يتشكل نوع جديد من الطبقات الاجتماعية يتم من خلال التموضع السياسي والأخلاقي داخل البناء الاجتماعي لكيان الدولة بأجهزتها ومؤسساتها المختلفة الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية والعسكرية والأمنية ...إلخ، أي هنا لا يسعى أفراد المجتمع إلى تغيير واقع علاقتهم بالملكية من خلال تغيير النظام الاجتماعي والسياسي القائم أو من خلال السعي لتغيير علاقتهم بملكية وسائل الإنتاج، بل من خلال إعادة توضعهم وتموضعهم السياسي والأخلاقي داخل أجهزة الدولة المختلفة في إطار نفس النظام الاجتماعي والسياسي القائم، حيث نجد في قمة الهرم الطبقي ما يمكن تسميته بالطبقة العليا للدولة الاستبدادية المعممة، وفي أسفل هذا الهرم نجد طبقة يمكن أن نسميها الطبقة السفلى أو الطبقة الدنيا للدولة الاستبدادية المعممة، وحيث تتوضع بين هاتين الطبقتين الرئيسيتين الطبقة الوسطى للدولة الاستبدادية المعممة.
إن ما يميز هذه النظم ليس شكل وبنية الطبقات الاجتماعية التي تنشأ وتولد في أحشاء الدولة، وليس الشكل الخاص للصراع الطبقي السياسي الذي يدور بينها، إن ما يميز هذه النظم الاجتماعية، وما هو خطير في قيامها في أي مجتمع يتجلى في:
أولاً: إن هذه النظم تعمل على إقامة سوق واسع ودائم ومفتوح ليل نهار لبيع الكرامة الإنسانية في سوق السلطة السياسية، إن كان بيعها من خلال تقديم الولاء السياسي للسلطة السياسية - وتحديداً الولاء لرأس النظام - مع الاستعداد الدائم للرقص على طبلها ومزمارها، وفي كل المناسبات، وكما تشاء السلطة وحيثما تشاء، أو من خلال قبول الفرد الدخول إلى عالم الفساد داخل مؤسسات وأجهزة الدولة المختلفة، وحيث أن سرقة أموال قطاع الدولة هو الوجهة والمجال الذي يتم فيه الفساد والإفساد وتجميع الثروة والصعود في السلم الوظيفي وداخل الهرم الطبقي الاجتماعي العام. ففي هذه السوق التي يتم فيها بيع الكرامة الإنسانية، نجد قانوناً جديداً للتطور والصعود الطبقي والاجتماعي، قانون لا يختلف عن القانون الحاكم في ظل النظم الاجتماعية والسياسية الطبيعية فحسب، بل قانون جديد يخالف حتى قانون دارون في تطور الكائنات الحية، فإذا كان قانون دارون لتطور الكائنات الحية في الطبيعة، يقول: إن البقاء والصعود في سلم التطور هو للأقوى أي لمن لديه قدرة أكثر من غيره من الكائنات الحية لمقاومة شروط الطبيعة وتقلباتها، أو لمن لديه قدرة أكثر على التأقلم مع شروط الطبيعة وتقلباتها، فإن قانون الصعود والتطور الطبقي في ظل نوع كهذا من النظم يقول: إن البقاء الطبقي والصعود الطبقي والتطور الطبقي هو للأوطى، وبما يعني أن الصعود الطبقي متاح لمن لديه استعداد أكثر من غيره لبيع كرامته الإنسانية وهدرها أمام أبواب وعتبات السلطة وأصحاب السلطة، أو لمن لديه قدرة أكثر على التأقلم مع شروط بيع كرامته الإنسانية في سوق النخاسة التابع للسلطة السياسية.
ثانياً: وفق هذه الآلية للفرز والتفارق الطبقي داخل المجتمع لا ينقسم المجتمع إلى طبقات وشرائح أفقية فحسب، بل يوّلد ذلك انقساماً عمودياً حاداً يقسم المجتمع إلى شرائح عمودية تخترق الهرم الطبقي الاجتماعي من قمته إلى قاعدته، فعند كل مستوى في سلم التراتب الوظيفي داخل أجهزة ومؤسسات الدولة ينطلق سباق محموم يوَلده وهم الصعود والارتقاء الوظيفي والاجتماعي والطبقي من خلال الشرب أكثر من وعاءي الولاء والفساد، وهذا السعي نحو الصعود يولد صراعاً مكشوفاً ومفتوحاً داخل كل الشرائح الاجتماعية والطبقية، إن كان منها الواقع داخل مجتمع الدولة (أجهزتها ومؤسساتها المختلفة) أو حتى القسم الواقع خارج كيان الدولة من المجتمع ما يسمى القطاع الخاص.
