نظام الاستبداد المعمم في سوريا مقدماته ومراحله - 18
لومـــــوند: نبيل ملحم
الثامن عشر: الإطار الديمغرافي وظاهرة ترييف المدن السورية.
من المؤكد أن المحتوى الحقيقي الواسع والمنضوي تحت هذا العنوان هو الإطار التاريخي الديمغرافي لسيرورة تطييف وترييف الدولة والسلطة في سوريا، وهي السيرورة التي أنتجت وأفرزت بشكل تلقائي ظاهرة ترييف المدن السورية مع كل مظاهرها ومسبباتها. وهنا يمكن القول وقبل الدخول إلى الموضوع السوري،إن أهم ظاهرة ترافقت مع ظهور الرأسمالية على مسرح التاريخ العالمي انطلاقاً من المجتمعات الأوروبية الغربية،بدءاً من القرن الخامس عشر للميلادكانت ظاهرة نشوء وتوسع المدن الأوروبية بوصفها مراكز للسلطة السياسية من جهة أولى، وكونها أصبحت من جهة ثانية مراكز للاقتصاد الرأسمالي القائم على الإنتاج الصناعي والتجاري والمالي،في إطار علاقات الإنتاج الرأسمالية الجديدة، وحيث أن المدن أصبحت ساحة الاشتغال الأساسية لهذا النمط من الإنتاج،بعد أن كانت الأرياف في السابق ساحة الاشتغال الأساسية في زمن التشكيلات الاجتماعية الإقطاعيةالغربية المتمركزة في الريف من الناحية السياسية والاقتصادية من خلال الإنتاج الزراعي في الأراضي في إطار علاقات الإنتاج الإقطاعية.
لقد خضعت المدن في الواقع الأوروبي للأرياف طيلة عصر الإقطاع الذي استمر حوالي العشرة قرون من الزمن – وهي الفترة التي أطلق عليها في التاريخ الأوروبي والعالمي بالعصر الوسيط أو فترة قرون الظلام الأوروبي –التي بدأت مع" سقوط الإمبراطورية الرومانية أواخر القرن الخامس الميلادي في 4 سبتمبر 476 م "(1)، وانتهت مع بداية العصر الحديث في القرن الخامس عشر الميلادي. فمع صعود البرجوازية على مسرح التاريخ فقد تغيرت العلاقة بين الريف والمدينة بشكل كمي ونوعي " إن ميزة البرجوازية هي أنها عكست الآية فأخضعت الأرياف للمدن وانتزعت بنمط إنتاجها الديناميكي، عدداً عظيماً من الفلاحين السذج بتحويلهم إلى بروليتاريا عصريين. في 1848 كان تسعة أعشار سكان العالم خارج نمط الإنتاج البورجوازي الحديث. وكانت الزراعة تشغل 70% من سكان الولايات المتحدة النشيطين. وفي عام 1965 (أي بعد حوالي القرن ونيف من الزمن) انخفضت هذه النسبة إلى 8% فقط. وفي 1848 لم تكن هناك إلا قلة من أهل الحضر تسكن مدناً يزيد سكانها عن 100 ألف. وفي 1865 لم تكن توجد إلا خمس مدن يزيد سكانها عن المليون فأصبحت في عام 1951 توجد أكثر من 55 مدينة مليونيرية. وفي 1920 تجاوز عدد سكان المدن عدد سكان الأرياف. واليوم (في أواسط سبعينيات القرن العشرين) ثلاثة أرباع الإنسانية على الأقل تقيم في المدن "(2).ومن المؤكد أن عدد سكان المدن في مراكز وأطراف النظام الرأسمالي العالمي ازداد بعد هذا التاريخ على حساب عدد سكان الأرياف بنسب مئوية تفوق النسب المذكورة أعلاه. وهنا يقول المفكر الراحل العفيف الأخضر الذي قدم هذه الإحصائيات أن: " مغزى ذلك أن تحرر الإنسانية لا يمكن أن يتحقق إلا انطلاقاً من المدن حيث الطبقة العاملة وخيرة حلفائها من جهة، وحيث أجهزة الدولة وأدوات قمعها التي لا بدّ من تحطيمها من جهة أخرى. ولهذا فرفع شعار تحرير المدن بالأرياف وتطويق الحواضر بالبوادي هو اليوم حماقة لا أكثر"(3).
ومن وجهة نظري وإذا أردنا تلطيف كلمة حماقة التي استخدمها العفيف الأخضر باستبدالها بكلمة الوهم فيمكن القول: إن مقتل بعض النظريات الماركسية التي عرفها القرن العشرون كانت تكمن في هذا الوهم، وحيث يأتي على رأس هذه النظريات نظرية المفكر الراحل سمير أمين المشتقة أساساً من النظرية اللينينية القائلة بالبدء بإسقاط الحلقات الضعيفة في سلسلة حلقات النظام الرأسمالي العالمي، فقد راهنت نظرية المفكر الراحل سمير أمين على ثورات بلدان الأطراف ولا سيما بعد أن استعادت المراكز الرأسمالية أنفاسها بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن أبعدت شبح الأزمات الاجتماعية العميقة عن مجتمعاتها، حيث تركزت الحلقات الضعيفة في سلسلة النظام الرأسمالي العالمي، فحسب نظرية سمير أمين فإن ثورات شعوب الأطراف ستطوق المراكز الرأسمالية وقلاعها القوية، الأمر الذي سيقود في النهايةإلى تأزم الأوضاع الاقتصادية والسياسية في المراكز نتيجة حرمانها من نهب الأطراف، وهي العملية التي أطلق عليها نظرية فك الارتباط مع النظام الرأسمالي العالمي، وهو الأمر الذي سيقود في المحصلة النهائية إلى سقوط هذه القلاع وتغيير وعكس العلاقة بين المراكز والأطراف، بما في ذلك عكس مركز الحضارة البشرية، وحيث أن الأطراف ستغدو بعد ذلك هي من تشكل مركز وقلب العالم القادمالجديد الاشتراكي، وحيث أن ذلك يأتي في إطار رؤية خاصة بالمفكر سمير أمين لديالكتيك تطور المجمعات البشرية، وهي رؤية مخالفة لرؤية كارل ماركس التقليدية لهذا الديالكتيك حول تطور للمجتمعات. ونتيجة انتشار هذه النظرية – الصراع بين المراكز والأطراف - وغيرها من النظريات الماركسية والقومية البرجوازية الصغيرة المماثلة في أوساط النخب اليسارية العالمية، وبشكل خاص في مجتمعات الأطراف، فإن النخب الثقافية والسياسية والحزبية في أغلب أحزاب اليسار في مجتمعات الأطراف لم تعططيلة القرن العشرين أي انتباه وأهمية لمسألة ترييف السلطات السياسية وترييف أجهزة الدولة في هذه المجتمعات، كما لم تعط أي اهتمام للنتيجة المنطقية لعميلة ترييف الدولة والسلطة والتي تفرز بشكل تلقائي ظاهرة ترييف المدن في هذه المجتمعات. ويعود السبب الحقيقي لعدم الاهتمام بتلك الظاهرة لدى اليسار السوري، كما في الكثير من الساحات الطرفية،إلى كون اليسار السوري كان يتشكل طيلة عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات والسبعينيات من طيف واسع من القوى (شيوعيون واشتراكيون عرب وقوميون عرب وبعثيون وناصريون...إلخ). أقول: يعود عدم اهتمام تلك القوى بظاهرة الترييف لسببين أساسيين مترابطين:
السبب الأول: يرجعإلى كون أغلب المنتمين إلى هذه التيارات السياسية والحزبية والثقافية كانوا من أبناء الريف أساساً، وكان هؤلاء الريفيون هم الأقرب طبقياً وسياسياً لإيديولوجيات هذه القوى.
السبب الثاني: يرجع إلى كون أغلب هؤلاء اليساريون كانوا من أبناء الريف المهاجرين من أريافهم إلى المدن.
لهذا فقرون استشعار أبناء المدن لشم رائحة الترييف بكل أبعاده، إن كان ترييف السلطة والدولة أو ترييف المدن، كانت السباقة والأقوى والأدق في تحسسوشم رائحة هذه الظواهر، ولا سيما عندما ترافقت كلها في الحالة السورية مع التطييف، أي عندما ترافق الترييف بكل أبعاده مع التطييف، وهنا أقول: هناك اثنان يعتادان أو لا يتحسسان كثيراً رائحة بعضالظواهر الأول: من كان جزءاً عضوياً من هذه الظاهرة.
والثاني: منعاش قريباً منها وتآلف معها مع الزمن.
لقد كان تجار المدن السورية الكبرى، واليمين الإسلامي الإخواني،أول من تحسس وشمرائحة الترييف والتطييف، كما كانوا أول من أبدوا ردت فعل اتجاهها (وهو الأمر الذي سأعود إليه في بحث قادم بالتفصيل)، وهنا أسمح لنفسي بتسجيل هذه المعترضة بالقول: إن الأمر ذاته يمكن تلمسهمنذ ما يقارب النصف قرن من الزمن في القارة الأوروبية ، ويتصاعد الآن بشكل كبير، حيث نجد أن قرون استشعار اليمين المتطرف الأوروبي (وتحت عناوين متعددة) هي أكثر من يتحسس ويشم رائحة ظاهرة ترييف القارة الأوروبية الناتجة عن هجرة أبناء شعوب الأطراف إلى المراكز الغربية (وهو الأمر الذي سأشير إليه بشكل موجزفي الهامش رقم 19 من هذا البحث).
لقد عرفت شعوب الأطراف التي تأخرت بعض ساحاتها عدةقرون حتى وصلت إليها الرأسمالية وعلاقات الإنتاج الرأسمالية،ظاهرة هجرة أبناء الريف إلى المدن، وظاهرة ترييف المدن،ولكن بكيفية ونوعية مختلفة عما حصل في مجتمعات المراكز الرأسمالية، فالكثير من مجتمعات الأطراف ولا سيما منها المجتمعات الشرقية – ومنها المجتمعات العربية - كانت فيها المدينةتشكل المركز الأساس السياسي والاقتصادي داخل المجتمع،حتى قبل أن تعرف هذه المجتمعات الرأسمالية، وحيث أن ذلك يعود للخصائص المميزة للتشكيلات الاجتماعية ما قبل الرأسمالية في هذه المجتمعات، والتي أشرت إليها في مكان سابق من هذا البحث - وسأعود لتناولها في بحوث وسلسلة لاحقة بالتفصيل - لكن مع دخول الرأسمالية لهذه المجتمعات أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من جهة أولى، ومع صعود نظم الاستبداد المعمم الرأسمالية الشمولية بدءاً من ستينيات القرن العشرين من جهة ثانية، عرفت المدن في هذه المجتمعاتنمواً وتوسعاً غير مسبوق في تاريخها، فقد قادت عملية هجرة أبناء الريف إلى المدن لا إلى توسع ونمو عدد سكان المدن فحسب، بل قاد إلى أن تفقد المدينة لطبيعتها وخصائصها المميزة لها،وهو ما أسميه بظاهرة ترييف المدن. إن ما هو مهم في هذا البحث هو:
أولاً: معرفة المراحل التي تمت فيها هجرة أبناء الريف إلى المدينة في العصر الحديث
ثانياً:معرفة الأسباب الكامنة خلف هذه الهجرة في كل مرحلة
ثالثاً:معرفة أهم مظاهر عملية الترييف التي عرفتها المدن
رابعاً:إجراء مقاربة عن الاختلاف في الأسباب والمراحل والمظاهر لظاهرة هجرة أبناء الريف إلى المدن، بين ما حدث في مجتمعات الأطراف - ومنها المجتمع السوري - ومجتمعات المراكز الرأسمالية الغربية المتقدمة.
ففي الحالة السورية – وتتشابه معها الكثير إن لم نقل كل الحالات العربية - يمكن تقسيم هجرة أبناء الريف السوري في العصر الحديث إلى المدن السورية الكبرى والمتوسطة والصغيرة والتي كان بعضها – ما يسمى حالياً مدناً متوسطة أو صغيرة - في الأساس بلدات تنتمي من الناحية الإدارية والخصائص والوظائف إلى الريف أكثر من انتمائها إلى المدينة. أقول: يمكن تقسيم هذه الهجرة إلى مرحلتين رئيسيتين:
المرحلة الأولى:
يمكن القول: أن المرحلة الأولى من هجرة أبناء الريف السوري إلى المدن، هي الفترة الزمنية التي عاشها المجتمع السوري في العقود الستة الأولى من القرن العشرين، وهي المرحلة التي يمكن تسميتها بمرحلة التطور الرأسمالي الطبيعي الذي دخل فيه المجتمع السوري بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر وصولاً لبداية ستينيات القرن العشرين.
المرحلة الثانية:
هي الفترة الزمنية التي عاشها المجتمع السوري بدءاً من وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة من خلال انقلاب 8 آذار 1963، وهي المرحلة التي استمرت حتى زمن انهيار وتبعثر وتشتيت وتدمير المجتمع السوري – حجراً وبشراً- على يد قوات النظام الأسدي التي مارست أقصى حدود وأشكال العنف البربري في إطار المواجهة التي خاضهاالمجتمع السوريمع النظام الأسدي من أجل التحرر من نير الاستبداد ابتداءً من آذار 2011 وهي الفترة التي لم تنته فصولها حتى تاريخ كتابة هذا البحث 2022،وحيث أن ملاحظة الفروق بين المرحلتين ينبغي أن تركز على معرفةأسباب ومظاهر ونتائج الهجرة في كل مرحلة من مراحل هذه الهجرة.
ولكن قبل أن أشير إلى هذه المراحل من المهم أن يعرف قارئ هذا البحث أنني سأقوم في هذا البحث إلى الإشارة إلى الخصائص العامة لكل مرحلة من هذه المراحل، وسأترك الكثير من الأفكار والتفاصيل – وتحديداً عند تناول المرحلة الثانية - لأشير إليها في سياق البحث ودراسة المراحل التي مر بها نظام الاستبداد المعمم البرجوازيالشمولي في سوريا، حيث أن الهجرة الكبرى لأبناء الريف إلى المدينة،وخصائص هذه الهجرة وأسبابها وأهم مظاهرها ارتبطت بصعود هذا النظام من جهة، كما ارتبطت كل مرحلة من مراحل هذه الهجرة بالمرحلة التي مر بها نظام الاستبداد المعمم، فخصائص وأسباب هجرة أبناء الريف إلى المدينة في مرحلة صعود نظام الاستبداد المعمم، تختلف من حيث الكيف والنوع عنها في مرحلة الازدهار التي مر بها النظام الأسدي، وكذلك تختلف خصائص هجرة أبناء الريف إلى المدن في مرحلة انحطاط النظام الأسدي عن مرحلتي صعوده وازدهاره.
