نظام الاستبداد المعمم في سوريا مقدماته ومراحله - 17
لومــــوند : نبيل ملحم
السابع عشر: الإطار التاريخي السياسي التأسيسي لسيرورة تطييف وترييف الدولة والسلطة في سوريا (1963-1970).
أولاً: قطع صيرورة التطور الطبيعي والركوب في القطار الأمريكي:
ربما يتساءل كل متابع لهذا البحث عن سبب تناولي لأكثر من مرة العنوان المتعلق بسيرورة الصراع البعثي على السلطة في الفترة الواقعة(1963-1970). إن جوابي على هذا السؤالله عدة أسباب حيث يأتي في مقدمتها:
أولاً: كونها الفترة التي عرفت فيها الساحة السورية حدثاً مفصلياً في تاريخها الحديث، وهو الحدث الذي تمثل بمشهد وسيرورة قطع صيرورة التطور الطبيعي الاقتصادي والسياسي والثقافي والحضاري للمجتمع السوري.
ثانياً: كون منهج التناول المركب والمعقد الذي أتناول من خلاله كل فصول هذا البحث لا يقتضي ضرورة معالجة وتسليط الضوء على كل العناصر والوجوه الداخلة في تركيب لوحة الصراع السياسي فحسب، بل يقتضي هذا المنهج على ضرورة التركيز على تأثير كل عنصر من العناصر الداخلة في لوحة الصراع على غيره من بقية العناصر المشكلة للوحة الصراع الكلية.
ثالثاً: كون تناول وجه أو عنصر من عناصر الصراع وإغفال بقية الوجوه والعناصر مع إغفال تأثير بعضها على بعض هو ما ساد في السنوات الأخيرة في سلسلة من الأبحاث والكتب المليئة بالقذارات الفكرية والطائفية التي انفجرت ورميت - بتمويل خارجي أو بتمويل من عقل مريض سياسياً أو طائفياً أو ثقافياًوإيديولوجياً- في وجوه السوريين كمن يصب الزيت على النار المشتعلة داخل المجتمع السوري منذ عقود، تارة على شكل نار ملتهبة وظاهرة، وتارة على شكل نار متجمرة تحت الرماد.
رابعاً: إن من يتابع أغلب الأبحاث والكتب التي تناولت هذه الفترة من تاريخ سوريا يجد أن أغلبها سعت إما إلى شيطنات بالجملة لشخصيات وتيارات سياسية، وأحياناً كيانات دينية ومذهبية من دون تمييز بين الصالح والطالح في مقابل جعل بعض الشخصيات والتيارات والكيانات وكأنها ملائكة طاهرة ومنزهة عن أي خطأ أو خطيئة، وحيث أن أي دراسة موضوعية متأنية ستجد من وجهة نظري أن جميع التيارات السياسية والكثير من الشخصيات الحزبية كانت مسؤولة عن الوصول إلى الحالة الأسدية، أو إلى النظام الأسدي ولا يغير من هذا القول حجم هذه المسؤولية بين هذا التيار أو ذاك أو بين هذه الشخصية أو تلك. ولا أقصد هنا مسؤولية التيارات وشخصيات داخل حزب البعث العربي الاشتراكي الذي قفز إلى سدة السلطة في 8 آذار 1963، عن طريق العسكر - وهو الموضوع الأساسي في هذا البحث - فحسب بل المقصود كل التيارات السياسية والطبقية التي كان يتشكل منها المشهد السياسي والطبقي والفكري في تلك المرحلة من التاريخ السوري، فباستثناء الكتلة السياسية والطبقية البرجوازية التي كان يمثلها خالد العظم منذ أواسط الخمسينيات من القرن العشرين كما كان يمثلها عشية هذا الانقلاب - وتم عليها الانقلاب - وكذلك الكتلة السياسية التي كان يمثلها أكرم الحوراني تحت اسم الاشتراكيين العرب والتي عارضت هذا الانقلاب ولم تشارك فيه ولا بتغطيته سياسياً– ولا سيما الكتلة التي ظلت وفية من الناحية السياسية لأكرم الحوراني - فإن كل التيارات السياسية التي كانيتشكل منها المشهد السياسي خلال عقد الستينيات من القرن العشرين – بعثيين وناصريين وإسلاميين وشيوعيين - كانت مسؤولة ولو بدرجات مختلفة ومتفاوتة في الوصول إلى النظام الأسدي من جهة أولى،أو المساعدة على تثبيت واستمرارهذا النظام في السنوات الأولى لوجوده على الأقل من جهة ثانية.
خامساً: إن تكرار تناولي لهذه الفترة من التاريخ السوري هو ضرورة منهجية لا يقتضيها منهج التناول المركب والمعقد في الفلسفة وفي علم الاجتماع السياسي فحسب،بل تأتي كضرورة ودعوة لإدخال ما أسميه الفيزياء السياسية (الإحساس الفيزيائي بما هو سياسي أو الإحساس الفيزيائي بالتاريخ ) كأحد الأدوات المعرفية والمنهجية التي ينبغي إضافتها إلى علم الاجتماع السياسي، وحيث تأتي بعض مفاهيم الكيمياء والفيزياء والهندسة والميكانيك والديناميك والستاتيك...إلخ من أنواع العلوم في المعرفة لتشكل أدوات معرفية ينبغي استخدامها في تناول أي من قضايا علم الاجتماع السياسي، أو لنقل: عند تناول البناء التاريخي أو السياسي لمرحلة أو عصر أو حقبة من التاريخ لم نعاصرها ونعيش فيها. فعلى سبيل المثال إذا أردنا أن نكون فكرة دقيقة عن صورة وتفاصيل بناء قائم في الفراغ لم ندخل إليه ولم نعش فيه من قبل، فهذا يقتضي منا كي تكون الصورة مفهومة وأقرب إلى الواقع وأكثر موضوعية تبيان ورسم صورة الوجوه الأربعة التي تشكل واجهات هذا البناء، كما يقتضي إحداث مقاطع طولية وعرضية،ومقاطع شاقولية وأفقية في أكثر من محور من محاور البناء وفي أكثر من عنصر حتى نستطيع رؤية وتكوين صورة واقعية ودقيقة لا عن كل العناصر الداخلة والحاملة والمشكلة لهذا البناء فحسب، بل كذلك تعطينا هذه المقاطع فكرة عن علاقة وترابط هذه العناصر بعضها مع بعض ودور كل منها وتأثيره على بقية العناصر. إن ضرورة تناول البناء والعمارة التاريخية لأي حقبة أو عصر من التاريخ السياسي وفق هذا المنطق والمنهج،لا تقتضيه فوائد المعرفة الموضوعية والواقعية التي تسمح لنا بمكاشفة عامة وشاملة وحقيقية عن تلك المرحلة فحسب، بل تقتضيه ضرورة تكوين النواظم الأخلاقية التي تشكل مرجعية دائمة لكل ما هو أخلاقي وسياسي عبر مراحل تطور أي مجتمع. وهنا يمكن القول: إن الشعوب التي تعجز عن هذه المكاشفة الشاملة النقدية لمحطات تاريخها،فإنها تعاني دائماًمن أزمة ومحنة أخلاقية في كل أزمة سياسية تواجهها في حاضرها ومستقبلها. فتاريخنا القديم والوسيط والحديث مليء بالتيارات والشخصيات الأسطورية التي لا يأتيها الخطأ من أي جانب ولا يسمح بالاقتراب منها ونقدها تحت طائلة التخوين والتكفير وما شابه ذلك، كما أن تاريخنا مليء من جهة أخرى بالتيارات والشخصيات الشيطانية التي لا يأتيها الصواب ولا تعرف الخير من أي جانب، والأخطر من ذلك أن من هو في موقع البطل الإيجابي في عين هذه الجهة يكون في موقع الشيطان في عين جهة أخرى. ولهذا كله يبدو تاريخنا وكأنه مجموعة من الأكاذيب والتلفيقات البعيدة عن الموضوعية والواقعية، ولهذا كذلك تنام شعوبنا وتصحوفي كل يوم على بحر من الأكاذيب والأحلام الوردية الخيالية، حيث أن من يشكلون قدوتها في الماضي هم محض أوهام تم رسمها وتصنيعها في مختبرات الأسطرة الإيجابية أو السلبية والتي لم تتناول يوما التاريخ في كل مراحله إلا تحت تأثير أهواء ذاتية أو أيديولوجية مضللة لا تعرف الموضوعية ولا تعرف المناهج والأدوات المعرفية الصحيحة واللازمة لرسم حقيقة التاريخ في أي من مراحله المختلفة. على هذا الأساس يمكن التعقيب على قول القيادي البعثي العتيق سامي الجندي:" حول امتلاء دوائر الدولة بأصحاب القاف المقلقلة " أو أي قيادي بعثي آخريحاول الهروب والتملص من مسؤوليته التاريخية في التمهيد للوصول إلى الحالة الأسدية أو لنقل وصول النظام الأسدي عام 1970،أقصد هنا أولئك الذين تمت عملية استبعاده ممن سلطة البعث إن كان قبل أو بعد مجيء النظام الأسدي،أو تمت عملية حرمانهممن الحياة من خلال القتل أو السجن حتى الموت أو حرمانهم السياسي من خلال النفي والمطاردة إلى خارج حدود البلاد أو المطاردة والملاحقة داخل حدود الوطن،وحيث أن أغلب هؤلاء إن لم نقل كلهم كانوا بالأساس من المشاركين في عملية قطع صيرورة التطور الطبيعي للمجتمع السوري من خلال التغطية السياسية والنظرية لانقلاب 8 آذار البعثي العسكريعام 1963وكل الإجراءات التي أعقبت هذا الانقلاب في أيامه وأسابيعه وأشهره وسنواته الأولى، وحيث أن الكثير منهم - وبعيداً عن نواياهم الطيبة - فقد لعبوا دور الجلاد والضحية بذات الوقت نتيجة للعته الفكري والسياسيوالإيديولوجي الذي كان يسيطر على عقولهم في تلك المرحلة نتيجة تبنيهم للفكر القومي البرجوازي الصغير مضافاً إليه تبنيهم لنموذج الدولة المشتقة من النموذج " الشيوعي " الستاليني كما بينت وسأبين في أكثر من مكان في هذا البحث. فحسب فلسفة هيغل لعقل الشعوب يفرق ويصنف عدة أنواع من عقول الشعوب، وحيث أن الجغرافيا الطبيعية من وجهة نظره تلعب دوراً أساسياً في اختلاف أنواع عقول البشر، فحسب فلسفة هيغل: فإن عقل شعوب الصحارى يختلف عن عقل شعوب السواحل التي تعيش على شواطئ البحار والمحيطات، كما أن عقل سكان الجبال يختلف عن عقل سكان الصحارى والسواحل ...إلخ، وإذا كان صحيحاً أن فلسفة هيغل التي تربط العقل البشري بالجغرافيا الطبيعية التي يعيش فيها الإنسان، وتحديداً ربطه لمدى تطور العقل البشري بمدى طول واتساع أو قصر وضيق الأفق وما بعد الأفق التي تسمح به الجغرافيا الطبيعية للعين وما تنقله للمخ في رؤيتها عندما تنظر للفضاء– طول المدى وما بعد المدى يوسع البصيرة حسب نظرية هيغل - يشكل أساساً لنظريات من التمييز العنصري بين الشعوب، عدا عن كونها نظرية وفلسفة غير مبنية على حقائق يثبتها العلم والواقع، أقول: بالرغم من ذلك علينا الاعتراف بوجود نوع أخر من الجغرافيا يمكن أن تحيط بالعقل وتغلفه أو تدخل في جوفه وتلعب دوراً هاماً في مدى تطوره وقدرته على التفسير الصحيح لكل ما يحيط به من أحداث سياسية أو غيرها، أقصد هنا بهذا النوع من الجغرافيا ما يشكله التعصب الأعمى الإيديولوجي أو السياسي من حواجز تشبه الحواجز الجغرافيةالطبيعية التي تمنع الرؤية كما تمنع العقل البشري من التطور كما تمنع الانسان - بعيداً عن نواياه - من التصرف بالشكل الصحيح الذي يليق بالإنسان وبعقله.أقول: كل ذلك لمعرفتي أن بحثي هذا سيقلق أرواح الكثير من الشخصيات السياسية الطيبة التي رحلت عن عالمنا منذ عقود، وحيث أن الهدف ليس إقلاق هذه الأرواح في قبورها – التي أغلبها إن لم أقل كلها أرواح طيبة وكانت نواياهم طيبة – كما أن تناولي لا يطال ولا يلغي ما هو إيجابي في هذه الشخصيات، فالاستفادة من تجارب التاريخ في الغالب يخدمها أكثر نقد ما كان خاطئاً في شخصياتنا أكثر من التركيز على ما كان صحيحاً، ولا سيما إذا كانت هذه الأخطاء ناتجة عن نوع من التعصب الأيديولوجي أو السياسي الأعمى الذي يقود إلى مواقف فيها الكثير من العته الأيديولوجي والسياسي الذي يتناقض أحياناً كما سنرى في هذا البحث مع تاريخ بعض الشخصيات أو لنقل بأنها تشكل علامة فارقة سوداء لا تليق بأصحابها وبتاريخهم النضالي والإنساني. كما أن تناولي هذا لا يبحث عن الإنسان المكتمل الإله - حسب فلسفة فيورباخ - الذي لا يعرف الخطأ أو الذي لا يرتكب الخطأ، فمثل هذا الإنسان لم يعرفه التاريخ بعد، وأعتقد أن التاريخ لن يعرفه في المستقبل مهما طال زمن التاريخ البشري على هذا الكوكب. أنني باختصار أبحث عن كل سلوك أوقول سياسي للذين تصدروا المشهد السياسي في عقد الستينيات من القرن الماضي،وحيث أن نتيجة ذلك كانت قطع صيرورة التطور الطبيعي للمجتمع السوري أولاً ثم الوصول إلى النظام الأسدي ثانياً. وهنا سأبدأ بأحد أكبر ضحايا السلطة البعثية وأكبر البعثيين في الآن ذاته، أقصد بذلك مؤسس الحزب ميشيل عفلق ودوره المباشر في التمهيد لطريقة صعود ومجيء النظام البعثي بشكل عام ودوره غير المباشر في التمهيد لمجيء نمط النظام الأسدي بشكل خاص. لقد شكل المؤتمر القومي الخامس لحزب البعث العرب الاشتراكي الذي عقد بقرار منفرد من ميشيل عفلق في مارس 1962 في مدينة حمص نقطة تحول فاصلة في تاريخ التفكير السياسي لميشيل عفلق من جهة، ونقطة فاصلة في تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي من جهة ثانية، فما هي الظروف التي انعقد فيها هذا المؤتمر؟؟؟ وما هي أهم النتائج والتداعيات التي تمخضت عنه؟؟؟ لقد انعقد هذا المؤتمر بعد فشل انقلاب عبد الكريم النحلاوي الثاني في 28 / آذار 1962، وبعد إخماد التمرد العسكري في بعض القطعات العسكرية التي تمردت على هذا الانقلاب في حمص وحلب بقيادة الضابط جاسم علوان عن الناصريين والضابط محمد عمران عن البعثيين. فبعد " فشل الانقلاب وإخماد التمرد وعودة الرئيس ناظم القدسي إلى منصبه في رئاسة الجمهورية، وفي إطار السعي لتشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية توكل إليها المهام التشريعية والتنفيذية ريثما يتم انتخاب مجلس نيابي جديد بديلاً عن المجلس النيابي المنحل "(1). وفي إطار تامين الشروط والمناخ المناسب للعودة للحياة الدستورية من خلال الدعوة لانتخابات برلمانية جديدة وانتخاب رئيس جمهورية جديد، وفي إطار المشاورات التي أجراها بشير العظمة - الذي كلف بتشكيل هذه الحكومة - مع الكتل والأحزاب والشخصيات السياسية السورية التي كانت تشكل المشهد السياسي في تلك المرحلة، فقد " وافقت كل القيادات البعثية على الاشتراك في الحكومة على أساس تخصيص ثلاث حقائب وزارية "(2). لقد كان ميشيل عفلق القيادي البعثي الوحيد الذي رفض الاشتراك بهذه الحكومة فقد " أصر على استلام الحكم وتأليف حكومة من قبل الحزب كشرط تعجيزي غير قابل للتحقق إلا بانقلاب عسكري"(3). على إثر ذلك ولأن القيادات البعثية لم توافقه على انسحاب الوزراء من الحكومة وإسقاطها، عقد ميشيل عفلق " المؤتمر القومي الخامس في مدينة حمص في بيت المدعو فرحان الأتاسي الذي أعدم بعد الثامن من آذار " بتهمة التجسس للمخابرات المركزية (الأمريكية)"(4). ومن الجدير ذكره أنه لم يشترك أي قيادي (بعثي) سوري في هذا المؤتمر "(5).وقد اقتصر الحضور على بعض الشخصيات البعثية القيادية من العراق ولبنان، ففي هذا المؤتمر حضر عن الفرع العراقي القيادي البعثي علي صالح السعدي الذي حمل ميشيل عفلق فيما بعد - أي بعد انقلاب البعث في العراق في 8 شباط 1963 وانقلابه في سوريا في 8 آذار من نفس العام وبعد كل الصراعات والانتكاسات التي لحقت بالسلطة البعثية وبالمجتمعين العراقي والسوري " مسؤولية كل ما ارتكبه الحزب سواء في سورية أو في العراق بعد المؤتمر القومي الخامس" (6).فقد كان من أهم نتائج هذا المؤتمر:
أولاً: ركوب البعث في كل من العراق وسوريا في القطار الأمريكي،يقول أكرم الحوراني في مذكراته:" بعد أن بدأت الصحف ووكالات الأنباء تنشر بعض التفاصيل عما يحدث في العراق (بعد انقلاب 8 شباط البعثي) ازداد حذري وتشاؤمي، بل أصبحت فزعاً مما يقوم به ما أسموه بالحرس القومي من اعتقالات الألوف وتعذيبهم، ولم يعد ورداً ما تمنيناه لها من توجهات ديمقراطية. ومما عزز الحذر والتشاؤم التصريح الذي نشرته وكالة الأنباء الفرنسية (11 م 2 / 1963) لجورج بول مساعد وزير الخارجية الأمريكي دين راسك، نقلاً عن مقابلة تلفزيونية لمحطة أمريكية عندما قال: " إن الوضع الحالي في العراق يعتبر فألاً حسناً بالنسبة للمستقبل لأن الحكومة الجديدة مشبعة بالمعاني القومية، وسياستها ستكون غالباً متفقة مع الناصرية ومناهضة للشيوعية، وسيكون لديها الحظ الوافر من التمكن من العمل بصورة فعالة " كما عززه أيضاً معرفتي وعدم ثقتي بقدرة علي صالح السعدي – صاحب مقولة أن البعث جاء إلى السلطة بقطار أمريكي – على قيادة هذه الثورة التي تولى فيها أخطر المراكز، عندما أصبح نائباً لرئيس مجلس الوزراء ووزير للداخلية، بالإضافة إلى رئاسة حزب البعث التي مكنته من مساعدة ميشيل عفلق على عقد المؤتمر القومي الخامس الذي مزق وحدة الحزب "(7). ثم يقول أكرم الحوراني في مكان آخر من مذكراته: لقد قابلت علي صالح السعدي مرتين " وفي هاتين المقابلتين بدا لي علي صالح السعدي إنساناً طيباً لا يخطر على البال أنه سيكون ذلك الجزار السادي الذي سيجيب عبد الناصر ببرود في محادثات الوحدة الثلاثية، عندما سأله عن عدد المعتقلين في العراق لتفنيد ادعاءاته الديمقراطية. لقد أجاب السعدي: والله ما أعرف سيدي آلاف! (...) وعندما لجأت إلى العراق عام 1973 بسبب بوادر الحرب الأهلية في لبنان " وكان علي صالح السعدي يزورني بلا انقطاع في العراق ويظهر لي مودته وثقته وندمه. لقد أصبح إنساناً محطماً ما إن يستعرض ما مضى من أحداث ثورة الثامن من شباط في العراق حتى ينفجر باكياً بصورة تدعو إلى الرثاء، وكان يحمل ميشيل عفلق مسؤولية كل ما ارتكبه الحزب بعد المؤتمر القومي الخامس سواء في العراق أو في سورية، ولقد حدثني بعض عارفيه أنه كثيراً ما يستيقظ في الليل فزعاً على صراخ المعذبين ومن أغرق في نهر دجلة من الشيوعيين "(8)." لقد كان علي صالح السعدي يظهر لكل من اجتمع به أسفه وندمه على ما ارتكبه بحق الشيوعيين وأنصارهم من جرائم ويضع مسؤوليتها على توجهات القيادة القومية المعادية للشيوعية "(9)." أما فيما يتعلق بنشاط المخابرات المركزية في سورية فلا بد لي من ذكر الواقعة التالية: بعد خمس سنوات من انقلاب الثامن من آذار، وعندما كنت منفياً من سورية ولاجئاً في بيروت عام 1968، اعترضني زياد الحريري وأنا في الطريق لزيارة عاطف دانيال في فندق الكارلتون، وكنت لم أر زياد منذ عدة سنوات قبل الثامن من آذار، وبدون أي مقدمات لحديثه أخبرني بأن نافع دانيال شقيق عاطف دانيال قد طلب إليه أن يصبح عميلا للمخابرات المركزية، كما أخبره بأن صلاح البيطار على صلة بها، وأن نافع دانيال هدده بالموت إذا أفشى السر، ثم قال: إن البعثيين بعدما سرحوني من الجيش وأرسلوني إبعاداً لي عن سورية سفيراً فوق العادة في باريس انتسبت إلى أحد معاهدها فتعرفت على فتاة ألمانية جميلة، ولما اكتشفت أنها جاسوسة يهودية قطعت صلاتي بها. ولما انتهى من حديثه أخبرته أنني في طريقي إلى زيارة عاطف دانيال لأعرف رد فعله، فصمت دون أن يعلق على ذلك بكلمة. إنني لم أورد هذه الواقعة لا لأثير الشكوك حول زياد الحريري بل ذكرتها لأشير إلى نشاط المخابرات المركزية لاصطياد العملاء بشتى الاغراءات ولا سيما قيادات الأنظمة والجيش والأحزاب والطلاب في الخارج. لم يكن زياد يتمتع بوعي سياسي ولم يكن له اهتمام بالقضايا العامة. فليس مستبعداً إذاً أن تتصل به السفارة الأمريكية قبل انقلاب الثامن من آذار لتعده بالدعم والتأييد كما اتصلت به المخابرات المركزية بعد تسريحه من الجيش. أما عاطف دانيال فكان من رجال الأعمال السوريين مقيماً في جنيف وعلى صلات مع بعض رجالات المعارضة المغربية وجبهة التحرير الجزائرية وبعض جاليات اليمن الشمالي، وكان من مريدي ميشيل عفلق، ثم أصبح صديقاً لعبد الغني قنوت وعبد الفتاح الزلط والدكتور فيصل الركبي وكان يظهر لي كثيراً من عواطف الود والصداقة. كما يقول أكرم الحوراني في هامش من مذكراته: " تكشف مباحثات الوحدة الثلاثية عن دور لعاطف دانيال في مؤامرة عويس – انقلاب بقيادة عبد الحكيم عامر ضد عبد الناصر وتأييد من ميشيل عفلق - الذي سبق ذكره عند الحديث عن المؤتمر الخامس، وعن دور آخر قام به عندما كان رسولاً لميشيل قبيل انعقاد المؤتمر القومي الخامس للاتفاق مع عبد الناصر على إصدار بيان يؤيد فيه هذا المؤتمر جمال عبد الناصر، ولكن البيان الذي صدر، كان عكس ما وعد به ميشيل عفلق، فكان لهذا البيان أثر سيء جداً بالنسبة لجمال عبد الناصر كما يظهر من أقواله في مباحثات الوحدة الثلاثية "(10). وهنا من الجدير ذكره أن الاستراتيجية الأمريكية حينها في زمن الرئيس جون كنيدي " لم تكن ترى في الإطاحة بالأنظمة المتخلفة والاستعاضة عنها بأنظمة حديثة عسكرية صديقة ما يهدد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، بل بإمكان مثل هذه الأوضاع أن تلجم جماح الثورات وأن تحد من جنوحها نحو التطرف، وبالتالي نحو الاتحاد السوفييتي؟ "(11).ومن المهم هنا الإشارة إلى مفارقة أن الكثير ممن كان يسمى فصائل حركات تحرر وطني في بلدان الأطراف كانت تحمل النموذج السوفييتي الستاليني إلى مجتمعاتها ولكن كانت تجره وتنقله بقطار غربي بشكل عام أو أمريكي بشكل خاص، يقول أكرم الحوراني في مذكراته ليؤكد ويدلل على هذه الفكرة بأن: " زيارة بن بلّا عندما كان رئيساً للجمهورية لكاسترو في كوبا، بعد زيارة مباشرة للولايات المتحدة حيث استقبل هنالك استقبالاً حافلاً من قبل كندي هي التعبير العملي عن هذه المفارقات بالنسبة لبعض الأنظمة التي قامت في العالم الثالث "(12).
ثانياً: حل الحزب وإعادة تشكيله من جديد وحيث كان من نتيجة هذا التشكيل الجديد فصل الحزب عن قواعده ولا سيما بعد فصل تلاميذ ذكي الأرسوزي منالذين شكلوا بعد " مرض الأرسوزي"(13).وانضمامهم لحزب البعث باعتراف أكرم الحوراني " العمود الفقري لقاعدة الحزب "(14). كما تم فصل كتلة الاشتراكيين العرب بقيادة أكرم الحوراني وهي الكتلة التي نقلت حزب البعث من دكانة سياسية صغيرة إلى حزب سياسي حقيقي له وزنه السياسي والانتخابي بدءاً من عام 1952 تاريخ اندماج البعث العربي بقيادة عفلق والبيطار بالحزب العربي الاشتراكي بقيادة أكرم الحوراني. يقول حنا بطاطو في كتابه فلّاحو سوريا: " لكن الأمر الأهم تاريخياً هو أن تلامذة الأرسوزي اللوائيين أدخلوا في حزب البعث العفلقي توقداً وحرارة شغف لا يملكها سوى الأشخاص الذين تأذوا. ومثلهم في المكتب التنفيذي لحزب البعث الذي انتخب في المؤتمر التأسيسي في عام 1947 وهيب الغانم، وهو طبيب وابن رجل دين ومدير مدرسة ابتدائية في حي عفان العربي في أنطاكية (...) وكان عفلق حضرياً أساساً في نظرته. ولم يشكل الفلاحون قط موضوع اهتمام خاص من جانبه وقلما تجد في كتاباته تعبيراً عن اهتمام مركز بفلاحي القطر. وليس ثمة سوى ملاحظات ذات طبيعة عامة تتعلق ضمناً بهم، من مثل: " نضال العرب (...) لا يقوم إلا على مجموع العرب، ولا يمكن أن يشتركوا في هذا النضال إذا كانوا مستثمَرين ". ولم تحوِ تلك الكتابات نفساً معادياً لملّاك الأرض. ويتناقض هذا تناقضاً صارخاً مع الاتجاه الرئيس للبعثيين " الانتقاليين " الذين كانوا أقرب إلى أكرم الحوراني في ميولهم، ومثله أيضاً رفعوا الفلاحين إلى موقع مركزي في خطة عملهم. ومن بين القيادات العليا في البعث القديم، لم يهتم أحد سوى وهيب الغانم بفلاحي الأرض ومشكلاتهم "(15).
ثالثاً:انشقاق كل فروع الحزب في كل الساحات العربية التي تواجد فيها فروع لحزب البعث العربي الاشتراكي كالعراق والأردن ولبنان. ويكمن القول: بأنه بعد الانفصال وبعد المؤتمر القومي الخامس فقد تشظى البعث إلى أربع شظايا " الوحدويون الاشتراكيون وهم ناصريو البعث، والعدد الأكبر نسبياً من كوادره – القطريون وهم يساريو البعث والذين رفضوا حله عشية الوحدة واستمروا على شيء من الترابط خلال عهد الوحدة مخالفين قرار الحل – الاشتراكيون العرب وهم الحزب العربي الاشتراكي سابقا أي جماعة أكرم الحوراني – وأخيراً الموالون لميشيل عفلق وصلاح البيطار ممن ادعوا بالقوميين "(16).
رابعاً: الانقلاب على " مبادئ الديمقراطية البرجوازية والبرلمانية الديمقراطية والمؤسسات الدستورية "(17). لمصلحة نظرية الحزب الواحد الحاكم "وتكشف محاضر مباحثات الوحدة مع مصر سخرية عبد الناصر من الوفد البعثي ولا سيما شبلي العيسمي وصلاح البيطار كونهم تخلوا عن مفهوم الديمقراطية البرجوازية واقتناعهم بنظرية الحزب الواحد التي كانوا ينتقدونها قبل وصولهم للسلطة ولا سيما زمن الوحدة مع مصر"(18).
خامساً: استخدام القضايا الوطنية والقومية كمادة للتجارة السياسية، وهي التجارة التي سيتفوق فيها فيما بعد النظام الأسدي أكثر من أساتذته، وهنا من الجدير ذكره أن الحجة التي تم فيها فصل أكرم الحوراني من حزب البعث العربي الاشتراكي في المؤتمر القومي الخامس كانت تقوم على كونه من الشخصيات التي أيدت الانفصال عن مصر 1961 رغم أن جميع رجالات السياسة السوريين في تلك المرحلة يعرفون أن من كتب وثيقة الانفصال كان الشخص المقرب من ميشيل عفلق، أقصد بذلك صلاح البيطار الذي كتب وثيقة الانفصال ووقع عليها بموافقة ميشيل عفلق.