أقول: وهم الصعود لأن إمكانية الوصول والصعود ليست متاحة للجميع بالمعنى الواقعي والعملي، ولكن الجميع يقعون فريسة الوهم، والكل يسعى لأن يكون الوصول من نصيبه، بهذه الطريقة يتم فتح ثم توسيع عالم الولاء وفتح وتوسيع عالم الفساد إلى الدرجة والحد الذي يمكننا بأن نقول: عن مجتمع دولة الاستبداد المعمم بأنه عالم يعج بالفساد والولاء بامتياز، حيث يطال الفساد والتلوث في الفساد الجميع، من المراتب الدنيا في سلم التراتب الوظيفي إلى المراتب العليا في هذا السلم، وبهذه الطريقة تستطيع نظم الاستبداد المعمم أن تجد لها في بعض المراحل ولا سيما في مرحلة الصعود والازدهار من عمر الدولة الاستبدادية المعممة، وحيث أن الدولة في تلك المرحلة تكون قادرة أن تمتص وتبتلع أقصى عدد ممكن من أفراد المجتمع في أحشائها( مؤسساتها وأجهزتها المختلفة)، أقول: تستطيع أن تبني قاعدة بشرية أو قاعدة اجتماعية ترتكز إليها وتستخدمها في عملية الضغط على باقي أفراد المجتمع من أجل جعلهم يركعون عند أقدام الدولة الاستبدادية المعممة. إن الصراع المكشوف داخل الشرائح (وحتى داخل العائلة الواحدة) من أجل الوصول والارتقاء يجعل الصراع الطبقي في بعض المراحل في غير مكانه الطبيعي، أي يجعله صراعاً بين أفراد المجتمع، داخل الشريحة الواحدة، وداخل العائلة الواحدة (بين الأخوة)، لا بين طبقة عليا وطبقة سفلى للدولة، فالصراع هنا بين الصاعدين والهابطين داخل كل الشرائح وفي كل المستويات، بين من قبلوا أن يشربوا ويدخلوا إلى عالم الولاء والفساد وبين من يرفضون ولا يقبلون الدخول إلى هذين العالمين. وهنا ينبغي التنويه إلى أن الصعود في السلم الوظيفي - كقاعدة عامة مع بعض الاستثناءات النادرة - لا يتم على أساس الكفاءة، وإنما يتم من خلال القدرة (الأخلاقية) على الولوج والدخول إلى عالم الولاء والفساد، وأن الوهم في الصعود والارتقاء ينشأ من خلال رؤية صعود بعض الأفراد من مرتبة إلى مرتبة أعلى من دون أن يمتلكوا أي مؤهلات وكفاءات وظيفية ومهنية، وإنما من خلال إتقانهم (نتيجة انحطاطهم الأخلاقي) لعملية الغوص في عالم الولاء والفساد الذي تفتحه الدولة أمام هؤلاء المنحطين أخلاقيا وسياسياً.
ثالثاً: إن الانحطاط الأخلاقي لمن يبيعون كرامتهم الإنسانية في سوق النخاسة الذي تفتتحه السلطة السياسية لا يتأتى من تقديم الولاء والتأييد لسلطة ونظام مستبد وفاسد ومفسد فحسب، بل تأتي كذلك من أن ثمن هذا التأييد أو قبول السلطة لهذا التأييد يمر من خلال استعداد وانخراط وتطوع الفرد لأن يكون في خدمة الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، ففي ظل نظم الاستبداد المعمم فإن تقديم الولاء للنظام السياسي يمر من بوابة الأجهزة الأمنية، أي يمر الولاء من خلال الوشاية والإخبار عن الآخرين من أفراد المجتمع، الإخبار عن زميل في العمل أو عن أي فرد من أبناء الحي أو الشارع الذي يقيم فيه أو على أحد الأقرباء أو الأصدقاء أو حتى على أحد أفراد العائلة في المنزل الذي يعيش تحت سقفه. ففي ظل نوع كهذا من النظم وفي حمأة الصراع والسباق والتهاوش من أجل الصعود الطبقي نجد ولادة حالة من التجنيد الطوعي لجيش من الأفراد المخبرين بعضهم على بعض، في شروط نوع من النظم تفوق فيه عدد المستقبلات من الأفرع الأمنية وأنواعها وأصنافها عناصر جدول مندلييف للعناصر الكيمائية. إن هذا لا يسهل وقوع المجتمع بما فيه عقل المجتمع وما يدور في خلد أبنائه في قبضة النظام وأجهزته الأمنية فحسب، بل يضع الجميع تحت المراقبة، أقصد بذلك مراقبة من هم في أسفل الهرم الطبقي أو في أسفل السلم الوظيفي ومن هم في القمة، فرأس النظام الذي يضع كل الأجهزة الأمنية تحت تصرفه، يتوفر لديه كل ما يلزم من المعلومات والتقارير لجعل الجميع تحت سيف المحاسبة، محاسبة الذين يرفضون تقديم الولاء من المعارضين لنظامه أو محاسبة أي من الموالين الفاسدين داخل نظامه إذا ما فكر أحدهم بهز ذيله أو تحريك أذنيه بعكس رياح النظام وإرادته.