المرحلة الأولى وأسبابها:
يمكن القول:أن أهم الأسباب التي دفعت بهجرة أبناء الريف السوري نحو المدن في العقود الستة الأولى من القرن العشرين هي:
أولاً: التغيرات البنيوية التي دخلت على بنية الاقتصاد والطبقات الاجتماعية في سورية والناتجة عن دخول الساحة السورية إلى دائرة النظام الرأسمالي العالمي من أوسع الأبواب بدءاً من عام 1918 - وهي المرحلة التي تمت فيها عملية القطع النهائي مع السيطرة العثمانية وأنماطهاوعلاقاتها، ووقوع الساحة السورية تحت سيطرة الاستعمار الفرنسي، أو ما أطلق عليه مرحلة الانتداب الفرنسي على سوريا - وهو الأمر الذي دفع المجتمع السوري للدخول في علاقات الإنتاج والسوق والتبادل القائمة داخل الاقتصاد البرجوازي الجديد والنامي في سوريا، وحيث أن المدن السورية الكبرى شكلت الميدان الأول والأساسي الذي تمركزت فيه عمليات الإنتاج الجديد الذي كان يحتاج إلى مزيد من اليد العاملة القادمة من الريف والباحثة عن الرزق وفرص العمل. وقد شكلت معامل الغزل والنسيج الجديدة والحديثة وغيرها من الصناعات التحويلية والغذائية التي دخلت إلى ساحة الإنتاج في سورية، الإطار الذي امتص اليد العاملة المهاجرة من الريف.
ثانياً: الأزمة التي عاشتها البنى الإقطاعية القديمة، وقد كان من أول نتائج الأزمة التي عاشتها البنى الإقطاعية في الواقع السوري كما في الواقع العربي عموماً، في النصف الأول من القرن العشرين " هو هجرة أبناء البلدات المفقرة المحطمة نتيجة تغير خطوطالتجارة أو أنماط الاستهلاك وبالتالي انهيار الحرف التي تخصصت بها تلك البلدات قبل الانخراط في السوق الرأسمالية العالمية"(4). طبعاً هنا من المهم الإشارة إلى أن الهجرة هذه أتت لا بسبب تأزم البنى الإقطاعية فحسب، بل كذلك، بسبب حالة الفقر المدقع الذي عاشه الريف السوري بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة، نتيجة المحل في المواسم الزراعية من جهة، ونتيجة شدة النهب للأرياف والمدن السورية الذي مارسته الدولة العثمانية لتغذية وتمويل جيوشها زمن الحرب العالمية الأولى. " ونتيجة لهذه الأوضاع الاقتصادية فقد قام المهاجرون الريفيون الذين هجروا مناطقهم المصابة بالمجاعة بغزو مدينتي دمشق وحلب "(5).
ثالثاً: كانت هجرة بعض أبناء الأرياف وخاصة من أبناء الأقليات الدينية والقومية الذين انخرطوا في سلك الدرك وجيش الشرق الذي أقامه الفرنسيون.
رابعاً: بسبب قيام الدولة الوطنية بعد الاستقلال في 17 أبريل1946 الأمر الذي أدى إلى " تضخم دور المدن الكبيرة (ولا سيما العاصمة) كمركز نشاط سياسي – اقتصادي – إداري – حضاري للبلادكلها"(6). " فبعد الاستقلال " تضاعف عدد موظفي الإدارات الرسمية ثلاث مرات "(7). في سوريا، ولا سيما بعد أن تمت عملية تطوير ولو محدود في حركة التعليم التي بدأت مراكزها الأولى في المدن وفي العاصمة تحديداً (بالنسبة للتعليم الجامعي) كما تمت عملية إقامة منشآت اقتصادية صناعية كبيرة بالمعنى النسبي، وكان مركزها الأول كذلك في العواصم والمدن الكبرى. يضاف إلى ذلك كله النمو المتزايد في مؤسستي الجيش والأمن ولا سيما أن أغلب الساحات العربية كانت لديها قضية تحرير أرض مغتصبة إضافة إلى قضية تحرير فلسطين وحيث شكلت هاتان المؤسستان الوعاء الذي ملأه أبناء الريف الفقراء أو الساعين إلى تحسين أوضاعهم أو الطامحين إلى ما هو أبعد من ذلك.
المرحلة الثانية وأسبابها:
أولاً: السبب الاقتصادي:
كما قلت في السطور السابقة، فقد بدأت المرحلة الثانية من هجرة أبناء الريف إلى المدن السورية الكبرى بعد انقلاب 8 آذار 1963 وصعود حزب البعث العربي الاشتراكي إلى سدة السلطة. فقد أدى هذا الصعود إلى تدمير الطبقة البرجوازية التقليدية المالكة للثروة، وكذلك تدمير دورة الحياة الطبيعية للاقتصاد السوري الناشئ والنامي، وبما يعني قطع صيرورة التطور الطبيعي للمجتمع السوري، بما في ذلك صيرورة التطور الطبيعي لهجرة أبناء الريف السوري إلى المدن، التي كانت تشهد تطوراً طبيعياً للبنى الاقتصادية البرجوازية التي كانت تمتص وتهضم طاقات المهاجرين وتضعهم في دورة حياة الاقتصاد المديني بشكل طبيعي، وحيث أن البديل البعثي عن كل ذلك كان اقتصاد الدولة،أو ما أطلق عليه البعثيون اقتصاد القطاع العام، وهو ما أطلقت عليه في هذا البحث " اقتصاد الوظيفة الحكومية "، وحيث أن هذا الاقتصاد بالتكامل مع اقتصاد سياسي خاص بنوع كهذا من النظم الشمولية، يقوم على تضخم دور الدولة في كل مجالات الحياة، وبما يعني تضخم أجهزتها ومؤسساتها المختلفة المدنية والعسكرية، الذي يستدعي بالضرورة طلب المزيد من هجرة أبناء الريف إلى المدن كي يتم نشرهم على سلم ودرج التسلسل الهرمي الوظيفي لأجهزة ومؤسسات الدولة المختلفة.
ثانياً: السبب السياسي:
لقد كانت الدوافع السياسية من أهم الأسباب الكامنة خلف عملية نزوح أبناء الأرياف السورية إلى المدن، أو لنقل: دفع أبناء الأرياف السورية إلى الهجرة إلى المدن،فقد " كانت إحدى الظواهر اللافتة في سوريا خلال عهد حافظ الأسد انتقال أهل الريف إلى المدن، على نحو برز جلياً في حمص ودمشق نظراً لتركز الكلية الحربية في حمص، وقيادة الفرق العسكرية والدوائر الحكومية في دمشق، بما يساهم في دعم أمن النظام، لدرجة أنه تم استحداث أحياء داخل المدن وعلى تخومها، وهو ما استمر في حكم الأسد الابن"(8).
طبعاً ينسحب هذا على كل المدن السورية الأخرى مثل حلب وغيرها من المدن التي كانت للأسباب نفسها مراكز لقطعات وفرق الجيش، ومراكز للأفرع الأمنية الكثيرة والقوات الخاصة المشكلة في أغلبيتها الساحقة من الأميين من أبناء الريف أو الذين لم يستطيعوا استكمال ومتابعة تعلمهم حتى في مراحله الأولى - الإعدادية والثانوية –وحيث أن وأغلبيتهم هم من أبناء الطبقة الفلاحية المدقعة في فقرها، مضافاً إليهم أنصاف المتعلمين والوصوليين، وحيث أن جميع هذه الأجهزة لم يكن لها من وظيفة سوى الدفاع عن وجود وبقاء النظام. والأمر ذاته عرفته أغلب الساحات العربية ولا سيما الساحة الشقيقة البعثية العراقية " فقد أدت الممارسات العنفية التي انتهجتها الحكومات العراقية في عهد نظام صدام حسين إلى إجبار قطاعات واسعة من الأكراد، لا سيما بعد الحرب العراقية – الإيرانية، على التهجير والانتقال إلى مراكز حضارية أخرى مثل مدينة السليمانية. كما عمل النظام العراقي الأسبق – البعثي – على ترييف معظم المدن بعد نقله الآلاف من الأرياف إلى المدن خاصة الأميين وأنصاف المتعلمين الذين تم تجنيدهم في الجيش والمخابرات والشرطة، عبر توطينهم في مراكز المدن بتسهيلات كبيرة لحماية أمنه."(9).
وإذا كانت هجرة أبناء الريف السوري إلى المدن السورية الكبرى والتي تمت خلال النصف الأول من القرن العشرين (وتحديداً حتى بداية الستينيات) قد كان من أولى نتائجها وآثارها هو بداية صراع النخب الثقافية والسياسية الريفية مع النخب الثقافية والسياسية المدنية، إلا أن هذه الهجرة، وبالرغم من أنها أدت إلى مضاعفة أعداد سكان المدن، إلا أن هذه المدن حافظت على طابعها المدني، وبما يعني أن المدن حافظت على سيادتها وقيمها الأخلاقية وعاداتها وتقاليدها ونمط الحياة المديني.
وفي المرحلة الثانية ومع التوسع والتضخم الجنوني لأجهزة ومؤسسات الدولة المختلفة الاقتصادية والعسكرية (الجيش والأمن ) والسياسية والثقافية والإيديولوجية، بدأت هجرة أبناء الريف إلى المدينة من أجل الدخول في مؤسسات وأجهزة الدولة المختلفة، أو من أجل العيش في جوار هذه المؤسسات والأجهزة من أجل الحصول على فرص العمل والعيش، وبمقدار ما كان يتم التوسع الجنوني في أجهزة ومؤسسات الدولة، كان يتم التوسع الجنوني في الهجرة من الريف إلى المدينة، فبعد أن كان يتركز في الريف السوري نسبة حوالي 70% من عدد السكان الإجمالي أصبحت هذه النسبة معكوسة بعد خمسة عقود من حكم النظام البعثي بشكل عام والأسدي بشكل خاص، أي أصبح عدد سكان المدن أو من يسكنون في المدن هم من يشكلون نسبة ال70 % من عدد السكان الإجمالي.
يكفي أن نعلم هنا أن عدد سكان دمشق ازداد خلال عقد الستينيات فقط بنسبة تقارب 47%، أي تقريباً يساوي نسبة زيادة عدد سكان دمشق خلال العقود الستة الأولى من القرن العشرين، لقد كان عدد سكان دمشق لا يتجاوز 250000 نسمة في الربع الأول من القرن العشرين، وبعد ستة عقود من الزمن أي في عام 1960 ارتفع العدد ليصل إلى 529963.بعد ذلك ارتفع " عدد سكان دمشق من 529963 في عام 1960 إلى 836668 في عام 1970 و1112214 في عام 1981. كانت كثافة تدفق المهاجرين الريفيين أعلى بوضوح في الستينيات منها في السبعينيات: وصل معدل النمو السكاني السنوي في مدينة دمشق بين عامي 1960 و1970 إلى 46,7 في المئة، لكنه كان 26,3 في المئة بين عامي 1970 و1981. من جراء عدم وجود إحصائيات عن الأسلاف الاجتماعيين للموظفين الحكوميين، من المستحيل أن يكون المرء دقيقاً بصدد درجة تغلغل أبناء الفلاحين وغيرهم من أبناء الريف في الكوادر الإدارية. لكن لا شك في أن أبواب بيروقراطية الدولة تحت حكم البعث في الستينيات انفتحت واسعة لهم. وازدادت فرص توظيفهم زيادة حادة غداة إعادة تأميم الشركات الكبيرة في عام 1964، وإجراءات التأميم واسعة النطاق في عام 1965، والزيادة الهائلة التي شهدتها السنوات اللاحقة في دور الحكومة في حياة القطر. فقد ازداد عدد موظفي الدولة والقطاع العام، باستثناء الشرطة والقوات المسلحة، من 33979 في عام 1960 إلى 198079 في عام 1971 وإلى 367649 في عام 1980 وإلى 546146 في عام 1985 وإلى 717387 في عام 1992."(10).
أهم مظاهر ترييف المدن السورية:
إن أي مراقب كان يعرف المدن السورية الكبرى قبل صعود البعث إلى السلطة والتي معها بدأت المرحلة الثانية والكبرى من موجة هجرة أبناء الريف إلى المدن، يمكنه تلمس مظاهر الترييف التيطغت على ملامح المدن السورية، وحيث أن أهم مظاهر الترييف نجدها في:
أولاً:" تزايد الإسكان العشوائي وغير المخطط "(11). خاصة في المدن السورية الكبرى. وحيث أن هؤلاء المهاجرون الجدد بادروا " إلى إنشاء مساكن بعيدة عن قوانين البناء التي تفرضها الأجهزة المحلية أو المؤسسات البلدية، وتفتقر للحد الأدنى من الخدمات العامة والبنى التحتية (من شبكة طرق وتوزيع المياه والكهرباء والصرف الصحي)، ويطلق عليها في تلك المدن تسميات مختلفة منها المناطق العشوائية والعشش ومدن الصفيحوأحزمة الفقر"(12)....إلخ.
ثانياً:لم يكن التوسع السكاني من خلال السكن العشوائي فحسب، فقد تحولت كل البلدات المحيطة بالعاصمة دمشق إلى مدن، وهو ما أصبح يطلق عليه اسم مدن ريف دمشق مثل دوما وحرستا وعربين وزملكا وجرمانا والمليحة وسقبا وحمورية وداريا والمعضمية ...إلخ. يكفي هنا للتدليل على مدى التضخم السكاني القادم من الأرياف إلى دمشق وإلى المدن المحيطة بها والذي لم يقابله ما يوازيه في تقديم الخدمات اللازمة لهذا التوسع البشري، الإشارة إلى أنه كان يكفي دمشق والبلدات المحيطة بها عام 1960 لإشباع حاجاتها من المياه اللازمة للشرب والاستخدامات المنزلية – ما عدا سقاية المحاصيل الزراعية - كانت تساوي ما يوازي تدفق نهر بغزارة مقدارها 2.5 متر مكعب في الثانية، وحيث أن عدد سكان دمشق وريفها لم يكن حينها يتجاوز المليون نسمة، في حين أصبحت تحتاج دمشق والمدن المحيطة بها بعد خمسة عقود من هجرة أبناء الريف إلى هذه المدن في ظل النظام الأسدي،وحيث أصبح عدد سكان دمشق وريفها يساوي ما يقارب الأربعة ملايين نسمة، أقول أصبحت تحتاج إلى ما يوازي نهراً تدفقه يساوي 10 متر مكعب في الثانية لإشباع حاجات السكان من المياه، وهو الأمر الذي يفسر لجوء المؤسسات المعنية إلى تقنين المياه عن المنازل وقطع المياه عن المواطنين لساعات طويلة من اليوم، وذلك لعجز الدولة عن إيجاد بدائل ومصادر للمياه تكفي هذا التوسع الجنوني في عدد سكان المدن. وهنا أتكلم عن السنوات التي سبقت بعقود عام 2011.