سادساً: وهنا المفارقة الغريبة أن المؤتمر القومي الخامس الذي فصل أكرم الحوراني من الحزب بحجة كونه من الشخصيات التي أيدت الانفصال عن مصر نجد في القرارات والبيانات التي صدرت عنه" هجوم عنيف على عبد الناصر واتهام الناصريين في سوريا بالعمالة لعبد الناصر"(19).المفارقة الأهم أن قضية إعادة الوحدة بين سورية ومصر استخدمت من قبل ميشيل عفلق كقميص الذي رفع " فباسمها عقد ميشيل عفلق المؤتمر القومي الخامس، وباسمها تمت في سورية عمليات التفجير والتخريب ومحاولات الاغتيال، وباسمها وتحت لوائها تحالف الناصريون والبعثيون والقوميون وصولاً إلى الحكم وذلك في انقلابي الثامن من شباط في العراق والثامن من آذار في سورية، ولكن علي صالح السعدي نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية (في العراق) والذي جاء إلى الحكم باسم الوحدة نراه يصرح بعد أسبوعين فقط من انقلاب شباط: إن نواة أي اتحاد عراقي بين الدول العربية يجب أن يكون عن طريق قيام اتحاد بين سورية والعراق وأن من الأفضل قيام الوحدة الشاملة على مراحل وأنه يمكن للدول العربية أن تتحد خلال عشر سنوات أو خمسة عشرة وأن العراق ليس متعجلاً الآن لإنشاء أي اتحاد مع أي دولة عربية"(20).
وفي مكان آخر من مذكراته كتب أكرم الحوراني: " لقد بدأ آذار 1964 باستعدادات ضخمة من قبل السلطات البعثية للاحتفال بمرور عام على انقلاب الثامن من آذار، وقد أثار هذا التاريخ في نفس كاتب قومي لم يشأ أن يذكر اسمه مشاعره فعقد مقارنة بين الثامن من آذار عام 1920 وبين الثامن من آذار عام 1963 فكتب مقالاً في جريدة الحياة رأيت من المفيد أن أثبت معظم مقاطعه لأنها تعبر عن مشاعر الشعب تجاه هذين الحدثين التاريخيين: " إذا كان الثامن من آذار هو ذكرى الانقلاب الذي وقع في سورية فإنه ذكرى لحدث تاريخي آخر وقع في سورية قبل ثلاثة وأربعين عاماً فالكيان السوري المستقل انبثق عن إعلان استقلال سورية يوم الثامن من آذار 1920. ففي السادس من آذار عام 1920 اجتمع في دمشق المؤتمر السوري في دار النادي العربي وحضره ممثلون عن الأمة العربية الواحدة بمناطقها الداخلية والساحلية والجنوبية، وفي مساء يوم الاثنين في السابع من آذار ختم المؤتمر أعماله واتخذ القرارات التالية:
1 – إعلان استقلال سورية بحدودها الطبيعية وتنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكاً باسم الملك فيصل الأول.
2 – المطالبة باستقلال القطر العراقي استقلالاً تاماً.
3 – قيام اتحاد سياسي واقتصادي بين سورية والعراق.
وصباح الثامن من آذار توجه وفد من قبل أعضاء المؤتمر إلى دار الإمارة وبلغ مقرراته للأمير فيصل وبايعه ملكاً على سورية، وفي الساعة الثامنة بعد الظهر احتفل رسمياً في بلدية دمشق بإعلان الاستقلال، فتوجه الأمير فيصل بموكب رسمي إلى البلدية حيث جرى الاحتفال، ثم نهض رئيس البلدية ورفع العلم السوري الجديد، وهو علم الثورة العربية مع نجمة واحدة، وبعد ذلك وقف رئيس المؤتمر المرحوم هاشم الأتاسي وتلا قرار المؤتمر وهذا نصه:
" بما أن المؤتمر السوري العام الذي يمثل الأمة السورية العربية في مناطقها الداخلية والساحلية والجنوبية (فلسطين) تمثيلاً تاماً، يضع في جلسته العامة المنعقدة نهار الأحد الموافق لتاريخ 16 جمادى الثانية سنة 1338 وليلة الاثنين الموافق لتاريخ 7 آذار سنة 1920 القرار التالي:
" إن الأمة العربية ذات المجد القديم والمدنية الزاهية، لم تقم جمعياتها وأحزابها السياسية في زمن الترك بمواصلة الجهاد السياسي، ولم ترق دم شهدائها الأحرار، وتثر على حكومة الأتراك إلا طلباً للاستقلال التام والحياة الحرة بصفتها أمة ذات وجود مستقل وقومية خاصة لها الحق أن تحكم نفسها بنفسها أسوة بالشعوب الأخرى التي لا تزيد عنها مدنية ورقياً... وقد اشتركت بالحرب العالمية مع الحلفاء استناداً على ما جهروا به من الوعود الخاصة والعامة في مجالسهم الرسمية وعلى لسان ساستهم ورؤساء حكوماتهم وخاصة ما قطعوه من العهود مع جلالة الملك حسين بشأن استقلال البلاد العربية. لقد عجت دمشق بالوفود تزحف إليها من أنحاء البلاد السورية للاشتراك بالحدث العظيم فغصت فنادقها الكبرى (داماسكوس بلاس) و(فكتوريا) و (الخوام) بالزوار حتى لم يبق متسع ففاضوا عنها إلى (لوكندة) الزهراء وغيرها من السنجقدار، وتوزع الكثيرون على دور أهلهم وأصدقائهم إذ لم تتأخر ناحية في سورية بكاملها، سورية وفلسطين والأردن وبعض أقسام لبنان عن إرسال ممثليها للاشتراك بالمهرجان العظيم في دمشق. هذه الصفحة من ذكريات يثيرها الثامن من آذار عام 1920. أما الصفحة التي يثيرها الثامن من آذار عام 1963 فهي ذكرى حزب بعث عفلق، الذي كان باستطاعته أن يكون سورية بكاملها، فظل حزب كتلة حاقدة منعزلة عن الشعب. إنها ذكرى الحزب الذي انفرط كتلاً متناحرة يكيد بعضها لبعض بأسوأ مما يكيد لها خصومها. إنها ذكرى الشعارات تطفو على المبادئ بالزبد يتناثر من أشداق الصائحين الهتافين.
ذكرى الثامن من آذار هي ذكرى حزب الوحدة الذي حكم سورية والعراق معاً لأول مرة في التاريخ الحديث مدة تسعة أشهر فتهيأت له فرصة العمر لتنفيذ اتحاد وطيد لم تتوفر لغيره من الأحزاب السياسية، فأمضى الشهرين الأولين في مناورات فاشلة لا طائل تحتها مع القاهرة انتهت بتقاطع تام وعداوة مستحكمة وأمضى السبعة أشهر الباقية ملتهياً باضطهاد الشعب والعناصر الوطنية حتى ضجت البلاد والعباد فسقط الحزب في العراق. إنها ذكرى التخريب الاقتصادي والاجتماعي الذي حل بسورية على حساب مصالحها على أيدي حكام يلغطون بألفاظ التحول الاشتراكي الذاتي المستورد من الدول الشيوعية. إنها ذكرى الإسفاف السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتدني عقلاً وفهماً وأخلاقاً إلى أدنى الدركات، وذكرى الضحالة والضآلة في القيم والمفاهيم والحكم والإدارة، ذكرى هجرة الكفاءات العلمية والفنية والإدارية من سورية إلى غير ما رجعة "(21). إن ما لم يقل في هذه المقاربة وبشكل مباشر بين منجزات 8 آذار 1920 و8 آذار 1963 هو أنه إذا كان فشل تحقيق مشروع النخب السياسية السورية والعربية القومية في آذار 1920 كان العامل الحاسم فيه يعود لإرادة العامل الخارجي الاستعماري الذي أجهض أحلام وآمال تلك النخب ومعها آمال كل الشعوب العربية، في حين نجد أن فشل تحقيق مشروع السلطة البعثية التي صعدت إلى سدة السلطة بذريعة تحقيق مشروع الوحدة العربية يعود إلى إرادة العوامل الداخلية، وتحديداً يرجع إلى البنية الطبقية والأيديولوجية والسياسية القومية البرجوازية الصغيرة، كما يعود الفشل بسبب مشروعها ونموذجها الشاذ والاستثنائي إن كان في علاقة دولتها وسلطتها بالمجتمع بشكل عام أو في علاقة دولتها وسلطتها مع كل القوى السياسية داخل المجتمع،بما في ذلك العلاقة الشاذة بين الأجنحة الأيديولوجية والسياسية داخل صفوف البرجوازية الصغيرة القومية البعثية والناصرية التي استكلبت كلها في الإمساك في السلطة وعلى حساب كل شعاراتها، كما على حساب مصالح الشعب الذي ادعت أنها تمثله أكثر من غيرها من القوى السياسية والطبقية داخل المجتمع السوري. وهنا يمكن القول والرد على كل من أصبحوا ضحايا السلطة البعثية سواء بعد أو قبل صعود وقيام النظام الأسديبما قاله المثل العربي الذي يقال لمن كان سبب هلاكه منه: " يداك أوكتا وفوك نفخ ".
لقد شكل خالد العظم مع الكتلة الطبقية والسياسية التي قادها منذ منتصف الخمسينيات من القرن العشرين وقبله كل الشخصيات التي قادت الاستقلال الوطني في سوريا ما يمكن تسميته بلغة فلسفة هيغل المثالية الروح المطلقة أو الفكرة الكلية لتحقق مسار التطور البرجوازي الطبيعي في سوريا، لنقرأ ما قاله رئيس الحكومة السورية خالد العظم قبل أشهر من انقلاب البعثيين والناصريين عليه وهو قول يشبه النبوءة السياسية لما ستؤول إليه الأمور فيما لو لم يتم الأخذ بما قاله كما يبين معنى التطور الطبيعي ومخاطر الانقلاب على مساره،يقول أكرم الحوراني في مذكراته: " لقد أخذ الوضع في سورية يستقر بالرغم من إلغاء حالة الطوارئ بعد أن حددت حكومة خالد العظم الأسس التي سيقوم عليها مستقبل سورية الاقتصادي والسياسي والتنموي في الخطاب الذي أذاعه العظم بتاريخ 21 / 12 / 1962، مما أدى إلى مزيد من طمأنة الفعاليات الاقتصادية التي كانت قد عقدت مؤتمراً لها في حلب بتاريخ 19 / 11 / 1962 ، بعد أن زالت كل العوائق التي كانت " تكبل الاقتصاد السوري ونموه "(22). إلى درجة كبيرة وأصبح من المأمول عودة رؤوس الأموال التي هربت في عهد الوحدة إلى خارج سورية،وكان البيان الذي ألقاه خالد العظم رئيس الوزارة القومية من أهم البيانات التي رسمت بالتفصيل، تصور الوزارة لسورية المستقبل، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وفيما يلي أهم فقراته، يقول خالد العظم: " إن اهتمامنا الأول منصب على ترسيخ دائم الاستقرار في الوطن، وضمان الحريات العامة للمواطنين، وليس للحريات عندنا حدود سوى ما تفرضه مصلحة الوطن العليا، وفقا لأحكام القانون. إننا نعمل دائماً لتوطيد الاستقرار على دعائم من الحرية، ونريد أن نستزيد من الحرية البناءة، لنزيد في تدعيم الاستقرار. لذلك فإن حكومتكم القومية ما زالت عند العهد الذي قطعته لكم، بأنها ماضية في إعداد التشريع الذي تقتضيه المصلحة العامة لإلغاء حالة الطوارئ، في الموعد المضروب، لتنتقل بعد ذلك إلى إعداد التشريعات اللازمة للسماح بتأليف الأحزاب السياسية ووضع قانون الانتخابات العامة، كمقدمة لإجراء الانتخابات الحرة النزيهة في شهر تموز القادم إن شاء الله. ورغم أن حالة الطوارئ من الناحية النظرية والقانونية ما زالت قائمة في البلاد لأيام محدودة أخرى، فإن كل مواطن منصف يقر أن الحريات العامة يتمتع بها شعبنا أفضل من الحريات العامة المتوفرة لأي شعب آخر في الشرق الأوسط كله. ومثل هذه الحقيقة الحية لا يمكن أن ينكرها أو يشككبها إلا مكابر أو مغرض (...) عودة الآن أيتها الأخوات والإخوان إلى نقطة اهتمامنا الثالثة، نقطةالسعي المخلص لحكومتكم القومية، لكي ترفع سورية العربية راية نظامها الجديد عالياً، نظام التلازم بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية في ظل الدستور والحرية والعدالة، فقد انتهت التجارب الطويلة التي مرت بها سورية، وكان بعضها شديد القسوة، إلى اقتناع أبنائها أن كل قتل للحريات السياسية على حساب إنجاز الإصلاحات الاجتماعية أولاً إنما هو قتل لإنسانية الإنسان، والإنسان أعز ما في هذا الوجود، كما اقتنعت أكثرية أبنائها في الوقت نفسه أنه ليس من حرية صحيحة لأصحاب البطون الجائعة، والعقول الجاهلة، والأجساد المريضة. ولهذا فإن سورية العربية اليوم ترفع الراية الثالثة في الوطن العربي، راية التلازم الذي لا انفصام له بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية، وتنادي أن الإنسان العربي بحاجة إلى الحرية، وإلى الخبز، وإلى الكرامة معاً، وأن كل تضييق لهذه الحاجات المتلازمة الثلاث أو تفريق بينها إنما هو قتل عمد لها جميعاً، بل قتل لإنسانية الإنسان، ومن هنا تجدون أنني وزملائي السادة الوزراء في حكومتكم القومية قد جهدنا لإشباع جو وطننا حرية، وعدلاً، وعملاً، ومشاريع مثمرة، تكون خيراتها للمواطنين جميعاً، فبقدر حرصنا على إشاعة الاستقرار، والثقة، وإطلاق حرية تشكل الأحزاب السياسية، والإعداد لانتخابات نيابية حرة، وتنفيذ مشاريع الوطن الإنمائية لتزيد في ثروتها القومية، حرصنا على صحة تنفيذ قانون الإصلاح الزراعي، وأسرعنا في تمليك الأراضي للفلاحين، وأعددنا ما يلزم للتعويض علىمن شملهم قانون تحديد الملكية الزراعية، وحافظنا على مكتسبات العمال، وسعينا لتصريف أمور الدولة على وجه الحق ضمن حدود القوانين والأنظمة،(...) إننا في هذه الأيام نشهد تمخضاًلإقامة أحزاب سياسية جديدة، وقيام الأحزاب السياسية أمر طبيعي في بلد ينشد الديمقراطية والتمكين لها، لأنه لا حياة ديمقراطية عملياً، من غير قيام أحزاب سياسية.(...) ولكن دعوني أقول لكم عامة، ولمن يتطلعون لتشكيل أحزاب سياسية خاصة، أن قيام الأحزاب السياسية في هذه المرحلة التي يجتازها وطننا، يجب ألا يعني قيام حرب باردة أوحامية بين الأحزاب.(...) المهم أن يعرف كل حزب سياسي، أن ما من حزب واحد في هذه المرحلة التي يعيشها الوطن له الأكثرية المطلقة، وبالتالي ما من حزب يستطيع أن يستلم مسؤولية الحكم لوحده. وما دامت هذه هي إرادة الشعب، فمعنى ذلك أن الشعب يريد من الأحزاب بدورها أن تتعايش وتتعاون(...) إن طبيعة بلادنا لا تسمح بعد لأي حزب سياسي أن تكون له صفة الأغلبية المطلقة في هذه المرحلة لينفرد بالحكم لوحده، وكل محاولة للاصطناع لا تعكس واقع الشعب وإرادته، لن تكون نتائجها خيرة لا على الذين يصطنعونها، ولا على النظام الديمقراطي ولا على الوطن"(23). أما قمة المسخرة السياسية فقد كانت خطاب ميشيل عفلق في العراق بعد الانقلاب البعثي في 8 شباط 1963. حين " هاجم الأوضاع في سورية ووصف الحكم القائم – في ظل حكومة خالد العظم القومية الأخيرة التي انقلب عليها البعث في 8 آذار - بأنه حكم رجعي بوليسي"(24).
لقد كان ميشيل عفلق ومعه صلاح البيطار مصابان" بعقد النجاح من خلال صناديق الاقتراع "(25). فمن المعروف أن ميشيل عفلق لم يستطع النجاح في الانتخابات البرلمانية الأولى في سورية بعد الاستقلال التي جرت عام1947 كما لم يستطع الوصول إلى عضوية المجلس التأسيسي في الانتخابات التي جرت عام 1949 كما أن صلاح البيطار لم يستطع بدوره النجاح في الانتخابات البرلمانية التي جرت بعد الانفصال عن مصر1961، لهذا كانت خطة عفلق والبيطار كما يقول الحوراني الصعود إلى السلطة على ظهر العسكر على أمل فشل العسكر في إدارة شؤون الدولة والسلطة، الأمر الذي يوفر لهما فرصة الصعود لقيادة الدولة والسلطة، ولكن عند محاولتهما إزاحة العسكر من واجهة السلطة والدولة وتقليص نفوذ العسكر داخل الحزب أواخر شهر كانون الأول 1965 قبل انقلاب 23 شباط 1966. يقول أكرم الحوراني في مذكراته: " ولكن البيطار وعفلق والرزاز ومن معهم من المدنيين البعثيين كانوا واهمين في إمكانية عودة العسكر إلى ثكناتهم، وكان تسلقهم على أكتاف العسكر للوصول إلى السلطة منطبقاً عليه قول المتنبي:" ومن يجعل الضرغام بازاً لصيده تصيده الضرغام فيما تصيدا "(26). لم يكن ميشيل عفلق البعثي الوحيد المصاب بداء العته الأيديولوجي والسياسي، كما المصاب بداء قمع خصومه السياسيين والتضيق على أنفاسهم، كما لم يأت هذا الداء مع النظام الأسدي بل إن كل ذلك تم التأسيس له قبل مجيء النظام الأسدي، وحيث سنجد من خلال هذا البحث سلسلة طويلة أو قائمة طويلة فيها أسماء الكثير من الشخصيات البعثية التي لعبت دور الجلاد والضحية في الآن ذاته.
ثانياً: التخلص من النخب السياسية التقليدية المدنية
لقد تمت عملية الانقلاب على مسار التطور الطبيعي وفق سيرورة دخلت في تركيبتها والعوامل المحركة لها عدة عناصر ومركبات متداخلة، حيث تداخل المركب الطبقي بكل مستوياته مع الريفي / المدني مع الإيديولوجي مع السياسي مع الطائفي مع المناطقي مع القومي ...إلخ من المصفوفة المشكلة لنوع كهذا من الصراعات المركبة.
في البداية وبعد أن أمنت التيارات القومية وعلى رأسها حزب البعث العربي الاشتراكي الغطاء السياسي لانقلاب 8 آذار 1963 قامت البرجوازية الصغيرة القومية عموماً – ناصريين وبعثيين - المدعومة والمسنودة من قيادة الانقلاب ومن قاعدتها الريفية والمدنية الحزبية بإزاحة أبناء العاصمة والمدن الكبرى ممن لعبوا دوراً قيادياً في دولة الاستقلال الوطني. لقد شكل وصول البرجوازية الصغيرة إلى السلطة قطعاً مع النخب السياسية التقليدية المدنية (أبناء المدن)، فقد تم استبعاد هذه النخب من كل مجالات الحياة العامة الاقتصادية والسياسية والثقافية، وتم القطع مع تقاليدهم السياسية والفكرية والثقافية واعتبر كل التراث السياسي والثقافي والفكري الذي أنتجته هذه النخب هو من الماضي الرجعي الإقطاعي البرجوازي؟! وبهذا تم القضاء دفعة واحدة على أجيال من النخب التي عاصرت مرحلة النضال الوطني ضد الاستعمار، والتي عاصرت وبنت دولة الاستقلال الأولى، وهي النخب التي راكمت الكثير من الخبرات السياسية التي أعطت للمجتمع وجهه الحديث وبنت نموذجاً للدولة البرجوازية الحديثة الديمقراطية التعددية (نطمح الآن بعد حوالي نصف قرن من الزمن بالعودة إلية واستلهام دروسه وخبراته). لقد تمت إزاحة جميع أبناء المدن بحجة أنهم كانوا أقل قطعاً مع الماضي، فباسم القطع مع الماضي الإقطاعي البرجوازي، تم القضاء على كل " أشكال الممارسة السياسية (الليبرالية) ومع تقاليد الحياة الاجتماعية"(27). وهنا من المهم تبيان الكثير من التفاصيل والتصريحات ذات الدلالة العميقة لسلوك وهويات الكثير من الشخصيات البعثية والناصرية – إن كان لجهة هوياتها السياسية أو المناطقية أو حتى الجهوية والطائفية التي انخرطت في هذا الانقلاب أو التي غطت الانقلاب من الناحية السياسية والعملية، حيث نجد في البداية تداخلاً وتنوعاً كبيراً في انتماء الجهات والشخصيات والتيارات التي تورطت لا في هذا الانقلاب فحسب بل في الأعمال المشينة التي أعقبت هذا الانقلاب. يقول أكرم الحوراني في مذكراته: "بعد منتصف ليلة التاسع من آذار داهمت بيتي مجموعة من العسكريين (...) وفي تقدير زوجتي أن وضع المداهمين لم يكن وضع من يريد الاعتقال، وإنما وضع من ينوي الاغتيال، فقد لقموا رشاشاتهم وهم داخل المنزل، وكانوا على درجة شديدة من الاضطراب لدرجة أنهم لم يروا سلاح الحرس، وهو أربعة رشاشات مسندة إلى حائط. وفي اليوم الثالث للانقلاب أرسل الناصري محمد الجراح عدداً من أبناء قريته (منين) إلى دمشق في سيارات كبيرة، فمروا أولاً أمام منزلي حيث وقفوا فترة يهتفون هتافات معادية، ولقد سمعت زوجتي وأولادي أحدهم يقول: انزلوا يا شباب، ولكن أحداً لم يستجب له، وتابعت السيارات طريقها إلى بيت خالد العظم الذي يقول في مذكراته: " إن محمد الجراح حمل المتظاهرين بسيارات النقل للهجوم على منزلي لإخراجي منه وسحلي، ولما خاب رجاؤهم رموا الشبابيك والمصابيح الكهربائية بالحجارة، وبلغ الكيد أن تداعوا رجالاً ونساء للوقوف على مقربة من داريلينعموا بمشاهدة منظر سحلي، وكانت " ثريا الحافظ "(28).قد استحضرت حبالاً غليظة ليربطوني بها ويجروني على الأرض، كما اعتاد بعض العراقيين أن يفعلوه في كل ثورة تقدمية (...) ثم يتابع أكرم الحوراني في مذكراته فيقول: " وقد أذاعت حكومة البيطار بعد تأليفها بياناً أعلنت فيه عن جائزة مالية قدرها عشرون ألف ليرة لمن يدل السلطة على مكان وجودي ثم تلت إذاعة البيان موسيقا حماسية !!"(29). بعد ملاحقة ومطاردة أكرم الحوراني في الأشهر الأولى من انقلاب البعث، وبعد وضعه قيد الإقامة الجبرية ثانياً.وفيتاريخ 21 / 10 / 1965 قام النظام البعثي باعتقاله ووضع في سجن المزة على إثر بيان أكرم الحوراني الذي انتقد وكشف فيهالاتفاقية " الصفقة "(30).التي عقدتها الحكومة السورية بتاريخ 2 / 6 / 1965 مع مجموعة من الشركات البترولية البريطانية من أجل إنشاء خط أنابيب لنقل النفط السوري الخام من كراتشوك إلى طرطوس وبشروط استعمارية مجحفة بحق المصالح الوطنية السورية، وكان حينها حمد عبيد وزير دفاع النظام البعثي الحاكم -ثم بعد ذلك ضحية النظام البعثي بعد 1966- يقول أكرم الحوراني في مذكراته: " أن حمد عبيد قد احتج في مجلس الوزراء، على معاملتنا التي اعتبرها معاملة كريمة لا معاملة مسجونين وأنه يجب التضييق علينا وحرماننا حتى من النزهة الصباحية (يقصد التنفس)"(31). وعندما مرض أكرم الحوراني داخل السجن وكان اشتباه الأطباء أن يكون مصاباً بمرض السرطان يقول أكرم الحوراني في مذكراته: " بدأ خبر مرضي يتسرب إلى خارج السجن، فقد علمت فيما بعد، أن وفداً كبيراً من مختلف المدن السورية شكل ما يشبه المظاهرة بعد أن انضم إليه الكثير من أبناء دمشق، وقد قابل الوفد أمين الحافظ الذي تلقاه بمودة، ولكن منيف الرزاز – أحد ضحايا النظام البعثي فيما بعد - والذي كثيراً ما يُصور من بعض الباحثين في تاريخ تلك الفترة وكأنه حمل وديع - قابل الوفد بكآبة وبعد أن استمع إلى احتجاجه قال: " إن من يدعي أنه مناضل عليه أن يتحمل السجن "(32).!!!.
" إن حكومة صلاح البيطار (وحيث أن البيطار كان ثاني أكبر ضحايا السلطة البعثية وأحد جلاديها بذات الوقت)، التي انبثقت عن انقلاب الثامن من آذار قد قامت قبل بدء المحادثات مع عبد الناصر، وبدءاً من تاريخ 12 / 3 / 1963 بسلسلة من الإجراءات الانتقامية من خصومها السياسيين ومن خصوم عبد الناصر، فأصدر المجلس الوطني لقيادة الثورة مرسوماً تشريعياً يقضي بإلغاء ستة عشر صحيفة بتهمة تأييد الانفصال دون أي حق بالتعويض مع ختم مكاتبها ومطابعها وموجوداتها بالشمع الأحمر، كما يقضي المرسوم بمصادرة هذه المطابع وموجوداتها لصالح خزينة الدولة ببيعها أو توزيعها بين الوزارات والإدارات، كما يقضي بأن توضع تحت الحراسة القضائية الأموال المنقولة وغير المنقولة العائدة إلى أصحاب الصحف وأزواجهم وأولادهم ما لم تكن ملكيتها قبل 28 أيلول 1961 "(33)." كما ألقي القبض على عدد كبير من أصحاب هذه الصحف ومن القادة السياسيين ورجال الأحزاب وسيقوا إلى سجن المزة وسجن الشيخ حسن."(34)."(...) " ويتبين من هذا المرسوم أنه ألغى جميع الصحف العائدة لجميع الأحزاب والفئات السياسية في سورية ولم يستثن سوى جريدة اللواء العائدة للإخوان وجريدة البعث لصلاح البيطار وسمح بالصدور لجريدة الوحدة لصاحبها نزيه الحكيم وبردى الناطقة بلسان الناصريين لصاحبها منير الريّس – زوج ثريا الحافظ – كما سمح بصدور جريدة الرأي الناطقة باسم القوميين العر " (35). " وقد أدلى جمال الأتاسي " وزير الإعلام "(36). تعقيباً على هذا المرسوم بتصريح جاء فيه: " إن الثورة ستقضي على كل من يقف في طريقها من الانفصاليين والانتهازيين وقال: إن هذه الفئات أصبحت الآن هزيلة وقد لفظها الشعب، وإن الثورة تعزز وتدعم الآن اتجاهها الجماهيري في طريق الوحدوي الاشتراكي " كما صرح بأن مجلس الوزراء سيدرس جميع الطلبات التي ستقدم لإصدار صحف جديدة على ضوء السياسة العامة التي ستقررها الحكومة بهذا الشأن. وفي تاريخ 25 آذار (1963) صدر عن مجلس قيادة الثورة مرسومان يفرض أولهما عقوبة العزل السياسي على رجال الحكم السابق في سورية باعتبارهم " ركائز العهد الانفصالي ". أما الثاني فيتضمن أسماء أربعة وسبعين شخصاً وصفهم المرسوم بأنهم " استعملوا نفوذهم أو ثرواتهم أو سخروا وظائفهم لخدمة الانفصال"، وقد صرح وزير الإعلام جمال الأتاسي بأن هنالك قوائم أخرى تتضمن عدداً آخر من الأشخاص سيفرض عليهم العزل، وأن هذه القوائم ستُعلن عما قريب. وهكذا شمل العزل رجال الأحزاب والسياسيين، كما شمل عدداً من العسكريين وحتى رجال الاقتصاد والموظفين، مما جعل عددهم يتجاوز المئتين، وأعلن عند صدور قائمة العزل الأولى عن جائزة مالية لمن يدل على مكاني – المقصود مكان أكرم الحوراني – ومكان بعض الأشخاص الآخرين، وكان صدور هذه المراسيم تشفياً وإرضاء لجمال عبد الناصر في الوقت نفسه، كما كان أمراً جديداً لم تعهده سورية في أشد عهودها الديكتاتورية، وقد استثنت قرارات العزل هذه عصام العطار أحد قادة الإخوان المسلمين وبشير العظمة رئيس الوزراء السابق "(37).
"كما صدر بتاريخ 15 / 3 / 1963 قرار بتشكيل الحرس القومي على غرار ما جرى في العراق بعد انقلاب الثامن من شباط، ولا شك أن الدافع لذلك هو الخوف من الشعب والجيش بآن واحد، وقد تطوعت في هذا الحرس القيادات العليا لحزب البعث سواء في سورية والعراق، للدفاع عن حكمهم العسكري الديكتاتوري المهدد من قبل الناصريين، ومن القيادات البعثية التي تطوعت رئيس الوزراء صلاح البيطار، وظهرت صورته فيما بعد، في جريدة حزب البعث بعد محاولة الانقلاب الناصري التي جرت في 18 / 7 / 1963 وهو يحمل رشاش كلاشنكوف وكُتب تحت الصورة، أن صلاح البيطار يقوم بالدفاع عن القصر الجمهوري ضد أعداء الثورة."( 38).