رابعاً: عدم وجود طبقة سائدة مالكة للثروة بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، فهنا يتم إنتاج وإعادة إنتاج الطبقة السائدة المالكة للثروة والسلطة وفق مشيئة وإرادة رأس هذه السلطة، فرأس هذه السلطة هو موزع الأرزاق ومحددها، فيحرم من يحرم ويغدق على من يريد، وبما يعني أن النظام ورأسه كان قادراً على القضاء على الطبقة المالكة للثروة القديمة التي عرفها المجتمع قبل قيام النظام وصياغة طبقة جديدة مربوطة بشكل وثيق به، أي أن النظام قام بتوليد سلالة طبقية جديدة وعلى جثة السلالة الطبقية القديمة المالكة للثروة، وحيث أن أهم وظائف هذه السلالة الطبقية الجديدة تأييد مشروع تأبيد واستمرار رأس السلطة إلى الأبد في الحكم، أي أن هذه الطبقة الجديدة أصبحت مربوطة بشكل وثيق بمشروع رأس النظام في تشكيل سلالة عائلية حاكمة، فوفق هكذا نوع من الاقتصاد السياسي فقط يمكن فهم نشوء ظاهرة الجمهوريات الملكية في واقعنا العربي، إن كان في سوريا زمن حافظ الأسد الذي استطاع تدشين وتجسيد هذا المشروع على أرض الواقع من خلال توريث السلطة إلى الأسد الابن (بشار الأسد) عام 2000 بعد وفاة الأسد الأب(حافظ الأسد)، وهي ظاهرة كان يمكن لها أن تتكرر في أكثر من ساحة عربية، ففي العراق ولولا عملية إسقاط نظام صدام حسين عام 2003 بفعل الغزو الأمريكي للعراق لكان المجال مفتوحاً أمام ابنه عدي لوراثة عرش أبيه بعد وفاته، كما كانت عملية توريث السلطة ممكنة في ساحات أخرى لولا انطلاق الربيع العربي أواخر العقد الأول من القرن الواحد والعشرين بدءاً من تونس - وهنا يمكن القول استطراداً أن أحد محركات عجلة الربيع العربي كانت لقطع الطريق على تكرار السيناريو السوري في أكثر من "جمهورية" عربية -، ففي ليبيا كان معمر القذافي يعد العدة لتوريث نظامه لابنه سيف الإسلام القذافي، وفي اليمن كان علي عبدالله صالح يعد العدة لتوريث نجله أحمد رأس السلطة اليمنية، وفي مصر كان حسني مبارك يعمل على تهيئة الظروف لتوريث السلطة إلى نجله علاء مبارك.