لقد كانت شبكة مياه شرب مدينة جرمانا على سبيل المثال لا الحصر مصممة على أساس أن عدد سكان المدينة لا يتجاوز الخمسة عشر ألف نسمة – وهو عدد سكان المدينة الأصليين - في الوقت الذي أصبح فيه عدد سكان جرمانا في عام 2005 ما يفوق 120000 نسمة. الأمر ذاته ينطبق على الخدمات في مجال الكهرباء والصرف الصحي والطرق وكل ما له علاقة بالمرافق الخدمية العامة اللازمة لحياة البشر، والأمر ذاته ينطبق على كل المدن السورية وفي كل المجالات الخدمية.
ثالثاً:مبادرة بعض المهاجرين ممن ينتمون إلى الطائفة العلوية وبدعم من جهات عسكرية قيادية لها ارتباط مباشر مع رأس النظام،ولا سيما المنتمون إلى المؤسسة العسكرية أو الأمنية أو القوات الخاصة – سرايا الدفاع أو الحرس الجمهوري أو قوات خاصة أو فرق عسكرية خاصة - والمسؤولة بشكل مباشر عن أمن النظام والدفاع عن بقائه واستمراره.
أقول: بادر هؤلاءالمهاجرون العسكريون بوضع أياديهم على بعض الأملاك العامة التابعة للدولة في المناطق المحيطة بالعاصمة دمشق، وشكلوا نواة للكثير من الأحياء العشوائية، وهو الأمر الذي أعطى طابعاً عسكرياً لهذه الأحياء، فحتى بعد أن أصبح بعض قاطني هذه الأحياء ينتمون إلى القطاعات المدنية من المجتمعالعلوي،إلا أن هذه الأحياء حافظت على طابعها العسكري، وشكلت خزاناً بشرياً عسكرياً طائفياً يطوق العاصمة السورية من كل الجهات.وحتى في المحافظات البعيدة عن الريف العلوي فقد شكلت المساكن العسكرية للضباط وصف الضباط العاملين في القطعات العسكرية في بعض المحافظات ما يشبه الأحياء التي يغلب فيها العنصر العلوي على كل ما عداه من الطوائف الأخرى.
وهنا من المهم الإشارة إلى ظاهرة لا تعكس مقدار هجرة أبناء الريف إلى المدن فحسب، بل عكست تغيرات نوعية في تركيبة بعض المدن السورية، فالمدن الساحلية السورية كاللاذقية وجبلة وبانياس وطرطوس التي ظلت تفتقر تاريخياً إلى أي وجود للمكون العلوي بين ساكنيها، تحولت خلال خمسة عقود من حكم النظام الأسدي إلى مدن تقطنها أغلبية علوية في حين أصبح فيه أهل السنّة والمسحيين أقلية في بعض هذه المدن.
رابعاً:" انتشار النشاط التجاري غير المنظم... وبما يعني ممارسة أنشطة تجارية غير رسمية (اقتصاد الظل) لا تخضع لرقابة الدولة"(13). وحيث أن أهم ما ميز هذا النشاط(أسواق الظل) هو أنه قام وارتبط بشبكات وعمليات التهريب لبعض السلع والمواد من الساحات المجاورة (مثل لبنان والعراق والأردن وتركيا) وإدخالها إلى السوق السورية، أو العكس تهريب بعض المواد من سوريا إلى الساحات والأسواق المحيطة بالساحة السورية.
وثاني ميزة لهذا النوع من النشاط التجاري هو أن سلعه كانت تباع على " الرصيف والباعة الجوالين بوساطة السيارات المتنقلة ... وفي قلب العاصمة في بعض الأحيان"(14).
خامساً: ظهور الكنتونات الطائفية والقومية والمناطقية والجهوية " حيث أخذت شكل الأحياء المنعزلة داخل المدن، حيث تحدد قاطنوها بناء على الانتماء إلى طائفة أو قومية أو منطقة أو جهة واحدة،وفي بعض الحالات بناء على انتماءات عشائرية وقبلية، وهو الأمر الذي أدى إلى " محافظتهم على العلاقات السابقة على قدومهم للمدينة من ناحية وضعف الاندماج في محيطهم الاجتماعي الحضري الجديد – المدني - من ناحية أخرى"(15).
لقد قال كارل ماركس عندما زار مدينة لندن في منتصف القرن التاسع عشر 1949،وشاهد الاختلافات والفروق بين الأحياء التي يقطنها الأغنياء والأحياء التي يقطنها الفقراء، مقولته الشهيرةالمعبرة عن الانقسام الأفقي الطبقي للمجتمع " في كل وطن يوجد وطنان وطن الفقراء ووطن الأغنياء ". إن ما قاله كارل ماركس ينطبق فقط في أحد وجوهه على واقع حال الأحياء في العاصمة دمشق، كما ينطبق على أي من أحياء المدن السورية الكبرى، حيث يقطن الأغنياء من أصحاب السلطة وكبار التجار ومعهم كبار رجال الدين (ما أطلق عليه الثالوث المدنس في الحالة السورية)في الأحياء الراقية، بالمقابل تحيط العاصمة السورية وكل المدن السورية الكبرى أحزمة الفقر، ولكن إذا نظرنا إلى تركيبة الأحياء الفقيرة، لن نجد تميزها في فقرها فحسب، بل نجد تميزها في تركيبتها وهويتها الطائفية أو القومية أو الجهوية أو المناطقية، الأمر الذي يجعلنانقول: إن مقولة كارل ماركس لم تعد صالحة ودقيقة لوصف المدن في هذه الحالة، الأمر الذي يعني ضرورة استبدال مقولة كارل ماركس عند معرفة تركيبة الأحياء السورية المحيطة بالمدن الكبرى بمقولة أخرى، تعبر عن الانقسام العمودي المضاف إلى الانقسام الأفقي الطبقي الذي يعيشه المجتمع السوري، فالأكثر تعبيراً وإحاطة بكل وجوه هذه الواقع وتركيبة هذه الأحياء، القول:" في كل وطن يوجد عشرات الأوطان، فإلى جانب وطن الأغنياء ووطن الفقراء، هناك أوطان بالجملة للفقراء، فهناك وطن العلويين، ووطن الدروز، ووطن النازحين من محافظة القنيطرة،ووطن الحوارنة،ووطن الأكراد، ووطن الشيعة، ووطن الفلسطينيين الذين هجرهم الاحتلال الإسرائيلي من أراضيهم ومدنهم وقراهم من فلسطين بدءاً من عام 1948،وهناك أوطان السنة من هنا وهناك من القرى والبلدات والقرى السورية،ووطن اليهود (قبل هجرة قسم كبير منهم بدءاً من أوائل الثمانينيات بعد السماح لهم بالهجرة تحت شرط عدم الحق بالعودة) ووطن المسيحيين من أرثوذكس وسريان وأرمن...إلخ.
"فإذا نظرنا إلى التركيبة الاجتماعية للأحياء الفقيرة المهاجرة المحيطة بالعاصمة دمشق نجد على سبيل المثال لا الحصر " في الجنوب نجد الحوارنة – أهل حوران – ليس بعيداً عنه مخيم اليرموك للفلسطينيين. وفي الشمال في (عش الورور) نرى الذين قدموا من اللاذقية وطرطوس وحمص، حيث استقر العلويون من القوات الخاصة و(الحرس الجمهوري للنظام الحاكم). وفي الشرق انغرس بقوة في القنيطرة الجديدة – وهي اسم المدينة الجولانية التي محاها الإسرائيليون تماماً بعد حرب حزيران 1967 – سبعون ألف لاجئ من الجولان. وفي الجنوب الشرقي هناك ما يقارب النصف مليون من الدروز والحوارنة وفقراء من مختلف الأصول تجمعوا في حي الطبالة "(16).
سادساً: " المحافظة على ممارسة الأنشطة الفلاحية: ولعل أبرزها يتمثل في إنشاء زرائب المواشي داخل الأحياء السكنية، وتكوين حظائر لتربية الدواجن على أسطح البيوت، بما يحوّل المدن العربية إلى مجتمعات ريفية قروية بكل عاداتها وسلوكياتها، وما ينطوي عليه من تأثيرات بيئية وصحية، فضلاً عن المساس بالقيمة الجمالية لبعض المدن العربية ذات الطبيعة التاريخية التراثية "(17).
ومع زيادة أعداد المهاجرين ومع المظاهر المشار إليها أعلاه بدأت المدينة تفقد طابعها وسيادتها شيئاً فشيئاً، لتحل مكانها القيم والعادات والطابع الريفي على أغلب المدن السورية بما في ذلك العاصمة دمشق. فعلى الرغم من تكدس أبناء الريف في العشوائيات حول المدن مشكلين ما يشبه " الكنتونات". المناطقية أو القومية أو الطائفية أو الدينية. إلا أن هذه العشوائيات استطاعت شيئاً فشيئاً أن تفرض ثقافتها وقيمها على ثقافة وقيم المدينة. ففي الحالة السورية لم يتم ترييف المدن السورية الكبرى نتيجة هجرة أبناء الريف إلى هذه المدن فحسب، بل زاد عليه ظاهرة هجرة أبناء المدن إلى الأرياف السورية المحيطة بالمدن، وحيث أن هذه الهجرة كانت بسبب قوانين الإيجار الظالمة لابن المدينة المؤجّر. فقد " خضعت العلاقات الإيجارية في سوريا منذ عام 1952 لأحكام المرسوم التشريعي رقم (111) لذات العام، وقد جعل المرسوم العلاقة الإيجارية خاضعة لأحكام التمديد الحكمي وتحديد بدل الإيجار، الأمر الذي انتهك المبدأ القانوني الأصلي " العقد شريعة المتعاقدين " الذي نصت عليه المادة (148) من القانون المدني السوري بشكل واضح وصريح. وقد تدخل هذا المرسوم التشريعي في حرية التعاقد، وجعل عقد الإيجار يمدد حكماً وبغض النظر عن رغبة وإرادة المؤجّر"(18). لقد استطاع أبناء الريف المهاجرين، بناء على المرسوم التشريعي المشار إليه، العصيانبالبيوت والعقارات التي استأجروها من أبناء المدن، ولا سيما أن البدل المادي لهذه الإيجارات أصبحت قيمتها مع مرور الزمن منخفضة جداً في شروط تدهور مستمر لقيمة الليرة السورية من جهة، والارتفاع الجنوني لسعر هذه العقارات المؤجّرة في سوق البيع من جهة أخرى، ثم جاءت الطامة الكبرى مع تعديل قانون الإيجارات في زمن النظام الأسدي، حيث أعطى القانون الجديد رقم 6 بتاريخ 15/ 2/ 2001 نسبة 40% من قيمة العقار للمستأجر في حال أراد المؤجر إخراج المستأجر واستعادة بيتة أو عقاره.
أن كل ذلك كان يدفع أبناء المدن إلى بيع عقاراتهم في المدن والهجرةإلى الأرياف الرخيصة المحيطة بالمدن بغية القدرة على شراء بيوت تأويهم وتأوي أبناءهم وبناتهم الذين كبروا وأصبحوا بحاجة إلى بيوت تأويهم مع أطفالهم.
لقد تُركت المدن السورية بما في ذلك العاصمة دمشق بين أيادي أبناء الريف، ولا سيما من هم محدثو النعمة والمكانة من لصوص السلطة والدولة الذين أصبحوا من أصحاب العقارات لا في أرقىأحياء المدينة فحسب، بل وصل الأمر إلى حد أنهم اشتروا العقارات في الأحياء القديمة التراثية وحولوها إلى مشاريع للاستثمار التجاري الرخيص كالمطاعم والنوادي الليلية ...إلخ. هكذا أغرقت دمشق بدءاً من أوائل الستينيات من القرن العشرين بالمهاجرين الريفيين القادمين من كل الأرياف السورية، فالطوفان الريفي احتل داخلها وطوق محيطها من كل الجهات، ولم يبق من ملامح المجتمع الدمشقي إلا ما احتفظت به الذاكرة والسرديات الدرامية عن بعض النسخ القديمة ومنها المزورة عما يطلق عليه السوريون بالمجتمع الدمشقي والأيام الشامية.
مقاربة لظاهرة هجرة أبناء الريف إلى المدينة بين الواقع الأوروبي والواقع العربي:
إذا كانت المجتمعات الأوروبية قد عرفت ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة بعد الثورة الصناعية الأولى والحاجة المتزايدة إلى العمال واليد العاملة المهاجرة من الريف، إلا أن هذه الجموع الريفية التي جاءت إلى المدن الصناعية، وبالرغم من أنها عاشت في أحياء الفقر والصفيح حول المدن، إلا أن المجتمع داخل هذه المدن بأبنائه الأصليين والمهاجرين كان يتم صهرهم سريعاً في بوتقة المجتمع المدني الذي عرفه المجتمع الأوروبي، والذي ترافقت ولادته ونشأته مع نمو وتطورالمجتمع البرجوازي الأوروبي، أي أن الهجرة تمت في شروط الثورة الصناعية البرجوازية الأولى، وفي شروط سادت فيها شيئاً فشيئاً ثقافة وقيم عصر الأنوار، أي في شروط سيادة قيم وثقافة الطبقة البرجوازية الصاعدة، لهذا لم يستطع أبناء الريف المهاجرين أن يطبعوا المدن الأوروبية بطابعهم وثقافتهم، والتي هي مزيج من ثقافة الإقطاع ورجال الكنيسة (الايكليروس)، فالمدن الأوروبية لم تتطور وتزدهر وتأخذ مكانتها وسيادتها على الريف إلا بفعل التطور الرأسمالي والصعود الرأسمالي في الواقع الأوروبي، وبالتالي كان طبيعياً وبديهياً " أن تكون ثقافة وقيم المدينة الرأسمالية هي الثقافة الغالبة والسائدة على ثقافة أبناء الريف المهاجرين إليها للعمل في صناعتها وتجارتها "(19).أما وأن الهجرة الواسعة تمت وتزامنت وترافقت مع ترييف وتطييف السلطة، ومع صعود الاستبداد والطبقة العليا للدولة الاستبدادية ذات الأصول الريفية، فهذه الطبقة حملت معها كل خصائصها الريفية والطائفية والحضارية إلى السلطة السياسية وإلى مؤسسات وأجهزة الدولة وإلى المدن التي تتركز وتتمركز فيها أجهزة وكيان السلطة والدولة والطبقة العليا للدولة الاستبدادية. لقد كان من الطبيعي والمنطقي أن تكون أخلاق وقيم المدينة هي من قيم الطبقة العليا للدولة الاستبدادية. فالطبقة العليا للدولة الاستبدادية هي طبقة رأسمالية، ولكن لا تملك قيم وأخلاق وثقافة الطبقة الرأسمالية الكلاسيكية، وهذا ناتج عن كونها لم تتطور وتصبح طبقة رأسمالية عبر مسار من التطور التاريخي الطويل، أي أنها أصبحت طبقة رأسمالية، ولكن دون أن تمتلك إرثاً تاريخياً رأسمالياً بل العكس هو الصحيح، فالقسم الكبير ممن شكلوا الطبقة العليا للدولة الاستبدادية الشمولية البرجوازية في الواقع السوري والعربي، هم بالأساس والأصل الطبقي والاجتماعي أبناء فقراء الريف، وأحياناً ممن ينتمون إلى العائلات المغمورة طبقياً واجتماعياً في الريف، ولكن هؤلاء تقمصوا ثقافة وقيم الإقطاع، أو رجل الدين الكبير، بفعل مركبات من العقد النفسية التي تحتاج إلى عالم النفس الشهير فرويد ليحلل عقد النقص التي تسيطر على هذه الفئات التي وجدت نفسها فجأة في أعلى قمة الهرم السياسي، ثم الاجتماعي والطبقي،ولهذا فقد كانت ممارستها السياسية والاقتصادية والثقافية هي مزيج من ثقافة الاستبداد الإقطاعي العربي، مضافاً إليه ومركباً معه ثقافة الاستبداد الستاليني الموروث بدوره من ثقافة المجتمع الإقطاعي في روسيا القيصرية،إنها ثقافة وقيم الريف التي فرضت نفسها على المجتمع بشكل عام، وعلى المدن بشكل خاص، كونها شكلت الخزان البشري لأغلبية أبناء المجتمع.