إن قمة التصريحات المشينة لبعض القيادات التي تصدرت المشهد السياسي والعسكري في سورية بعد انقلاب 8 آذار 1963 تكشفه محاضر محادثات الوحدة الثلاثية بين كل من سوريا والعراق ومصر، حيث نجد أن السعي لخلق المجتمع المتجانس ومقولة المجتمع المتجانس تعود إلى الأيامالأولى من حكم البعث وحتى قبل أن يولد رأس نظام الابن الأسدي. يقول أكرم الحوراني في مذكراته: " إن كل تصرفات البعثيين بعد انقلاب الثامن من آذار قد أظهرت أنهم غير جادين بتنفيذ ميثاق الوحدة الثلاثية، وأن كل ما جرى من محادثات إنما كان هدفه إحراج عبد الناصر الذي لم يتورع في هذه المحادثات عن إحراجهم بل محاكمتهم، وهكذا تصاعد الخلاف والمهاترات بين الطرفين، حتى وصل إلى درجة من الإسفاف والسوقية يصعب تصورها، وكانت الإذاعة السورية تدفع عند اشتداد الخلاف مع عبد الناصر أغنية المطربة صباح: يا كركدن لا تحسبن لتقبضن، أما في فترات التهادن فكانت تذيع أغنية نجاح سلام، بدي عريس أسمر، شرط من المتحدة، وكانت ذروة الإسفاف أن يجعل الوفد السوري بقيادة البعث الحملة علي والشتيمة مدخلاً لإرضاء عبد الناصر، بالوقت الذي ترفع فيه عبد الناصر عن ذلك."(39).ثم يتابع أكرم الحوراني في مذكراته فيقول: " كان أهم ما كشفت عنه مباحثات الوحدة الثلاثية هو اعتراف الوفد السوري بالتصفيات الكبيرة التي بدأت في الجيش السوري فور انقلاب الثامن من آذار، ومحاولة إلباس هذه التصفية لبوساً قومياً إلى غير ذلك من الادعاءات الواهية. فخلال الأيام الأولى لانقلاب الثامن من آذار 1963 تم تسريح أكثر من 500 ضابط من مختلف الرتب من كوادر الجيش المدربة والمحترفة، وحل محلهم ضباطاً من معلمين وموظفين، وكان تسريح هؤلاء الضباط يتم تحت ذرائع مختلفة بحجة أن بعضهم انفصالي، أو أن بعضهم الآخر من البورجوازيين أو الشعوبيين أو " الحورانيين "(40). يقول لؤي الأتاسي عضو الوفد والضابط الذي نصب رئيساً للدولة السورية بعد انقلاب الثامن من آذار في محادثات الوحدة الثلاثية التي بدأت في 14 / 3 / 1963 أي بعد سبعة أيام من الانقلاب: " حتى الآن صار عندي 300 ضابط مسرح من مختلف الرتب، وماشيين بالتسريح، وأي إنسان لو أشك أنه ممكن ألا يمشي مع الاتجاه على طول يخرج، كما يقول " يعني لواء قد يكون المدى بتاعه – لاحظ هنا أن لؤي الأتاسي يتكلم باللهجة المصرية – أو الميزانية بتاعه 25% مؤمنة، أحسن من بالماية ماية (أي عدد الضباط اللازم لقيادة لواء) يكون تناقضات ومشلول ودي سياستنا دلوقت " كما جاء على لسان الضابط فهد الشاعر عضو الوفد ما يلي: " إن التجانس العسكري والمدني سيكون دائماً العامل المحرك لدفع القومية العربية إلى الأمام وحمايتها من أي خطر، وأنا لا يمكنني أن أتصور وجود ضابط سوري قومي في كتيبة مشاة، وضابط كردي يريد دولة كردية، وضابط شيوعي يدين بلينين وستالين وماركس، وضابط انفصالي يسيطر عليه عامل الدين " ثم يضيف: " إن الأسلوب الذي أشار إليه الفريق الأتاسي هو المتبع حالياً في الجيش، أي الإبقاء على العناصر التي تؤمن بالعروبة والقومية ". بعد ذلك يوسع فهد الشاعر مدى التصفية من المجال العسكري إلى المجال المدني، كما يعطيها معنى التصفية الجسدية، عندما يقارن الوضع بما حدث في الاتحاد السوفييتي وأن تصفية سبعة ملايين من الروس ليست أمراً مهماً بالنسبة للتجانس الذي حققته روسيا وبالنسبة لعدد سكانها"(41).
إن العمل بهذه العقلية السياسية قاد إلى أن يكون " عدد المسرحين من الجيش السوري بعد الثامن من آذار من الضباط وصف الضباط قد بلغ الآلاف وامتدت التصفية إلى ضباط الأمن (وزارة الداخلية) وحتى إلى طلاب الكلية العسكرية عندما صرفت دورة كاملة بحجة أن طلابها جميعاً انفصاليون، ولقد نشرت جريدة الحياة اللبنانية بعض قوائم التسريح "(42).
يسخر السوريون كثيراً من النظام الأسديفي كونه يوجه لكل من يعارضه تهمة جناية النيل من هيبة الدولة ومس الشعور القومي وتعكير الصفاء بين عناصر الأمة. إن ما ينبغي معرفته هنا أن هذا النهج في محاربة المعارضين لم يكن من صنع واختراع النظام الأسدي (الأب ثم الابن) بل هو براءة اختراع بعثية مئة بالمئة، ففي خضم الصراع على السلطة بين البعثيين والناصريين بشكل خاص والصراع مع المجتمع السوري بشكل عام وللتغطية على عمل القيادة البعثية بكل تياراتها وأجنحتها للتخلص والقضاء على الناصريين في معركة حاسمة،يقول أكرم الحوراني في مذكراته بتاريخ 24 / 4 / 1963 أصدر النظام البعثي" قراراً بتشكيل محاكم الأمن القومي وحرك النائب العام المقدم صبحي زهير العادلي الدعوة على كل من خالد العظم، أكرم الحوراني، ناظم القدسي، عبد الكريم زهر الدين، معروف الدواليبي، أمين النفوري، خليل كلاس، أسعد محاسن، عفيف البزري، بتهمة اغتصاب السلطة وجناية النيل من هيبة الدولة ومس الشعور القومي وتعكير الصفاء بين عناصر الأمة، وجنحة إساءة استعمال السلطة، بينما اتهمت وحدي بتهمة التجسس، وهكذا بلغت الوقاحة حد اتهام الآخرين بالجنايات والجرائم التي كانت ترتكب كل يوم "(43).
ثم كانت الموجة الثانية من تصفية النخب السياسية والاجتماعية والمدنية بعد انقلاب 23 شباط البعثي 1966،فقد قام النظام البعثي الجديد " بحملة اعتقالات واسعة شملت معظم المدن السورية ومختلف الاتجاهات (حزب الشعب، الحزب الوطني، الإخوان المسلمين، الاتجاهات الدينية، رؤساء العشائر)شمر وطي والرولة، كما حجزت أو صودرت ممتلكاتهم، واعتقل المئات من أنصارهم، ونقل الجميع إلى سجن تدمر الصحراوي."(44).
ففي هذه المرحلة " شرع نظام جديد يضفي على البلد طابعه التطهيري الحنبلي المتشدد. فخفض رواتب رئيس الدولة وكبار الضباط والموظفين الحكوميين. واستبدل بسيارات المرسيدس والليموزين السوداء سيارات أكثر تواضعاً مثل الفولكس واغن والبيجو (404). وتم قمع الفساد ورفضه باحتقار، بينما أصبح الصراع الطبقي ضيق الأفق وانتقاماً. فطرد من الخدمة أي شخص له علاقة ولو كانت بعيدة بالعائلات المتنفذة القديمة، ومهما يكن الشخص في ذاته نظيفاً ولا غبار عليه... إلى درجة أن الناس صاروا يخشون الكشف عن أسماء عائلاتهم خوفاً من التعرض لإجراءات انتقامية. ففي وزارة الخارجية لم تستطع سوى حفنة من كبار الدبلوماسيين المحترمين أن تحتفظ بمناصبها بسبب كفاءتها الذاتية وعدم وجود ارتباطات سياسية لها. وبما أن امتلاك أكثر من بيت واحد صار شيئاً لا ينظر إليه بعين التشجيع، فقد حدثت هجمة على البيع فانهارت الأسعار وهرب القادرون على الهرب خارج البلاد. وامتدت السيطرة الحكومية إلى المدارس الخاصة التي كان كثير منها بإدارة مؤسسات دينية؛ أما تلك التي رفضت إدارة الدولة فأغلقت. وفي هذه الأثناء بدأ الفقراء والأقليات والمحرومون من كل نوع يغمرون المدن كالطوفان بعد أن شعروا بوجود تغير لصالحهم، وبذلك غيروا نمط الحياة في تلك المدن. وقد بدا لهم أخيراً أن تلك حكومة المحرومين الذين لا أرض لهم، والتي تمثل انتصار السهول التي تتناوح فيها الرياح، على أضواء المدن البراقة. وبهذه التعبئة لما كان يشبه دولة الحزب اللينينية راح الناس في المجتمع يصنفون ما بين عدو وصديق، مع تقسيمات فرعية فيما بين الصنفين: " فالعمال " و " الفلاحون " و " الطلبة " و " النساء " و " الشبيبة " صنفوا كأصدقاء. أما " الإقطاعيون " و " الرجعيون " فاعتبروا أعداء بلا هوادة، رغم إفساح المجال للتسامح مع بعض " الرجعيين الذين لا ضرر منهم ".وبدا كأن كون المرء سورياً فقط لم يعد يعطيه أي حق. وبدا النظام في متابعته لبرنامجه شديد التعصب مذهبياً وكأنه يحاول تحقيق شيء لا يقل عن تحويل طابع سوريا وشخصيتها. "(45).
ثالثاً: التخلص من النخب القومية البرجوازية الصغيرة القومية من أبناء المدن (أٌكِل الثور الأسود يوم أُكِل الثور الأبيض):
إن استبعاد النخب المدنية عن الحياة العامة وتحديداً الحياة السياسية لم يقتصر على النخب المدنية السياسية التقليدية فحسب، بل إن الصراع السياسي الذي نشب بين تيارات وأجنحة القوى القومية البرجوازية الصغيرة على السلطة تمفصل في كثير من الحالات مع صراعات لها طابع حضاري (ريفي – مدني) وفيما بعد أخذ بعداً طائفياً (أقليات – وأكثرية) وفيما بعد أخذ طابعاً طائفياً مكشوفاً، ولا سيما بعد أن استفرد تيار وحيد في السلطة وبنى دولته الاستبدادية العتيدة على جثة كل التيارات الأخرى التي كانت معه في السلطة. فبعد التخلص من النخب السياسية التقليدية المدنية تم استبعاد قسم من النخب العسكرية من أبناء المدن بحجة وذريعة أنها قوى انفصالية وغير وحدوية، أي بحجة أنها ساعدت أو أيدت الانفصال بين سوريا ومصر، ومع انفجار الصراع بين القوميين البعثيين والناصريين على السلطة إثر المحاولة الانقلابية التي قام بها الضابط الناصري جاسم علوان يوم 18 تموز 1963، تم استبعاد النخب الناصرية من الحياة العامة، وحيث كانت أغلبية هذا التيار هي من أبناء المدن ولا سيما أن الناصرية شكلت إيديولوجياأغلبية أبناء المدن السورية من البرجوازية الصغيرة القومية، في حين شكلت الأرياف السورية الحاضنة لأغلبية القوميين من البعثيين والاشتراكيين العرب. وبعد التخلص من النخب الناصرية (أبناء المدن) وبعد انتقال الصراع إلى داخل النخب القومية البعثية الحاكمة، تم إقصاء واستبعاد البقية الباقية من أبناء المدن عن مسرح الحياة السياسية العامة، ولا سيما أن أغلبية التيار القومي البعثي الوسطي المعتدل كان يتشكل من أبناء المدن، في حين شكل أبناء الأرياف والمدن الصغيرة أو البلدات وأبناء الأقليات الدينية أغلبية التيار القومي البعثي اليساري داخل سلطة البعث، وعندما تمت الإطاحة بسلطة التيار القومي البعثي الوسطي وجاء التيار القومي البعثي اليساري إلى السلطة في 23 شباط 1966، لم يبق من أبناء المدن إلا القلة القليلة من رموز السلطة السياسية أو العسكرية (بعض الواجهات).يقول حنّا بطاطو: " بيد أن هنالك مؤشرات أخرى ثمة، في المقام الأول، الاعتراف الصريح من جناح صلاح جديد، الذي أمسك بسلطة موحدة غير منقسمة بين عامي 1966 و1968، بأن وجود الحزب " ضعيف جداً في المدن الكبرى" وبأن معظم قادة الفروع فيها " من مناطق أخرى " وكانوا عاجزين عن بناء " تنظيم حزبي حقيقي قادر على تحريك وقيادة تلك المدن ". وثمة ثانياً، الحقيقة المعبرة التي مفادها أن الحكومة في الستينيات اضطرت في بعض المناسبات إلى المجيء بفلاحين من الريف لمواجهة التظاهرات والإضرابات التي اندلعت في حماه وحلب ودمشق. وإنه لذو مغزى أيضاً أن من بين الأعضاء الستمئة، أو نحوه، في الحرس القومي البعثي في العاصمة السورية لم يكن هناك سوى اثني عشر دمشقياً (...) الأمر الأكثر حسماً هو التركيبة الاجتماعية للحزب على مستوى القيادة. فكما يمكن أن نرى من الجدول (12 – 5) في كتاب حنا بطاطو، فإنه من بين الأشخاص الأربعة والعشرين الذين وصلوا إلى عضوية القيادة بين آذار/مارس 1963 وتشرين الثاني/ نوفمبر 1970 جاء 54,1 في المئة من القرى و33,3 في المئة من بلدات ريفية أو صغيرة، ولم يأت سوى 8,4 في المئة من المدن الرئيسية. وفي الفترة السابقة عليها مباشرة، أي بين أيلول/ سبتمبر 1963 وشباط/ فبراير 1966، كانت الأرقام الموافقة هي 37,9 و44,8 و17,3 في المئة (انظر الجدول (12- 4)) من نفس الكتاب، وفي الفترتين، لم يشغل أي دمشقي مقعداً في القيادة "(46).
ولهذا عندما وصل إلى السلطة عام 1970 التيار الذي اكتملت معه كل أركان نظام دولة الاستبداد المعمم الشمولي، كانت السلطة وكل رموز الحياة العامة في السلطة والدولة والمجتمع هم من أبناء الريف، حيث لم يبق لأبناء المدن إلا بعض الزوايا والواجهات التي أريد لها أن تبقى كي تخفي واقع أن السلطة أصبحت في أغلبيتها لأبناء الريف والبلدات الصغيرة (أو المدن الصغيرة).
لقد " نجح أعضاء اللجنة العسكرية البارزون في الفترة التي تلت عام 1963 مباشرةً، وبوجود روافع السلطة الحاسمة بين أيديهم، ونيتهم توسيع قاعدة دعمهم، في تسريع عملية كانت قد بدأت في الخمسينيات وتكثيفها، عملية تضمنت تحويل سلك الضباط والقوات المسلحة وبيروقراطية الدولة تحويلاً جوهرياً إلى مؤسسات ذات صبغة ريفية أو قروية قوية. وبعبارة أخرى، وكي يكون كلامنا ملموساً أكثر، فقد طهّر الأعضاء النافذون في اللجنة العسكرية تلك المؤسسات على نحو لم يكن معروفاً في سورية حتى ذلك الوقت، فخلصوا تلك المؤسسات من العناصر التي اعتبروها معادية أو ذات ولاء مشكوك فيه أو متردد، أو ملأوها بأصدقائهم أو رجال لم يكونوا فلاحين من حيث الوظيفة إلا في بعض الأحيان، لكنهم غالباً ما كانوا فلاحين من حيث الأصل"(47). يكفي هنا أن أشير إلى أن عدد الضباط من أبناء المدن بشكل عام والسنة بشكل خاص المسرحين من الجيش السوري في الفترة الواقعة بين عام 1963 تاريخ وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة، وعام 1967 تاريخ حرب 5 حزيران مع إسرائيل حسبما جاء في كتاب حنّا بطاطو قد بلغ " ما يزيد عن ثلث ضباط الجيش السوري "(48)– فخلال هذه الفترة تم تسريح 700 ضابط من أصل 1800 ضابط هم مجموع عدد ضباط الجيش السوري – وقد تم استبدالهم " باحتياطيين كانوا إلى حد بعيد معلمي مدرسة ريفيين، أو بطلاب غير مدربين تدريباً كافياً، وغالباً من أصل ريفي "(49). لقد تمكن الضباط ذوي الأصول الريفية بشكل عام وذوي الأصول الريفية من أبناء الأقليات الطائفية بشكل خاص، ولا سيما الضباط العلويون من تصفية وتطهير أجهزة الدولة والسلطة العسكرية في البداية ثم المدنية فيما بعد من أبناء المدن، نتيجة توفر مجموعة من العوامل الموضوعية لطالما تهرب الكثيرون من الوقوف عندها، وركزوا فقط على المؤامرة الطائفية العلوية من دون البحث في الشروط اللازمة لتحققها ونجاحها على أرض الواقع، وهي الشروط التي تناولها وذكر أهمها حنّا بطاطو في كتابه الشهير الذي أخذ اسم (فلّاحو سورية...).
رابعاً: تحالف البعثيين وسر الحركة الطليقة للجنة العسكرية البعثية السرية:
سؤالان لطالما سألهما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أغلب الباحثين الذين تناولوا سيرورة الصراع على السلطة البعثية في سورية في بداية الستينيات من القرن الماضي، ومعها كذلك سيرورة ترييف وتطييف السلطة والدولة في سوريا.
السؤال الأول طرحه دانييل لوغاك في كتابه " سورية في عهدة الجنرال الأسد " يقول السؤال: كيف استطاع البعثيون أن يجعلوا من انقلاب 8 آذار 1963 انقلاباً بعثياً رغم أن أغلب الضباط الذين قاموا به لم يكونوا بعثيين أو لنقل:" رغم كون الضباط البعثيين الذي اشتركوا به مع الضباط الناصريين والمستقلين لم يكونوا هم الأكثرية "(50). يجيب دانييل لوغاك على هذا السؤال بالقول: " إن الضباط البعثيين كانوا أقلية إلا أنهم كانوا بوضوح منظمين بصورة جيدة داخل المجلس الوطني للقيادة الثورية واستطاعوا توسيع المجلس – الثوري – هذا بإضافة عشرة أعضاء كلهم من المدنيين ومن بينهم خمسة بعثيين. وأصبح مجموع عدد البعثيين في المجلس ثمانية من أصل عشرين إلا أنهم استندوا إلى بعض (المستقلين) وحصلوا على منصب رئيس المجلس والذي استلمه صلاح البيطار"(51). وعلى الرغم من صحة هذا الجواب إلا أنه يبقى جواب لا يحيط بكل الجوانب والأسباب التي جعلت من انقلاب 8 آذار 1963 انقلاباً بعثياً بحتاًبعد أسابيع من وقوعه. فما ينبغي إضافته كي نصل إلى الجواب الشافي والشامل علينا القول:
أولاً: على صعيد تنظيم الصفوف داخل الجيش نجد بأنه في مقابل التنظيم الجيد لصفوف الضباط البعثيين كانت هناك الكثرة غير المنظمة للضباط الناصريين.
وثانياً: إن وقوف ودعم قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، ووضع كل ثقلها السياسي والحزبي خلف هذا الانقلاب، هو ما حوله إلى انقلاب بعثي بحت. فعلى الرغم من التضعضع والتشتت السياسي الذي كان يعانيه حزب البعث العربي الاشتراكي والموروث من سنوات الوحدة مع مصر من جهة، والتشظي الذي أصابه بعد المؤتمر القومي الخامس 1952، إلا أن وضع البعثيين التنظيمي على هشاشته كان أقوى بما لا يقاس من وضع الناصريين الذين كانوا منظمين في الشارع السوري في إطار تيار سياسي أطلقوا على أنفسهم اسم (الوحدويون الاشتراكيون)، وهم تيار سياسي ناشئ وفتي أغلب كوادره من أصول بعثية وغير متجذرة في البيئة السياسية السورية بالقياس مع عمر وتجذر البعث وتاريخه داخل المجتمع السوري. فإذا كان صحيحاً أن السوريين عموماً لم يقعوا يوماً في هيام وغرام مع البعثيين لا قبل ولا بعد انقلاب 8 آذار، إلا أن ما هو صحيح كذلك أن السوريين عموماً كانوا كذلك غير مغرمين كثيراً بالناصريين بعد تجربة سنوات الوحدة مع عبد الناصر، والتي كانت مريرة على السوريين عموماً وعلى أبناء المدن السورية خصوصاً، ولا سيما مدينتي حلب ودمشق. وإذا ما أضفنا إلى كل ذلك الحماس الذي دب في صفوف البعثيين السوريين والعرب على صعيد القيادات والقواعد بعد نجاح الانقلاب البعثي في العراق بتاريخ 8 شباط 1963، أي قبل شهر واحد من الانقلاب البعثي السوري، عندها يمكن أن نفهم كيف استطاع الضباط البعثيون الذين شاركوا في الانقلاب أن ينالوا دعم قيادة حزبهم مضافاً إلى ذلك دعم القيادة القومية للحزب، أي بعبارة مختصرة يمكن القول: بأنه في الأسابيع والأشهر الأولى التي تلت مباشرة انقلاب 8 آذار 1963 حدث تحالف مؤقت بهدف الاستفراد بالسلطة بين ما يسمى بعث التأسيس المدني (البعث القديم أو بعث أواخر الأربعينيات وعقد الخمسينيات) مع بعث الستينيات أو (بعث اللجنة العسكرية التي شاركت في الانقلاب)" والتي يغلب عليها الطابع الريفي "(52).
لقد " كانت المعضلة التي واجهتها اللجنة العسكرية السرية البعثية بعد نجاح الانقلاب، ثلاثية الأبعاد: كيف نتخلص من أو ندعي التجاوب مع ضغوط الشارع العارمة طلباً لعودة الوحدة مع مصر؟ كيف نضرب الناصريين في الجيش استباقياً ووقائياً ولكن بتدرج محسوب؟ ثم كيف نتخلص من عبء الحريري (قائد انقلاب 8 آذار) بعد استنفاد دوره؟ تلاقت سياسات اللجنة العسكرية في ذلك الوقت مع رغبات عفلق – البيطار لجهة التنائي عن وحدة مع عبد الناصر، أو كبديل اضطراري السعي لاتحاد ثلاثي يضم عراق البعث وبما يكفل أن يصبح عبد الناصر بين المطرقة والسندان: بعث دمشق وبعث بغداد. كانت مناورة البعث ماكرة إذ لا يستطيع لا عبد الناصر ولا ناصرييه السوريين الممانعة في احتساب العراق متحداً ثالثاً حتى ولو ناور ناصر خلال الجولة الثانية من مباحثات القاهرة بالقول: أنه مستعد لقبول وحدة سورية عراقية أولاً بمقدار قبوله لوحدة مصرية سورية أولاً. إذاً في مسألة الوحدة لاقى البعثان مخرجاً شبه مريح في طرحهم الثلاثي، لكن المنغص الكبير بقي ثنائية الشارع الناصري والكثافة الناصرية في الجيش (...) وبخديعة ماكرة تلخصت في إيفاد العديد (من الضباط الناصريين) لبغداد لبحث الوحدة العسكرية، ثم ليعودوا إلى منازلهم مسرحين. استمرت التسريحات طوال أيار وحزيران ولم تنفع في ذلك وساطة المهدي بن بركة، أو وساطة هواري بومدين من قبله، ابتغاء رأب الصدع المتفاقم بين عبد الناصر والبعث. في أيار استقال الوزراء الناصريون وقمعت المظاهرات الناصرية الضخمة بالعنف المسلح واعتقل العديد من ناصريي العراق لاتهامهم بالتآمر(...) في ذلك الوقت كان معلوماً للجنة العسكرية (البعثية) اقتراب خطوات الانقلاب الناصري المزمع (بقيادة جاسم العلوان) وكانت تفضل أن يتم الانقلاب ويسحق على أن يجهض باستباق وقوعه بحملة اعتقالات لمنفذيه المتوقعين" والمكشوفين "(53).
والحاصل أن رغبة الفراق البات مع عبد الناصر ومشايعيه كانت عارمة وبمقولة جازمة أن عهد البعث قد بزغ وأنه سيحكم دولتين متجاورتين ليقود العالم العربي على أنقاض عبد الناصر. فبعد استقالة الوزراء الناصريون والقوميون العرب من الحكومة شكل صلاح البيطار الحكومة مرة ثانية " وكان الهدف من تأليف هذه الحكومة الجديدة بعد انسحاب الناصريين من الحكومة السابقة القضاء على الناصريين بمعركة فاصلة في سورية والعراق معاً، ويتبين ذلك من التصريح الذي أدلى به للصحف أوائل أيار 1963 مصدر بعثي، وورد فيه أن اتهاماً للناصريين " بأنهم أرادوا بالدعوة إلى المناصفة في الحكم احتلال مناصب هامة في الدولة حتى يتمكنوا من قطع الطريق على البعث وتحويل الاتحاد إلى عملية ناصرية، وأن حزب البعث مصمم على أن يضطلع هو بمسؤولية الحكم في سورية والعراق ضمن الاتحاد، بينما يضطلع عبد الناصر بمسؤولية الحكم في مصر، ودون ذلك يستحيل أن يقوم تكافؤ في قيادة الاتحاد ما يخضع الأقطار الثلاثة لحكم عبد الناصر شخصياً بدلاً من القيادة الجماعية " وانتهى المصدر البعثي إلى القول: " نريد أن نكون في سورية والعراق الحزب الحاكم لا حزب الحاكم "(54).
وهنا يثور السؤال: هل كانت قيادة الحزب المدنية متساوقة مع عسكرييه في هذا المنظور؟ والإجابة الحاسمة في ضوء وقائع تلك الفترة هي بنعم. كان ميشيل عفلق يظن أن العسكريين الشباب هم أداته للوصول إلى حلم البعث الذي يحكم إقليم الرافدين – الشام لينطلق منه إلى حلم قيادة العالم العربي، إما بالبعث منفرداً أو بالشراكة مع عبد الناصر كحد أقصى"(55). وحتى يكون من السهل إفشال محاولة جاسم علوان الانقلابية المكشوفة والمراقبة، كانت في البداية خطوة التخلص من كتلة المستقلين بقيادة زياد الحريري،ففي البداية " قرر المجلس الوطني (البعثي) قبيل محاولة جاسم علوان تصفية تكتل زياد الحريري في الجيش وتشكيل الحرس القومي مثلما كان يجري في العراق، وتعيين الضابط حمد عبيد قائداً عاماً لهذا الحرس وترفيع أمين الحافظ لرتبة لواء وتعيينه رئيساً للأركان ووزيراً للدفاع لإطلاق يده في قمع المحاولة الناصرية المرتقبة "(56). أو الأصح لوضعه في الواجهة لقمع محاولة جاسم علوان الانقلابية المرتقبة، فعلى الرغم من كل المناصب التي أعطيت للحافظ " ولكنه بالنسبة للجنة العسكرية كان رجلاً من قش دون قاعدة سياسية أو خلفية حزبية. فقد كانوا يمسكون بلجامه من خلف الكواليس حتى أن الأسد ذكر بأن أمين الحافظ " لم يكن يستطيع نقل جندي دون موافقتنا "(57).
بعد ذلك " فاتحت قيادة البعث زياد الحريري عن طريق صلاح البيطار وعلي صالح السعدي بضرورة انتسابه إلى حزب البعث، ولكنه اعتذر قائلاً: أنه يفضل أن يبقى عسكرياً غير منتم لأي فريق سياسي "(58)." في خضم هذه الأجواء قررت اللجنة العسكرية البدء بتصفية كتلة زياد الحريري الصغيرة لكونه الأسهل منالاً وتوطئة للصدام المرتقب مع الناصريين. هنا أيضاً كانت الخديعة هي الأسلوب المتبع: أُقنع الحريري بترؤس وفد لزيارة الجزائر. ولطمأنته اصطحبه عديد من القيادات البعثية المدنية والتي كانت خالية الذهن من مسألة التواطؤ، ومعهم المقدم صلاح جديد. خلال تلك الزيارة جرى تسريح ضباط الحريري وعلى رأسهم قائد اللواء المدرع حسن الجلاغي ومدير المخابرات العسكرية محمود الحاج محمود. عاد الحريري إلى دمشق ليجد نفسه قد أضحى نكرة في المشهد السياسي لدرجة أنه اصطحب إلى المطار يوم 8 تموز مطروداً سفيراً في إسبانيا "(59).