خامساً: وفق هذا النوع من الاقتصاد السياسي فقد كانت هذه الأنظمة قادرة على تشكيل قاعدة اجتماعية طائفية (الحالة العراقية والسورية) أو قبلية (الحالة اليمنية والليبية) إلى جانب قاعدتها الطبقية السياسية، وبما يعني أن هذه النظم استندت في وجودها واستمرارها على عصبية طبقية مضافاً إليها دعم ومساندة عصبية طائفية أو قبلية، وهو الأمر الذي جعل جبروت وقوة هذه النظم يفوق قوة وقدرة المجتمع، وهي حالة الدولة التي تصبح أقوى من المجتمع. ففي شروط ما أطلقت عليه فيما تقدم من هذا البحث اقتصاد (الوظيفة الحكومية) والذي ساد في سوريا مع مجيء البعث إلى السلطة في 8 آذار عام 1963، وتعميق هذا الاقتصاد ولا سيما طابعه الأمني والعسكري والارتزاقي بعد استحكام النظام الأسدي بها فيما بعد انطلاقاً من 16 تشرين الثاني 1970 بشكل خاص، ففي شروط تحطيم الأطر الصناعية والإنتاجية للبرجوازية التقليدية بدءاً من عمليات التأميم أيام الوحدة مع مصر 1958 مروراً بعمليات وإجراءات التأميم في ظل حكم البعث والتي بلغت ذروتها في عام 1965، حيث لم يبق من البرجوازية التقليدية غير جناحها الكمبرادوري الطفيلي التجاري والعقاري غير المنتج، أقول: في هذه الشروط، وفي ظروف توسع التعليم الجامعي في سوريا، ومع ازدياد تدفق خريجي التعليم الجامعي إلى سوق العمل، فقد استغل النظام الأسدي حاجة أبناء الريف السوري عموماً وأبناء الطائفة العلوية خصوصاً إلى الوظيفة الحكومية كونها شكلت لهم كما ذكرت سابقاً في هذا البحث المصدر الوحيد للعيش والترزق، وحيث أن شروط الدخول إلى الوظيفة الحكومية في ظل النظام الأسدي كما في غيره من نظم الاستبداد المعمم يمر كما يعلم كل السوريين عبر فلترة الجميع من بوابة الولاء للسلطة السياسية بالدرجة الأولى، وحيث أن العبور والارتقاء الطبقي والاجتماعي والوظيفي يمر من خلال المرور من بوابة الدخول إلى عالم الفساد والإفساد ونهب قطاع الدولة من جهة ثانية، أقول: من خلال ذلك استطاع النظام الأسدي إضافة إلى أسباب أخرى ذكرتها فيما تقدم من هذا البحث، وسوف أذكر غيرها من الأسباب السياسية فيما بعد، أقول: استطاع تجميع الطائفة العلوية تحت خيمة السلطة الأسدية (وهي خيمة الولاء والفساد) على شكل ما أطلقت عليه عصبية طائفية علوية أصبحت لها مصلحة اقتصادية طبقية وسياسية وثيقة مع النظام الأسدي، وأصبحت تشكل له سنداً اجتماعياً وسياسياً وطائفياً أضافها النظام إلى رصيده من القاعدة الطبقية السياسية العامة التي تشكلت في سياق صعوده واستمرار وجوده لعقود من الزمن في قمة هرم السلطة والدولة في سوريا.
سادساً: إن هذا النوع من الاقتصاد السياسي لهذه النظم جعل الفساد يتوسع خارج حدود الدولة ليشمل قطاعات كبيرة من المجتمع طالت كل الطبقات الاجتماعية، وهو الأمر الذي قاد إلى خلق نوعين من الانقسام داخل المجتمع: انقسام أفقي وانقسام عمودي، وحيث طال ذلك كل البنى الاجتماعية المكونة للمجتمع بدءاً بالأسرة وصولاً إلى الطبقات الاجتماعية والكيانات الاجتماعية الدينية أو القومية.
سابعاً: لقد استطاع النظام الأسدي عبر سياسة بيع الكرامة الإنسانية في سوق الشرب من وعاءي الولاء والفساد، إفساد الطبقة الوسطى من المجتمع، وهي الطبقة التي تتوسط الهرم الطبقي الاجتماعي وتتوسط الهرم الوظيفي في كيان الدولة، فالطبقة الوسطى للدولة الاستبدادية المعممة والتي يتضخم وجودها الطبقي في فترات ازدهار الدولة الاستبدادية المعممة، وكونها أول من يتلقف الفساد من الطبقة العليا للدولة الاستبدادية نتيجة قربها الطبقي والجغرافي من الطبقة العليا للدولة في سلم التراتب الوظيفي في أجهزة ومؤسسات الدولة المختلفة، وكونها تعيش أكثر من غيرها هاجس الطموح والصعود نحو الأعلى، وكي تبرر وتغطي على ما تقوم به أخلاقياً وثقافياً، فإنها تقوم بتعميم ثقافة الفساد الأخلاقي الذي تجرعته من الطبقة العليا للدولة في كل المستويات وعلى كل الطبقات الاجتماعية، فمن المعروف أن الطبقة الوسطى في أي مجتمع وبحكم مكانتها الثقافية وموقعها في وسط الهرم الطبقي الاجتماعي، فإنها تكون قادرة أكثر من غيرها على إعادة إنتاج وصياغة القيم الأخلاقية والثقافية لكل الطبقات الاجتماعية، فهي الطبقة التي تقوم بتعميم القيم على كل المجتمع وطبقاته، فمع إفساد الطبقة الوسطى داخل المجتمع وتحديداً داخل مجتمع الدولة، يتم نقل هذا الفساد والخراب الأخلاقي إلى كل الطبقات الاجتماعية بشكل شبه تلقائي وآلي.