هكذا أصبحت المدن السورية (وكذلك العربية) هي عبارة عن أرياف كبيرة سيدها السياسي والاجتماعي والاقتصادي هو ابن الريف، ولكن لا ابن الريف البسيط والبريء وإنما ابن الريف المريض نفسياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً.إنها سيطرة محدثي النعمة والسلطة والجاه على المجتمع والمدن.
إن الجموع من أبناء الفلاحين الذين هاجروا إلى المدن، لم يتم احتضانهم في صناعة رأسمالية ومؤسسات إنتاجية، بل تم احتضانهم في أجهزة ومؤسسات الدولة الاستبدادية الاقتصادية والعسكرية والحزبية والإيديولوجية، وهي مؤسسات وأجهزة لم تعرف يوماً سوى قيم وثقافة العبودية البدائية التي كانت تنتجها وتعممها الدولة والسلطة الاستبدادية، مؤسسات وأجهزة لا تدفع بقيم وثقافة الإنسان نحو التطور، بل تزيد من تخلف الإنسان تخلفاً إذ كان ينقصه الثقافة والقيم الحسنة، وتنزع عنه القيم الحسنة إذا كان يمتلك بعضاً من هذه القيم. وهنا يجب أن نضيف:أن أجهزة ومؤسسات الدولة الاستبدادية التي احتضنت أبناء الريف المهاجرين،لم تستطع أو لنقل لم تكن مؤهلة لأن تجعلهم يفكون ارتباطهم مع الريف وحياة الريف بالمعنى الواسع للكلمة، فكانوا أبناء مدينة وأبناء ريف في الوقت ذاته أو لنقل ظلوا أبناء ريف رغم إقامتهم في المدينة.
إن المهاجرين من أبناء الريف لم يحتضنهم مجتمع مدني (أحزاب سياسية حرة و نقابات حقيقية حرة ...إلخ )، فالمجتمع المدني الذي نشأ في الخمسينيات تم ابتلاعه في أحشاء الدولة الاستبدادية البعثية، وتم تفريغه من كل محتواه وتحويله إلى مجموعة أجهزة ومؤسسات تابعة ومرتبطة بالدولة والسلطة، أي تحول من مجتمع مدني حر إلى مجتمع دولة إن جاز التعبير، فالدولة هنا هي المكان والإطار والموقع الوحيد المسموح فيه للفرد أن يعبر عن نفسه، ولكن بوصفه موظف دولة ويخضع لكل قيم التراتب والانضباط القائم داخل أجهزة ومؤسسات الدولة، أي لم يتم تحويل هؤلاء (أبناء الريف ومعهم أبناء المدينة) إلى مواطنين أحرار وأصحاب حقوق .
فإذا كان المهاجرون من أبناء الريف الأوروبي قبل وبعد الثورة الصناعية الأولى، قد تم اقتلاعهم من قراهم وأريافهم بالقسر السياسي تارةً والاقتصادي تارةً أخرى، إلا أن هؤلاء قطعوا مع الريف وحياة الريف مرة وإلى الأبد، فبعد أن تم احتضانهم كما قلنا قبل قليل في أحشاء المجتمع المدني الصاعد وأحشاء المجتمع الصناعي الصاعد أيضاً، أصبحوا شيئاً فشيئاً أبناء مدن، وفيما بعد مواطنين لهم حقوقهم وعليهم واجبات. أما في الحالة السورية كما العربية (كما هي الحالة في كل المجتمعات القليلة التطور والتي أقيمت فيها الدولة الاستبدادية الشمولية ذات الأصول البرجوازية الصغيرة)، فإن أبناء الريف المهاجرين إلى المدن والعاملين في مؤسسات وأجهزة الدولة المختلفة، لم يقطعوا مع أريافهم إن كان من حيث القطع مع العمل في النشاط الزراعي أو من حيث السكن والإقامة في الريف. فكل مهاجر أصبح لديه عملاً في أجهزة الدولة، وعملاً احتياطياً في أرضه الزراعية في الريف، وأصبح لديه مسكناً في المدينة ومسكناً في الريف، وأصبح العمل الزراعي منتشراً وموزعاً على كل مصفوفة الشرائح الطبقية بدءاً من العامل الذي يمارس العمل الزراعي إلى جانب عمله في أحد مؤسسات الدولة مروراً بالمعلم والمهندس والطبيب، وصولاً حتى إلى من هم من الطبقة العليا للدولة، حيث أصبحت عملية إنشاء مزرعة في الريف لازمة وعلامة من علامات النعمة والصعود الطبقي والاجتماعي، وتعويضاً نفسياً عن عقدة نقص متأصلة في النفوس من زمن عصر الإقطاع حيث قصر الإقطاعي كان يمثل رمزاً للتفوق الاجتماعي والطبقي.
هكذا أصبحت المدن السورية تعج بأعداد من الريفيين تفوق أضعاف مضاعفة أبناء المدن الأصليين، ومع هذه الأعداد والتي لم تقطع مع أريافها، انتقلت القرية إلى المدينة وأصبحت المدينة قرية كبيرة ولكن متلألئة الأضواء ومكتظة الأسواق والمحلات على الأرصفة وفي مركز المدينة وفي الحارات والأزقة.
(2).الصفحة 66 من البيان الشيوعي ماركس – إنجلز في أول ترجمة غير مزورة ماركس للعفيف الأخضر، منشورات الجمل، مكتبة الفكر الجديد، الطبعة الأولى 2015.
(3). الصفحة 66 المصدر السابق نفسه.
(4). الصفحة 36 من كتاب قضايا وشهادات – الحداثة – عصام خفاجي
(5).الصفحة 66 من كتاب تطور المجتمع السوري (1831-2011) تأليف نشوان الأتاسي.
(6). صفحة 35 من كتاب قضايا وشهادات – الحداثة – عصام خفاجي.
(7). الصفحة 209 من كتاب تطور المجتمع السوري (1831-2011) تأليف نشوان الأتاسي.
(8).منقول من بحث للكاتب مثال مصطفى هارون بعنوان حراك ديمغرافي: لماذا تزايدت ظاهرة " ترييف المدن " في المنطقة العربية؟ موقع المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، المنشور بتاريخ 21 فبراير 2019.
(9). المصدر السابق نفسه.
(10). الصفحة 308 – 309 من كتاب " فلّاحو سورية ... أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم " تأليف حنّا بطاطو ترجمة عبد الله فاضل ورائد النقشبندي ". منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الطبعة الأولى 2014.
(11).منقول من بحث للكاتب مثال مصطفى هارون بعنوان حراك ديمغرافي: لماذا تزايدت ظاهرة " ترييف المدن " في المنطقة العربية؟ موقع المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، المنشور بتاريخ 21 فبراير 2019.
(12).المصدر السابق نفسه.
(13).المصدر السابق نفسه.
(14). المصدر السابق نفسه.
(15). المصدر السابق نفسه.
(16).صفحة 36 من كتاب سورية في عهدة الجنرال الأسد تأليف دانييل لوغاك 1991 تعريب الدكتور حصيف عبد الغني 2006 مكتبة مدبولي القاهرة.
(17).منقول من بحث للباحث مثال مصطفى هارون بعنوان حراك ديمغرافي: لماذا تزايدت ظاهرة " ترييف المدن " في المنطقة العربية؟ موقع المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة. المنشور بتاريخ 21 فبراير 2019.
(18).من مقال تطور قوانين الإيجار في سوريا ... هل تمكنت من حفظ حقوق المؤجّر والمستأجر؟ منشور في جريدة عنب بلدي بتاريخ 12/ 10/ 2020.
(19). طبعاً من المهم الإشارة هنا إلى أن المدن الأوروبية لم يعد هذا الكلام ينطبق على واقع حالها بدءاً من الربع الأخير من القرن العشرين، بعد دخول العالم لما أطلقت عليه العصر الجديد لهجرة الشعوب إلى المراكز الأوروبية ونشوء ظاهرة ما أسميه بظاهرة ترييف القارة والمدن الأوروبية، وهي ظاهره مشابهة لما عرفته البشرية في القرنين الرابع والخامس الميلادي من عصر هجرة الشعوب نحو مركز الإمبراطورية الرومانية والتي أدى في النهاية إلى انهيار وسقوط الإمبراطورية الرومانية، وحيث أن التاريخ هنا لن يعيد نفسه كما قال هيغل، بل إنه عندما يعيد نفسه سيكون على شكل مهزلة كما أضاف كارل ماركس على قول هيغل، وحيث أن النتائج المدمرة لن تكون أقل مما عرفته القرون القديمة على المكان الذي يأتي إليه المهاجرون من الأطراف نتيجة الأزمات المستفحلة غير القابلة للحل في بلدان الأطراف، وفي شروط بحث وسعي أبناء هذه الشعوب إلى مكان تلوذ إليه هرباً من سياط حكامها، أو هربا من ظروفها المعاشية السيئة، حيث توفر لها الهجرة إلى المراكز الحد الأعلى من الأمن، والحد الأدنى من العيش الكريم، وفي شروط عدم رغبة ومصلحة حكومات المراكز لمساعدة هذه الشعوب من الخروج من أزماتها المستمرة والمستفحلة، بسبب سيطرة النظم الاستبدادية والديكتاتورية المدعومة في الغالب من حكومات ومراكز القوى في المراكز الغربية، أو بسبب النظم التي تعمل لمصلحة مصالحها ومصلحة الحكومات الغربية أكثر من عملها من أجل تطوير مجتمعاتها، وحيث أن اهم مظاهر هجرة شعوب الأطراف إلى المراكز الأوروبية بدء نشوء ظاهرة الانقسام العمودي داخل المدن الأوروبية، حيث أصبح من الممكن ملاحظة وانقسام المدن الأوروبية لا إلى أحياء غنية وأحياء فقيرة أو ضواحي فحسب، بل نجد الأحياء القائمة على أساس الهوية العرقية أو الدينية أو الأثنين معاً، فنجد الأحياء ذات الأغلبية العربية أو الإفريقية أو اللاتينية أو الألبانية أو التركية أو كل هذه الهويات مجتمعة ...إلخ. ممن هب ودب من شعوب الأطراف الساعية إلى الهجرة والسكن في مدن المراكز الأوروبية. وهنا من المهم الإشارة إلى أن اليمين المتطرف في المجتمعات الأوروبية يتحسس أكثر من غيره خطورة هذا الترييف الذي تتعرض له القارة الأوروبية، حيث يتحسس هذه الظاهرة بقرون استشعار ثقافية عنصرية، كما يضع حلولاً فاشية لحل هذه المشكلة، في المقابل فإن قوى اليسار الأوروبي بكل ألوانه وأطيافه يتعامل مع هذه الظاهرة بمنطق طبقوي ساذج وغبي، وما يزيد الطين بلة أن موقف قوى اليسار يأتي في إطار هزيمته التاريخية التي استفحلت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ومنظومته " الاشتراكية" سابقاً بدءاً من أوائل تسعينيات القرن العشرين، حيث أصبح اليسار غير قادر على لعب أي دور لتصحيح العلاقة أو التأثير في العلاقة بين المراكز والأطراف، كما أصبح بعيداً عن القرار السياسي الذي يمكنه من مساعدة شعوب الأطراف على الاستقرار في مجتمعاتها أو المساعدة في استقرارها من خلال المساعدة في حل أزماتها المستعصية عن الحل في شروط استثمار القوى الرأسمالية في المراكز في أزمات شعوب الأطراف لخدمة مصالحها بعيداً عن مصلحة هذه الشعوب، لهذا تشكل أزمة واستفحال واستمرار أزمات شعوب الأطراف جرحاً نازفاً سيقود دائماً إلى تدفق أبناء شعوب الأطراف نحو المراكز، الأمر الذي يفاقم من ظاهرة ترييف القارة الأوروبية ويجعلها حقيقة مشابهة في مظاهرها ونتائجها لظاهرة ترييف المدن في مجتمعات الأطراف.
الثامن عشر: الإطار الديمغرافي وظاهرة ترييف المدن السورية.
من المؤكد أن المحتوى الحقيقي الواسع والمنضوي تحت هذا العنوان هو الإطار التاريخي الديمغرافي لسيرورة تطييف وترييف الدولة والسلطة في سوريا، وهي السيرورة التي أنتجت وأفرزت بشكل تلقائي ظاهرة ترييف المدن السورية مع كل مظاهرها ومسبباتها. وهنا يمكن القول وقبل الدخول إلى الموضوع السوري،إن أهم ظاهرة ترافقت مع ظهور الرأسمالية على مسرح التاريخ العالمي انطلاقاً من المجتمعات الأوروبية الغربية،بدءاً من القرن الخامس عشر للميلادكانت ظاهرة نشوء وتوسع المدن الأوروبية بوصفها مراكز للسلطة السياسية من جهة أولى، وكونها أصبحت من جهة ثانية مراكز للاقتصاد الرأسمالي القائم على الإنتاج الصناعي والتجاري والمالي،في إطار علاقات الإنتاج الرأسمالية الجديدة، وحيث أن المدن أصبحت ساحة الاشتغال الأساسية لهذا النمط من الإنتاج،بعد أن كانت الأرياف في السابق ساحة الاشتغال الأساسية في زمن التشكيلات الاجتماعية الإقطاعيةالغربية المتمركزة في الريف من الناحية السياسية والاقتصادية من خلال الإنتاج الزراعي في الأراضي في إطار علاقات الإنتاج الإقطاعية.