أما ثالث الأسباب في قدرة البعثيين على تحقيق انتصار على الناصريين وتحويل انقلاب 8 آذار إلى انقلاب بعثي بحت، فقد كان الدعم الخارجي الذي تلقاه البعثيون من الأمريكان. فلم يعد سراً أن البعثيين " أتوا إلى السلطة بالقطار الأمريكي "(60). على حد قول علي صالح السعدي أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث في العراق 1963. فقد كانت المصلحة الأمريكية في تلك الفترة متلاقية مع البعثيين لأكثر من سبب، وحيث يأتي في مقدمة هذه الأسباب:
أولاً: استخدامهم كعصا لضرب التوسع المخيف للشيوعيين في الساحة العراقية، وقطع الطريق على المسار الذي كان يسير به صديق الشيوعيين في سوريا، أقصد هنا ضرب تجربة وتيار خالد العظم البرجوازي الديمقراطي الصاعد في سوريا، وهي الوظيفة التي نفذها البعثيون في العراق وسوريا على وجه يفوق ما كان يحلم به الأمريكان ذاتهم. " لقد كانت الولايات المتحدة مؤيدة لنظام البعث في القطرين ولجمال عبد الناصر في آن واحد، وقد صرح (أرمان ماير) سفير الولايات المتحدة في لبنان في إحدى الحفلات التي أقيمت له بمناسبة سفره للولايات المتحدة محدداً السياسة الأمريكية، وذلك رداً على انتقادات بعض النواب اللبنانيين لهذه السياسة بما يلي: " إن الدبلوماسية الأمريكية لا تأخذ درساً من أحد، وأن مصلحة الولايات المتحدة هي في إقامة توازن بين الدول العربية وإسرائيل، وهذا ما يهمنا بالدرجة الأولى حفاظاً على السلام في هذه المنطقة من الشرق الأوسط، وقال: " إن من حق حكومتي أن تؤيد حزب البعث الحاكم في سورية والعراق لما أظهره من شجاعة في مكافحة الشيوعية، ولكن من حقها أيضا ألا تدير ظهرها للرئيس عبد الناصر خوفاً من أن يضع المنطقة في الجو الشيوعي لاعتقادها أنه قادر وحده على أن يفعل ذلك إذا تخلت عن تأييدها له في بعض نواحي السياسة التي يتبعها، ومن هنا كان اعتراف الولايات المتحدة السريع بنظام الحكم الجديد في كل من العراق وسورية بعد الانقلابين الأخيرين وتسلم البعث الحكم في البلدين المتجاورين، ودعم سياسة الحكومتين السورية والعراقية التي ترمي لمكافحة الشيوعية "(61).
لقد كانت المخابرات الأمريكية تقف خلف انقلاب 8 آذار 1963 بطريقة غير مباشرة، فقد تخفى في البداية البعثيون والناصريون ومعهم الأمريكان خلف الجنرال زياد الحريري الذي كان على علاقة واتصال مع المخابرات الامريكية. ثم تخلى عنه الأمريكان لصالح البعثيين قبل انفجار الصراع بين البعثيين والناصريين.فالأمريكان كانوا يعلمون ضعف الحريري كونه شخصية مستقلة سياسياً ولا يمتلك قاعدة عسكرية أو مدنية يمكنها أن تسنده في حكم وضبط المجتمع السوري، الذي كان أهم ما يميزه أنه مجتمع مسيس ويعج بالتيارات السياسية والحزبية التي تضع نصب أعينها الوصول إلى السلطة والعصيان بها، ولا سيما التيارات الحزبية البرجوازية الصغيرة القومية، وقد كان التيار البعثي هو التيار المناسب أكثر من غيره بالنسبة للمصالح الأمريكية في المنطقة في تلك الفترة.
ثانياً: لقد دعم الأمريكان البعثيون ضد الناصريين لتكريس الحالة القطرية على يد دعاة الوحدة القومية ذاتهم، من خلال تغذية الصراع البعثي الناصري على السلطة والنفوذ في الشارع. فالمصلحة الأمريكية كانت تستدعي دعم التجربة البعثية بوصفها تجربة شبيهة للنموذج والتجربة الناصرية من حيث الجوهر والوظيفة والعلاقة الفوقية بالمجتمع، أي خلق جلاد خاص بكل مجتمع قطري، وبنفس الوقت تقطع الطريق على إمساك عبد الناصر بأكثر من ساحة عربية، وبما يعني منع عبد الناصر من توسيع نفوذه في المنطقة وإضعاف قوته في سوق المزايدات والمتاجرة السياسية التي كان النظام الناصري بارعاً في استخدامها وتوظيفها تجاه الكثير من القضايا المطروحة للمبارزة والمبازرة في المنطقة العربية وفي القارة الأفريقية في ذلك الوقت.
خامساً: أقليات ريفية متراصة سياسياً وأكثرية ريفية ومدنية منقسمة:
أما السؤال الثاني فقد طرحه حنّا بطاطو في كتابه الشهير فلّاحو سورية. يقول السؤال: " ما الذي جعل هيمنة الضباط العلويين السياسية ممكنة في النصف الثاني من الستينيات والعقود التالية، في حين لم يكن عدد أبناء طائفتهم يتخطى ثُمُن عدد سكان سورية؟ إذا وضعنا جانباً عاملين تفسيريين عامين – تجزئة البنى الاجتماعية وعدم الفاعلية السياسية للكتلة العظمى من السوريين – فإن السؤال يحل نفسه في سؤال يتعلق بتحديد ما الذي جعل السيطرة الحاسمة للعسكريين العلويين على القوات المسلحة السورية ممكنة؟ لا بد أولاً من القول بوضوح أن العلويين على مستوى سلك الضباط وعلى عكس الانطباع واسع الانتشار، لم يكونوا مهمين عددياً بمثل أهمية السنّة قبل عام 1963، واستمدوا كثيراً من قوتهم الحقيقية من صفوف الجيش الدنيا. وبالمعنى الحسابي، كان عددهم كثيراً بين الجنود العاديين، وكانوا موجودين بوفرة واضحة بين ضباط الصف "(62). ففي عام 1955 كان ما لا يقل عن 55 في المئة أو نحوه من ضباط الصف من الطائفة العلوية حسبما جاء في كتاب بطاطو فلّاحو سورية، وتفسير ذلك حسب بطاطو لا يعود كما يعتقد الكثيرون إلى السياسة الفرنسية تجاه الأقليات الطائفية أيام الانتداب " حين قامت فرنسا بتشكيل القوات الخاصة – كتائب المشاة وسرايا الخيالة - التابعة لسلطة الانتداب من أبناء الأقليات الطائفية والقومية "(63). فهنا علينا أن نعلم بأنه " في حين كان تعداد الفرقة السورية في القوات الفرنسية الخاصة الموروثة عن الفرنسيين في عام 1946 هو 7 آلاف فقط، فإنه تقلص في عام 1948 إلى 2500 رجل فقط لأن العائلات التجارية ومالكة الأراضي الحاكمة في حينه كانت تنظر إلى تلك الفرقة على أنها كبيرة جداً ومكلفة جداً "(64).
ومن جهة ثانية فقد " تدارست القوى الوطنية، بقلق وضع القوات الخاصة، التي لم يكن لها أي دور في حصول سورية على استقلالها، بل على العكس، فقد ذاقوا منها الأمرين خلال فترة الانتداب نظراً لارتباطها بالمؤسسة العسكرية الفرنسية، وكان القسم الأعظم منهم يرى وجوب حلّها بعد جلاء الفرنسيين، لكن فريقاً آخر، كان من أبرز أعضائه أكرم الحوراني، اقترح بقاءها لتكون نواة الجيش الوطني، بعد التأكد من وطنية ضباطها، بحكم أن أصحاب الرتب العالية من هذه القوات كانوا من أبناء الأقليات العرقية والطائفية الذين يغلب ولاءهم العائلي والإثني والطائفي على ولاءاتهم الوطنية والقومية، ولكن الحوراني أخذ على عاتقه فتح حوار مع هؤلاء الضباط لإقناعهم أن يكون ولاءهم للدولة السورية فقط، وأن يبتعدوا عن أي ولاء لفرنسا أو لطوائفهم. وكان تمتع القوات الخاصة بانضباط الجيش الفرنسي وتقاليده، سبباً مرجحاً في عدم حلّها وإبقائها كنواة للجيش الوطني، الذي لم يكن له وجود في سورية عشية الاستقلال "(65).
" ومن المؤكد لا يمكن لموطئ القدم القوي للعلويين في القوات الخاصة أن يفسر نفوذهم المهيمن في الجيش حالياً. ثمة عامل سببي آخر أكثر أهمية راح يفعل فعله بثبات بعد الاستقلال مثلما كان تحت الحكم الفرنسي، ألا وهو وضع العلويين الاقتصادي السيئ. وهناك أمر آخر ذو صلة يقدم تفسيراً للعدد المتفوق للعلويين، على الأقل بين المجندين العاديين، هو موضوع البدل. قبل 1964، كان مسموحاً للسوريين أن يشتروا إعفاء من الخدمة العسكرية مقابل 500 ليرة سورية. وفي عام 1964، قيدت تلك العملية بشدة، ورفع البدل إلى 2000 ليرة لحاملي الشهادة الجامعية و1000 ليرة لخريجي المدرسة الثانوية و600 لغيرهم من السوريين. وفي عام 1968، رفع الحد الأقصى للبدل إلى 3 آلاف دولار، ووصل في عام 1978 إلى 5 آلاف دولار، وبات من الواجب تسديده بعملة صعبة. غير أنه كان بمقدور سنّة المدن عموماً في الخمسينيات والستينيات، وبغض النظر عن مدى تواضع وضعهم، أن يتحملوا التضحية ب 500 أو 600 ليرة سورية ليتجنبوا سنة ونصف السنة أو سنتين من الخدمة الإلزامية. أما بالنسبة إلى الفلاحين ولا سيما العلويون، فكانت 500 أو 600 ليرة تمثل قيمة مواسم عدة من العمل الشاق. علاوة على ذلك، قلما كان الفلاحون خالين من الدين. بيد أن صعود العلويين إلى الهيمنة في سلك الضباط هو، في النهاية، ما أكد سيطرتهم الحاسمة على القوات المسلحة. وما عمل لمصلحتهم في هذا الخصوص، أكثر من أي أمر آخر، هو أنه في حين كان الضباط العلويون في أغلبيتهم الساحقة من أصول ريفية ومنبت قروي وأبناء منطقة واحدة، وذوي انتماء بعثي بعد عام 1955، كان الضباط السنّة منقسمين انقساماً لا براء منه سياسياً وإقليمياً وطبقياً. ولا شك في أنه كانت هناك انقسامات في صفوف العلويين أيضاً، كما أثبت اختلاف محمد عمران مع بقية الأعضاء العلويين في اللجنة العسكرية في عام 1964، واغتياله في عام 1972. والصراع على السلطة بين صلاح جديد وحافظ الأسد في فترة 1968 – 1970. لكن هذه الانقسامات نشأت من صراع شخصيات أو تباين في وجهات النظر، في حين أن الانقسامات بين الضباط السنّة غالباً ما كانت ذات معنى بنيوي أعمق. وهكذا، كان هؤلاء الآخرون متمايزين بوضوح إلى ضباط ريفيين وضباط حضريين. وبين الحضريين، كان الأكثر نشاطاً والأكثر تميزاً سياسياً هم الدمشقيون والحمويون، وبين الضباط الريفيين، مجموعتا دير الزور وحوران. كان الدمشقيون ناصريين جزئياً، لكنهم تماهوا، في الأغلب، مع الانفصاليين الذين مثلوا متاهة من العناصر المتضاربة التي تراوح بين مجموعات ذات جذور في الشرائح التجارية والصناعية مالكة الأراضي الغنية من المجتمع وإخوان مسلمين واشتراكيين ويساريين ومستقلين من الطبقتين الوسطى والوسطى الدنيا. وتعاطف الحمويون إلى حد بعيد مع أكرم الحوراني ذي الميل الاشتراكي وجزئياً مع النخبة القديمة. وكان بعض الضباط من دير الزور وحوران ناصريين، لكن اختار معظمهم حزب البعث. نتيجة الانقسامات في صفوف الضباط السنّة – وهنا أنا أبسط على نحو ما وضعاً بالغ التعقيد – كان الأمر ينتهي بسنّة من جماعة معينة إلى تصفية سنة من جماعة أخرى، أو إلى انضمام سنّة من الطبقة الدنيا أو المتوسطة إلى علويين أو دروز في تصفية سنّة الطبقة العليا، أو انضمام سنّة ذوي توجه ريفي إلى علويين ودروز في تصفية السنّة ذوي الأساس الحضري. وبالمعنى السياسي، صُفى الانفصاليون وأنصار أكرم الحوراني والناصريون ومجموعة المستقل زياد الحريري وأنصار البعثي أمين الحافظ بين آذار / مارس 1963 وشباط / فبراير 1966، ومع كل تصفية كان عدد السنّة يتناقص عدداً وأهمية. أما الضربات في آب / أغسطس وأيلول / سبتمبر 1966 ضد الدروز (مجموعتا فهد الشاعر وسليم حاطوم) والضربات في شباط / فبراير 1968 ضد بقية الكتلة السنية الريفية (مجموعة أحمد سويدان الحورانية) فعادت على الضباط العلويين بسيطرة واضحة على الميدان على الرغم من الصدع الذي عكسته فيما بينهم "(66).
السبب الثاني: الذي جعل ما سمي بجناح القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي انتمى إليه أغلب الضباط العلويين ومعهم ضباط الأقليات الدينية (إسماعيليين ودروز) وكذلك ضباط البيئات السنية المهمشة (سهل حوران وريف دير الزور)، هم الأقوى في مواجهة ما أطلق عليه بجناح القيادة القومية والمدنية للحزب الذي يقوده ميشيل عفلق، يعودلعاملين أساسيين:
أولى هذه العوامل: كانت الصفات والسمات الشخصية المتعاكسة بين من كانوا يمثلون القيادة القطرية من صقور العسكر (مثل صلاح جديد وحافظ الأسد وعبد الكريم الجندي وسليم حاطوم وأحمد سويدان ...إلخ) الذين كانوا قادرين ويعملون ليل نهار على جذب الأتباع والأنصار منفردين أو مجتمعين، معتمدين بذلك على الولاءات الشخصية أو الطائفية أو العشائرية أو المناطقية أو كل هذه العوامل مجتمعة داخل الحزب وداخل الجيش وفي بيئاتهم الاجتماعية وفي كل ميدان يمكن العمل فيه، في المقابل كانالذين يمثلون القيادة القومية – إذا ما استثنينا محمد عمران أحد صقور اللجنة العسكرية – كانوا من الحمائم المدنيين وحيث يأتي على رأسهم ميشيل عفلق الذي أهم ما كان يميز شخصيته: الجبن السياسي والشخصي " لقد كان من عادة ميشيل عفلق أن يغادر سورية كلما فشل أو تهدد مركزه، وكان لا يعود إليها إلا إذا قدر أن الفرصة قد أصبحت ملائمة لعودة مركزه ونفوذه على الحزب، وقد فعل ذلك أكثر من مرة سأذكر هنا أهم مرتين، المرة الأولى كانت بعد نشر رسالته المشهورة إلى حسني الزعيم – رسالة الاسترحام المخزية - التي حل بها الحزب وانسحب منه – على إثر اعتقالهعام 1949 - فسافر إلى الأرجنتين وأقام بها في ضيافة خاله "(67).
والمرة الثانية فعلها بعد هزيمته في مؤتمر القيادة القطرية في أيلول 1963. وبعدها في المؤتمر القومي السادس في تشرين الأول 1963، فبعد هزيمته الحزبية والفكرية غادر سورية " وأقام فترة قصيرة في ألمانيا عند شقيقه الذي وظفه في السفارة السورية "(68).
ولم يعد إلى سوريا حتى عام 1965 عندما كان هناك أمل بالتغلب على جناح القيادة القطرية – بقيادة العسكر - داخل الحزب.
ثاني هذه العوامل: كان التكتيك الذي اعتمده ضباط اللجنة العسكرية البعثية السرية وأغلبيتهم من الفئات والبيئات والشخصيات المشار إليها أعلاه وهو التكتيك الذي تجلى في تحالفهم الموضوعي ودعمهمليسار الحزب الذي كان يمثله في مؤتمر القيادة القطرية في أيلول 1963 ياسين الحافظ وحمود الشوفي، وحيث أن هذا التحالف قاد إلى وضع المنطلقات النظرية للحزب ذات الطابع اليساري في المؤتمر القومي السادس للحزب الذي انعقد في تشرين الأول 1963، كما قاد إلى الهزيمة الحزبية والفكرية لجناح القيادة القومية بقيادة ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار. يقول أكرم الحوراني في مذكراته:" لقد كان سقوط عمران وفشل ميشيل عفلق نتيجة للتطرف اليساري والماركسي الذي بدأ ينتشر بسرعة في أوساط المدنيين والعسكريين على السواء، بدلاً من المقولات المهترئة للقيادة القومية التي فشلت فشلاً ذريعاً في أوساط الحزب، حتى أن حافظ أسد تلميذ وهيب الغانم أحد مريدي الأستاذ زكي الأرسوزي خصم الشيوعية والماركسية ذي النزعة القومية على الطريقة النازية، قد انتسب إلى " الخلية الماركسية "(69). التي كان يترأسها حمود الشوفي، والتي انضم إليها علي صالح السعدي والعديد من القيادات الحزبية في سورية ولبنان والعراق، ولا شك أن التنظيرات الماركسية التي غمرت المكتبات السورية وكذلك التنظيرات الماركسية لياسين الحافظ قد كان لها دورها في طغيان التيار اليساري الماركسي على حزب البعث الذي سيطر على مؤتمر القيادة القطرية في أيلول 1963 عندما انتخب حمود الشوفي أميناً قطرياً والضابط حافظ الأسد عضواً في هذه القيادة القطرية التي انضوت فيما بعد تحت لواء صلاح جديد "(70).
ففي الوقت الذي كان يهرب فيه ميشيل عفلق إلى ألمانيا " لجأ الأسد – بعد أن أصبح عضواً في القيادة القطرية إضافة إلى كونه عضواً في اللجنة العسكرية البعثية السرية - إلى خصم عفلق القديم الفيلسوف زكي الأرسوزي، الذي ألهم الأسد خطاه السياسية الأولى عن طريق الدكتور وهيب الغانم. وكان الأرسوزي حينذاك متقاعداً منذ فترة طويلة، إلا أن الأسد أخرجه من عزلته وراح يصحبه معه في جولاته على معسكرات الجيش وجعله يحاضر في الجنود ويلتقي بالضباط. وقد ابتهج الأرسوزي العجوز باهتمام الأسد فراح يكتب مقالات افتتاحية في صحافة الحزب والجيش (...)وفي هذه الأثناء كان الأسد يعمل على وضع كل وحدة من وحدات الجيش تحت مراقبة اللجنة العسكرية التامة وذلك عن طريق وضع ذوي الولاء في القيادات الحساسة وعدم إهمال عملية التثقيف السياسي للقوات "(71).
سادساً: مرحلة الإرهاب " الثوري اليساري " تُسهّل ولادة النظام الأسدي:
لقد أطلقت بعض فصائل الحركة الشيوعية التقليدية على نظام 23 شباط 1966، صفة النظام " الوطني الديمقراطي " كما صنفته بعض أحزاب اليسار الجديد بالنظام " الديمقراطي الثوري " على الرغم من غياب أي ملمح ديمقراطي أو ثوري حقيقي على هذا النوع من النظم وغيره من النظم المماثلة له التي يصح أن نقول عنها بأنها تنتمي إلى نوع من اليسار يمكن تسميته باليساري البرجوازي الصغير المعتوه إيديولوجياً وسياسياً، والمسلح فقط بخطاب شعبوي صارخ والمحروم بنفس الوقت من قاعدة شعبية عريضة داعمة تتناسب مع مستوى ونبرة خطابه. فإذا أبعدنا جانباً بعض الإجراءات التي طالت القشور من ناحية التقشف ونظافة يد بعض المسؤولين في قيادة الدولة والحزب – ولا سيما الجناح المحسوب على صلاح جديد - فإن الإجراءات الحقيقية العميقة التي تجعلنا نقول عن هذا النظام بأنه ديمقراطي أو ثوري فلا يمكن أن نجدها ولا في أي مجال من مجالات البناء الاجتماعي الاقتصادي والسياسي والإيديولوجي. فكل الإجراءات التي قام بها نظام 23 شباط 1966 كانت على مستوى القشور من جهة أولى، وجاءت من جهة ثانية من فوق في ظل غياب أي مناخ ديمقراطي تتمتع به إن كان القوى السياسية الحزبية بشكل عام أو القوى الطبقية ولا سيما القوى الطبقية من عمال وفلاحين التي ادعى هذا النظام تمثيل مصالحها وأنه جاء باسم هذه المصالح.
إن مأساة رموز هذا النظام والمفارقة السياسية التاريخية في مسار حياتهم السياسية والشخصية، تكمن في أنهم أصبحوا في نهاية المطاف مثل الكثير من رموز حزب البعث العربي الاشتراكي جلادين وضحايا في الوقت ذاته. فإذا استثنينا الجناح الذي التف حول حافظ الأسد داخل سلطة 23 شباط البعثية، فيمكن القول بسهولة أن أغلب إن لم نقل كل رموز هذا النظام كانوا جلادين (ولو بدرجات مختلفة)، ثم تحولوا إلى ضحايا بعد الانقلاب الأسدي عليهم في تشرين الثاني 1970. " بعد انقلاب الثالث والعشرين من شباط أصبح الوضع في سورية أكثر تطرفاً في جنوحه واستبداده، فقد أعلن هذا العهد على لسان وزير دفاعه حافظ أسد في الخطاب الذي ألقاه على مجموعة من ضباط الجبهة بتاريخ 12 / 5 / 1966: " إن الثورة مصممة على أن تضرب أعداءها، كما أنها مصممة على سحقهم وتصفيتهم تصفية نهائية، مرة واحدة وإلى الأبد "وقال: " إننا نرجو ونتمنى أن يخوضوا معنا المعركة هذه المرة، وإننا بانتظارهم " وقال أيضاً: " وإذا كنا قد وقعنا في الماضي وارتكبنا مثل هذه الأخطاء، وعفونا عندما يجب ألا نعفو، وليس من حقنا أن نعفو، فلن نرتكب مثل هذه الخطيئة مستقبلاً أبداً ". كما أشار إلى أن المجموعة العسكرية التي قامت بانقلاب 23 شباط 1966 قد أجرت تقييماً لكل الفئات السياسية قبل الانقلاب، وكان الاتفاق بالإجماع حول هذا التقييم (جريدة البعث 13 / 5 / 1966). كما أشار أحمد سويدان رئيس الأركان – والذي سيتحول فيما بعد إلى ضحية من ضحايا النظام البعثي – في الاجتماع نفسه إلى التصفيات المستمرة بعد انقلاب شباط في الجيش السوري قائلاً: " إننا لن نسمح بأن تتسلل إلى صفوف الجيش عقيدة أخرى " وكان قد تم في هذه الفترة تسريح أكثر من سبعين ضابطاً من المناصرين للقيادة القومية بينهم ضباط كبار أمثال محمد عمران ومزيد الهنيدي، كما تم تسريح عدد من الضباط بتهمة " البرجوازية " وقد صرح إبراهيم ماخوس – الذي سيتحول بدوره فيما بعد إلى ضحية من ضحايا النظام البعثي - وزير الخارجية لمجلة آخر ساعة (أواخر حزيران 1966): " إن الحزب هو الأساس، وأن الجيش كباقي المؤسسات يجب أن ينظم حزبياً، فهو قطاع شعبي يشارك بالانتخابات ويخضع بالتالي للقيادة السياسية، ولذلك تم تسريح كل الضباط البورجوازيين، واشترط الأصل الشعبي للانتساب للكلية العسكرية "(72). لقد شكل الثنائي عبد الكريم الجندي رئيس مكتب الأمن القومي لسطلة 23 شباط البعثية وابن عم سامي الجندي، وخالد الجندي أخو سامي الجندي، الوجهينالأكثر قبحاً لنظام 23 شباط البعثي 1966،وحيث أن الثنائي الجندي شكلا أبلغ مثالين عن الشخصيات التي لعبت دور الجلاد والضحية في الوقت ذاته. فبعد هزيمة حرب حزيران مع إسرائيل 1967 " طلب بعض أعضاء الحزب استقالة الأسد من منصبه كوزير للدفاع، وإسقاط عضويته في القيادة القطرية لحزب البعث، وطرحت القيادة القطرية ذلك للتصويت في اجتماع طارئ فشل ذلك"(73). فقط بسبب صوت عبد الكريم الجندي. فقد صوت عبد الكريم الجندي ضد قرار الفصل، وهو الأمر الذي رجح كفة التصويت لمصلحة الأسد وأنقذ رأس حافظ الأسد. والمفارقة هنا أن عبد الكريم الجندي كان أول ضحايا حافظ الأسد. فبعد عامين من هذا التصويت وعندما اشتد الصراع بين جناح صلاح جديد الذي كان ينتمي إليه الجندي وجناح حافظ الأسد داخل الحزب،قام حافظ الأسد 1969 من خلال أخيه رفعت الأسد بقتل الجندي في مكتبه وقيدت حينها الجريمة تحت اسم الانتحار. المفارقة الثانية هي أن أساليب التعذيب ومعاقبة المعارضين السياسيين من قبل ضباط المخابرات في ظل نظام 23 شباط بقيادة عبد الكريم الجندي،لم تختلف عما عرفه فيما بعد المعارضون السياسيون السوريون في ظل النظام الأسدي، إن كان في ظل نظام الأسد الأب أو الابن. فبعد انقلاب 23 شباط البعثي 1966، على ما عرف بسلطة القيادة القومية في الحزب، قام منيف الرزاز المنتمي للقيادة القومية المخلوعة عن السلطة بتشكيل لجنة عسكرية سرية معارضة للانقلاب الشباطي، أو ما عرف بانقلاب القيادة القطرية، وقد تولى قيادة هذه اللجنة العسكرية الضابط فهد الشاعر (صاحب مقولة ضرورة إقامة المجتمع المتجانس). " فلم يمض وقت طويل على اختفاء فهد الشاعر بعد انكشاف تنظيمه - كرئيس للجنة العسكرية السرية التي كونتها القيادة القومية بعد انقلاب 23 شباط 1966، حتى ألقي القبض عليه، وقام على تعذيبه مدير المخابرات عبد الكريم الجندي، ويقال: أنه أرغمه على المشي على يديه ورجليه كالحيوانات وركب معذبوه على ظهره، بالإضافة إلى إلقائه في المياه القذرة. أما سليم حاطوم فقد لقي مصرعه بعد عودته من عمان، إثر حرب الخامس من حزيران 1967، لينضم إلى الجيش متصوراً أن عودته لدمشق ستكون موضع ترحيب من قبل حافظ الأسد، وأن علاقته السابقة معه ستشفع له، ولكن ما إن وصل إلى السويداء حتى ألقي القبض عليه وسيق إلى دمشق، ليتولى عبد الكريم الجندي تعذيبه والانتقام منه، حيث دقت عظامه وكسرت أضلاعه. إن الصورة التي تم بها تنفيذ الإعدام بسليم حاطوم، وبدر جمعة وغيره من الضباط العائدين من عمان كانت محزنة جداً، فقد أطلقت عليهم النار بعد تعذيبهم أشد العذاب، وهم في حالة النزع الأخير."(74).
ومثلما أصبحت أذرع المخابرات السورية في ظل نظام الأسد الأب ثم الابن تطارد وتطال المعارضين السياسيين خارج البلاد، ولا سيما في لبنان من خلال بث الرعب والفوضى داخل الساحة اللبنانية، كان الأمر ذاته يحصل في ظل النظام البعثي الشباطي الذي سبقه، يقول أكرم الحوراني في مذكراته: " ومثلما كنا نفعل خلال ديكتاتورية أديب الشيشكلي عندما كنا نطبع المنشورات والنشرات الداخلية في لبنان ثم نرسلها إلى سورية، حاولنا أن نرسل إلى الاشتراكيين العرب من بيروت نشرة داخلية مطبوعة، ولكن هذه النشرة وقعت في أيدي الأمن اللبناني الذي استدعاني وطلب مني محذراً عدم القيام بأي نشاط سياسي في لبنان، كما أخبرت بأن عبد الكريم الجندي رئيس المخابرات السوري هدد المسؤولين اللبنانيين قائلاً: إن تفجير قنبلة في منطقة الحمراء وأخرى في منطقة البرج – وهما المنطقتان اللتان كان يتمثل بهما ازدهار بيروت قبل الحرب الأهلية - يمكن أن يقنع المسؤولين اللبنانيين بمنعي من ممارسة النشاط السياسي في لبنان."(75).
ثم يقول أكرم الحوراني في مذكراته: " من ذكريات تلك الفترة أن شخصاً فلسطينياً زارني ليقول لي: أنه مرسل من قبل عبد الكريم الجندي على رأس مفرزة من عناصر المخابرات هدفها اختطافي، وأن الخطة الموضوعة هي: الاتفاق مع أحد العاملين في مقهى الجندول ليضع مخدراً في قهوتي، وعندما يغمى علي تأتي سيارة إسعاف لحملي رأساً إلى دمشق. ومن الجدير بالذكر أن النظام العسكري البعثي، على اختلاف فئاته (ولا سيما في زمن قيادة رئيس جهاز المخابرات عبد الكريم الجندي)، قد اختطف من لبنان، وحتى من جزيرتي قبرص ورودس، بعض المعارضين السوريين وفي مقدمة المختطفين الضابط مصطفى خليل مؤلف كتاب سقوط الجولان وملفات الجولان"(76).
لقد ارتكب عبد الكريم الجندي " عمليات جنونية من تعذيب واغتيالات، ومما جعله يتمادى في ممارساته أنه كان مدعوماً من صلاح جديد وجماعته الذين كانوا يعتبرونه هاماً للنظام، ويشير باترك سيل في كتابه عن حافظ الأسد، نقلاً عن أسعد كامل الياس مدير مكتب يوسف زعين رئيس الوزراء آنذاك، أن زعين بكى عندما بلغه نبأ موت عبد الكريم الجندي وعلق على ذلك بقوله: لقد تيتمنا "(77).