ثامناً: إن الاقتصاد السياسي لهذه النظم يقوم على فتح المجال لكي يتربع على رأس الهرم الطبقي الاجتماعي حثالة كل وجود بشري أي فتح الأبواب والمجال لصعود حثالة الطبقات الاجتماعية وحثالة العائلات الاجتماعية وحثالة الطوائف والقبائل والعشائر والأقوام والأحزاب والنخب السياسية والثقافية والفنية والعلمية والرياضية .... إلخ. وهنا من المهم التنويه إلى أن القاعدة الاجتماعية لنظم الاستبداد المعمم الشمولية بشكل عام تكونت ونشأت بوصفها قاعدة اجتماعية كلبية وحثالية ويسهل استخدامها كأداة للأعمال القذرة التي تقوم بها النظم الاستبدادية الشمولية.
إن ما هو خطير في صعود هذه الحثالات إلى أعلى الهرم الطبقي الاجتماعي السياسي ليس كونها حثالات كل وجود بشري داخل المجتمع، وإنما مستوى انحطاطها الأخلاقي الذي تتجرعه في طريق صعودها ووصولها للأعلى، وهو الأمر الذي يجعل هذه الطبقة الحثالية إذا ما وضعت في حالة مواجهة مع المجتمع مستعدة لفعل أي شيء متحررة من أي التزام أدبي أو أخلاقي إنساني يلجم أفعالها وأعمالها، أي أن ما هو خطير في المجتمعات التي تعرف هذا النوع من الطبقات الحثالية ونظامها الحثالي هو استعداد هذه الطبقة / النظام لتدمير المجتمع برمته وحتى الأساس المادي لوجوده، وهو ما أطلق عليه السوريون تدمير البشر والحجر والشجر، وإذا ما أردنا التحدث عن كل القاعدة الاجتماعية والطبقية التي ارتكزت عليها هكذا نظم أستطيع القول: بأنه لم يحدث في تاريخ الصراعات البشرية أن كانت نسبة كبيرة وطاغية من الموالين لهذه النظم بهذا المستوى من الانحطاط الأخلاقي. وإذا أردنا التحدث عن المجتمع بشكل عام يمكن القول: بأنه في ظل نوع كهذا من الاقتصاد السياسي القائم على فكر تعفيش الدخل الوطني أي سرقة قطاعات ومؤسسات الدولة المختلفة لصالح العصبية الاجتماعية الطبقية السياسية الحاكمة بشكل عام، فإن أخطر ما يمكن أن تواجهه المجتمعات التي تعيش في ظل دولة الاستبداد المعمم لا تكمن في وجود وانتشار ظاهرة التعفيش للدخل الوطني في صفوف الحاكمين فحسب، بل أن الخطر الأكبر والكارثة الأعظم من ذلك تكمن في نشوء وتعميم هذه الظاهرة لتطال قطاعات خارج إطار وصفوف الحاكمين، حيث تشمل قطاعات كبيرة من المجتمع، وهو الأمر الذي كشف وأعلن عن نفسه في سياق الثورات التي حدثت في العقود الأخيرة على نظم الاستبداد المعمم في العالم، وأقصد هنا نشوء قوى سياسية واجتماعية داخل صفوف الثورة تقوم بتعفيش الثورة لصالحها وعلى حساب وجثة الثورة الحقيقية. ففي قلب نوع كهذا من الاقتصاد السياسي يكمن تفسير الانحطاط السياسي والأخلاقي لمن حلوا حكاماً في العراق بعد نظام صدام حسين، ومن حلوا حكاماً على جثة الاتحاد السوفييتي- نظام بوريس يلتسين المنحط الوضيع وبعده نظام بوتين المافيوي- أو من حلوا حكاماً في بعض ساحات أوروبا الشرقية، كما يمكن تفسير أحد أهم مفارقات بعض ثورات الربيع العربي، وبالأخص السورية والتي تمثلت في كونها من الثورات التي قدمت أكبر عدد من الضحايا على مذبح الحرية في الوقت الذي ظهر إلى جوار ذلك وبموازاته أكبر عدد من لصوص الثورات داخلها.