لقد خضعت المدن في الواقع الأوروبي للأرياف طيلة عصر الإقطاع الذي استمر حوالي العشرة قرون من الزمن – وهي الفترة التي أطلق عليها في التاريخ الأوروبي والعالمي بالعصر الوسيط أو فترة قرون الظلام الأوروبي –التي بدأت مع" سقوط الإمبراطورية الرومانية أواخر القرن الخامس الميلادي في 4 سبتمبر 476 م "(1)، وانتهت مع بداية العصر الحديث في القرن الخامس عشر الميلادي. فمع صعود البرجوازية على مسرح التاريخ فقد تغيرت العلاقة بين الريف والمدينة بشكل كمي ونوعي " إن ميزة البرجوازية هي أنها عكست الآية فأخضعت الأرياف للمدن وانتزعت بنمط إنتاجها الديناميكي، عدداً عظيماً من الفلاحين السذج بتحويلهم إلى بروليتاريا عصريين. في 1848 كان تسعة أعشار سكان العالم خارج نمط الإنتاج البورجوازي الحديث. وكانت الزراعة تشغل 70% من سكان الولايات المتحدة النشيطين. وفي عام 1965 (أي بعد حوالي القرن ونيف من الزمن) انخفضت هذه النسبة إلى 8% فقط. وفي 1848 لم تكن هناك إلا قلة من أهل الحضر تسكن مدناً يزيد سكانها عن 100 ألف. وفي 1865 لم تكن توجد إلا خمس مدن يزيد سكانها عن المليون فأصبحت في عام 1951 توجد أكثر من 55 مدينة مليونيرية. وفي 1920 تجاوز عدد سكان المدن عدد سكان الأرياف. واليوم (في أواسط سبعينيات القرن العشرين) ثلاثة أرباع الإنسانية على الأقل تقيم في المدن "(2).ومن المؤكد أن عدد سكان المدن في مراكز وأطراف النظام الرأسمالي العالمي ازداد بعد هذا التاريخ على حساب عدد سكان الأرياف بنسب مئوية تفوق النسب المذكورة أعلاه. وهنا يقول المفكر الراحل العفيف الأخضر الذي قدم هذه الإحصائيات أن: " مغزى ذلك أن تحرر الإنسانية لا يمكن أن يتحقق إلا انطلاقاً من المدن حيث الطبقة العاملة وخيرة حلفائها من جهة، وحيث أجهزة الدولة وأدوات قمعها التي لا بدّ من تحطيمها من جهة أخرى. ولهذا فرفع شعار تحرير المدن بالأرياف وتطويق الحواضر بالبوادي هو اليوم حماقة لا أكثر"(3).
ومن وجهة نظري وإذا أردنا تلطيف كلمة حماقة التي استخدمها العفيف الأخضر باستبدالها بكلمة الوهم فيمكن القول: إن مقتل بعض النظريات الماركسية التي عرفها القرن العشرون كانت تكمن في هذا الوهم، وحيث يأتي على رأس هذه النظريات نظرية المفكر الراحل سمير أمين المشتقة أساساً من النظرية اللينينية القائلة بالبدء بإسقاط الحلقات الضعيفة في سلسلة حلقات النظام الرأسمالي العالمي، فقد راهنت نظرية المفكر الراحل سمير أمين على ثورات بلدان الأطراف ولا سيما بعد أن استعادت المراكز الرأسمالية أنفاسها بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن أبعدت شبح الأزمات الاجتماعية العميقة عن مجتمعاتها، حيث تركزت الحلقات الضعيفة في سلسلة النظام الرأسمالي العالمي، فحسب نظرية سمير أمين فإن ثورات شعوب الأطراف ستطوق المراكز الرأسمالية وقلاعها القوية، الأمر الذي سيقود في النهايةإلى تأزم الأوضاع الاقتصادية والسياسية في المراكز نتيجة حرمانها من نهب الأطراف، وهي العملية التي أطلق عليها نظرية فك الارتباط مع النظام الرأسمالي العالمي، وهو الأمر الذي سيقود في المحصلة النهائية إلى سقوط هذه القلاع وتغيير وعكس العلاقة بين المراكز والأطراف، بما في ذلك عكس مركز الحضارة البشرية، وحيث أن الأطراف ستغدو بعد ذلك هي من تشكل مركز وقلب العالم القادمالجديد الاشتراكي، وحيث أن ذلك يأتي في إطار رؤية خاصة بالمفكر سمير أمين لديالكتيك تطور المجمعات البشرية، وهي رؤية مخالفة لرؤية كارل ماركس التقليدية لهذا الديالكتيك حول تطور للمجتمعات. ونتيجة انتشار هذه النظرية – الصراع بين المراكز والأطراف - وغيرها من النظريات الماركسية والقومية البرجوازية الصغيرة المماثلة في أوساط النخب اليسارية العالمية، وبشكل خاص في مجتمعات الأطراف، فإن النخب الثقافية والسياسية والحزبية في أغلب أحزاب اليسار في مجتمعات الأطراف لم تعططيلة القرن العشرين أي انتباه وأهمية لمسألة ترييف السلطات السياسية وترييف أجهزة الدولة في هذه المجتمعات، كما لم تعط أي اهتمام للنتيجة المنطقية لعميلة ترييف الدولة والسلطة والتي تفرز بشكل تلقائي ظاهرة ترييف المدن في هذه المجتمعات. ويعود السبب الحقيقي لعدم الاهتمام بتلك الظاهرة لدى اليسار السوري، كما في الكثير من الساحات الطرفية،إلى كون اليسار السوري كان يتشكل طيلة عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات والسبعينيات من طيف واسع من القوى (شيوعيون واشتراكيون عرب وقوميون عرب وبعثيون وناصريون...إلخ). أقول: يعود عدم اهتمام تلك القوى بظاهرة الترييف لسببين أساسيين مترابطين:
السبب الأول: يرجعإلى كون أغلب المنتمين إلى هذه التيارات السياسية والحزبية والثقافية كانوا من أبناء الريف أساساً، وكان هؤلاء الريفيون هم الأقرب طبقياً وسياسياً لإيديولوجيات هذه القوى.
السبب الثاني: يرجع إلى كون أغلب هؤلاء اليساريون كانوا من أبناء الريف المهاجرين من أريافهم إلى المدن.
لهذا فقرون استشعار أبناء المدن لشم رائحة الترييف بكل أبعاده، إن كان ترييف السلطة والدولة أو ترييف المدن، كانت السباقة والأقوى والأدق في تحسسوشم رائحة هذه الظواهر، ولا سيما عندما ترافقت كلها في الحالة السورية مع التطييف، أي عندما ترافق الترييف بكل أبعاده مع التطييف، وهنا أقول: هناك اثنان يعتادان أو لا يتحسسان كثيراً رائحة بعضالظواهر الأول: من كان جزءاً عضوياً من هذه الظاهرة.
والثاني: منعاش قريباً منها وتآلف معها مع الزمن.
لقد كان تجار المدن السورية الكبرى، واليمين الإسلامي الإخواني،أول من تحسس وشمرائحة الترييف والتطييف، كما كانوا أول من أبدوا ردت فعل اتجاهها (وهو الأمر الذي سأعود إليه في بحث قادم بالتفصيل)، وهنا أسمح لنفسي بتسجيل هذه المعترضة بالقول: إن الأمر ذاته يمكن تلمسهمنذ ما يقارب النصف قرن من الزمن في القارة الأوروبية ، ويتصاعد الآن بشكل كبير، حيث نجد أن قرون استشعار اليمين المتطرف الأوروبي (وتحت عناوين متعددة) هي أكثر من يتحسس ويشم رائحة ظاهرة ترييف القارة الأوروبية الناتجة عن هجرة أبناء شعوب الأطراف إلى المراكز الغربية (وهو الأمر الذي سأشير إليه بشكل موجزفي الهامش رقم 19 من هذا البحث).
لقد عرفت شعوب الأطراف التي تأخرت بعض ساحاتها عدةقرون حتى وصلت إليها الرأسمالية وعلاقات الإنتاج الرأسمالية،ظاهرة هجرة أبناء الريف إلى المدن، وظاهرة ترييف المدن،ولكن بكيفية ونوعية مختلفة عما حصل في مجتمعات المراكز الرأسمالية، فالكثير من مجتمعات الأطراف ولا سيما منها المجتمعات الشرقية – ومنها المجتمعات العربية - كانت فيها المدينةتشكل المركز الأساس السياسي والاقتصادي داخل المجتمع،حتى قبل أن تعرف هذه المجتمعات الرأسمالية، وحيث أن ذلك يعود للخصائص المميزة للتشكيلات الاجتماعية ما قبل الرأسمالية في هذه المجتمعات، والتي أشرت إليها في مكان سابق من هذا البحث - وسأعود لتناولها في بحوث وسلسلة لاحقة بالتفصيل - لكن مع دخول الرأسمالية لهذه المجتمعات أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من جهة أولى، ومع صعود نظم الاستبداد المعمم الرأسمالية الشمولية بدءاً من ستينيات القرن العشرين من جهة ثانية، عرفت المدن في هذه المجتمعاتنمواً وتوسعاً غير مسبوق في تاريخها، فقد قادت عملية هجرة أبناء الريف إلى المدن لا إلى توسع ونمو عدد سكان المدن فحسب، بل قاد إلى أن تفقد المدينة لطبيعتها وخصائصها المميزة لها،وهو ما أسميه بظاهرة ترييف المدن. إن ما هو مهم في هذا البحث هو:
أولاً: معرفة المراحل التي تمت فيها هجرة أبناء الريف إلى المدينة في العصر الحديث
ثانياً:معرفة الأسباب الكامنة خلف هذه الهجرة في كل مرحلة
ثالثاً:معرفة أهم مظاهر عملية الترييف التي عرفتها المدن
رابعاً:إجراء مقاربة عن الاختلاف في الأسباب والمراحل والمظاهر لظاهرة هجرة أبناء الريف إلى المدن، بين ما حدث في مجتمعات الأطراف - ومنها المجتمع السوري - ومجتمعات المراكز الرأسمالية الغربية المتقدمة.
ففي الحالة السورية – وتتشابه معها الكثير إن لم نقل كل الحالات العربية - يمكن تقسيم هجرة أبناء الريف السوري في العصر الحديث إلى المدن السورية الكبرى والمتوسطة والصغيرة والتي كان بعضها – ما يسمى حالياً مدناً متوسطة أو صغيرة - في الأساس بلدات تنتمي من الناحية الإدارية والخصائص والوظائف إلى الريف أكثر من انتمائها إلى المدينة. أقول: يمكن تقسيم هذه الهجرة إلى مرحلتين رئيسيتين:
المرحلة الأولى:
يمكن القول: أن المرحلة الأولى من هجرة أبناء الريف السوري إلى المدن، هي الفترة الزمنية التي عاشها المجتمع السوري في العقود الستة الأولى من القرن العشرين، وهي المرحلة التي يمكن تسميتها بمرحلة التطور الرأسمالي الطبيعي الذي دخل فيه المجتمع السوري بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر وصولاً لبداية ستينيات القرن العشرين.
المرحلة الثانية:
هي الفترة الزمنية التي عاشها المجتمع السوري بدءاً من وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة من خلال انقلاب 8 آذار 1963، وهي المرحلة التي استمرت حتى زمن انهيار وتبعثر وتشتيت وتدمير المجتمع السوري – حجراً وبشراً- على يد قوات النظام الأسدي التي مارست أقصى حدود وأشكال العنف البربري في إطار المواجهة التي خاضهاالمجتمع السوريمع النظام الأسدي من أجل التحرر من نير الاستبداد ابتداءً من آذار 2011 وهي الفترة التي لم تنته فصولها حتى تاريخ كتابة هذا البحث 2022،وحيث أن ملاحظة الفروق بين المرحلتين ينبغي أن تركز على معرفةأسباب ومظاهر ونتائج الهجرة في كل مرحلة من مراحل هذه الهجرة.
ولكن قبل أن أشير إلى هذه المراحل من المهم أن يعرف قارئ هذا البحث أنني سأقوم في هذا البحث إلى الإشارة إلى الخصائص العامة لكل مرحلة من هذه المراحل، وسأترك الكثير من الأفكار والتفاصيل – وتحديداً عند تناول المرحلة الثانية - لأشير إليها في سياق البحث ودراسة المراحل التي مر بها نظام الاستبداد المعمم البرجوازيالشمولي في سوريا، حيث أن الهجرة الكبرى لأبناء الريف إلى المدينة،وخصائص هذه الهجرة وأسبابها وأهم مظاهرها ارتبطت بصعود هذا النظام من جهة، كما ارتبطت كل مرحلة من مراحل هذه الهجرة بالمرحلة التي مر بها نظام الاستبداد المعمم، فخصائص وأسباب هجرة أبناء الريف إلى المدينة في مرحلة صعود نظام الاستبداد المعمم، تختلف من حيث الكيف والنوع عنها في مرحلة الازدهار التي مر بها النظام الأسدي، وكذلك تختلف خصائص هجرة أبناء الريف إلى المدن في مرحلة انحطاط النظام الأسدي عن مرحلتي صعوده وازدهاره.
المرحلة الأولى وأسبابها:
يمكن القول:أن أهم الأسباب التي دفعت بهجرة أبناء الريف السوري نحو المدن في العقود الستة الأولى من القرن العشرين هي:
أولاً: التغيرات البنيوية التي دخلت على بنية الاقتصاد والطبقات الاجتماعية في سورية والناتجة عن دخول الساحة السورية إلى دائرة النظام الرأسمالي العالمي من أوسع الأبواب بدءاً من عام 1918 - وهي المرحلة التي تمت فيها عملية القطع النهائي مع السيطرة العثمانية وأنماطهاوعلاقاتها، ووقوع الساحة السورية تحت سيطرة الاستعمار الفرنسي، أو ما أطلق عليه مرحلة الانتداب الفرنسي على سوريا - وهو الأمر الذي دفع المجتمع السوري للدخول في علاقات الإنتاج والسوق والتبادل القائمة داخل الاقتصاد البرجوازي الجديد والنامي في سوريا، وحيث أن المدن السورية الكبرى شكلت الميدان الأول والأساسي الذي تمركزت فيه عمليات الإنتاج الجديد الذي كان يحتاج إلى مزيد من اليد العاملة القادمة من الريف والباحثة عن الرزق وفرص العمل. وقد شكلت معامل الغزل والنسيج الجديدة والحديثة وغيرها من الصناعات التحويلية والغذائية التي دخلت إلى ساحة الإنتاج في سورية، الإطار الذي امتص اليد العاملة المهاجرة من الريف.