من جهة ثانية فقد كان خالد الجندي من أبرز الشخصيات والأمثلة البعثية التي تنتمي لما أسميه اليسار المعتوه إيديولوجياً وسياسياًوالتي أخذت موقع الجلاد والضحية في الآن ذاته " لقد روعت سورية ودمشق بصورة خاصة، بعد أحداث السويداء – محاولة سليم حاطوم في أيلول 1966 الانقلاب على صلاح جديد وفي أيار 1967 عندما أضرب تجار دمشق – مما دعاه النظام (بالكتائب العمالية المسلحة) التي كان يشرف عليها خالد الجندي المعين من قبل النظام رئيساً لاتحاد نقابات العمال، فقد تسلمت هذه الكتائب الأسلحة ونزلت إلى الشوارع لتنفذ قرار منع التجول رافعة شعار تصفية أعداء الثورة، متجاوزة كل القوانين، وأصبح ما تفعله هو القانون، فقد طالب خالد الجندي في مجلة الاشتراكي الصادرة في 12 / 9 / 1966 بالاعتراف بقانون واحد هو قانون الثورة، ووصف المتباكين على حرمة القانون والداعين لاحترامه بأنهم من الرجعيين وعملائهم، وأن الهدف من تشكيل هذه الكتائب هو تصفية الرجعيين من أعداء الثورة، وكان الجندي قد هاجم بعض الدوائر الحكومية (منها الهيئة العامة للبترول) متسلحاً بالسلاسل الحديدية وسحب بعض موظفيها عنوة من وراء مكاتبهم بتهمة أنهم من العائلات البورجوازية ... وصرح لجريدة الثورة بأن قوائم قد وضعت بأسماء العائلات البورجوازية التي يجب طرد أبنائها من وظائفهم، ثم قال: لقد طردنا وحجزنا حريتهم فاضطروا لتقديم استقالاتهم، وقدموا ضمانات بأنهم لن يحاولوا العودة إلى أعمالهم ومن يخالف فسوف يتعرض لعقوبة الإعدام. وفي الوقت نفسه، ومن عمان حيث كان لاجئاً إليها بعد أحداث السويداء، صرح خالد الحكيم رئيس اتحاد نقابات العمال، أن الكتائب المسلحة التي روعت المواطنين ليست من العمال بل من جنود اللواء سبعين، وعلى كل حال فإن تصرفات الكتائب المسلحة قد أقلقت سورية – إلى الحد الذي تحول فيه قصر اتحاد العمال في دمشق إلى مكان يتم فيه تعذيب المعتقلين كما يتم في أقبية المخابرات - ويقال بأن زعين – المقصود الدكتور يوسف زعين رئيس الوزراء السوري في ذلك الوقت - كان أول من عارضها وأيده صلاح جديد مما أدى إلى إبعاد الجندي إلى اللاذقية حيث كان من عمال المرفأ، وصدر بيان باسمه يعلن حل هذه الكتائب "(78).
لقد شكل خالد الجندي مثالاً نموذجياً لليسار المعتوه إيديولوجياً وسياسياً، ويمكن القول بأنه لو تسنى لخالد الجندي أو أمثاله البقاء في أعلى هرم السلطة لكان أقام باسم اليسار والشيوعية والفقراء نظاماً عبودياً لا يقل في عتوه وقسوته عن النظام الذي نعرفه الآن في كوريا الشمالية، كما لا يقل في دمويته عن نظام الخمير الحمر " الشيوعي " الذي عرفته كمبوديا في منتصف السبعينيات من القرن العشرين. إن ما عزز قناعتي وتقييمي حول هذا النوع من اليسار المعتوه هو المقال الذي نشرته مجلة الشيوعي الناطقة باسم حزب العمل الشيوعي في سوريا في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي بتوقيع خالد الجندي في زاوية وجهة نظر.حيث نجد أن الجندي يدافعفي هذا المقال عن الستالينية ويبرر بطريقة غير مباشرة كل جرائمها تحت حجة كون الستالينية من وجهة نظره تشكل المثال الأصدق والأدق عن الماركسية الحقة، وهو الأمر الذي يدفعنا للاعتقاد بأن الجندي كان مستعداً- وباسم الماركسية - لو أعطيت له السلطات اللازمة لارتكاب نفس الجرائم التي ارتكبها ستالين في المرحلة التي حكم فيها الاتحاد السوفييتي. إن المفارقة هنا أن بعض البعثيين الذي كانوا في موضع الجلاد ثم أصبحوا في موقع الضحية اعترفوا أو اعتذروا في آخر حياتهم عن أعمالهم السابقة أو عن تفكريهم السابق أو طريقة إدارتهم للحكم سابقاً،ولا سيما بعد أن أدركوا أنهم كانوا يوماً ما في موقع الجلاد حتى ولو بطريقة غير مباشرة. لقد أدرك على سبيل المثال صلاح البيطار بعد أن أصبح من أوائل ضحايا النظام الذي أقامه حزب البعث العربي الاشتراكي. فبعد انقلاب 23 شباط 1966 أعلن انسحابه من الحزب في بيان " نشرته جريدة الجريدة البيروتية بتاريخ 10 / 11 / 1967"(79).من دون أن يعفي نفسه من حمل نصيبه من المسؤولية عما جرى. " وفي أواخر السبعينيات وقبل اغتياله بيوم واحد كتب مقالاً تحت عنوان: عفواً شعب سورية العظيم نادماً ومستغفراً من الشعب السوري "(80).
المفارقة هنا أن صلاح الدين البيطار الذي لم يمنحه المجتمع الدمشقي أصواته كي يفوز في مقعد بمجلس النواب السوري في انتخابات 1961، يعتذر من الشعب السوري ولا يتملص من مسؤوليته مما جرى للشعب السوري في ظل النظام البعثي، في حين نجد أن خالد الجندي الذي روع المجتمع الدمشقي والمدن السورية في النصف الثاني من الستينيات بالكتائب العمالية ونقاباته العمالية الصفراء المشكلة والمهندسة من فوق وتحت إشراف السلطة، لم يعتذر فحسب رغم كل التكاليف التي دفعها من سجن ونفي وملاحقة بل يفتخر كونه مؤمناً ويفتخر بعتهه الأيديولوجي والسياسي. " يمكن القول إن عهد البعث كان أسوأ وأخطر العهود التي مرت على سوريا بعد الانفصال. فمنذ صعوده إلى السلطة في 8 آذار 1963، انتهج سياسة معادية للكرد، يستند في ذلك على وضع مخططات استراتيجية مغلفة بالكثير من الحقد والكراهية السوداء، والإقدام على تنفيذها أمنياً وحكومياً عبر كافة أجهزة الدولة كنوع من الموت البطيء للعنصر الكردي، أو ما يمكن تسميته بالتطهير العرقي الصامت في ظل قانون الطوارئ والأحكام العرفية. لقد التزم البعث عقائدياً بنهج " محمد طلب هلال المدمّر ومشروعه المقترح (الحزام العربي) لتصفية القضية الكردية في سوريا "(81). لم يعترف البعث يوماً بالكرد أو بوجود مسألة قومية كردية في سورية تحتاج إلى حل في إطار وطني ديمقراطي، بل على العكس من ذلك كان يعتبر الكرد " دخلاء " و" ومهاجرين " و " صنيعة الاستعمار والصهيونية " لذا أطلق البعث العنان لمخططاته الأمنية للتعامل مع الملف الكردي (...) ومع مجيء نظام 23 شباط 1966 البعثي لم يتبدل موقف الحكم من القضية الكردية، بل راح يشدد قبضته على الكرد، والقيام بمزيد من الإجراءات التي تخلخل بنية المجتمع السوري، حيث أقدم قادة الحكم الجديد، التيار اليساري المزعوم في البعث، على تنفيذ مخطط محمد طلب هلال تحت يافطة الاشتراكية (ونوع تطهيري وانتقائي وموجه من الإصلاح الزراعي المزعوم في منطقة الجزيرة السورية) لإنهاء الوجود الكردي في سوريا، وقد بدأوا بالخطوات التمهيدية لتنفيذ مشروع الحزام العربي على أرض الواقع. ففي حزيران عام 1966، أبلغ مدراء نواحي ورؤساء المخافر الشرطة الفلاحين الكرد على امتداد الحدود مع تركيا، لمغادرة مناطقهم واختيار مكان جديد للعيش في المناطق الجنوبية ذات الطابع العربي، لذلك اعتبرت المنطقة منطقة أمنية وراحت الدوريات تجوب المنطقة وتبلغ أهالي القرى للضغط عليها لترك أراضيها حتى تستولي عليها الدولة، وتتصرف بها. وفي يومي 20 و21 آب عام 1966 قامت السلطات بحملة اعتقالات كانت الأوسع في تاريخ الحركة القومية الكردية في سوريا والثانية من حيث الترتيب بعد اعتقالات عام 1960 والتي تركزت أساساً في منطقة الجزيرة. شملت معظم الفئات والطبقات الاجتماعية للشعب الكردي في كافة مناطق الجزيرة (...) وفي بداية عام 1967 باشرت السلطات السورية بتنفيذ المرحلة الثانية من الحزام العربي بالهجوم المسلح وبث الرعب والإرهاب بين السكان الكرد واعتقال العديد من الفلاحين بسبب رفضهم المغادرة وتمسكهم بأراضيهم "(82).
صحيح أن طبقة كبار رجال المال - من التجار- ورجال الدين في المدن السورية ولا سيما في العاصمة دمشق لعبوا دوراً كبيراً في حث السوريين لاستقبال حافظ الأسد عندما زار المدن السورية بعد انقلابه 1970، وصحيح أن تجار دمشق بالاشتراك مع كبار رجال الدين هم من نحروا له الخراف أمام الجامع الأموي، وعلقوا لافتات على باب سوق الحميدية في دمشق كتب عليها " طلبنا من الله المدد فأمدنا بحافظ الأسد " إلا أنه علينا الاعتراف أن طبقة التجار ومعهم كبار رجال الدين لم يكن باستطاعتهم بدفع كل هذه الكتلة البشرية التي استقبلت الأسد عندما زار المدن السورية لولا أملهم بالتخلص من فترة الإرهاب والقمع والتضييق على الحريات الشخصية والعامة التي سادت في ظل النظام القديم البعثي الذي مثل نظام الإرهاب اليسار البرجوازي الصغير المعتوه أيديولوجياً وسياسياً.
يقول أكرم الحوراني في مذكراته:" ومن بين تلك المظاهر الاحتفالية كانت مدينة حماه وريفها من أكثر الأماكن حماسة وحشوداً في استقبال حافظ الأسد، ويبدو أن لذلك علاقة فيما تأمله جماهيرها من عودتي إلى سورية، وقد سمعت وأنا في بيروت أصغي لوقائع الزيارة من الإذاعة السورية هتاف عشرات الألوف المجتمعة في ساحة العاصي وهي تطالب بهذه العودة "(83).يشير أكرم الحوراني في مذكراته إلى واقعتين لهما دلالات مهمة:
الواقعة الأولى تدلل على ضيق الأفق اليساري البرجوازي الصغير وخوف سلطة 23 شباط البعثية من الديمقراطية ومن الشعب الذي تحكم باسمه، والواقعة الثانية تدلل على القطار الذي جاء به النظام الأسدي إلى السلطة:
" الواقعة الأولى: عندما وقع الخلاف بين حافظ الأسد وصلاح جديد فقد جاءني إلى بيروت الأستاذ سليمان الخش من القيادة القطرية بسيارته الرسمية وكان وزيراً للتربية والتعليم، كنت جالساً أقرأ في إحدى مقاهي الروشة، فسلم علي بود، وبعد حديث طويل تعرض للخلاف بين صلاح جديد وحافظ الأسد وتحدث عن المأزق الذي وصل إليه النظام العسكري في سورية وسألني عن المخرج فقلت له: لا مجال للخروج من هذا المأزق إلا باتباع النهج الديمقراطي والإقلاع عن حكم الإرهاب والمخابرات والتسليم بالتعددية الحزبية وضمان الحريات العامة والشخصية، فكان جوابه: إن الديمقراطية ستفسح المجال لعودة عفلق والبيطار إلى سورية، كما أن عملاء الاستعمار – يقصد هنا البرجوازية السورية التي أصدر بحقها النظام البعثي الذي جاء في انقلاب 8 آذار 1963 مرسوم العزل السياسي – سيعودون إلى الساحة السياسية، قلت له: إن الديمقراطية هي حق لجميع المواطنين سواء بالنسبة لعفلق أو البيطار أو لغيرهم حيث السيادة للشعب ولحكم القانون .
أما الواقعة الثانية: فهي زيارة المرحوم كمال ناصر لي عندما اشتد الخلاف بين صلاح جديد وحافظ أسد وأصبح على وشك الانفجار. قال لي المرحوم كمال ناصر: إن حافظ أسد استدعاه إلى دمشق وسهر معه حتى الصباح، وطلب منه أن يتصل بي وبميشيل عفلق ويسألنا عن رأينا في الانقلاب الذي سيقوم به ضد حكم صلاح جديد وجماعته، وقبل أن يسمع رأيي قال لي: بأن الانقلاب المزمع القيام به هو انقلاب رجعي وغربي وهذا هو رأي القيادة الفلسطينية، فقلت له: إنني لست حريصاً على بقاء نظام صلاح جديد الديكتاتوري القائم على أجهزة المخابرات ومصادرة الحريات والتعذيب ولا تنس محاولة اختطافي أخيراً من قبل مخابرات عبد الكريم الجندي، فهل تتوقع مني أن أدافع عن بقاء هذا النظام؟؟؟ وبالمقابل هل يمكن أن أفتي لحافظ أسد أن يقوم بانقلاب بينما علمتني التجارب أن أي انقلاب عسكري هو ضد مصلحة سورية وضد الديمقراطية؟ "(84).
في الواقع لم يكن ما سميته بالإرهاب " الثوري " الذي مارسه نظام 23 شباط 1966 على الشعب السوري هو السبب الوحيد الذي سهل ولادة النظام الأسدي في 16 تشرين الثاني عام 1970، بل ينبغي أن نضيف أن مناهضة أبناء المدن لنظام البعث بشكل عام، وتحالف طبقة كبار رجال الدين السنة في المدن السورية الكبرى ومعهم طبقة التجار مع جناح حافظ الأسد داخل السلطة البعثية التي حكمت سوريا بين عامي 1966-1970، كان من أهم العوامل التي سهلت ولادة النظام الأسدي، كما أن هزيمة النظام البعثي أمام العدو الإسرائيلي في حرب 5 حزيران 1967 كانت المقدمة التي عرت وقصمت ظهر البعير البعثي الحاكم لمصلحة جناح حافظ الأسد الذي يمكن القول بأنه:جاء بقطار أمريكي إسرائيلي " ومباركة سوفييتية "(85).
..................................................................................................................................................................................المصادر:
(1). الصفحة 3120 من مذكرات أكرم الحوراني.
(2) الصفحة 3121 المصدر السابق نفسه.
(3). الصفحة 3121 المصدر السابق نفسه.
(4). يقول أكرم الحوراني في مذكراته: إن أهم ما شغل الرأي العام السوري أوائل عام 1965 قضية شبكات التجسس الأمريكية " لقد علقت إحدى النشرات الداخلية للاشتراكيين العرب الصادرة في تلك الفترة على اكتشاف شبكات التجسس الأمريكية ومحاكمة الأتاسي والحاكمي، تحت عنوان أخبار وتعليقات بما يلي : " اعترف الجاسوس فرحان الاتاسي أنه كان يتقاضى راتباً شهرياً قدره / 600 / ل.س من نادر الأتاسي عدا عن أجرة السكن وأن نادر الأتاسي كان ينظم عقوداً تجارية صورية باسم فرحان الأتاسي، وأن هذا الأخير كان يعمل مع قريبه المحامي موفق أتاسي على حل قضايا الشركات الأجنبية المدرجة في القائمة السوداء - لدى مكتب مقاطعة إسرائيل - والذي لفت انتباه الناس أن الوقائع لم تشر إلى استدعاء (المليونير) نادر الأتاسي أو موفق الأتاسي فلماذا؟ ومما تجدر الإشارة إليه أن ميشيل عفلق كان قد عقد المؤتمر الخامس للقيادة القومية في دار فرحان الأتاسي بالذات بينما (تبرع) المليونير نادر الأتاسي بمنزله لنوم القادة المؤتمرين وإطعامهم، وفي هذا المؤتمر تمت مؤامرة تمزيق الحزب وطرد قادة الاشتراكيين الأحرار وعلى رأسهم أكرم الحوراني. إن المحاكمة قفزت فوق هذه الفضائح والشعب يطالب الشرفاء في الحكم وكشف ما طمس بفتح تحقيق جديد " ص 3387 من مذكرات أكرم الحوراني.
(5). الصفحة 3136 المصدر السابق نفسه.
(6). الصفحة 3247 المصدر السابق نفسه.
(7). الصفحة 3245- 3256 المصدر السابق نفسه.
(8).الصفحة 3247 المصدر السابق نفسه.
(9).الصفحة 3456 المصدر السابق نفسه.
(10).الصفحة 3258- 3289 المصدر السابق نفسه.
(11).الصفحة 3502 المصدر السابق نفسه.
(12).الصفحة 3184 المصدر السابق نفسه.
(13)." مع عام 1944، كان أنصار الأرسوزي قد ابتعدوا عنه، وربما وجدوا عنصريته غير مرضية فكرياً، أو ربما ظنوا أنه لم يكن عملياً بما يكفي. علاوة على ذلك، كان تأثر الأرسوزي بالفقر الذي غرق فيه تأثيراً شديداً: فقد منعه الفرنسيون من التعليم في أي مدرسة عامة أو خاصة، وعاش في عام 1941 في منزل متواضع في حي السبكي في دمشق مع سبعة أو ثمانية من تلامذته اللوائيين، وكان مثلهم ينام على الأرض، ويستخدم الكتب وسائد، وكان يعيش على صحن يومي من الحمص. وصار مكتئباً متوتر الأعصاب مع حس بالمرارة، وأخذ يسيطر عليه الإحساس بالاضطهاد وبات يشك حتى في أتباعه. " من كتاب حنّا بطاطو كتابه فلّاحو سورية أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم الصفحة 266 ترجمة عبد الله فاضل ورائد النقشبندي، منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الطبعة الأولى 2014.
(14).الصفحة 3140 من مذكرات أكرم الحوراني.
(15).الصفحة 266- 267 من كتاب حنّا بطاطو كتابه فلّاحو سورية أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم.
(16).من مقال كمال خلف الطويل ساهم في تحريره في موسوعة المعرفة تحت عنوان اللجنة العسكرية للبعث السوري.
(17).الصفحة 3142 من مذكرات أكرم الحوراني.
(18). لمعرفة المزيد حول التفاصيل راجع ص 3144- 3143 من مذكرات أكرم الحوراني.
(19).الصفحة 3729 المصدر السابق نفسه.
(20).الصفحة 3249 المصدر السابق نفسه.
(21).الصفحة 3327-3330 المصدر السابق نفسه.
(22).ان الاقتصاد السوري تميز عام 1962 بزيادة محسوسة بالدخل القومي بلغت 350 مليون ليرة بحيث بلغ الدخل (2،750) مليارين وسبعمائة وخمسين مليون ليرة، وذلك بسبب زيادة الإنتاج الزراعي لجودة الموسم، ونشاط الحقل الصناعي وحركة المطار والفعالية التجارية... ان هذا العام تميز باستقرار اقتصادي وثبات قوة النقد السوري رغم الاستيرادات والنفقات غير المنظورة مما يجعل عام 1963 أكثر ازدهارا في مختلف النشاطات الاقتصادية) ص 3228 من مذكرات أكرم الحوراني.
(23).الصفحة 3219- 3222 من كتاب مذكرات أكرم الحوراني.
(24).الصفحة 3250 المصدر السابق نفسه.
(25).يقول أكرم الحوراني في مذكراته في الصفحة 3475 " في أواخر شهر آب 1965 تم تعيين المجلس الوطني الموسع من خمسة وتسعين عضواً من ممثلي القيادة القومية والقطرية ومن أعضاء حزب البعث والمستقلين ومن ستة عشر ضابطاً من بينهم اللواءان صلاح جديد وحافظ أسد، وقد دخل ميشيل عفلق في اليوم الأول لانعقاد هذا المجلس بتاريخ 1 / 9 / 1965 قاعة المجلس النيابي السوري بمظاهرة احتفالية، هذا المجلس الذي حرمه الشعب من دخوله طيلة العهود الديمقراطية. لقد سقط ميشيل عفلق في الانتخابات مرتين في عامي 1947، 1949 فشكل هذا السقوط لديه عقدة نفسية من الطريقة الديمقراطية التي تقضي بانتخابات النواب من قبل الشعب ".
(26).الصفحة 3475 المصدر السابق نفسه.
(27).صفحة 36 من كتاب " قضايا وشهادات الحداثة – 1 – عصام خفاجي.
(28).جاء في الموسوعة الدمشقية عن ثريا الحافظ ثريا الحافظ (1911- 2000)، مدرسة سورية من دمشق، قادت الحركة النسائية في الخمسينات وكانت أول امرأة تخلع الحجاب تيمناً بالرائدة المصرية هدى الشعراوي، وأول سيدة سورية تترشح لمجلس النواب سنة 1953. وهي زوجة الصحفي منير الريّسن صاحب جريدة بردى. ولدت ثريا الحافظ في دمشق وكان والدها الأميرلاي أمين لطفي الحافظ من الضباط العرب في الجيش العثماني. وقد تم إعدامه شنقاً في ساحة الشهداء ببيروت يوم 6 أيار 1916، بأمر من الحاكم العثماني جمال باشا. درست الحافظ في مدرسة دار المعلمات وتخرجت منها سنة 1928 لتعمل مدرسة لمادة اللغة العربية ثم مديرة في تجهيز البنات بدمشق. وكانت في شبابها من أنصار الزعيم الوطني الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، زعيم الحركة الوطنية السورية. شاركت ثريا الحافظ في كل المظاهرات النسائية التي خرجت ضد الاحتلال الفرنسي في دمشق وكانت أول سيدة تخلع الحجاب علناً أمام السراي الكبير في ساحة المرجة سنة 1936، تيمناً بالرائدة المصرية هدى شعراوي. وكانت تكتب مقالاً أسبوعياً في جريدة بردى التي كان يملكها ويديرها زوجها منير الريّس، مطالباً بتحرير المرأة من قيد المجتمع الذكوري سياسياً واجتماعياً. وخلال القصف الفرنسي على مدينة دمشق يوم 29 أيار 1945، أسست ثريا الحافظ " دار كفالة الفتاة " من أجل مساعدة بنات شهداء العدوان. وقد استمرت هذه الجمعية حتى عام 1965. اجتمعت ثريا الحافظ مع قائد الانقلاب الأول حسني الزعيم سنة 1949 وكانت على رأس وفد من نساء دمشق يطالب أعضاءه بإعطاء المرأة حقوقها السياسية، منها حق الانتخاب وحق الترشح للمجلس النيابي. وفي سنة 1953 كانت ثريا الحافظ أول سيدة سورية تترشح لمقعد نيابي في الانتخابات البرلمانية التي تمت في عهد الرئيس أديب الشيشكلي ولكنها لم تنجح بسبب محاربة المجتمع الذكوري. وفي نفس السنة أسست حلقة أدبية في منزلها سميت منتدى سكينة الأدبي، حضرها كبار الشخصيات الوطنية والأدبية فخري البارودي وخليل مردم بك والأمير مصطفى الشهابي. كما أسست جمعية رعاية الجندي سنة 1965 وشاركت بالمقاومة الشعبية التي انطلقت من دمشق دعماً للرئيس جمال عبد الناصر خلال حرب السويس. وقد أيدت الرئيس عبد الناصر تأييداً مطلقاً سنة 1958، ودعمت قيام الوحدة السورية المصرية. وعند انهيارها وقفت في وجه قادة الانفصال ووصفتهم بالخونة. وفي يوم انقلاب 8 آذار 1963، قادت مظاهرة باتجاه منزل رئيس الحكومة خالد العظم، مطالبة بسحله كما سحل ثوار العراق رئيس حكومتهم نوري السعيد، وذلك بسبب كونه جزءاً من حكم الانفصال وموقفه السلبي من الوحدة ورئيسها. ويمكن أن نضيف على ما جاء في الموسوعة الدمشقية أنها كانت اول شبيحة سياسية في سورية، فموقفها يذكرنا بالشبيحات الأسديات في مدينة طرطوس الذين استقبلوا أمام فرع أمن الدولة في طرطوس سيارات الأمن التي تقل معتقلي الثورة السورية من مدينة بانياس في ربيع عام 2011 وهم يهتفون بالموت وضرورة إعدام هؤلاء المعتقلين.
(29).الصفحة 3262 من مذكرات أكرم الحوراني.
(30).يقول أكرم الحوراني في مذكراته ص 3468 " خلال إقامتي في باريس، وبعد انقلاب 23 شباط 1966 زارني عدد من المهندسين السوريين وبينهم مختصون في شؤون البترول فأخبروني بأن حكومة زعين التي تشكلت بعد هذا الانقلاب عازمة على إلغاء اتفاقية تمديد أنابيب النفط مع الشركات البريطانية، وأن اتفاقاً جديداً مزمعاً عقده مع مجموعة من الشركات الإيطالية، وأن هذا العقد الجديد سيوفر على الحكومة السورية مبلغاً يقارب الأربعين مليون ليرة سورية (...) لقد لفت نظري في حديث المهندسين الفارق الكبير في الأسعار بين الاتفاقيتين مما لا يمكن أن يحدث بدون رشاوى لعدد من المسؤولين وهي الشائعة التي راجت عند عقد الاتفاقية مع الشركات البريطانية وتناولت عدداً من القيادات البعثية العسكرية والمدنيةبينهم وزير الدفاع حمد عبيد والضابط رفعت الأسد (لاحظ هنا أن رفعت الأسد كان لصاً منذ نعومة مخالبه)، وأحد أعضاء مجلس الرئاسة، ووزير الاقتصاد هشام العاص وبعض أعضاء القيادة القومية اللبنانيين والعراقيين ولكن لا يوجد دليل يؤيد ذلك " ص 3468 من مذكرات أكرم الحوراني.
(31).الصفحة 3442 المصدر السابق نفسه.
(32).الصفحة 3448 المصدر السابق نفسه.
(33).الصفحة 3277 من مذكرات أكرم الحوراني، ولمن يريد معرفة الصحف المصادرة فما علية سوى مراجعة مذكرات أكرم الحوراني ص 3277.
(34).الصفحة 3257- 3258 من مذكرات أكرم الحوراني.
(35).الصفحة 3278 من مذكرات أكرم الحوراني.
(36). جمال الاتاسي هو من ضحايا تلك السلطة البعثية والسياسي السوري الذي يصح ان نقول انه لدغ من الجحر مرتين مرة بهذا التصريح والمشاركة بالسلطة البعثية الانقلابية والمرة الثانية لدخوله عام 1972 بالجبهة الوطنية التقدمية التي شكلها النظام الاسدي بعد انقلاب 1970.
(37).الصفحة 3278 – 3279 من مذكرات أكرم الحوراني.
(38).الصفحة 3279 من مذكرات أكرم الحوراني.
(39).الصفحة 3280- 3281 المصدر السابق نفسه.
(40).يقول أكرم الحوراني في مذكراته ص 3282 " لقد تعرفت على المقدم صبحي يعقوب وزوجته الحموية في نيسان 1966 في مدينة ستراسبورغ، وكانا منتسبين الى جامعتها، وذلك بعد الافراج عني من سجن المزة وسفري الى فرنسا للتداوي، فسألت المقدم يعقوب عن سبب تسريحه من الجيش فقال: لأنني من أصل شركسي. ثم ذكر الدورات المتعددة التي حضرها في مجال هندسة الميكانيك ولا بد من الإشارة الى ان القرى الشركسية الواقعة بين حمص وحماه التي يقطنها الشرك منذ العهد العثماني قد انتسب معظم افرادها للحزب العربي الاشتراكي منذ تأسيسه.)
(41). الصفحة 3281- 3282 من مذكرات أكرم الحوراني.
(42).الصفحة 3283 من مذكرات أكرم الحوراني. لمن يريد معرفة هذه القوائم عليه مراجعة مذكرات أكرم الحوراني ص 3283 – 3284.
(43).الصفحة 3293 من مذكرات أكرم الحوراني.
(44).الصفحة 3495 من مذكرات أكرم الحوراني ومن يريد معرفة قائمة من تم اعتقالهم مراجعة الصفحة 3495- 3496 من مذكرات أكرم الحوراني.
(45).الصفحة 178- 179 من كتاب الأسد الصراع على الشرط الأوسط تأليف باترك سيل منشورات شركة المطبوعات للتوزيع والنشر الطبعة العاشرة 2007.
(46).صفحة 312- 313 من كتابه " فلاحو سورية ... أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شاناً وسياساتهم " تأليف حنّا بطاطو ترجمة عبد الله فاضل ورائد النقشبندي. الناشر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الطبعة الأولى 2014.
(47).صفحة 301-302 من كتاب " فلّاحو سورية ... أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم " تأليف حنّا بطاطو ترجمة عبد الله فاضل ورائد النقشبندي. الناشر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الطبعة الأولى 2014.
(48).صفحة 302 نفس المصدر السابق نفسه.
(49).صفحة 302 نفس المصدر السابق نفسه.
(50).على أثر انقلاب 8 آذار تم تشكيل المجلس الوطني الأول وتألف من: ثلاثة بعثيين هم: محمد عمران وصلاح جديد وموسى الزعبي، وأربعة ناصريين هم: راشد القطيني وفواز محارب وكمال هلال ودرويش الزوني واربعة مستقلين هم: لؤي الأتاسي ذو الهوى الناصري (رئيساً للمجلس الوطني المشكل) وزياد الحريري وغسان حداد وفهد الشاعر. موسوعة المعرفة مقال بعنوان " اللجنة العسكرية للبعث السوري " ساهم بشكل رئيسي في تحريره كمال خلف الطويل الجزء الثاني.