ثانياً: الأزمة التي عاشتها البنى الإقطاعية القديمة، وقد كان من أول نتائج الأزمة التي عاشتها البنى الإقطاعية في الواقع السوري كما في الواقع العربي عموماً، في النصف الأول من القرن العشرين " هو هجرة أبناء البلدات المفقرة المحطمة نتيجة تغير خطوطالتجارة أو أنماط الاستهلاك وبالتالي انهيار الحرف التي تخصصت بها تلك البلدات قبل الانخراط في السوق الرأسمالية العالمية"(4). طبعاً هنا من المهم الإشارة إلى أن الهجرة هذه أتت لا بسبب تأزم البنى الإقطاعية فحسب، بل كذلك، بسبب حالة الفقر المدقع الذي عاشه الريف السوري بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة، نتيجة المحل في المواسم الزراعية من جهة، ونتيجة شدة النهب للأرياف والمدن السورية الذي مارسته الدولة العثمانية لتغذية وتمويل جيوشها زمن الحرب العالمية الأولى. " ونتيجة لهذه الأوضاع الاقتصادية فقد قام المهاجرون الريفيون الذين هجروا مناطقهم المصابة بالمجاعة بغزو مدينتي دمشق وحلب "(5).
ثالثاً: كانت هجرة بعض أبناء الأرياف وخاصة من أبناء الأقليات الدينية والقومية الذين انخرطوا في سلك الدرك وجيش الشرق الذي أقامه الفرنسيون.
رابعاً: بسبب قيام الدولة الوطنية بعد الاستقلال في 17 أبريل1946 الأمر الذي أدى إلى " تضخم دور المدن الكبيرة (ولا سيما العاصمة) كمركز نشاط سياسي – اقتصادي – إداري – حضاري للبلادكلها"(6). " فبعد الاستقلال " تضاعف عدد موظفي الإدارات الرسمية ثلاث مرات "(7). في سوريا، ولا سيما بعد أن تمت عملية تطوير ولو محدود في حركة التعليم التي بدأت مراكزها الأولى في المدن وفي العاصمة تحديداً (بالنسبة للتعليم الجامعي) كما تمت عملية إقامة منشآت اقتصادية صناعية كبيرة بالمعنى النسبي، وكان مركزها الأول كذلك في العواصم والمدن الكبرى. يضاف إلى ذلك كله النمو المتزايد في مؤسستي الجيش والأمن ولا سيما أن أغلب الساحات العربية كانت لديها قضية تحرير أرض مغتصبة إضافة إلى قضية تحرير فلسطين وحيث شكلت هاتان المؤسستان الوعاء الذي ملأه أبناء الريف الفقراء أو الساعين إلى تحسين أوضاعهم أو الطامحين إلى ما هو أبعد من ذلك.
المرحلة الثانية وأسبابها:
أولاً: السبب الاقتصادي:
كما قلت في السطور السابقة، فقد بدأت المرحلة الثانية من هجرة أبناء الريف إلى المدن السورية الكبرى بعد انقلاب 8 آذار 1963 وصعود حزب البعث العربي الاشتراكي إلى سدة السلطة. فقد أدى هذا الصعود إلى تدمير الطبقة البرجوازية التقليدية المالكة للثروة، وكذلك تدمير دورة الحياة الطبيعية للاقتصاد السوري الناشئ والنامي، وبما يعني قطع صيرورة التطور الطبيعي للمجتمع السوري، بما في ذلك صيرورة التطور الطبيعي لهجرة أبناء الريف السوري إلى المدن، التي كانت تشهد تطوراً طبيعياً للبنى الاقتصادية البرجوازية التي كانت تمتص وتهضم طاقات المهاجرين وتضعهم في دورة حياة الاقتصاد المديني بشكل طبيعي، وحيث أن البديل البعثي عن كل ذلك كان اقتصاد الدولة،أو ما أطلق عليه البعثيون اقتصاد القطاع العام، وهو ما أطلقت عليه في هذا البحث " اقتصاد الوظيفة الحكومية "، وحيث أن هذا الاقتصاد بالتكامل مع اقتصاد سياسي خاص بنوع كهذا من النظم الشمولية، يقوم على تضخم دور الدولة في كل مجالات الحياة، وبما يعني تضخم أجهزتها ومؤسساتها المختلفة المدنية والعسكرية، الذي يستدعي بالضرورة طلب المزيد من هجرة أبناء الريف إلى المدن كي يتم نشرهم على سلم ودرج التسلسل الهرمي الوظيفي لأجهزة ومؤسسات الدولة المختلفة.
ثانياً: السبب السياسي:
لقد كانت الدوافع السياسية من أهم الأسباب الكامنة خلف عملية نزوح أبناء الأرياف السورية إلى المدن، أو لنقل: دفع أبناء الأرياف السورية إلى الهجرة إلى المدن،فقد " كانت إحدى الظواهر اللافتة في سوريا خلال عهد حافظ الأسد انتقال أهل الريف إلى المدن، على نحو برز جلياً في حمص ودمشق نظراً لتركز الكلية الحربية في حمص، وقيادة الفرق العسكرية والدوائر الحكومية في دمشق، بما يساهم في دعم أمن النظام، لدرجة أنه تم استحداث أحياء داخل المدن وعلى تخومها، وهو ما استمر في حكم الأسد الابن"(8).
طبعاً ينسحب هذا على كل المدن السورية الأخرى مثل حلب وغيرها من المدن التي كانت للأسباب نفسها مراكز لقطعات وفرق الجيش، ومراكز للأفرع الأمنية الكثيرة والقوات الخاصة المشكلة في أغلبيتها الساحقة من الأميين من أبناء الريف أو الذين لم يستطيعوا استكمال ومتابعة تعلمهم حتى في مراحله الأولى - الإعدادية والثانوية –وحيث أن وأغلبيتهم هم من أبناء الطبقة الفلاحية المدقعة في فقرها، مضافاً إليهم أنصاف المتعلمين والوصوليين، وحيث أن جميع هذه الأجهزة لم يكن لها من وظيفة سوى الدفاع عن وجود وبقاء النظام. والأمر ذاته عرفته أغلب الساحات العربية ولا سيما الساحة الشقيقة البعثية العراقية " فقد أدت الممارسات العنفية التي انتهجتها الحكومات العراقية في عهد نظام صدام حسين إلى إجبار قطاعات واسعة من الأكراد، لا سيما بعد الحرب العراقية – الإيرانية، على التهجير والانتقال إلى مراكز حضارية أخرى مثل مدينة السليمانية. كما عمل النظام العراقي الأسبق – البعثي – على ترييف معظم المدن بعد نقله الآلاف من الأرياف إلى المدن خاصة الأميين وأنصاف المتعلمين الذين تم تجنيدهم في الجيش والمخابرات والشرطة، عبر توطينهم في مراكز المدن بتسهيلات كبيرة لحماية أمنه."(9).
وإذا كانت هجرة أبناء الريف السوري إلى المدن السورية الكبرى والتي تمت خلال النصف الأول من القرن العشرين (وتحديداً حتى بداية الستينيات) قد كان من أولى نتائجها وآثارها هو بداية صراع النخب الثقافية والسياسية الريفية مع النخب الثقافية والسياسية المدنية، إلا أن هذه الهجرة، وبالرغم من أنها أدت إلى مضاعفة أعداد سكان المدن، إلا أن هذه المدن حافظت على طابعها المدني، وبما يعني أن المدن حافظت على سيادتها وقيمها الأخلاقية وعاداتها وتقاليدها ونمط الحياة المديني.
وفي المرحلة الثانية ومع التوسع والتضخم الجنوني لأجهزة ومؤسسات الدولة المختلفة الاقتصادية والعسكرية (الجيش والأمن ) والسياسية والثقافية والإيديولوجية، بدأت هجرة أبناء الريف إلى المدينة من أجل الدخول في مؤسسات وأجهزة الدولة المختلفة، أو من أجل العيش في جوار هذه المؤسسات والأجهزة من أجل الحصول على فرص العمل والعيش، وبمقدار ما كان يتم التوسع الجنوني في أجهزة ومؤسسات الدولة، كان يتم التوسع الجنوني في الهجرة من الريف إلى المدينة، فبعد أن كان يتركز في الريف السوري نسبة حوالي 70% من عدد السكان الإجمالي أصبحت هذه النسبة معكوسة بعد خمسة عقود من حكم النظام البعثي بشكل عام والأسدي بشكل خاص، أي أصبح عدد سكان المدن أو من يسكنون في المدن هم من يشكلون نسبة ال70 % من عدد السكان الإجمالي.
يكفي أن نعلم هنا أن عدد سكان دمشق ازداد خلال عقد الستينيات فقط بنسبة تقارب 47%، أي تقريباً يساوي نسبة زيادة عدد سكان دمشق خلال العقود الستة الأولى من القرن العشرين، لقد كان عدد سكان دمشق لا يتجاوز 250000 نسمة في الربع الأول من القرن العشرين، وبعد ستة عقود من الزمن أي في عام 1960 ارتفع العدد ليصل إلى 529963.بعد ذلك ارتفع " عدد سكان دمشق من 529963 في عام 1960 إلى 836668 في عام 1970 و1112214 في عام 1981. كانت كثافة تدفق المهاجرين الريفيين أعلى بوضوح في الستينيات منها في السبعينيات: وصل معدل النمو السكاني السنوي في مدينة دمشق بين عامي 1960 و1970 إلى 46,7 في المئة، لكنه كان 26,3 في المئة بين عامي 1970 و1981. من جراء عدم وجود إحصائيات عن الأسلاف الاجتماعيين للموظفين الحكوميين، من المستحيل أن يكون المرء دقيقاً بصدد درجة تغلغل أبناء الفلاحين وغيرهم من أبناء الريف في الكوادر الإدارية. لكن لا شك في أن أبواب بيروقراطية الدولة تحت حكم البعث في الستينيات انفتحت واسعة لهم. وازدادت فرص توظيفهم زيادة حادة غداة إعادة تأميم الشركات الكبيرة في عام 1964، وإجراءات التأميم واسعة النطاق في عام 1965، والزيادة الهائلة التي شهدتها السنوات اللاحقة في دور الحكومة في حياة القطر. فقد ازداد عدد موظفي الدولة والقطاع العام، باستثناء الشرطة والقوات المسلحة، من 33979 في عام 1960 إلى 198079 في عام 1971 وإلى 367649 في عام 1980 وإلى 546146 في عام 1985 وإلى 717387 في عام 1992."(10).
أهم مظاهر ترييف المدن السورية:
إن أي مراقب كان يعرف المدن السورية الكبرى قبل صعود البعث إلى السلطة والتي معها بدأت المرحلة الثانية والكبرى من موجة هجرة أبناء الريف إلى المدن، يمكنه تلمس مظاهر الترييف التيطغت على ملامح المدن السورية، وحيث أن أهم مظاهر الترييف نجدها في:
أولاً:" تزايد الإسكان العشوائي وغير المخطط "(11). خاصة في المدن السورية الكبرى. وحيث أن هؤلاء المهاجرون الجدد بادروا " إلى إنشاء مساكن بعيدة عن قوانين البناء التي تفرضها الأجهزة المحلية أو المؤسسات البلدية، وتفتقر للحد الأدنى من الخدمات العامة والبنى التحتية (من شبكة طرق وتوزيع المياه والكهرباء والصرف الصحي)، ويطلق عليها في تلك المدن تسميات مختلفة منها المناطق العشوائية والعشش ومدن الصفيحوأحزمة الفقر"(12)....إلخ.
ثانياً:لم يكن التوسع السكاني من خلال السكن العشوائي فحسب، فقد تحولت كل البلدات المحيطة بالعاصمة دمشق إلى مدن، وهو ما أصبح يطلق عليه اسم مدن ريف دمشق مثل دوما وحرستا وعربين وزملكا وجرمانا والمليحة وسقبا وحمورية وداريا والمعضمية ...إلخ. يكفي هنا للتدليل على مدى التضخم السكاني القادم من الأرياف إلى دمشق وإلى المدن المحيطة بها والذي لم يقابله ما يوازيه في تقديم الخدمات اللازمة لهذا التوسع البشري، الإشارة إلى أنه كان يكفي دمشق والبلدات المحيطة بها عام 1960 لإشباع حاجاتها من المياه اللازمة للشرب والاستخدامات المنزلية – ما عدا سقاية المحاصيل الزراعية - كانت تساوي ما يوازي تدفق نهر بغزارة مقدارها 2.5 متر مكعب في الثانية، وحيث أن عدد سكان دمشق وريفها لم يكن حينها يتجاوز المليون نسمة، في حين أصبحت تحتاج دمشق والمدن المحيطة بها بعد خمسة عقود من هجرة أبناء الريف إلى هذه المدن في ظل النظام الأسدي،وحيث أصبح عدد سكان دمشق وريفها يساوي ما يقارب الأربعة ملايين نسمة، أقول أصبحت تحتاج إلى ما يوازي نهراً تدفقه يساوي 10 متر مكعب في الثانية لإشباع حاجات السكان من المياه، وهو الأمر الذي يفسر لجوء المؤسسات المعنية إلى تقنين المياه عن المنازل وقطع المياه عن المواطنين لساعات طويلة من اليوم، وذلك لعجز الدولة عن إيجاد بدائل ومصادر للمياه تكفي هذا التوسع الجنوني في عدد سكان المدن. وهنا أتكلم عن السنوات التي سبقت بعقود عام 2011.
لقد كانت شبكة مياه شرب مدينة جرمانا على سبيل المثال لا الحصر مصممة على أساس أن عدد سكان المدينة لا يتجاوز الخمسة عشر ألف نسمة – وهو عدد سكان المدينة الأصليين - في الوقت الذي أصبح فيه عدد سكان جرمانا في عام 2005 ما يفوق 120000 نسمة. الأمر ذاته ينطبق على الخدمات في مجال الكهرباء والصرف الصحي والطرق وكل ما له علاقة بالمرافق الخدمية العامة اللازمة لحياة البشر، والأمر ذاته ينطبق على كل المدن السورية وفي كل المجالات الخدمية.
ثالثاً:مبادرة بعض المهاجرين ممن ينتمون إلى الطائفة العلوية وبدعم من جهات عسكرية قيادية لها ارتباط مباشر مع رأس النظام،ولا سيما المنتمون إلى المؤسسة العسكرية أو الأمنية أو القوات الخاصة – سرايا الدفاع أو الحرس الجمهوري أو قوات خاصة أو فرق عسكرية خاصة - والمسؤولة بشكل مباشر عن أمن النظام والدفاع عن بقائه واستمراره.
أقول: بادر هؤلاءالمهاجرون العسكريون بوضع أياديهم على بعض الأملاك العامة التابعة للدولة في المناطق المحيطة بالعاصمة دمشق، وشكلوا نواة للكثير من الأحياء العشوائية، وهو الأمر الذي أعطى طابعاً عسكرياً لهذه الأحياء، فحتى بعد أن أصبح بعض قاطني هذه الأحياء ينتمون إلى القطاعات المدنية من المجتمعالعلوي،إلا أن هذه الأحياء حافظت على طابعها العسكري، وشكلت خزاناً بشرياً عسكرياً طائفياً يطوق العاصمة السورية من كل الجهات.وحتى في المحافظات البعيدة عن الريف العلوي فقد شكلت المساكن العسكرية للضباط وصف الضباط العاملين في القطعات العسكرية في بعض المحافظات ما يشبه الأحياء التي يغلب فيها العنصر العلوي على كل ما عداه من الطوائف الأخرى.
وهنا من المهم الإشارة إلى ظاهرة لا تعكس مقدار هجرة أبناء الريف إلى المدن فحسب، بل عكست تغيرات نوعية في تركيبة بعض المدن السورية، فالمدن الساحلية السورية كاللاذقية وجبلة وبانياس وطرطوس التي ظلت تفتقر تاريخياً إلى أي وجود للمكون العلوي بين ساكنيها، تحولت خلال خمسة عقود من حكم النظام الأسدي إلى مدن تقطنها أغلبية علوية في حين أصبح فيه أهل السنّة والمسحيين أقلية في بعض هذه المدن.
رابعاً:" انتشار النشاط التجاري غير المنظم... وبما يعني ممارسة أنشطة تجارية غير رسمية (اقتصاد الظل) لا تخضع لرقابة الدولة"(13). وحيث أن أهم ما ميز هذا النشاط(أسواق الظل) هو أنه قام وارتبط بشبكات وعمليات التهريب لبعض السلع والمواد من الساحات المجاورة (مثل لبنان والعراق والأردن وتركيا) وإدخالها إلى السوق السورية، أو العكس تهريب بعض المواد من سوريا إلى الساحات والأسواق المحيطة بالساحة السورية.
وثاني ميزة لهذا النوع من النشاط التجاري هو أن سلعه كانت تباع على " الرصيف والباعة الجوالين بوساطة السيارات المتنقلة ... وفي قلب العاصمة في بعض الأحيان"(14).
خامساً: ظهور الكنتونات الطائفية والقومية والمناطقية والجهوية " حيث أخذت شكل الأحياء المنعزلة داخل المدن، حيث تحدد قاطنوها بناء على الانتماء إلى طائفة أو قومية أو منطقة أو جهة واحدة،وفي بعض الحالات بناء على انتماءات عشائرية وقبلية، وهو الأمر الذي أدى إلى " محافظتهم على العلاقات السابقة على قدومهم للمدينة من ناحية وضعف الاندماج في محيطهم الاجتماعي الحضري الجديد – المدني - من ناحية أخرى"(15).
لقد قال كارل ماركس عندما زار مدينة لندن في منتصف القرن التاسع عشر 1949،وشاهد الاختلافات والفروق بين الأحياء التي يقطنها الأغنياء والأحياء التي يقطنها الفقراء، مقولته الشهيرةالمعبرة عن الانقسام الأفقي الطبقي للمجتمع " في كل وطن يوجد وطنان وطن الفقراء ووطن الأغنياء ". إن ما قاله كارل ماركس ينطبق فقط في أحد وجوهه على واقع حال الأحياء في العاصمة دمشق، كما ينطبق على أي من أحياء المدن السورية الكبرى، حيث يقطن الأغنياء من أصحاب السلطة وكبار التجار ومعهم كبار رجال الدين (ما أطلق عليه الثالوث المدنس في الحالة السورية)في الأحياء الراقية، بالمقابل تحيط العاصمة السورية وكل المدن السورية الكبرى أحزمة الفقر، ولكن إذا نظرنا إلى تركيبة الأحياء الفقيرة، لن نجد تميزها في فقرها فحسب، بل نجد تميزها في تركيبتها وهويتها الطائفية أو القومية أو الجهوية أو المناطقية، الأمر الذي يجعلنانقول: إن مقولة كارل ماركس لم تعد صالحة ودقيقة لوصف المدن في هذه الحالة، الأمر الذي يعني ضرورة استبدال مقولة كارل ماركس عند معرفة تركيبة الأحياء السورية المحيطة بالمدن الكبرى بمقولة أخرى، تعبر عن الانقسام العمودي المضاف إلى الانقسام الأفقي الطبقي الذي يعيشه المجتمع السوري، فالأكثر تعبيراً وإحاطة بكل وجوه هذه الواقع وتركيبة هذه الأحياء، القول:" في كل وطن يوجد عشرات الأوطان، فإلى جانب وطن الأغنياء ووطن الفقراء، هناك أوطان بالجملة للفقراء، فهناك وطن العلويين، ووطن الدروز، ووطن النازحين من محافظة القنيطرة،ووطن الحوارنة،ووطن الأكراد، ووطن الشيعة، ووطن الفلسطينيين الذين هجرهم الاحتلال الإسرائيلي من أراضيهم ومدنهم وقراهم من فلسطين بدءاً من عام 1948،وهناك أوطان السنة من هنا وهناك من القرى والبلدات والقرى السورية،ووطن اليهود (قبل هجرة قسم كبير منهم بدءاً من أوائل الثمانينيات بعد السماح لهم بالهجرة تحت شرط عدم الحق بالعودة) ووطن المسيحيين من أرثوذكس وسريان وأرمن...إلخ.
"فإذا نظرنا إلى التركيبة الاجتماعية للأحياء الفقيرة المهاجرة المحيطة بالعاصمة دمشق نجد على سبيل المثال لا الحصر " في الجنوب نجد الحوارنة – أهل حوران – ليس بعيداً عنه مخيم اليرموك للفلسطينيين. وفي الشمال في (عش الورور) نرى الذين قدموا من اللاذقية وطرطوس وحمص، حيث استقر العلويون من القوات الخاصة و(الحرس الجمهوري للنظام الحاكم). وفي الشرق انغرس بقوة في القنيطرة الجديدة – وهي اسم المدينة الجولانية التي محاها الإسرائيليون تماماً بعد حرب حزيران 1967 – سبعون ألف لاجئ من الجولان. وفي الجنوب الشرقي هناك ما يقارب النصف مليون من الدروز والحوارنة وفقراء من مختلف الأصول تجمعوا في حي الطبالة "(16).
سادساً: " المحافظة على ممارسة الأنشطة الفلاحية: ولعل أبرزها يتمثل في إنشاء زرائب المواشي داخل الأحياء السكنية، وتكوين حظائر لتربية الدواجن على أسطح البيوت، بما يحوّل المدن العربية إلى مجتمعات ريفية قروية بكل عاداتها وسلوكياتها، وما ينطوي عليه من تأثيرات بيئية وصحية، فضلاً عن المساس بالقيمة الجمالية لبعض المدن العربية ذات الطبيعة التاريخية التراثية "(17).
ومع زيادة أعداد المهاجرين ومع المظاهر المشار إليها أعلاه بدأت المدينة تفقد طابعها وسيادتها شيئاً فشيئاً، لتحل مكانها القيم والعادات والطابع الريفي على أغلب المدن السورية بما في ذلك العاصمة دمشق. فعلى الرغم من تكدس أبناء الريف في العشوائيات حول المدن مشكلين ما يشبه " الكنتونات". المناطقية أو القومية أو الطائفية أو الدينية. إلا أن هذه العشوائيات استطاعت شيئاً فشيئاً أن تفرض ثقافتها وقيمها على ثقافة وقيم المدينة. ففي الحالة السورية لم يتم ترييف المدن السورية الكبرى نتيجة هجرة أبناء الريف إلى هذه المدن فحسب، بل زاد عليه ظاهرة هجرة أبناء المدن إلى الأرياف السورية المحيطة بالمدن، وحيث أن هذه الهجرة كانت بسبب قوانين الإيجار الظالمة لابن المدينة المؤجّر. فقد " خضعت العلاقات الإيجارية في سوريا منذ عام 1952 لأحكام المرسوم التشريعي رقم (111) لذات العام، وقد جعل المرسوم العلاقة الإيجارية خاضعة لأحكام التمديد الحكمي وتحديد بدل الإيجار، الأمر الذي انتهك المبدأ القانوني الأصلي " العقد شريعة المتعاقدين " الذي نصت عليه المادة (148) من القانون المدني السوري بشكل واضح وصريح. وقد تدخل هذا المرسوم التشريعي في حرية التعاقد، وجعل عقد الإيجار يمدد حكماً وبغض النظر عن رغبة وإرادة المؤجّر"(18). لقد استطاع أبناء الريف المهاجرين، بناء على المرسوم التشريعي المشار إليه، العصيانبالبيوت والعقارات التي استأجروها من أبناء المدن، ولا سيما أن البدل المادي لهذه الإيجارات أصبحت قيمتها مع مرور الزمن منخفضة جداً في شروط تدهور مستمر لقيمة الليرة السورية من جهة، والارتفاع الجنوني لسعر هذه العقارات المؤجّرة في سوق البيع من جهة أخرى، ثم جاءت الطامة الكبرى مع تعديل قانون الإيجارات في زمن النظام الأسدي، حيث أعطى القانون الجديد رقم 6 بتاريخ 15/ 2/ 2001 نسبة 40% من قيمة العقار للمستأجر في حال أراد المؤجر إخراج المستأجر واستعادة بيتة أو عقاره.
أن كل ذلك كان يدفع أبناء المدن إلى بيع عقاراتهم في المدن والهجرةإلى الأرياف الرخيصة المحيطة بالمدن بغية القدرة على شراء بيوت تأويهم وتأوي أبناءهم وبناتهم الذين كبروا وأصبحوا بحاجة إلى بيوت تأويهم مع أطفالهم.
لقد تُركت المدن السورية بما في ذلك العاصمة دمشق بين أيادي أبناء الريف، ولا سيما من هم محدثو النعمة والمكانة من لصوص السلطة والدولة الذين أصبحوا من أصحاب العقارات لا في أرقىأحياء المدينة فحسب، بل وصل الأمر إلى حد أنهم اشتروا العقارات في الأحياء القديمة التراثية وحولوها إلى مشاريع للاستثمار التجاري الرخيص كالمطاعم والنوادي الليلية ...إلخ. هكذا أغرقت دمشق بدءاً من أوائل الستينيات من القرن العشرين بالمهاجرين الريفيين القادمين من كل الأرياف السورية، فالطوفان الريفي احتل داخلها وطوق محيطها من كل الجهات، ولم يبق من ملامح المجتمع الدمشقي إلا ما احتفظت به الذاكرة والسرديات الدرامية عن بعض النسخ القديمة ومنها المزورة عما يطلق عليه السوريون بالمجتمع الدمشقي والأيام الشامية.
مقاربة لظاهرة هجرة أبناء الريف إلى المدينة بين الواقع الأوروبي والواقع العربي:
إذا كانت المجتمعات الأوروبية قد عرفت ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة بعد الثورة الصناعية الأولى والحاجة المتزايدة إلى العمال واليد العاملة المهاجرة من الريف، إلا أن هذه الجموع الريفية التي جاءت إلى المدن الصناعية، وبالرغم من أنها عاشت في أحياء الفقر والصفيح حول المدن، إلا أن المجتمع داخل هذه المدن بأبنائه الأصليين والمهاجرين كان يتم صهرهم سريعاً في بوتقة المجتمع المدني الذي عرفه المجتمع الأوروبي، والذي ترافقت ولادته ونشأته مع نمو وتطورالمجتمع البرجوازي الأوروبي، أي أن الهجرة تمت في شروط الثورة الصناعية البرجوازية الأولى، وفي شروط سادت فيها شيئاً فشيئاً ثقافة وقيم عصر الأنوار، أي في شروط سيادة قيم وثقافة الطبقة البرجوازية الصاعدة، لهذا لم يستطع أبناء الريف المهاجرين أن يطبعوا المدن الأوروبية بطابعهم وثقافتهم، والتي هي مزيج من ثقافة الإقطاع ورجال الكنيسة (الايكليروس)، فالمدن الأوروبية لم تتطور وتزدهر وتأخذ مكانتها وسيادتها على الريف إلا بفعل التطور الرأسمالي والصعود الرأسمالي في الواقع الأوروبي، وبالتالي كان طبيعياً وبديهياً " أن تكون ثقافة وقيم المدينة الرأسمالية هي الثقافة الغالبة والسائدة على ثقافة أبناء الريف المهاجرين إليها للعمل في صناعتها وتجارتها "(19).أما وأن الهجرة الواسعة تمت وتزامنت وترافقت مع ترييف وتطييف السلطة، ومع صعود الاستبداد والطبقة العليا للدولة الاستبدادية ذات الأصول الريفية، فهذه الطبقة حملت معها كل خصائصها الريفية والطائفية والحضارية إلى السلطة السياسية وإلى مؤسسات وأجهزة الدولة وإلى المدن التي تتركز وتتمركز فيها أجهزة وكيان السلطة والدولة والطبقة العليا للدولة الاستبدادية. لقد كان من الطبيعي والمنطقي أن تكون أخلاق وقيم المدينة هي من قيم الطبقة العليا للدولة الاستبدادية. فالطبقة العليا للدولة الاستبدادية هي طبقة رأسمالية، ولكن لا تملك قيم وأخلاق وثقافة الطبقة الرأسمالية الكلاسيكية، وهذا ناتج عن كونها لم تتطور وتصبح طبقة رأسمالية عبر مسار من التطور التاريخي الطويل، أي أنها أصبحت طبقة رأسمالية، ولكن دون أن تمتلك إرثاً تاريخياً رأسمالياً بل العكس هو الصحيح، فالقسم الكبير ممن شكلوا الطبقة العليا للدولة الاستبدادية الشمولية البرجوازية في الواقع السوري والعربي، هم بالأساس والأصل الطبقي والاجتماعي أبناء فقراء الريف، وأحياناً ممن ينتمون إلى العائلات المغمورة طبقياً واجتماعياً في الريف، ولكن هؤلاء تقمصوا ثقافة وقيم الإقطاع، أو رجل الدين الكبير، بفعل مركبات من العقد النفسية التي تحتاج إلى عالم النفس الشهير فرويد ليحلل عقد النقص التي تسيطر على هذه الفئات التي وجدت نفسها فجأة في أعلى قمة الهرم السياسي، ثم الاجتماعي والطبقي،ولهذا فقد كانت ممارستها السياسية والاقتصادية والثقافية هي مزيج من ثقافة الاستبداد الإقطاعي العربي، مضافاً إليه ومركباً معه ثقافة الاستبداد الستاليني الموروث بدوره من ثقافة المجتمع الإقطاعي في روسيا القيصرية،إنها ثقافة وقيم الريف التي فرضت نفسها على المجتمع بشكل عام، وعلى المدن بشكل خاص، كونها شكلت الخزان البشري لأغلبية أبناء المجتمع.
هكذا أصبحت المدن السورية (وكذلك العربية) هي عبارة عن أرياف كبيرة سيدها السياسي والاجتماعي والاقتصادي هو ابن الريف، ولكن لا ابن الريف البسيط والبريء وإنما ابن الريف المريض نفسياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً.إنها سيطرة محدثي النعمة والسلطة والجاه على المجتمع والمدن.