(51).صفحة 105 من كتاب " سورية في عهدة الجنرال الأسد " تأليف دانييل لوغاك.
(52)." على عكس أعضاء المكتب التنفيذي للبعث القديم الذين كانوا قبل " الاندماج " في الاشتراكيين العرب في عام 1952، من أصل حضري وسنّي بالدرجة الأولى (انظر الجدولين (11- 1) و(11- 2))، كانت المجموعة الداخلية من اللجنة العسكرية بين عامي 1960 و1965 بكاملها من القرى والبلدات الريفية وتنتمي الى طوائف ابتداعية. ولم يشكل الضباط السنّة، ومعظمهم من أصول ريفية، سوى 20 في المئة عشية انقلاب آذار/ مارس عام 1963، و50 في المئة بين تموز/يوليو 1963 وكانون الأول / ديسمبر 1964 من مجموع أعضاء اللجنة، مقارنة بمشاركة سنّية تصل إلى 75 في المئة في المكتب التنفيذي للبعث القديم في عام 1945 (انظر الجدولين (11—2) و(12- 2)). علاوة على ذلك، من بين الأشخاص التسعة عشر الذين خدموا في هذه اللحظة أو تلك في (اللجنة العسكرية)، لم يكن سوى 26,5 في المئة من المدن السورية الرئيسة (انظر الجدول (12- 2)). الصفحة 283 من كتاب " فلّاحو سورية ... أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم " تأليف حنّا بطاطو ترجمة عبد الله فاضل ورائد النقشبندي. الناشر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
(53)." استطاعت اللجنة العسكرية أن تنفذ إلى أحشاء التجمعات الناصرية العسكرية وهي ترتقب منها تحركاً مضاداً يوفر لها الغلبة على البعث خصوصاً بعد تسارع وتعاظم التسريحات وذلك عبر أحد عملائها الرائد محمد النبهان الذي استطاع أن يحوز ثقة قائد هذه التجمعات العقيد جاسم علوان ومنه عرفت باليوم والساعة ما يمور في أجوائهم من نقمة وما بدؤوا في الترتيب له من تحرك ". المصدر موسوعة المعرفة مقال بعنوان " اللجنة العسكرية للبعث السوري " ساهم بشكل رئيسي في تحريره كمال خلف الطويل (الجزء الثاني).
يقول أكرم الحوراني في مذكراته الصفحة 3296 حول هذا الموضوع " أما السبب الثاني لفشل محاولة جاسم علوان الانقلابية فهو أنها كانت مخترقة من قبل النقيب محمد نبهان الذي كان مخبراً (للجنة العسكرية البعثية السرية) وهو ما جعل قيادة البعث تتخذ كل التدابير لإفشال المحاولة "
(54). الصفحة 3291 - 3292 من مذكرات أكرم الحوراني.
(55).موسوعة المعرفة مقال بعنوان " اللجنة العسكرية للبعث السوري " ساهم بشكل رئيسي في تحريره كمال خلف الطويل الجزء الثاني.
(56). الصفحة 3297 من مذكرات أكرم الحوراني
(57).الصفحة 165 من كتاب الأسد ... الصراع على الشرق الأوسط. تأليف باترك سيل. منشورات شركة المطبوعات للتوزيع والنشر. الطبعة العاشرة 2007
(58).الصفحة 3296 من مذكرات أكرم الحوراني.
(59).من مقال ساهم بشكل رئيس في تحريره كمال خلف الطويل في موسوعة المعرفة العربية تحت عنوان اللجنة العسكرية للبعث السوري.
(60).من المفيد هنا الاطلاع على مقال صادق الطائي في القدس العربي بتاريخ 14 يناير 2017 بعنوان بعث العراق والقطار الأمريكي ... محاولة تفكيك.
(61).الصفحة 3301 من مذكرات أكرم الحوراني.
(62). صفحة 304 من كتاب " فلّاحو سورية ... أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم " تأليف حنّا بطاطو ترجمة عبد الله فاضل ورائد النقشبندي. الناشر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الطبعة الأولى 2014.
(63).يقول حنا بطاطو في كتابه المشار إليه أعلاه " من العوامل التي كثيراً ما تقدم في هذا الخصوص السياسة الموجهة نحو الأقليات التي اتبعها الفرنسيون بين عامي 1921 و1945. ومن الصحيح بالفعل أنه من بين كتائب المشاة الثماني في القوات الخاصة العاملة في سورية تحت الانتداب الفرنسي تألفت ثلاث كتائب بالكامل أو في الأساس من العلويين، ولم يدخل في تركيبها أي عربي سني. ومن الصحيح أيضاً أن من بين سرايا الخيالة الاثنتي عشرة التي تتوافر عنها البيانات، تألفت واحدة فقط هي السرية 24، من عرب سنّة ريفيين من دير الزور والرقة، وضمت اثنتان، هما السريتان 21 و25 بعض العناصر العربية السنية من قبيلة شمر أو من مدينتي إدلب وحمص. وجميع الوحدات الأخرى كانت من الدروز أو الشركس أو الأكراد أو الآشوريين أو الأرمن أو الإسماعيليين" الصفحة – 304- 305.
(64).الصفحة 304 نفس المصدر السابق
(65).الصفحة 196 من كتاب تطور المجتمع السوري (1831- 2011) تأليف نشوان الأتاسي.
(66).الصفحة 305-307 من كتاب " فلّاحو سورية ... أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم " تأليف حنّا بطاطو ترجمة عبد الله فاضل ورائد النقشبندي. الناشر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الطبعة الاولى 2014.
(67).الصفحة 3368 من مذكرات أكرم الحوراني.
(68).الصفحة 3368 من مذكرات أكرم الحوراني.
(69).من المؤكد أن حافظ الأسد لم يؤمن يوماً بالإيديولوجيا والفكر الشيوعي، فعقله البراغماتي وشخصيته الميكافيلية البارعة والفريدة كانت تدفعه للعمل في أي اتجاه يخدم صعوده في هرم الحزب والسلطة البعثية، لقد كان يعلم بأن الرياح تسير وتهب لمصلحة يسار البعث داخل السلطة البعثية، وكان عليه ركوب الموجة بأي وسيلة وطريقة كونها أقصر وأسهل طريق للوصول إلى أعلى درجات سلم السلطة، لهذا كان طبيعياً أن يبيع في البداية رفيقه في اللجنة العسكرية البعثية السرية محمد عمران بعد أن تبين أنه أقرب إلى تيار القيادة القومية لمصلحة رفيقه صلاح جديد الذي أصبح يقود تيار اليسار داخل اللجنة العسكرية البعثية السرية ، ثم في مرحلة ثانية كان عليه بيع رفيقه صلاح جديد لمصلحة خطه ومشروعه السياسي ولمصلحة تفرده وتحكمه المطلق بالسلطة.
(70).الصفحة 3376 من مذكرات أكرم الحوراني.
(71).الصفحة 151 من كتاب الأسد ... الصراع على الشرق الأوسط، تأليف باترك سيل، منشورات شركة المطبوعات للتوزيع والنشر الطبعة العاشرة 2007.
(72).الصفحة 3483- 3484 من مذكرات أكرم الحوراني.
(73).من دراسة بعنوان " استيلاء حافظ الأسد على السلطة رغم هزيمة 1967: أهمية الأصدقاء والولاء والخوف في أنظمة البعث للكاتب مروة كانيا ترجمة أحمد عيشة منشورات مركز حرمون للدراسات المعاصرة.
(74).الصفحة 3502 من مذرات أكرم الحوراني.
(75).الصفحة 3570 من مذكرات أكرم الحوراني.
(76).الصفحة 3576 – 3577 من مذكرات أكرم الحوراني... لمن يريد معرفة الشخصيات التي تم اختطافها في تلك الفترة مراجعة مذكرات أكرم الحوراني الصفحة 3577.
(77). الصفحة 3581 من مذكرات أكرم الحوراني.
(78).الصفحة 3501- 3502 من كتاب مذكرات أكرم الحوراني. كما يقول حنا بطاطو في كتابه فلّاحو سورية الصفحة 328 " غير أنه لم يقبل آب التالي حتى حل جديد الكتائب وصادر أسلحتها، زاعماً، باسم القيادة القطرية لحزب البعث، أنها " قد أنشئت من دون علم الحزب" وأن قائدها استخدمها ل " غاياته الخاصة" ول " إرهاب المواطنين وتجريدهم من حريتهم ". واتهم الجندي أيضاً، من بين أمور أخرى، ب " تسليم الاتحاد العام لنقابات العمال إلى الاتحاد الدولي لنقابات العمال الذي تسيطر عليه الأممية الشيوعية " من دون الحصول على موافقة الجمعية العامة للاتحاد كما يقتضي نظامه الداخلي ".
(79). الصفحة 3146 من مذكرات أكرم الحوراني
(80).الصفحة 3147 من مذكرات أكرم الحوراني.
(81).محمد طلب هلال هو الملازم أول رئيس الشعبة السياسية في الحسكة، قدم للسلطة البعثية مشروع ما عرف بالحزام العربي بتاريخ 11 / 12 / 1963 وفي هذا الهامش أعرضملخصاً لأهم المقترحات التي جاءت في هذا المشروع التطهيري، 1 – أن تعمد الدولة إلى عمليات التهجير إلى الداخل، مع التوزيع في الداخل، ومع ملاحظة عناصر الخطر أولاً فأولاً، ولا بأس أن تكون الخطة ثنائية أو ثلاثية السنين....2 – سياسة التجهيل: أي عدم إنشاء مدارس أو معاهد علمية في المنطقة... 3- إن الأكثرية الساحقة من الأكراد المقيمين في الجزيرة يتمتعون بالجنسية التركية. فلا بد لتصحيح السجلات المدنية، وهذا يجري الآن...4 سد باب العمل: لا بد لنا أيضاً مساهمة في الخطة من سد أبواب العمل أمام الأكراد...5 – شن حملة من الدعاية الواسعة بين العناصر العربية ومركزة على الأكراد...6- نزع الصفة الدينية عن مشايخ الدين عند الأكراد...7- ضرب الأكراد بعضهم، وهذا سهل... 8- إسكان عناصر عربية وقومية في المناطق الكردية على الحدود...9- جعل الشريط الشمالي للجزيرة منطقة عسكرية كمنطقة الجبهة...10 – إنشاء مزارع جماعية للعرب الذين تسكنهم الدولة في الشريط الشمالي...11- منع السماح لمن لا يتكلم اللغة العربية بأن يمارس حق الانتخابات والترشح في المناطق المذكورة 12- منع إعطاء الجنسية السورية مطلقاً لمن يريد السكن في تلك المنطقة...( لمن يريد معرفة المزيد عن مشروع الحزام العربي مراجعة دراسة محمد طلب هلال المنشور على موقع wekhevi.
(82). مقتطفات من دراسة للكاتب عمر رسول تحت عنوان الكرد والاعتقال السياسي في سورية (1920-2017) نشرت في العدد الثاني من مجلة قلمون للدراسات المعاصرة. كما نشرت في موقع مدارات كردية بتاريخ 27 / 5 / 2018.
(83).الصفحة 3581- 3582 من مذرات أكرم الحوراني
(84).الصفحة 3579 من مذكرات أكرم الحوراني.
(85).يقول عبد المنعم علي عيسى في مقال في جريدة الأخبار اللبنانية نشر بتاريخ 22 / كانون الأول / 2021 تحت عنوان المسكوت عنه في العلاقة الروسية السورية " يروي يوسف زعين رئيس آخر وزارة في عهد صلاح جديد لصحافي مصري بعيد خروجه من السجن لدواع صحية أن السفير السوفياتي في دمشق كان قد زار صلاح جديد يوم 15 تشرين الثاني من هذا العام الأخير في مقر احتجازه قبل يوم واحد من إعلان حافظ الأسد عن انقلابه على رفاق الأمس، وفي ذلك اللقاء عرض السفير على جديد القبول بالقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن في أعقاب حرب حزيران 1967 في مقابل وقف إجراءات الانقلاب وعودة الأمور إلى مجاريها، لكن الأخير رفض بشدة، فسارت الأمور في اليوم التالي نحو إعلان الأسد عن " قيام الحركة التصحيحية ".
أولاً: قطع صيرورة التطور الطبيعي والركوب في القطار الأمريكي:
ربما يتساءل كل متابع لهذا البحث عن سبب تناولي لأكثر من مرة العنوان المتعلق بسيرورة الصراع البعثي على السلطة في الفترة الواقعة(1963-1970). إن جوابي على هذا السؤالله عدة أسباب حيث يأتي في مقدمتها:
أولاً: كونها الفترة التي عرفت فيها الساحة السورية حدثاً مفصلياً في تاريخها الحديث، وهو الحدث الذي تمثل بمشهد وسيرورة قطع صيرورة التطور الطبيعي الاقتصادي والسياسي والثقافي والحضاري للمجتمع السوري.
ثانياً: كون منهج التناول المركب والمعقد الذي أتناول من خلاله كل فصول هذا البحث لا يقتضي ضرورة معالجة وتسليط الضوء على كل العناصر والوجوه الداخلة في تركيب لوحة الصراع السياسي فحسب، بل يقتضي هذا المنهج على ضرورة التركيز على تأثير كل عنصر من العناصر الداخلة في لوحة الصراع على غيره من بقية العناصر المشكلة للوحة الصراع الكلية.
ثالثاً: كون تناول وجه أو عنصر من عناصر الصراع وإغفال بقية الوجوه والعناصر مع إغفال تأثير بعضها على بعض هو ما ساد في السنوات الأخيرة في سلسلة من الأبحاث والكتب المليئة بالقذارات الفكرية والطائفية التي انفجرت ورميت - بتمويل خارجي أو بتمويل من عقل مريض سياسياً أو طائفياً أو ثقافياًوإيديولوجياً- في وجوه السوريين كمن يصب الزيت على النار المشتعلة داخل المجتمع السوري منذ عقود، تارة على شكل نار ملتهبة وظاهرة، وتارة على شكل نار متجمرة تحت الرماد.
رابعاً: إن من يتابع أغلب الأبحاث والكتب التي تناولت هذه الفترة من تاريخ سوريا يجد أن أغلبها سعت إما إلى شيطنات بالجملة لشخصيات وتيارات سياسية، وأحياناً كيانات دينية ومذهبية من دون تمييز بين الصالح والطالح في مقابل جعل بعض الشخصيات والتيارات والكيانات وكأنها ملائكة طاهرة ومنزهة عن أي خطأ أو خطيئة، وحيث أن أي دراسة موضوعية متأنية ستجد من وجهة نظري أن جميع التيارات السياسية والكثير من الشخصيات الحزبية كانت مسؤولة عن الوصول إلى الحالة الأسدية، أو إلى النظام الأسدي ولا يغير من هذا القول حجم هذه المسؤولية بين هذا التيار أو ذاك أو بين هذه الشخصية أو تلك. ولا أقصد هنا مسؤولية التيارات وشخصيات داخل حزب البعث العربي الاشتراكي الذي قفز إلى سدة السلطة في 8 آذار 1963، عن طريق العسكر - وهو الموضوع الأساسي في هذا البحث - فحسب بل المقصود كل التيارات السياسية والطبقية التي كان يتشكل منها المشهد السياسي والطبقي والفكري في تلك المرحلة من التاريخ السوري، فباستثناء الكتلة السياسية والطبقية البرجوازية التي كان يمثلها خالد العظم منذ أواسط الخمسينيات من القرن العشرين كما كان يمثلها عشية هذا الانقلاب - وتم عليها الانقلاب - وكذلك الكتلة السياسية التي كان يمثلها أكرم الحوراني تحت اسم الاشتراكيين العرب والتي عارضت هذا الانقلاب ولم تشارك فيه ولا بتغطيته سياسياً– ولا سيما الكتلة التي ظلت وفية من الناحية السياسية لأكرم الحوراني - فإن كل التيارات السياسية التي كانيتشكل منها المشهد السياسي خلال عقد الستينيات من القرن العشرين – بعثيين وناصريين وإسلاميين وشيوعيين - كانت مسؤولة ولو بدرجات مختلفة ومتفاوتة في الوصول إلى النظام الأسدي من جهة أولى،أو المساعدة على تثبيت واستمرارهذا النظام في السنوات الأولى لوجوده على الأقل من جهة ثانية.
خامساً: إن تكرار تناولي لهذه الفترة من التاريخ السوري هو ضرورة منهجية لا يقتضيها منهج التناول المركب والمعقد في الفلسفة وفي علم الاجتماع السياسي فحسب،بل تأتي كضرورة ودعوة لإدخال ما أسميه الفيزياء السياسية (الإحساس الفيزيائي بما هو سياسي أو الإحساس الفيزيائي بالتاريخ ) كأحد الأدوات المعرفية والمنهجية التي ينبغي إضافتها إلى علم الاجتماع السياسي، وحيث تأتي بعض مفاهيم الكيمياء والفيزياء والهندسة والميكانيك والديناميك والستاتيك...إلخ من أنواع العلوم في المعرفة لتشكل أدوات معرفية ينبغي استخدامها في تناول أي من قضايا علم الاجتماع السياسي، أو لنقل: عند تناول البناء التاريخي أو السياسي لمرحلة أو عصر أو حقبة من التاريخ لم نعاصرها ونعيش فيها. فعلى سبيل المثال إذا أردنا أن نكون فكرة دقيقة عن صورة وتفاصيل بناء قائم في الفراغ لم ندخل إليه ولم نعش فيه من قبل، فهذا يقتضي منا كي تكون الصورة مفهومة وأقرب إلى الواقع وأكثر موضوعية تبيان ورسم صورة الوجوه الأربعة التي تشكل واجهات هذا البناء، كما يقتضي إحداث مقاطع طولية وعرضية،ومقاطع شاقولية وأفقية في أكثر من محور من محاور البناء وفي أكثر من عنصر حتى نستطيع رؤية وتكوين صورة واقعية ودقيقة لا عن كل العناصر الداخلة والحاملة والمشكلة لهذا البناء فحسب، بل كذلك تعطينا هذه المقاطع فكرة عن علاقة وترابط هذه العناصر بعضها مع بعض ودور كل منها وتأثيره على بقية العناصر. إن ضرورة تناول البناء والعمارة التاريخية لأي حقبة أو عصر من التاريخ السياسي وفق هذا المنطق والمنهج،لا تقتضيه فوائد المعرفة الموضوعية والواقعية التي تسمح لنا بمكاشفة عامة وشاملة وحقيقية عن تلك المرحلة فحسب، بل تقتضيه ضرورة تكوين النواظم الأخلاقية التي تشكل مرجعية دائمة لكل ما هو أخلاقي وسياسي عبر مراحل تطور أي مجتمع. وهنا يمكن القول: إن الشعوب التي تعجز عن هذه المكاشفة الشاملة النقدية لمحطات تاريخها،فإنها تعاني دائماًمن أزمة ومحنة أخلاقية في كل أزمة سياسية تواجهها في حاضرها ومستقبلها. فتاريخنا القديم والوسيط والحديث مليء بالتيارات والشخصيات الأسطورية التي لا يأتيها الخطأ من أي جانب ولا يسمح بالاقتراب منها ونقدها تحت طائلة التخوين والتكفير وما شابه ذلك، كما أن تاريخنا مليء من جهة أخرى بالتيارات والشخصيات الشيطانية التي لا يأتيها الصواب ولا تعرف الخير من أي جانب، والأخطر من ذلك أن من هو في موقع البطل الإيجابي في عين هذه الجهة يكون في موقع الشيطان في عين جهة أخرى. ولهذا كله يبدو تاريخنا وكأنه مجموعة من الأكاذيب والتلفيقات البعيدة عن الموضوعية والواقعية، ولهذا كذلك تنام شعوبنا وتصحوفي كل يوم على بحر من الأكاذيب والأحلام الوردية الخيالية، حيث أن من يشكلون قدوتها في الماضي هم محض أوهام تم رسمها وتصنيعها في مختبرات الأسطرة الإيجابية أو السلبية والتي لم تتناول يوما التاريخ في كل مراحله إلا تحت تأثير أهواء ذاتية أو أيديولوجية مضللة لا تعرف الموضوعية ولا تعرف المناهج والأدوات المعرفية الصحيحة واللازمة لرسم حقيقة التاريخ في أي من مراحله المختلفة. على هذا الأساس يمكن التعقيب على قول القيادي البعثي العتيق سامي الجندي:" حول امتلاء دوائر الدولة بأصحاب القاف المقلقلة " أو أي قيادي بعثي آخريحاول الهروب والتملص من مسؤوليته التاريخية في التمهيد للوصول إلى الحالة الأسدية أو لنقل وصول النظام الأسدي عام 1970،أقصد هنا أولئك الذين تمت عملية استبعاده ممن سلطة البعث إن كان قبل أو بعد مجيء النظام الأسدي،أو تمت عملية حرمانهممن الحياة من خلال القتل أو السجن حتى الموت أو حرمانهم السياسي من خلال النفي والمطاردة إلى خارج حدود البلاد أو المطاردة والملاحقة داخل حدود الوطن،وحيث أن أغلب هؤلاء إن لم نقل كلهم كانوا بالأساس من المشاركين في عملية قطع صيرورة التطور الطبيعي للمجتمع السوري من خلال التغطية السياسية والنظرية لانقلاب 8 آذار البعثي العسكريعام 1963وكل الإجراءات التي أعقبت هذا الانقلاب في أيامه وأسابيعه وأشهره وسنواته الأولى، وحيث أن الكثير منهم - وبعيداً عن نواياهم الطيبة - فقد لعبوا دور الجلاد والضحية بذات الوقت نتيجة للعته الفكري والسياسيوالإيديولوجي الذي كان يسيطر على عقولهم في تلك المرحلة نتيجة تبنيهم للفكر القومي البرجوازي الصغير مضافاً إليه تبنيهم لنموذج الدولة المشتقة من النموذج " الشيوعي " الستاليني كما بينت وسأبين في أكثر من مكان في هذا البحث. فحسب فلسفة هيغل لعقل الشعوب يفرق ويصنف عدة أنواع من عقول الشعوب، وحيث أن الجغرافيا الطبيعية من وجهة نظره تلعب دوراً أساسياً في اختلاف أنواع عقول البشر، فحسب فلسفة هيغل: فإن عقل شعوب الصحارى يختلف عن عقل شعوب السواحل التي تعيش على شواطئ البحار والمحيطات، كما أن عقل سكان الجبال يختلف عن عقل سكان الصحارى والسواحل ...إلخ، وإذا كان صحيحاً أن فلسفة هيغل التي تربط العقل البشري بالجغرافيا الطبيعية التي يعيش فيها الإنسان، وتحديداً ربطه لمدى تطور العقل البشري بمدى طول واتساع أو قصر وضيق الأفق وما بعد الأفق التي تسمح به الجغرافيا الطبيعية للعين وما تنقله للمخ في رؤيتها عندما تنظر للفضاء– طول المدى وما بعد المدى يوسع البصيرة حسب نظرية هيغل - يشكل أساساً لنظريات من التمييز العنصري بين الشعوب، عدا عن كونها نظرية وفلسفة غير مبنية على حقائق يثبتها العلم والواقع، أقول: بالرغم من ذلك علينا الاعتراف بوجود نوع أخر من الجغرافيا يمكن أن تحيط بالعقل وتغلفه أو تدخل في جوفه وتلعب دوراً هاماً في مدى تطوره وقدرته على التفسير الصحيح لكل ما يحيط به من أحداث سياسية أو غيرها، أقصد هنا بهذا النوع من الجغرافيا ما يشكله التعصب الأعمى الإيديولوجي أو السياسي من حواجز تشبه الحواجز الجغرافيةالطبيعية التي تمنع الرؤية كما تمنع العقل البشري من التطور كما تمنع الانسان - بعيداً عن نواياه - من التصرف بالشكل الصحيح الذي يليق بالإنسان وبعقله.أقول: كل ذلك لمعرفتي أن بحثي هذا سيقلق أرواح الكثير من الشخصيات السياسية الطيبة التي رحلت عن عالمنا منذ عقود، وحيث أن الهدف ليس إقلاق هذه الأرواح في قبورها – التي أغلبها إن لم أقل كلها أرواح طيبة وكانت نواياهم طيبة – كما أن تناولي لا يطال ولا يلغي ما هو إيجابي في هذه الشخصيات، فالاستفادة من تجارب التاريخ في الغالب يخدمها أكثر نقد ما كان خاطئاً في شخصياتنا أكثر من التركيز على ما كان صحيحاً، ولا سيما إذا كانت هذه الأخطاء ناتجة عن نوع من التعصب الأيديولوجي أو السياسي الأعمى الذي يقود إلى مواقف فيها الكثير من العته الأيديولوجي والسياسي الذي يتناقض أحياناً كما سنرى في هذا البحث مع تاريخ بعض الشخصيات أو لنقل بأنها تشكل علامة فارقة سوداء لا تليق بأصحابها وبتاريخهم النضالي والإنساني. كما أن تناولي هذا لا يبحث عن الإنسان المكتمل الإله - حسب فلسفة فيورباخ - الذي لا يعرف الخطأ أو الذي لا يرتكب الخطأ، فمثل هذا الإنسان لم يعرفه التاريخ بعد، وأعتقد أن التاريخ لن يعرفه في المستقبل مهما طال زمن التاريخ البشري على هذا الكوكب. أنني باختصار أبحث عن كل سلوك أوقول سياسي للذين تصدروا المشهد السياسي في عقد الستينيات من القرن الماضي،وحيث أن نتيجة ذلك كانت قطع صيرورة التطور الطبيعي للمجتمع السوري أولاً ثم الوصول إلى النظام الأسدي ثانياً. وهنا سأبدأ بأحد أكبر ضحايا السلطة البعثية وأكبر البعثيين في الآن ذاته، أقصد بذلك مؤسس الحزب ميشيل عفلق ودوره المباشر في التمهيد لطريقة صعود ومجيء النظام البعثي بشكل عام ودوره غير المباشر في التمهيد لمجيء نمط النظام الأسدي بشكل خاص. لقد شكل المؤتمر القومي الخامس لحزب البعث العرب الاشتراكي الذي عقد بقرار منفرد من ميشيل عفلق في مارس 1962 في مدينة حمص نقطة تحول فاصلة في تاريخ التفكير السياسي لميشيل عفلق من جهة، ونقطة فاصلة في تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي من جهة ثانية، فما هي الظروف التي انعقد فيها هذا المؤتمر؟؟؟ وما هي أهم النتائج والتداعيات التي تمخضت عنه؟؟؟ لقد انعقد هذا المؤتمر بعد فشل انقلاب عبد الكريم النحلاوي الثاني في 28 / آذار 1962، وبعد إخماد التمرد العسكري في بعض القطعات العسكرية التي تمردت على هذا الانقلاب في حمص وحلب بقيادة الضابط جاسم علوان عن الناصريين والضابط محمد عمران عن البعثيين. فبعد " فشل الانقلاب وإخماد التمرد وعودة الرئيس ناظم القدسي إلى منصبه في رئاسة الجمهورية، وفي إطار السعي لتشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية توكل إليها المهام التشريعية والتنفيذية ريثما يتم انتخاب مجلس نيابي جديد بديلاً عن المجلس النيابي المنحل "(1). وفي إطار تامين الشروط والمناخ المناسب للعودة للحياة الدستورية من خلال الدعوة لانتخابات برلمانية جديدة وانتخاب رئيس جمهورية جديد، وفي إطار المشاورات التي أجراها بشير العظمة - الذي كلف بتشكيل هذه الحكومة - مع الكتل والأحزاب والشخصيات السياسية السورية التي كانت تشكل المشهد السياسي في تلك المرحلة، فقد " وافقت كل القيادات البعثية على الاشتراك في الحكومة على أساس تخصيص ثلاث حقائب وزارية "(2). لقد كان ميشيل عفلق القيادي البعثي الوحيد الذي رفض الاشتراك بهذه الحكومة فقد " أصر على استلام الحكم وتأليف حكومة من قبل الحزب كشرط تعجيزي غير قابل للتحقق إلا بانقلاب عسكري"(3). على إثر ذلك ولأن القيادات البعثية لم توافقه على انسحاب الوزراء من الحكومة وإسقاطها، عقد ميشيل عفلق " المؤتمر القومي الخامس في مدينة حمص في بيت المدعو فرحان الأتاسي الذي أعدم بعد الثامن من آذار " بتهمة التجسس للمخابرات المركزية (الأمريكية)"(4). ومن الجدير ذكره أنه لم يشترك أي قيادي (بعثي) سوري في هذا المؤتمر "(5).وقد اقتصر الحضور على بعض الشخصيات البعثية القيادية من العراق ولبنان، ففي هذا المؤتمر حضر عن الفرع العراقي القيادي البعثي علي صالح السعدي الذي حمل ميشيل عفلق فيما بعد - أي بعد انقلاب البعث في العراق في 8 شباط 1963 وانقلابه في سوريا في 8 آذار من نفس العام وبعد كل الصراعات والانتكاسات التي لحقت بالسلطة البعثية وبالمجتمعين العراقي والسوري " مسؤولية كل ما ارتكبه الحزب سواء في سورية أو في العراق بعد المؤتمر القومي الخامس" (6).فقد كان من أهم نتائج هذا المؤتمر:
أولاً: ركوب البعث في كل من العراق وسوريا في القطار الأمريكي،يقول أكرم الحوراني في مذكراته:" بعد أن بدأت الصحف ووكالات الأنباء تنشر بعض التفاصيل عما يحدث في العراق (بعد انقلاب 8 شباط البعثي) ازداد حذري وتشاؤمي، بل أصبحت فزعاً مما يقوم به ما أسموه بالحرس القومي من اعتقالات الألوف وتعذيبهم، ولم يعد ورداً ما تمنيناه لها من توجهات ديمقراطية. ومما عزز الحذر والتشاؤم التصريح الذي نشرته وكالة الأنباء الفرنسية (11 م 2 / 1963) لجورج بول مساعد وزير الخارجية الأمريكي دين راسك، نقلاً عن مقابلة تلفزيونية لمحطة أمريكية عندما قال: " إن الوضع الحالي في العراق يعتبر فألاً حسناً بالنسبة للمستقبل لأن الحكومة الجديدة مشبعة بالمعاني القومية، وسياستها ستكون غالباً متفقة مع الناصرية ومناهضة للشيوعية، وسيكون لديها الحظ الوافر من التمكن من العمل بصورة فعالة " كما عززه أيضاً معرفتي وعدم ثقتي بقدرة علي صالح السعدي – صاحب مقولة أن البعث جاء إلى السلطة بقطار أمريكي – على قيادة هذه الثورة التي تولى فيها أخطر المراكز، عندما أصبح نائباً لرئيس مجلس الوزراء ووزير للداخلية، بالإضافة إلى رئاسة حزب البعث التي مكنته من مساعدة ميشيل عفلق على عقد المؤتمر القومي الخامس الذي مزق وحدة الحزب "(7). ثم يقول أكرم الحوراني في مكان آخر من مذكراته: لقد قابلت علي صالح السعدي مرتين " وفي هاتين المقابلتين بدا لي علي صالح السعدي إنساناً طيباً لا يخطر على البال أنه سيكون ذلك الجزار السادي الذي سيجيب عبد الناصر ببرود في محادثات الوحدة الثلاثية، عندما سأله عن عدد المعتقلين في العراق لتفنيد ادعاءاته الديمقراطية. لقد أجاب السعدي: والله ما أعرف سيدي آلاف! (...) وعندما لجأت إلى العراق عام 1973 بسبب بوادر الحرب الأهلية في لبنان " وكان علي صالح السعدي يزورني بلا انقطاع في العراق ويظهر لي مودته وثقته وندمه. لقد أصبح إنساناً محطماً ما إن يستعرض ما مضى من أحداث ثورة الثامن من شباط في العراق حتى ينفجر باكياً بصورة تدعو إلى الرثاء، وكان يحمل ميشيل عفلق مسؤولية كل ما ارتكبه الحزب بعد المؤتمر القومي الخامس سواء في العراق أو في سورية، ولقد حدثني بعض عارفيه أنه كثيراً ما يستيقظ في الليل فزعاً على صراخ المعذبين ومن أغرق في نهر دجلة من الشيوعيين "(8)." لقد كان علي صالح السعدي يظهر لكل من اجتمع به أسفه وندمه على ما ارتكبه بحق الشيوعيين وأنصارهم من جرائم ويضع مسؤوليتها على توجهات القيادة القومية المعادية للشيوعية "(9)." أما فيما يتعلق بنشاط المخابرات المركزية في سورية فلا بد لي من ذكر الواقعة التالية: بعد خمس سنوات من انقلاب الثامن من آذار، وعندما كنت منفياً من سورية ولاجئاً في بيروت عام 1968، اعترضني زياد الحريري وأنا في الطريق لزيارة عاطف دانيال في فندق الكارلتون، وكنت لم أر زياد منذ عدة سنوات قبل الثامن من آذار، وبدون أي مقدمات لحديثه أخبرني بأن نافع دانيال شقيق عاطف دانيال قد طلب إليه أن يصبح عميلا للمخابرات المركزية، كما أخبره بأن صلاح البيطار على صلة بها، وأن نافع دانيال هدده بالموت إذا أفشى السر، ثم قال: إن البعثيين بعدما سرحوني من الجيش وأرسلوني إبعاداً لي عن سورية سفيراً فوق العادة في باريس انتسبت إلى أحد معاهدها فتعرفت على فتاة ألمانية جميلة، ولما اكتشفت أنها جاسوسة يهودية قطعت صلاتي بها. ولما انتهى من حديثه أخبرته أنني في طريقي إلى زيارة عاطف دانيال لأعرف رد فعله، فصمت دون أن يعلق على ذلك بكلمة. إنني لم أورد هذه الواقعة لا لأثير الشكوك حول زياد الحريري بل ذكرتها لأشير إلى نشاط المخابرات المركزية لاصطياد العملاء بشتى الاغراءات ولا سيما قيادات الأنظمة والجيش والأحزاب والطلاب في الخارج. لم يكن زياد يتمتع بوعي سياسي ولم يكن له اهتمام بالقضايا العامة. فليس مستبعداً إذاً أن تتصل به السفارة الأمريكية قبل انقلاب الثامن من آذار لتعده بالدعم والتأييد كما اتصلت به المخابرات المركزية بعد تسريحه من الجيش. أما عاطف دانيال فكان من رجال الأعمال السوريين مقيماً في جنيف وعلى صلات مع بعض رجالات المعارضة المغربية وجبهة التحرير الجزائرية وبعض جاليات اليمن الشمالي، وكان من مريدي ميشيل عفلق، ثم أصبح صديقاً لعبد الغني قنوت وعبد الفتاح الزلط والدكتور فيصل الركبي وكان يظهر لي كثيراً من عواطف الود والصداقة. كما يقول أكرم الحوراني في هامش من مذكراته: " تكشف مباحثات الوحدة الثلاثية عن دور لعاطف دانيال في مؤامرة عويس – انقلاب بقيادة عبد الحكيم عامر ضد عبد الناصر وتأييد من ميشيل عفلق - الذي سبق ذكره عند الحديث عن المؤتمر الخامس، وعن دور آخر قام به عندما كان رسولاً لميشيل قبيل انعقاد المؤتمر القومي الخامس للاتفاق مع عبد الناصر على إصدار بيان يؤيد فيه هذا المؤتمر جمال عبد الناصر، ولكن البيان الذي صدر، كان عكس ما وعد به ميشيل عفلق، فكان لهذا البيان أثر سيء جداً بالنسبة لجمال عبد الناصر كما يظهر من أقواله في مباحثات الوحدة الثلاثية "(10). وهنا من الجدير ذكره أن الاستراتيجية الأمريكية حينها في زمن الرئيس جون كنيدي " لم تكن ترى في الإطاحة بالأنظمة المتخلفة والاستعاضة عنها بأنظمة حديثة عسكرية صديقة ما يهدد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، بل بإمكان مثل هذه الأوضاع أن تلجم جماح الثورات وأن تحد من جنوحها نحو التطرف، وبالتالي نحو الاتحاد السوفييتي؟ "(11).ومن المهم هنا الإشارة إلى مفارقة أن الكثير ممن كان يسمى فصائل حركات تحرر وطني في بلدان الأطراف كانت تحمل النموذج السوفييتي الستاليني إلى مجتمعاتها ولكن كانت تجره وتنقله بقطار غربي بشكل عام أو أمريكي بشكل خاص، يقول أكرم الحوراني في مذكراته ليؤكد ويدلل على هذه الفكرة بأن: " زيارة بن بلّا عندما كان رئيساً للجمهورية لكاسترو في كوبا، بعد زيارة مباشرة للولايات المتحدة حيث استقبل هنالك استقبالاً حافلاً من قبل كندي هي التعبير العملي عن هذه المفارقات بالنسبة لبعض الأنظمة التي قامت في العالم الثالث "(12).