إن الجموع من أبناء الفلاحين الذين هاجروا إلى المدن، لم يتم احتضانهم في صناعة رأسمالية ومؤسسات إنتاجية، بل تم احتضانهم في أجهزة ومؤسسات الدولة الاستبدادية الاقتصادية والعسكرية والحزبية والإيديولوجية، وهي مؤسسات وأجهزة لم تعرف يوماً سوى قيم وثقافة العبودية البدائية التي كانت تنتجها وتعممها الدولة والسلطة الاستبدادية، مؤسسات وأجهزة لا تدفع بقيم وثقافة الإنسان نحو التطور، بل تزيد من تخلف الإنسان تخلفاً إذ كان ينقصه الثقافة والقيم الحسنة، وتنزع عنه القيم الحسنة إذا كان يمتلك بعضاً من هذه القيم. وهنا يجب أن نضيف:أن أجهزة ومؤسسات الدولة الاستبدادية التي احتضنت أبناء الريف المهاجرين،لم تستطع أو لنقل لم تكن مؤهلة لأن تجعلهم يفكون ارتباطهم مع الريف وحياة الريف بالمعنى الواسع للكلمة، فكانوا أبناء مدينة وأبناء ريف في الوقت ذاته أو لنقل ظلوا أبناء ريف رغم إقامتهم في المدينة.
إن المهاجرين من أبناء الريف لم يحتضنهم مجتمع مدني (أحزاب سياسية حرة و نقابات حقيقية حرة ...إلخ )، فالمجتمع المدني الذي نشأ في الخمسينيات تم ابتلاعه في أحشاء الدولة الاستبدادية البعثية، وتم تفريغه من كل محتواه وتحويله إلى مجموعة أجهزة ومؤسسات تابعة ومرتبطة بالدولة والسلطة، أي تحول من مجتمع مدني حر إلى مجتمع دولة إن جاز التعبير، فالدولة هنا هي المكان والإطار والموقع الوحيد المسموح فيه للفرد أن يعبر عن نفسه، ولكن بوصفه موظف دولة ويخضع لكل قيم التراتب والانضباط القائم داخل أجهزة ومؤسسات الدولة، أي لم يتم تحويل هؤلاء (أبناء الريف ومعهم أبناء المدينة) إلى مواطنين أحرار وأصحاب حقوق .
فإذا كان المهاجرون من أبناء الريف الأوروبي قبل وبعد الثورة الصناعية الأولى، قد تم اقتلاعهم من قراهم وأريافهم بالقسر السياسي تارةً والاقتصادي تارةً أخرى، إلا أن هؤلاء قطعوا مع الريف وحياة الريف مرة وإلى الأبد، فبعد أن تم احتضانهم كما قلنا قبل قليل في أحشاء المجتمع المدني الصاعد وأحشاء المجتمع الصناعي الصاعد أيضاً، أصبحوا شيئاً فشيئاً أبناء مدن، وفيما بعد مواطنين لهم حقوقهم وعليهم واجبات. أما في الحالة السورية كما العربية (كما هي الحالة في كل المجتمعات القليلة التطور والتي أقيمت فيها الدولة الاستبدادية الشمولية ذات الأصول البرجوازية الصغيرة)، فإن أبناء الريف المهاجرين إلى المدن والعاملين في مؤسسات وأجهزة الدولة المختلفة، لم يقطعوا مع أريافهم إن كان من حيث القطع مع العمل في النشاط الزراعي أو من حيث السكن والإقامة في الريف. فكل مهاجر أصبح لديه عملاً في أجهزة الدولة، وعملاً احتياطياً في أرضه الزراعية في الريف، وأصبح لديه مسكناً في المدينة ومسكناً في الريف، وأصبح العمل الزراعي منتشراً وموزعاً على كل مصفوفة الشرائح الطبقية بدءاً من العامل الذي يمارس العمل الزراعي إلى جانب عمله في أحد مؤسسات الدولة مروراً بالمعلم والمهندس والطبيب، وصولاً حتى إلى من هم من الطبقة العليا للدولة، حيث أصبحت عملية إنشاء مزرعة في الريف لازمة وعلامة من علامات النعمة والصعود الطبقي والاجتماعي، وتعويضاً نفسياً عن عقدة نقص متأصلة في النفوس من زمن عصر الإقطاع حيث قصر الإقطاعي كان يمثل رمزاً للتفوق الاجتماعي والطبقي.
هكذا أصبحت المدن السورية تعج بأعداد من الريفيين تفوق أضعاف مضاعفة أبناء المدن الأصليين، ومع هذه الأعداد والتي لم تقطع مع أريافها، انتقلت القرية إلى المدينة وأصبحت المدينة قرية كبيرة ولكن متلألئة الأضواء ومكتظة الأسواق والمحلات على الأرصفة وفي مركز المدينة وفي الحارات والأزقة.
المصادر:
(1).النظرية الأكثر وضوحاً ومباشرة لانهيار روما الغربية هي سلسلة الخسائر العسكرية المتكررة ضد قوى خارجية والتي دقت المسمار الأول في نعش روما. كانت روما والقبائل الجرمانية في حالة نزاع لعدة قرون ولكن وبحلول القرن الرابع الميلادي استطاعت مجموعات بربرية كالقوطيين التوسع داخل حدود الإمبراطورية. رغم تصدي الرومان للنهوض الجرماني في نهاية القرن الرابع الميلادي ولكن الملك ألاريك (Alaric) زعيم القوطيين الغربيين نجح بنهب روما عام 410 م. بقيت الإمبراطورية لعقود بعد ذلك مهددة بشكل مستمر إلى أن داهم الفاندال " المدينة الأبدية " روما عام 455 م. أخيراً وفي عام 476 م. نظم القائد الجرماني أودواكر (Odoacer) عصياناً وعزل الإمبراطور رومولس أوغستولوس (Romulus Augustulus). ومنذ ذلك التاريخ لم يحكم رومانياً بمنصب إمبراطور في إيطاليا مما دعا العديد لاعتبار تاريخ 476 م الضربة القاضية على الإمبراطورية الغربية (... ) ومن الأسباب التي أدت لسقوط الإمبراطورية الرومانية " ظهور قبائل الهون وهجرة القبائل البربرية: بدأت الهجمات البربرية على روما من الهجرات الكبيرة بعد غزوات الهون في أوروبا أواخر القرن الرابع الميلادي عندما داهم المحاربون الأوراسيون شمال أوروبا دفعوا بالعديد من القبائل الجرمانية للنزوح حتى حدود الإمبراطورية الرومانية، سمح الرومان على مضض للبعض من قبيلة القوط الغربيين بعبور جنوب الدانوب ليحتموا بالأراضي الرومانية الآمنة إلا أنهم عاملوهم بقسوة كبيرة. في هذا الصدد يقول المؤرخ اميانوس مارسيليانوس(Ammianus Marcellinus) إن الضباط الرومان قد أجبروا القوطيين الجياع على بيع أولادهم كعبيد مقابل لحم الكلاب. لقد خلق الرومان بهذا السلوك الوحشي مع القوطيين عدواً خطيراً داخل حدودهم. ما إن وصل الظلم إلى حد لم يعد يحتمله القوطيون ثاروا على الرومان وقطعوا الطريق على الجيش الروماني وقتلوا الامبراطور الشرقي فالنس (Valens) في معركة أدريانوبل (أدرنة) سنة 378 م. فاوض الرومان المذهولين لعقد معاهدة سلام واهية مع البرابرة الذين نقضوا المعاهدة سنة 410 م بقيادة الملك القوطي ألاراك (Alaric) الذي تحرك نحو الغرب ونهب روما. فتح ضعف الإمبراطورية الغربية الباب لقبائل جرمانية كالفاندال والساكسون لتعبر الحدود وتسيطر على بريطانيا وإسبانيا وشمال إفريقيا " (موقع الباحثون السوريون مقال بعنوان " ثمانية أسباب أدت لسقوط روما " المقال من إعداد Yamama HD, Hanin AL-Khalaf, sulfa Alloush, Hanan Osman and Hala Alliush تاريخ النشر 6/ 11 / 2016.(2).الصفحة 66 من البيان الشيوعي ماركس – إنجلز في أول ترجمة غير مزورة ماركس للعفيف الأخضر، منشورات الجمل، مكتبة الفكر الجديد، الطبعة الأولى 2015.
(3). الصفحة 66 المصدر السابق نفسه.
(4). الصفحة 36 من كتاب قضايا وشهادات – الحداثة – عصام خفاجي
(5).الصفحة 66 من كتاب تطور المجتمع السوري (1831-2011) تأليف نشوان الأتاسي.
(6). صفحة 35 من كتاب قضايا وشهادات – الحداثة – عصام خفاجي.
(7). الصفحة 209 من كتاب تطور المجتمع السوري (1831-2011) تأليف نشوان الأتاسي.
(8).منقول من بحث للكاتب مثال مصطفى هارون بعنوان حراك ديمغرافي: لماذا تزايدت ظاهرة " ترييف المدن " في المنطقة العربية؟ موقع المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، المنشور بتاريخ 21 فبراير 2019.
(9). المصدر السابق نفسه.
(10). الصفحة 308 – 309 من كتاب " فلّاحو سورية ... أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم " تأليف حنّا بطاطو ترجمة عبد الله فاضل ورائد النقشبندي ". منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الطبعة الأولى 2014.
(11).منقول من بحث للكاتب مثال مصطفى هارون بعنوان حراك ديمغرافي: لماذا تزايدت ظاهرة " ترييف المدن " في المنطقة العربية؟ موقع المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، المنشور بتاريخ 21 فبراير 2019.
(12).المصدر السابق نفسه.
(13).المصدر السابق نفسه.
(14). المصدر السابق نفسه.
(15). المصدر السابق نفسه.
(16).صفحة 36 من كتاب سورية في عهدة الجنرال الأسد تأليف دانييل لوغاك 1991 تعريب الدكتور حصيف عبد الغني 2006 مكتبة مدبولي القاهرة.
(17).منقول من بحث للباحث مثال مصطفى هارون بعنوان حراك ديمغرافي: لماذا تزايدت ظاهرة " ترييف المدن " في المنطقة العربية؟ موقع المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة. المنشور بتاريخ 21 فبراير 2019.
(18).من مقال تطور قوانين الإيجار في سوريا ... هل تمكنت من حفظ حقوق المؤجّر والمستأجر؟ منشور في جريدة عنب بلدي بتاريخ 12/ 10/ 2020.
(19). طبعاً من المهم الإشارة هنا إلى أن المدن الأوروبية لم يعد هذا الكلام ينطبق على واقع حالها بدءاً من الربع الأخير من القرن العشرين، بعد دخول العالم لما أطلقت عليه العصر الجديد لهجرة الشعوب إلى المراكز الأوروبية ونشوء ظاهرة ما أسميه بظاهرة ترييف القارة والمدن الأوروبية، وهي ظاهره مشابهة لما عرفته البشرية في القرنين الرابع والخامس الميلادي من عصر هجرة الشعوب نحو مركز الإمبراطورية الرومانية والتي أدى في النهاية إلى انهيار وسقوط الإمبراطورية الرومانية، وحيث أن التاريخ هنا لن يعيد نفسه كما قال هيغل، بل إنه عندما يعيد نفسه سيكون على شكل مهزلة كما أضاف كارل ماركس على قول هيغل، وحيث أن النتائج المدمرة لن تكون أقل مما عرفته القرون القديمة على المكان الذي يأتي إليه المهاجرون من الأطراف نتيجة الأزمات المستفحلة غير القابلة للحل في بلدان الأطراف، وفي شروط بحث وسعي أبناء هذه الشعوب إلى مكان تلوذ إليه هرباً من سياط حكامها، أو هربا من ظروفها المعاشية السيئة، حيث توفر لها الهجرة إلى المراكز الحد الأعلى من الأمن، والحد الأدنى من العيش الكريم، وفي شروط عدم رغبة ومصلحة حكومات المراكز لمساعدة هذه الشعوب من الخروج من أزماتها المستمرة والمستفحلة، بسبب سيطرة النظم الاستبدادية والديكتاتورية المدعومة في الغالب من حكومات ومراكز القوى في المراكز الغربية، أو بسبب النظم التي تعمل لمصلحة مصالحها ومصلحة الحكومات الغربية أكثر من عملها من أجل تطوير مجتمعاتها، وحيث أن اهم مظاهر هجرة شعوب الأطراف إلى المراكز الأوروبية بدء نشوء ظاهرة الانقسام العمودي داخل المدن الأوروبية، حيث أصبح من الممكن ملاحظة وانقسام المدن الأوروبية لا إلى أحياء غنية وأحياء فقيرة أو ضواحي فحسب، بل نجد الأحياء القائمة على أساس الهوية العرقية أو الدينية أو الأثنين معاً، فنجد الأحياء ذات الأغلبية العربية أو الإفريقية أو اللاتينية أو الألبانية أو التركية أو كل هذه الهويات مجتمعة ...إلخ. ممن هب ودب من شعوب الأطراف الساعية إلى الهجرة والسكن في مدن المراكز الأوروبية. وهنا من المهم الإشارة إلى أن اليمين المتطرف في المجتمعات الأوروبية يتحسس أكثر من غيره خطورة هذا الترييف الذي تتعرض له القارة الأوروبية، حيث يتحسس هذه الظاهرة بقرون استشعار ثقافية عنصرية، كما يضع حلولاً فاشية لحل هذه المشكلة، في المقابل فإن قوى اليسار الأوروبي بكل ألوانه وأطيافه يتعامل مع هذه الظاهرة بمنطق طبقوي ساذج وغبي، وما يزيد الطين بلة أن موقف قوى اليسار يأتي في إطار هزيمته التاريخية التي استفحلت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ومنظومته " الاشتراكية" سابقاً بدءاً من أوائل تسعينيات القرن العشرين، حيث أصبح اليسار غير قادر على لعب أي دور لتصحيح العلاقة أو التأثير في العلاقة بين المراكز والأطراف، كما أصبح بعيداً عن القرار السياسي الذي يمكنه من مساعدة شعوب الأطراف على الاستقرار في مجتمعاتها أو المساعدة في استقرارها من خلال المساعدة في حل أزماتها المستعصية عن الحل في شروط استثمار القوى الرأسمالية في المراكز في أزمات شعوب الأطراف لخدمة مصالحها بعيداً عن مصلحة هذه الشعوب، لهذا تشكل أزمة واستفحال واستمرار أزمات شعوب الأطراف جرحاً نازفاً سيقود دائماً إلى تدفق أبناء شعوب الأطراف نحو المراكز، الأمر الذي يفاقم من ظاهرة ترييف القارة الأوروبية ويجعلها حقيقة مشابهة في مظاهرها ونتائجها لظاهرة ترييف المدن في مجتمعات الأطراف.