ثانياً: حل الحزب وإعادة تشكيله من جديد وحيث كان من نتيجة هذا التشكيل الجديد فصل الحزب عن قواعده ولا سيما بعد فصل تلاميذ ذكي الأرسوزي منالذين شكلوا بعد " مرض الأرسوزي"(13).وانضمامهم لحزب البعث باعتراف أكرم الحوراني " العمود الفقري لقاعدة الحزب "(14). كما تم فصل كتلة الاشتراكيين العرب بقيادة أكرم الحوراني وهي الكتلة التي نقلت حزب البعث من دكانة سياسية صغيرة إلى حزب سياسي حقيقي له وزنه السياسي والانتخابي بدءاً من عام 1952 تاريخ اندماج البعث العربي بقيادة عفلق والبيطار بالحزب العربي الاشتراكي بقيادة أكرم الحوراني. يقول حنا بطاطو في كتابه فلّاحو سوريا: " لكن الأمر الأهم تاريخياً هو أن تلامذة الأرسوزي اللوائيين أدخلوا في حزب البعث العفلقي توقداً وحرارة شغف لا يملكها سوى الأشخاص الذين تأذوا. ومثلهم في المكتب التنفيذي لحزب البعث الذي انتخب في المؤتمر التأسيسي في عام 1947 وهيب الغانم، وهو طبيب وابن رجل دين ومدير مدرسة ابتدائية في حي عفان العربي في أنطاكية (...) وكان عفلق حضرياً أساساً في نظرته. ولم يشكل الفلاحون قط موضوع اهتمام خاص من جانبه وقلما تجد في كتاباته تعبيراً عن اهتمام مركز بفلاحي القطر. وليس ثمة سوى ملاحظات ذات طبيعة عامة تتعلق ضمناً بهم، من مثل: " نضال العرب (...) لا يقوم إلا على مجموع العرب، ولا يمكن أن يشتركوا في هذا النضال إذا كانوا مستثمَرين ". ولم تحوِ تلك الكتابات نفساً معادياً لملّاك الأرض. ويتناقض هذا تناقضاً صارخاً مع الاتجاه الرئيس للبعثيين " الانتقاليين " الذين كانوا أقرب إلى أكرم الحوراني في ميولهم، ومثله أيضاً رفعوا الفلاحين إلى موقع مركزي في خطة عملهم. ومن بين القيادات العليا في البعث القديم، لم يهتم أحد سوى وهيب الغانم بفلاحي الأرض ومشكلاتهم "(15).
ثالثاً:انشقاق كل فروع الحزب في كل الساحات العربية التي تواجد فيها فروع لحزب البعث العربي الاشتراكي كالعراق والأردن ولبنان. ويكمن القول: بأنه بعد الانفصال وبعد المؤتمر القومي الخامس فقد تشظى البعث إلى أربع شظايا " الوحدويون الاشتراكيون وهم ناصريو البعث، والعدد الأكبر نسبياً من كوادره – القطريون وهم يساريو البعث والذين رفضوا حله عشية الوحدة واستمروا على شيء من الترابط خلال عهد الوحدة مخالفين قرار الحل – الاشتراكيون العرب وهم الحزب العربي الاشتراكي سابقا أي جماعة أكرم الحوراني – وأخيراً الموالون لميشيل عفلق وصلاح البيطار ممن ادعوا بالقوميين "(16).
رابعاً: الانقلاب على " مبادئ الديمقراطية البرجوازية والبرلمانية الديمقراطية والمؤسسات الدستورية "(17). لمصلحة نظرية الحزب الواحد الحاكم "وتكشف محاضر مباحثات الوحدة مع مصر سخرية عبد الناصر من الوفد البعثي ولا سيما شبلي العيسمي وصلاح البيطار كونهم تخلوا عن مفهوم الديمقراطية البرجوازية واقتناعهم بنظرية الحزب الواحد التي كانوا ينتقدونها قبل وصولهم للسلطة ولا سيما زمن الوحدة مع مصر"(18).
خامساً: استخدام القضايا الوطنية والقومية كمادة للتجارة السياسية، وهي التجارة التي سيتفوق فيها فيما بعد النظام الأسدي أكثر من أساتذته، وهنا من الجدير ذكره أن الحجة التي تم فيها فصل أكرم الحوراني من حزب البعث العربي الاشتراكي في المؤتمر القومي الخامس كانت تقوم على كونه من الشخصيات التي أيدت الانفصال عن مصر 1961 رغم أن جميع رجالات السياسة السوريين في تلك المرحلة يعرفون أن من كتب وثيقة الانفصال كان الشخص المقرب من ميشيل عفلق، أقصد بذلك صلاح البيطار الذي كتب وثيقة الانفصال ووقع عليها بموافقة ميشيل عفلق.
سادساً: وهنا المفارقة الغريبة أن المؤتمر القومي الخامس الذي فصل أكرم الحوراني من الحزب بحجة كونه من الشخصيات التي أيدت الانفصال عن مصر نجد في القرارات والبيانات التي صدرت عنه" هجوم عنيف على عبد الناصر واتهام الناصريين في سوريا بالعمالة لعبد الناصر"(19).المفارقة الأهم أن قضية إعادة الوحدة بين سورية ومصر استخدمت من قبل ميشيل عفلق كقميص الذي رفع " فباسمها عقد ميشيل عفلق المؤتمر القومي الخامس، وباسمها تمت في سورية عمليات التفجير والتخريب ومحاولات الاغتيال، وباسمها وتحت لوائها تحالف الناصريون والبعثيون والقوميون وصولاً إلى الحكم وذلك في انقلابي الثامن من شباط في العراق والثامن من آذار في سورية، ولكن علي صالح السعدي نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية (في العراق) والذي جاء إلى الحكم باسم الوحدة نراه يصرح بعد أسبوعين فقط من انقلاب شباط: إن نواة أي اتحاد عراقي بين الدول العربية يجب أن يكون عن طريق قيام اتحاد بين سورية والعراق وأن من الأفضل قيام الوحدة الشاملة على مراحل وأنه يمكن للدول العربية أن تتحد خلال عشر سنوات أو خمسة عشرة وأن العراق ليس متعجلاً الآن لإنشاء أي اتحاد مع أي دولة عربية"(20).
وفي مكان آخر من مذكراته كتب أكرم الحوراني: " لقد بدأ آذار 1964 باستعدادات ضخمة من قبل السلطات البعثية للاحتفال بمرور عام على انقلاب الثامن من آذار، وقد أثار هذا التاريخ في نفس كاتب قومي لم يشأ أن يذكر اسمه مشاعره فعقد مقارنة بين الثامن من آذار عام 1920 وبين الثامن من آذار عام 1963 فكتب مقالاً في جريدة الحياة رأيت من المفيد أن أثبت معظم مقاطعه لأنها تعبر عن مشاعر الشعب تجاه هذين الحدثين التاريخيين: " إذا كان الثامن من آذار هو ذكرى الانقلاب الذي وقع في سورية فإنه ذكرى لحدث تاريخي آخر وقع في سورية قبل ثلاثة وأربعين عاماً فالكيان السوري المستقل انبثق عن إعلان استقلال سورية يوم الثامن من آذار 1920. ففي السادس من آذار عام 1920 اجتمع في دمشق المؤتمر السوري في دار النادي العربي وحضره ممثلون عن الأمة العربية الواحدة بمناطقها الداخلية والساحلية والجنوبية، وفي مساء يوم الاثنين في السابع من آذار ختم المؤتمر أعماله واتخذ القرارات التالية:
1 – إعلان استقلال سورية بحدودها الطبيعية وتنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكاً باسم الملك فيصل الأول.
2 – المطالبة باستقلال القطر العراقي استقلالاً تاماً.
3 – قيام اتحاد سياسي واقتصادي بين سورية والعراق.
وصباح الثامن من آذار توجه وفد من قبل أعضاء المؤتمر إلى دار الإمارة وبلغ مقرراته للأمير فيصل وبايعه ملكاً على سورية، وفي الساعة الثامنة بعد الظهر احتفل رسمياً في بلدية دمشق بإعلان الاستقلال، فتوجه الأمير فيصل بموكب رسمي إلى البلدية حيث جرى الاحتفال، ثم نهض رئيس البلدية ورفع العلم السوري الجديد، وهو علم الثورة العربية مع نجمة واحدة، وبعد ذلك وقف رئيس المؤتمر المرحوم هاشم الأتاسي وتلا قرار المؤتمر وهذا نصه:
" بما أن المؤتمر السوري العام الذي يمثل الأمة السورية العربية في مناطقها الداخلية والساحلية والجنوبية (فلسطين) تمثيلاً تاماً، يضع في جلسته العامة المنعقدة نهار الأحد الموافق لتاريخ 16 جمادى الثانية سنة 1338 وليلة الاثنين الموافق لتاريخ 7 آذار سنة 1920 القرار التالي:
" إن الأمة العربية ذات المجد القديم والمدنية الزاهية، لم تقم جمعياتها وأحزابها السياسية في زمن الترك بمواصلة الجهاد السياسي، ولم ترق دم شهدائها الأحرار، وتثر على حكومة الأتراك إلا طلباً للاستقلال التام والحياة الحرة بصفتها أمة ذات وجود مستقل وقومية خاصة لها الحق أن تحكم نفسها بنفسها أسوة بالشعوب الأخرى التي لا تزيد عنها مدنية ورقياً... وقد اشتركت بالحرب العالمية مع الحلفاء استناداً على ما جهروا به من الوعود الخاصة والعامة في مجالسهم الرسمية وعلى لسان ساستهم ورؤساء حكوماتهم وخاصة ما قطعوه من العهود مع جلالة الملك حسين بشأن استقلال البلاد العربية. لقد عجت دمشق بالوفود تزحف إليها من أنحاء البلاد السورية للاشتراك بالحدث العظيم فغصت فنادقها الكبرى (داماسكوس بلاس) و(فكتوريا) و (الخوام) بالزوار حتى لم يبق متسع ففاضوا عنها إلى (لوكندة) الزهراء وغيرها من السنجقدار، وتوزع الكثيرون على دور أهلهم وأصدقائهم إذ لم تتأخر ناحية في سورية بكاملها، سورية وفلسطين والأردن وبعض أقسام لبنان عن إرسال ممثليها للاشتراك بالمهرجان العظيم في دمشق. هذه الصفحة من ذكريات يثيرها الثامن من آذار عام 1920. أما الصفحة التي يثيرها الثامن من آذار عام 1963 فهي ذكرى حزب بعث عفلق، الذي كان باستطاعته أن يكون سورية بكاملها، فظل حزب كتلة حاقدة منعزلة عن الشعب. إنها ذكرى الحزب الذي انفرط كتلاً متناحرة يكيد بعضها لبعض بأسوأ مما يكيد لها خصومها. إنها ذكرى الشعارات تطفو على المبادئ بالزبد يتناثر من أشداق الصائحين الهتافين.
ذكرى الثامن من آذار هي ذكرى حزب الوحدة الذي حكم سورية والعراق معاً لأول مرة في التاريخ الحديث مدة تسعة أشهر فتهيأت له فرصة العمر لتنفيذ اتحاد وطيد لم تتوفر لغيره من الأحزاب السياسية، فأمضى الشهرين الأولين في مناورات فاشلة لا طائل تحتها مع القاهرة انتهت بتقاطع تام وعداوة مستحكمة وأمضى السبعة أشهر الباقية ملتهياً باضطهاد الشعب والعناصر الوطنية حتى ضجت البلاد والعباد فسقط الحزب في العراق. إنها ذكرى التخريب الاقتصادي والاجتماعي الذي حل بسورية على حساب مصالحها على أيدي حكام يلغطون بألفاظ التحول الاشتراكي الذاتي المستورد من الدول الشيوعية. إنها ذكرى الإسفاف السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتدني عقلاً وفهماً وأخلاقاً إلى أدنى الدركات، وذكرى الضحالة والضآلة في القيم والمفاهيم والحكم والإدارة، ذكرى هجرة الكفاءات العلمية والفنية والإدارية من سورية إلى غير ما رجعة "(21). إن ما لم يقل في هذه المقاربة وبشكل مباشر بين منجزات 8 آذار 1920 و8 آذار 1963 هو أنه إذا كان فشل تحقيق مشروع النخب السياسية السورية والعربية القومية في آذار 1920 كان العامل الحاسم فيه يعود لإرادة العامل الخارجي الاستعماري الذي أجهض أحلام وآمال تلك النخب ومعها آمال كل الشعوب العربية، في حين نجد أن فشل تحقيق مشروع السلطة البعثية التي صعدت إلى سدة السلطة بذريعة تحقيق مشروع الوحدة العربية يعود إلى إرادة العوامل الداخلية، وتحديداً يرجع إلى البنية الطبقية والأيديولوجية والسياسية القومية البرجوازية الصغيرة، كما يعود الفشل بسبب مشروعها ونموذجها الشاذ والاستثنائي إن كان في علاقة دولتها وسلطتها بالمجتمع بشكل عام أو في علاقة دولتها وسلطتها مع كل القوى السياسية داخل المجتمع،بما في ذلك العلاقة الشاذة بين الأجنحة الأيديولوجية والسياسية داخل صفوف البرجوازية الصغيرة القومية البعثية والناصرية التي استكلبت كلها في الإمساك في السلطة وعلى حساب كل شعاراتها، كما على حساب مصالح الشعب الذي ادعت أنها تمثله أكثر من غيرها من القوى السياسية والطبقية داخل المجتمع السوري. وهنا يمكن القول والرد على كل من أصبحوا ضحايا السلطة البعثية سواء بعد أو قبل صعود وقيام النظام الأسديبما قاله المثل العربي الذي يقال لمن كان سبب هلاكه منه: " يداك أوكتا وفوك نفخ ".
لقد شكل خالد العظم مع الكتلة الطبقية والسياسية التي قادها منذ منتصف الخمسينيات من القرن العشرين وقبله كل الشخصيات التي قادت الاستقلال الوطني في سوريا ما يمكن تسميته بلغة فلسفة هيغل المثالية الروح المطلقة أو الفكرة الكلية لتحقق مسار التطور البرجوازي الطبيعي في سوريا، لنقرأ ما قاله رئيس الحكومة السورية خالد العظم قبل أشهر من انقلاب البعثيين والناصريين عليه وهو قول يشبه النبوءة السياسية لما ستؤول إليه الأمور فيما لو لم يتم الأخذ بما قاله كما يبين معنى التطور الطبيعي ومخاطر الانقلاب على مساره،يقول أكرم الحوراني في مذكراته: " لقد أخذ الوضع في سورية يستقر بالرغم من إلغاء حالة الطوارئ بعد أن حددت حكومة خالد العظم الأسس التي سيقوم عليها مستقبل سورية الاقتصادي والسياسي والتنموي في الخطاب الذي أذاعه العظم بتاريخ 21 / 12 / 1962، مما أدى إلى مزيد من طمأنة الفعاليات الاقتصادية التي كانت قد عقدت مؤتمراً لها في حلب بتاريخ 19 / 11 / 1962 ، بعد أن زالت كل العوائق التي كانت " تكبل الاقتصاد السوري ونموه "(22). إلى درجة كبيرة وأصبح من المأمول عودة رؤوس الأموال التي هربت في عهد الوحدة إلى خارج سورية،وكان البيان الذي ألقاه خالد العظم رئيس الوزارة القومية من أهم البيانات التي رسمت بالتفصيل، تصور الوزارة لسورية المستقبل، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وفيما يلي أهم فقراته، يقول خالد العظم: " إن اهتمامنا الأول منصب على ترسيخ دائم الاستقرار في الوطن، وضمان الحريات العامة للمواطنين، وليس للحريات عندنا حدود سوى ما تفرضه مصلحة الوطن العليا، وفقا لأحكام القانون. إننا نعمل دائماً لتوطيد الاستقرار على دعائم من الحرية، ونريد أن نستزيد من الحرية البناءة، لنزيد في تدعيم الاستقرار. لذلك فإن حكومتكم القومية ما زالت عند العهد الذي قطعته لكم، بأنها ماضية في إعداد التشريع الذي تقتضيه المصلحة العامة لإلغاء حالة الطوارئ، في الموعد المضروب، لتنتقل بعد ذلك إلى إعداد التشريعات اللازمة للسماح بتأليف الأحزاب السياسية ووضع قانون الانتخابات العامة، كمقدمة لإجراء الانتخابات الحرة النزيهة في شهر تموز القادم إن شاء الله. ورغم أن حالة الطوارئ من الناحية النظرية والقانونية ما زالت قائمة في البلاد لأيام محدودة أخرى، فإن كل مواطن منصف يقر أن الحريات العامة يتمتع بها شعبنا أفضل من الحريات العامة المتوفرة لأي شعب آخر في الشرق الأوسط كله. ومثل هذه الحقيقة الحية لا يمكن أن ينكرها أو يشككبها إلا مكابر أو مغرض (...) عودة الآن أيتها الأخوات والإخوان إلى نقطة اهتمامنا الثالثة، نقطةالسعي المخلص لحكومتكم القومية، لكي ترفع سورية العربية راية نظامها الجديد عالياً، نظام التلازم بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية في ظل الدستور والحرية والعدالة، فقد انتهت التجارب الطويلة التي مرت بها سورية، وكان بعضها شديد القسوة، إلى اقتناع أبنائها أن كل قتل للحريات السياسية على حساب إنجاز الإصلاحات الاجتماعية أولاً إنما هو قتل لإنسانية الإنسان، والإنسان أعز ما في هذا الوجود، كما اقتنعت أكثرية أبنائها في الوقت نفسه أنه ليس من حرية صحيحة لأصحاب البطون الجائعة، والعقول الجاهلة، والأجساد المريضة. ولهذا فإن سورية العربية اليوم ترفع الراية الثالثة في الوطن العربي، راية التلازم الذي لا انفصام له بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية، وتنادي أن الإنسان العربي بحاجة إلى الحرية، وإلى الخبز، وإلى الكرامة معاً، وأن كل تضييق لهذه الحاجات المتلازمة الثلاث أو تفريق بينها إنما هو قتل عمد لها جميعاً، بل قتل لإنسانية الإنسان، ومن هنا تجدون أنني وزملائي السادة الوزراء في حكومتكم القومية قد جهدنا لإشباع جو وطننا حرية، وعدلاً، وعملاً، ومشاريع مثمرة، تكون خيراتها للمواطنين جميعاً، فبقدر حرصنا على إشاعة الاستقرار، والثقة، وإطلاق حرية تشكل الأحزاب السياسية، والإعداد لانتخابات نيابية حرة، وتنفيذ مشاريع الوطن الإنمائية لتزيد في ثروتها القومية، حرصنا على صحة تنفيذ قانون الإصلاح الزراعي، وأسرعنا في تمليك الأراضي للفلاحين، وأعددنا ما يلزم للتعويض علىمن شملهم قانون تحديد الملكية الزراعية، وحافظنا على مكتسبات العمال، وسعينا لتصريف أمور الدولة على وجه الحق ضمن حدود القوانين والأنظمة،(...) إننا في هذه الأيام نشهد تمخضاًلإقامة أحزاب سياسية جديدة، وقيام الأحزاب السياسية أمر طبيعي في بلد ينشد الديمقراطية والتمكين لها، لأنه لا حياة ديمقراطية عملياً، من غير قيام أحزاب سياسية.(...) ولكن دعوني أقول لكم عامة، ولمن يتطلعون لتشكيل أحزاب سياسية خاصة، أن قيام الأحزاب السياسية في هذه المرحلة التي يجتازها وطننا، يجب ألا يعني قيام حرب باردة أوحامية بين الأحزاب.(...) المهم أن يعرف كل حزب سياسي، أن ما من حزب واحد في هذه المرحلة التي يعيشها الوطن له الأكثرية المطلقة، وبالتالي ما من حزب يستطيع أن يستلم مسؤولية الحكم لوحده. وما دامت هذه هي إرادة الشعب، فمعنى ذلك أن الشعب يريد من الأحزاب بدورها أن تتعايش وتتعاون(...) إن طبيعة بلادنا لا تسمح بعد لأي حزب سياسي أن تكون له صفة الأغلبية المطلقة في هذه المرحلة لينفرد بالحكم لوحده، وكل محاولة للاصطناع لا تعكس واقع الشعب وإرادته، لن تكون نتائجها خيرة لا على الذين يصطنعونها، ولا على النظام الديمقراطي ولا على الوطن"(23). أما قمة المسخرة السياسية فقد كانت خطاب ميشيل عفلق في العراق بعد الانقلاب البعثي في 8 شباط 1963. حين " هاجم الأوضاع في سورية ووصف الحكم القائم – في ظل حكومة خالد العظم القومية الأخيرة التي انقلب عليها البعث في 8 آذار - بأنه حكم رجعي بوليسي"(24).
لقد كان ميشيل عفلق ومعه صلاح البيطار مصابان" بعقد النجاح من خلال صناديق الاقتراع "(25). فمن المعروف أن ميشيل عفلق لم يستطع النجاح في الانتخابات البرلمانية الأولى في سورية بعد الاستقلال التي جرت عام1947 كما لم يستطع الوصول إلى عضوية المجلس التأسيسي في الانتخابات التي جرت عام 1949 كما أن صلاح البيطار لم يستطع بدوره النجاح في الانتخابات البرلمانية التي جرت بعد الانفصال عن مصر1961، لهذا كانت خطة عفلق والبيطار كما يقول الحوراني الصعود إلى السلطة على ظهر العسكر على أمل فشل العسكر في إدارة شؤون الدولة والسلطة، الأمر الذي يوفر لهما فرصة الصعود لقيادة الدولة والسلطة، ولكن عند محاولتهما إزاحة العسكر من واجهة السلطة والدولة وتقليص نفوذ العسكر داخل الحزب أواخر شهر كانون الأول 1965 قبل انقلاب 23 شباط 1966. يقول أكرم الحوراني في مذكراته: " ولكن البيطار وعفلق والرزاز ومن معهم من المدنيين البعثيين كانوا واهمين في إمكانية عودة العسكر إلى ثكناتهم، وكان تسلقهم على أكتاف العسكر للوصول إلى السلطة منطبقاً عليه قول المتنبي:" ومن يجعل الضرغام بازاً لصيده تصيده الضرغام فيما تصيدا "(26). لم يكن ميشيل عفلق البعثي الوحيد المصاب بداء العته الأيديولوجي والسياسي، كما المصاب بداء قمع خصومه السياسيين والتضيق على أنفاسهم، كما لم يأت هذا الداء مع النظام الأسدي بل إن كل ذلك تم التأسيس له قبل مجيء النظام الأسدي، وحيث سنجد من خلال هذا البحث سلسلة طويلة أو قائمة طويلة فيها أسماء الكثير من الشخصيات البعثية التي لعبت دور الجلاد والضحية في الآن ذاته.
ثانياً: التخلص من النخب السياسية التقليدية المدنية
لقد تمت عملية الانقلاب على مسار التطور الطبيعي وفق سيرورة دخلت في تركيبتها والعوامل المحركة لها عدة عناصر ومركبات متداخلة، حيث تداخل المركب الطبقي بكل مستوياته مع الريفي / المدني مع الإيديولوجي مع السياسي مع الطائفي مع المناطقي مع القومي ...إلخ من المصفوفة المشكلة لنوع كهذا من الصراعات المركبة.
في البداية وبعد أن أمنت التيارات القومية وعلى رأسها حزب البعث العربي الاشتراكي الغطاء السياسي لانقلاب 8 آذار 1963 قامت البرجوازية الصغيرة القومية عموماً – ناصريين وبعثيين - المدعومة والمسنودة من قيادة الانقلاب ومن قاعدتها الريفية والمدنية الحزبية بإزاحة أبناء العاصمة والمدن الكبرى ممن لعبوا دوراً قيادياً في دولة الاستقلال الوطني. لقد شكل وصول البرجوازية الصغيرة إلى السلطة قطعاً مع النخب السياسية التقليدية المدنية (أبناء المدن)، فقد تم استبعاد هذه النخب من كل مجالات الحياة العامة الاقتصادية والسياسية والثقافية، وتم القطع مع تقاليدهم السياسية والفكرية والثقافية واعتبر كل التراث السياسي والثقافي والفكري الذي أنتجته هذه النخب هو من الماضي الرجعي الإقطاعي البرجوازي؟! وبهذا تم القضاء دفعة واحدة على أجيال من النخب التي عاصرت مرحلة النضال الوطني ضد الاستعمار، والتي عاصرت وبنت دولة الاستقلال الأولى، وهي النخب التي راكمت الكثير من الخبرات السياسية التي أعطت للمجتمع وجهه الحديث وبنت نموذجاً للدولة البرجوازية الحديثة الديمقراطية التعددية (نطمح الآن بعد حوالي نصف قرن من الزمن بالعودة إلية واستلهام دروسه وخبراته). لقد تمت إزاحة جميع أبناء المدن بحجة أنهم كانوا أقل قطعاً مع الماضي، فباسم القطع مع الماضي الإقطاعي البرجوازي، تم القضاء على كل " أشكال الممارسة السياسية (الليبرالية) ومع تقاليد الحياة الاجتماعية"(27). وهنا من المهم تبيان الكثير من التفاصيل والتصريحات ذات الدلالة العميقة لسلوك وهويات الكثير من الشخصيات البعثية والناصرية – إن كان لجهة هوياتها السياسية أو المناطقية أو حتى الجهوية والطائفية التي انخرطت في هذا الانقلاب أو التي غطت الانقلاب من الناحية السياسية والعملية، حيث نجد في البداية تداخلاً وتنوعاً كبيراً في انتماء الجهات والشخصيات والتيارات التي تورطت لا في هذا الانقلاب فحسب بل في الأعمال المشينة التي أعقبت هذا الانقلاب. يقول أكرم الحوراني في مذكراته: "بعد منتصف ليلة التاسع من آذار داهمت بيتي مجموعة من العسكريين (...) وفي تقدير زوجتي أن وضع المداهمين لم يكن وضع من يريد الاعتقال، وإنما وضع من ينوي الاغتيال، فقد لقموا رشاشاتهم وهم داخل المنزل، وكانوا على درجة شديدة من الاضطراب لدرجة أنهم لم يروا سلاح الحرس، وهو أربعة رشاشات مسندة إلى حائط. وفي اليوم الثالث للانقلاب أرسل الناصري محمد الجراح عدداً من أبناء قريته (منين) إلى دمشق في سيارات كبيرة، فمروا أولاً أمام منزلي حيث وقفوا فترة يهتفون هتافات معادية، ولقد سمعت زوجتي وأولادي أحدهم يقول: انزلوا يا شباب، ولكن أحداً لم يستجب له، وتابعت السيارات طريقها إلى بيت خالد العظم الذي يقول في مذكراته: " إن محمد الجراح حمل المتظاهرين بسيارات النقل للهجوم على منزلي لإخراجي منه وسحلي، ولما خاب رجاؤهم رموا الشبابيك والمصابيح الكهربائية بالحجارة، وبلغ الكيد أن تداعوا رجالاً ونساء للوقوف على مقربة من داريلينعموا بمشاهدة منظر سحلي، وكانت " ثريا الحافظ "(28).قد استحضرت حبالاً غليظة ليربطوني بها ويجروني على الأرض، كما اعتاد بعض العراقيين أن يفعلوه في كل ثورة تقدمية (...) ثم يتابع أكرم الحوراني في مذكراته فيقول: " وقد أذاعت حكومة البيطار بعد تأليفها بياناً أعلنت فيه عن جائزة مالية قدرها عشرون ألف ليرة لمن يدل السلطة على مكان وجودي ثم تلت إذاعة البيان موسيقا حماسية !!"(29). بعد ملاحقة ومطاردة أكرم الحوراني في الأشهر الأولى من انقلاب البعث، وبعد وضعه قيد الإقامة الجبرية ثانياً.وفيتاريخ 21 / 10 / 1965 قام النظام البعثي باعتقاله ووضع في سجن المزة على إثر بيان أكرم الحوراني الذي انتقد وكشف فيهالاتفاقية " الصفقة "(30).التي عقدتها الحكومة السورية بتاريخ 2 / 6 / 1965 مع مجموعة من الشركات البترولية البريطانية من أجل إنشاء خط أنابيب لنقل النفط السوري الخام من كراتشوك إلى طرطوس وبشروط استعمارية مجحفة بحق المصالح الوطنية السورية، وكان حينها حمد عبيد وزير دفاع النظام البعثي الحاكم -ثم بعد ذلك ضحية النظام البعثي بعد 1966- يقول أكرم الحوراني في مذكراته: " أن حمد عبيد قد احتج في مجلس الوزراء، على معاملتنا التي اعتبرها معاملة كريمة لا معاملة مسجونين وأنه يجب التضييق علينا وحرماننا حتى من النزهة الصباحية (يقصد التنفس)"(31). وعندما مرض أكرم الحوراني داخل السجن وكان اشتباه الأطباء أن يكون مصاباً بمرض السرطان يقول أكرم الحوراني في مذكراته: " بدأ خبر مرضي يتسرب إلى خارج السجن، فقد علمت فيما بعد، أن وفداً كبيراً من مختلف المدن السورية شكل ما يشبه المظاهرة بعد أن انضم إليه الكثير من أبناء دمشق، وقد قابل الوفد أمين الحافظ الذي تلقاه بمودة، ولكن منيف الرزاز – أحد ضحايا النظام البعثي فيما بعد - والذي كثيراً ما يُصور من بعض الباحثين في تاريخ تلك الفترة وكأنه حمل وديع - قابل الوفد بكآبة وبعد أن استمع إلى احتجاجه قال: " إن من يدعي أنه مناضل عليه أن يتحمل السجن "(32).!!!.
" إن حكومة صلاح البيطار (وحيث أن البيطار كان ثاني أكبر ضحايا السلطة البعثية وأحد جلاديها بذات الوقت)، التي انبثقت عن انقلاب الثامن من آذار قد قامت قبل بدء المحادثات مع عبد الناصر، وبدءاً من تاريخ 12 / 3 / 1963 بسلسلة من الإجراءات الانتقامية من خصومها السياسيين ومن خصوم عبد الناصر، فأصدر المجلس الوطني لقيادة الثورة مرسوماً تشريعياً يقضي بإلغاء ستة عشر صحيفة بتهمة تأييد الانفصال دون أي حق بالتعويض مع ختم مكاتبها ومطابعها وموجوداتها بالشمع الأحمر، كما يقضي المرسوم بمصادرة هذه المطابع وموجوداتها لصالح خزينة الدولة ببيعها أو توزيعها بين الوزارات والإدارات، كما يقضي بأن توضع تحت الحراسة القضائية الأموال المنقولة وغير المنقولة العائدة إلى أصحاب الصحف وأزواجهم وأولادهم ما لم تكن ملكيتها قبل 28 أيلول 1961 "(33)." كما ألقي القبض على عدد كبير من أصحاب هذه الصحف ومن القادة السياسيين ورجال الأحزاب وسيقوا إلى سجن المزة وسجن الشيخ حسن."(34)."(...) " ويتبين من هذا المرسوم أنه ألغى جميع الصحف العائدة لجميع الأحزاب والفئات السياسية في سورية ولم يستثن سوى جريدة اللواء العائدة للإخوان وجريدة البعث لصلاح البيطار وسمح بالصدور لجريدة الوحدة لصاحبها نزيه الحكيم وبردى الناطقة بلسان الناصريين لصاحبها منير الريّس – زوج ثريا الحافظ – كما سمح بصدور جريدة الرأي الناطقة باسم القوميين العر " (35). " وقد أدلى جمال الأتاسي " وزير الإعلام "(36). تعقيباً على هذا المرسوم بتصريح جاء فيه: " إن الثورة ستقضي على كل من يقف في طريقها من الانفصاليين والانتهازيين وقال: إن هذه الفئات أصبحت الآن هزيلة وقد لفظها الشعب، وإن الثورة تعزز وتدعم الآن اتجاهها الجماهيري في طريق الوحدوي الاشتراكي " كما صرح بأن مجلس الوزراء سيدرس جميع الطلبات التي ستقدم لإصدار صحف جديدة على ضوء السياسة العامة التي ستقررها الحكومة بهذا الشأن. وفي تاريخ 25 آذار (1963) صدر عن مجلس قيادة الثورة مرسومان يفرض أولهما عقوبة العزل السياسي على رجال الحكم السابق في سورية باعتبارهم " ركائز العهد الانفصالي ". أما الثاني فيتضمن أسماء أربعة وسبعين شخصاً وصفهم المرسوم بأنهم " استعملوا نفوذهم أو ثرواتهم أو سخروا وظائفهم لخدمة الانفصال"، وقد صرح وزير الإعلام جمال الأتاسي بأن هنالك قوائم أخرى تتضمن عدداً آخر من الأشخاص سيفرض عليهم العزل، وأن هذه القوائم ستُعلن عما قريب. وهكذا شمل العزل رجال الأحزاب والسياسيين، كما شمل عدداً من العسكريين وحتى رجال الاقتصاد والموظفين، مما جعل عددهم يتجاوز المئتين، وأعلن عند صدور قائمة العزل الأولى عن جائزة مالية لمن يدل على مكاني – المقصود مكان أكرم الحوراني – ومكان بعض الأشخاص الآخرين، وكان صدور هذه المراسيم تشفياً وإرضاء لجمال عبد الناصر في الوقت نفسه، كما كان أمراً جديداً لم تعهده سورية في أشد عهودها الديكتاتورية، وقد استثنت قرارات العزل هذه عصام العطار أحد قادة الإخوان المسلمين وبشير العظمة رئيس الوزراء السابق "(37).
"كما صدر بتاريخ 15 / 3 / 1963 قرار بتشكيل الحرس القومي على غرار ما جرى في العراق بعد انقلاب الثامن من شباط، ولا شك أن الدافع لذلك هو الخوف من الشعب والجيش بآن واحد، وقد تطوعت في هذا الحرس القيادات العليا لحزب البعث سواء في سورية والعراق، للدفاع عن حكمهم العسكري الديكتاتوري المهدد من قبل الناصريين، ومن القيادات البعثية التي تطوعت رئيس الوزراء صلاح البيطار، وظهرت صورته فيما بعد، في جريدة حزب البعث بعد محاولة الانقلاب الناصري التي جرت في 18 / 7 / 1963 وهو يحمل رشاش كلاشنكوف وكُتب تحت الصورة، أن صلاح البيطار يقوم بالدفاع عن القصر الجمهوري ضد أعداء الثورة."( 38).
إن قمة التصريحات المشينة لبعض القيادات التي تصدرت المشهد السياسي والعسكري في سورية بعد انقلاب 8 آذار 1963 تكشفه محاضر محادثات الوحدة الثلاثية بين كل من سوريا والعراق ومصر، حيث نجد أن السعي لخلق المجتمع المتجانس ومقولة المجتمع المتجانس تعود إلى الأيامالأولى من حكم البعث وحتى قبل أن يولد رأس نظام الابن الأسدي. يقول أكرم الحوراني في مذكراته: " إن كل تصرفات البعثيين بعد انقلاب الثامن من آذار قد أظهرت أنهم غير جادين بتنفيذ ميثاق الوحدة الثلاثية، وأن كل ما جرى من محادثات إنما كان هدفه إحراج عبد الناصر الذي لم يتورع في هذه المحادثات عن إحراجهم بل محاكمتهم، وهكذا تصاعد الخلاف والمهاترات بين الطرفين، حتى وصل إلى درجة من الإسفاف والسوقية يصعب تصورها، وكانت الإذاعة السورية تدفع عند اشتداد الخلاف مع عبد الناصر أغنية المطربة صباح: يا كركدن لا تحسبن لتقبضن، أما في فترات التهادن فكانت تذيع أغنية نجاح سلام، بدي عريس أسمر، شرط من المتحدة، وكانت ذروة الإسفاف أن يجعل الوفد السوري بقيادة البعث الحملة علي والشتيمة مدخلاً لإرضاء عبد الناصر، بالوقت الذي ترفع فيه عبد الناصر عن ذلك."(39).ثم يتابع أكرم الحوراني في مذكراته فيقول: " كان أهم ما كشفت عنه مباحثات الوحدة الثلاثية هو اعتراف الوفد السوري بالتصفيات الكبيرة التي بدأت في الجيش السوري فور انقلاب الثامن من آذار، ومحاولة إلباس هذه التصفية لبوساً قومياً إلى غير ذلك من الادعاءات الواهية. فخلال الأيام الأولى لانقلاب الثامن من آذار 1963 تم تسريح أكثر من 500 ضابط من مختلف الرتب من كوادر الجيش المدربة والمحترفة، وحل محلهم ضباطاً من معلمين وموظفين، وكان تسريح هؤلاء الضباط يتم تحت ذرائع مختلفة بحجة أن بعضهم انفصالي، أو أن بعضهم الآخر من البورجوازيين أو الشعوبيين أو " الحورانيين "(40). يقول لؤي الأتاسي عضو الوفد والضابط الذي نصب رئيساً للدولة السورية بعد انقلاب الثامن من آذار في محادثات الوحدة الثلاثية التي بدأت في 14 / 3 / 1963 أي بعد سبعة أيام من الانقلاب: " حتى الآن صار عندي 300 ضابط مسرح من مختلف الرتب، وماشيين بالتسريح، وأي إنسان لو أشك أنه ممكن ألا يمشي مع الاتجاه على طول يخرج، كما يقول " يعني لواء قد يكون المدى بتاعه – لاحظ هنا أن لؤي الأتاسي يتكلم باللهجة المصرية – أو الميزانية بتاعه 25% مؤمنة، أحسن من بالماية ماية (أي عدد الضباط اللازم لقيادة لواء) يكون تناقضات ومشلول ودي سياستنا دلوقت " كما جاء على لسان الضابط فهد الشاعر عضو الوفد ما يلي: " إن التجانس العسكري والمدني سيكون دائماً العامل المحرك لدفع القومية العربية إلى الأمام وحمايتها من أي خطر، وأنا لا يمكنني أن أتصور وجود ضابط سوري قومي في كتيبة مشاة، وضابط كردي يريد دولة كردية، وضابط شيوعي يدين بلينين وستالين وماركس، وضابط انفصالي يسيطر عليه عامل الدين " ثم يضيف: " إن الأسلوب الذي أشار إليه الفريق الأتاسي هو المتبع حالياً في الجيش، أي الإبقاء على العناصر التي تؤمن بالعروبة والقومية ". بعد ذلك يوسع فهد الشاعر مدى التصفية من المجال العسكري إلى المجال المدني، كما يعطيها معنى التصفية الجسدية، عندما يقارن الوضع بما حدث في الاتحاد السوفييتي وأن تصفية سبعة ملايين من الروس ليست أمراً مهماً بالنسبة للتجانس الذي حققته روسيا وبالنسبة لعدد سكانها"(41).
إن العمل بهذه العقلية السياسية قاد إلى أن يكون " عدد المسرحين من الجيش السوري بعد الثامن من آذار من الضباط وصف الضباط قد بلغ الآلاف وامتدت التصفية إلى ضباط الأمن (وزارة الداخلية) وحتى إلى طلاب الكلية العسكرية عندما صرفت دورة كاملة بحجة أن طلابها جميعاً انفصاليون، ولقد نشرت جريدة الحياة اللبنانية بعض قوائم التسريح "(42).
يسخر السوريون كثيراً من النظام الأسديفي كونه يوجه لكل من يعارضه تهمة جناية النيل من هيبة الدولة ومس الشعور القومي وتعكير الصفاء بين عناصر الأمة. إن ما ينبغي معرفته هنا أن هذا النهج في محاربة المعارضين لم يكن من صنع واختراع النظام الأسدي (الأب ثم الابن) بل هو براءة اختراع بعثية مئة بالمئة، ففي خضم الصراع على السلطة بين البعثيين والناصريين بشكل خاص والصراع مع المجتمع السوري بشكل عام وللتغطية على عمل القيادة البعثية بكل تياراتها وأجنحتها للتخلص والقضاء على الناصريين في معركة حاسمة،يقول أكرم الحوراني في مذكراته بتاريخ 24 / 4 / 1963 أصدر النظام البعثي" قراراً بتشكيل محاكم الأمن القومي وحرك النائب العام المقدم صبحي زهير العادلي الدعوة على كل من خالد العظم، أكرم الحوراني، ناظم القدسي، عبد الكريم زهر الدين، معروف الدواليبي، أمين النفوري، خليل كلاس، أسعد محاسن، عفيف البزري، بتهمة اغتصاب السلطة وجناية النيل من هيبة الدولة ومس الشعور القومي وتعكير الصفاء بين عناصر الأمة، وجنحة إساءة استعمال السلطة، بينما اتهمت وحدي بتهمة التجسس، وهكذا بلغت الوقاحة حد اتهام الآخرين بالجنايات والجرائم التي كانت ترتكب كل يوم "(43).
ثم كانت الموجة الثانية من تصفية النخب السياسية والاجتماعية والمدنية بعد انقلاب 23 شباط البعثي 1966،فقد قام النظام البعثي الجديد " بحملة اعتقالات واسعة شملت معظم المدن السورية ومختلف الاتجاهات (حزب الشعب، الحزب الوطني، الإخوان المسلمين، الاتجاهات الدينية، رؤساء العشائر)شمر وطي والرولة، كما حجزت أو صودرت ممتلكاتهم، واعتقل المئات من أنصارهم، ونقل الجميع إلى سجن تدمر الصحراوي."(44).
ففي هذه المرحلة " شرع نظام جديد يضفي على البلد طابعه التطهيري الحنبلي المتشدد. فخفض رواتب رئيس الدولة وكبار الضباط والموظفين الحكوميين. واستبدل بسيارات المرسيدس والليموزين السوداء سيارات أكثر تواضعاً مثل الفولكس واغن والبيجو (404). وتم قمع الفساد ورفضه باحتقار، بينما أصبح الصراع الطبقي ضيق الأفق وانتقاماً. فطرد من الخدمة أي شخص له علاقة ولو كانت بعيدة بالعائلات المتنفذة القديمة، ومهما يكن الشخص في ذاته نظيفاً ولا غبار عليه... إلى درجة أن الناس صاروا يخشون الكشف عن أسماء عائلاتهم خوفاً من التعرض لإجراءات انتقامية. ففي وزارة الخارجية لم تستطع سوى حفنة من كبار الدبلوماسيين المحترمين أن تحتفظ بمناصبها بسبب كفاءتها الذاتية وعدم وجود ارتباطات سياسية لها. وبما أن امتلاك أكثر من بيت واحد صار شيئاً لا ينظر إليه بعين التشجيع، فقد حدثت هجمة على البيع فانهارت الأسعار وهرب القادرون على الهرب خارج البلاد. وامتدت السيطرة الحكومية إلى المدارس الخاصة التي كان كثير منها بإدارة مؤسسات دينية؛ أما تلك التي رفضت إدارة الدولة فأغلقت. وفي هذه الأثناء بدأ الفقراء والأقليات والمحرومون من كل نوع يغمرون المدن كالطوفان بعد أن شعروا بوجود تغير لصالحهم، وبذلك غيروا نمط الحياة في تلك المدن. وقد بدا لهم أخيراً أن تلك حكومة المحرومين الذين لا أرض لهم، والتي تمثل انتصار السهول التي تتناوح فيها الرياح، على أضواء المدن البراقة. وبهذه التعبئة لما كان يشبه دولة الحزب اللينينية راح الناس في المجتمع يصنفون ما بين عدو وصديق، مع تقسيمات فرعية فيما بين الصنفين: " فالعمال " و " الفلاحون " و " الطلبة " و " النساء " و " الشبيبة " صنفوا كأصدقاء. أما " الإقطاعيون " و " الرجعيون " فاعتبروا أعداء بلا هوادة، رغم إفساح المجال للتسامح مع بعض " الرجعيين الذين لا ضرر منهم ".وبدا كأن كون المرء سورياً فقط لم يعد يعطيه أي حق. وبدا النظام في متابعته لبرنامجه شديد التعصب مذهبياً وكأنه يحاول تحقيق شيء لا يقل عن تحويل طابع سوريا وشخصيتها. "(45).
ثالثاً: التخلص من النخب القومية البرجوازية الصغيرة القومية من أبناء المدن (أٌكِل الثور الأسود يوم أُكِل الثور الأبيض):
إن استبعاد النخب المدنية عن الحياة العامة وتحديداً الحياة السياسية لم يقتصر على النخب المدنية السياسية التقليدية فحسب، بل إن الصراع السياسي الذي نشب بين تيارات وأجنحة القوى القومية البرجوازية الصغيرة على السلطة تمفصل في كثير من الحالات مع صراعات لها طابع حضاري (ريفي – مدني) وفيما بعد أخذ بعداً طائفياً (أقليات – وأكثرية) وفيما بعد أخذ طابعاً طائفياً مكشوفاً، ولا سيما بعد أن استفرد تيار وحيد في السلطة وبنى دولته الاستبدادية العتيدة على جثة كل التيارات الأخرى التي كانت معه في السلطة. فبعد التخلص من النخب السياسية التقليدية المدنية تم استبعاد قسم من النخب العسكرية من أبناء المدن بحجة وذريعة أنها قوى انفصالية وغير وحدوية، أي بحجة أنها ساعدت أو أيدت الانفصال بين سوريا ومصر، ومع انفجار الصراع بين القوميين البعثيين والناصريين على السلطة إثر المحاولة الانقلابية التي قام بها الضابط الناصري جاسم علوان يوم 18 تموز 1963، تم استبعاد النخب الناصرية من الحياة العامة، وحيث كانت أغلبية هذا التيار هي من أبناء المدن ولا سيما أن الناصرية شكلت إيديولوجياأغلبية أبناء المدن السورية من البرجوازية الصغيرة القومية، في حين شكلت الأرياف السورية الحاضنة لأغلبية القوميين من البعثيين والاشتراكيين العرب. وبعد التخلص من النخب الناصرية (أبناء المدن) وبعد انتقال الصراع إلى داخل النخب القومية البعثية الحاكمة، تم إقصاء واستبعاد البقية الباقية من أبناء المدن عن مسرح الحياة السياسية العامة، ولا سيما أن أغلبية التيار القومي البعثي الوسطي المعتدل كان يتشكل من أبناء المدن، في حين شكل أبناء الأرياف والمدن الصغيرة أو البلدات وأبناء الأقليات الدينية أغلبية التيار القومي البعثي اليساري داخل سلطة البعث، وعندما تمت الإطاحة بسلطة التيار القومي البعثي الوسطي وجاء التيار القومي البعثي اليساري إلى السلطة في 23 شباط 1966، لم يبق من أبناء المدن إلا القلة القليلة من رموز السلطة السياسية أو العسكرية (بعض الواجهات).يقول حنّا بطاطو: " بيد أن هنالك مؤشرات أخرى ثمة، في المقام الأول، الاعتراف الصريح من جناح صلاح جديد، الذي أمسك بسلطة موحدة غير منقسمة بين عامي 1966 و1968، بأن وجود الحزب " ضعيف جداً في المدن الكبرى" وبأن معظم قادة الفروع فيها " من مناطق أخرى " وكانوا عاجزين عن بناء " تنظيم حزبي حقيقي قادر على تحريك وقيادة تلك المدن ". وثمة ثانياً، الحقيقة المعبرة التي مفادها أن الحكومة في الستينيات اضطرت في بعض المناسبات إلى المجيء بفلاحين من الريف لمواجهة التظاهرات والإضرابات التي اندلعت في حماه وحلب ودمشق. وإنه لذو مغزى أيضاً أن من بين الأعضاء الستمئة، أو نحوه، في الحرس القومي البعثي في العاصمة السورية لم يكن هناك سوى اثني عشر دمشقياً (...) الأمر الأكثر حسماً هو التركيبة الاجتماعية للحزب على مستوى القيادة. فكما يمكن أن نرى من الجدول (12 – 5) في كتاب حنا بطاطو، فإنه من بين الأشخاص الأربعة والعشرين الذين وصلوا إلى عضوية القيادة بين آذار/مارس 1963 وتشرين الثاني/ نوفمبر 1970 جاء 54,1 في المئة من القرى و33,3 في المئة من بلدات ريفية أو صغيرة، ولم يأت سوى 8,4 في المئة من المدن الرئيسية. وفي الفترة السابقة عليها مباشرة، أي بين أيلول/ سبتمبر 1963 وشباط/ فبراير 1966، كانت الأرقام الموافقة هي 37,9 و44,8 و17,3 في المئة (انظر الجدول (12- 4)) من نفس الكتاب، وفي الفترتين، لم يشغل أي دمشقي مقعداً في القيادة "(46).
ولهذا عندما وصل إلى السلطة عام 1970 التيار الذي اكتملت معه كل أركان نظام دولة الاستبداد المعمم الشمولي، كانت السلطة وكل رموز الحياة العامة في السلطة والدولة والمجتمع هم من أبناء الريف، حيث لم يبق لأبناء المدن إلا بعض الزوايا والواجهات التي أريد لها أن تبقى كي تخفي واقع أن السلطة أصبحت في أغلبيتها لأبناء الريف والبلدات الصغيرة (أو المدن الصغيرة).
لقد " نجح أعضاء اللجنة العسكرية البارزون في الفترة التي تلت عام 1963 مباشرةً، وبوجود روافع السلطة الحاسمة بين أيديهم، ونيتهم توسيع قاعدة دعمهم، في تسريع عملية كانت قد بدأت في الخمسينيات وتكثيفها، عملية تضمنت تحويل سلك الضباط والقوات المسلحة وبيروقراطية الدولة تحويلاً جوهرياً إلى مؤسسات ذات صبغة ريفية أو قروية قوية. وبعبارة أخرى، وكي يكون كلامنا ملموساً أكثر، فقد طهّر الأعضاء النافذون في اللجنة العسكرية تلك المؤسسات على نحو لم يكن معروفاً في سورية حتى ذلك الوقت، فخلصوا تلك المؤسسات من العناصر التي اعتبروها معادية أو ذات ولاء مشكوك فيه أو متردد، أو ملأوها بأصدقائهم أو رجال لم يكونوا فلاحين من حيث الوظيفة إلا في بعض الأحيان، لكنهم غالباً ما كانوا فلاحين من حيث الأصل"(47). يكفي هنا أن أشير إلى أن عدد الضباط من أبناء المدن بشكل عام والسنة بشكل خاص المسرحين من الجيش السوري في الفترة الواقعة بين عام 1963 تاريخ وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة، وعام 1967 تاريخ حرب 5 حزيران مع إسرائيل حسبما جاء في كتاب حنّا بطاطو قد بلغ " ما يزيد عن ثلث ضباط الجيش السوري "(48)– فخلال هذه الفترة تم تسريح 700 ضابط من أصل 1800 ضابط هم مجموع عدد ضباط الجيش السوري – وقد تم استبدالهم " باحتياطيين كانوا إلى حد بعيد معلمي مدرسة ريفيين، أو بطلاب غير مدربين تدريباً كافياً، وغالباً من أصل ريفي "(49). لقد تمكن الضباط ذوي الأصول الريفية بشكل عام وذوي الأصول الريفية من أبناء الأقليات الطائفية بشكل خاص، ولا سيما الضباط العلويون من تصفية وتطهير أجهزة الدولة والسلطة العسكرية في البداية ثم المدنية فيما بعد من أبناء المدن، نتيجة توفر مجموعة من العوامل الموضوعية لطالما تهرب الكثيرون من الوقوف عندها، وركزوا فقط على المؤامرة الطائفية العلوية من دون البحث في الشروط اللازمة لتحققها ونجاحها على أرض الواقع، وهي الشروط التي تناولها وذكر أهمها حنّا بطاطو في كتابه الشهير الذي أخذ اسم (فلّاحو سورية...).
رابعاً: تحالف البعثيين وسر الحركة الطليقة للجنة العسكرية البعثية السرية:
سؤالان لطالما سألهما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أغلب الباحثين الذين تناولوا سيرورة الصراع على السلطة البعثية في سورية في بداية الستينيات من القرن الماضي، ومعها كذلك سيرورة ترييف وتطييف السلطة والدولة في سوريا.
السؤال الأول طرحه دانييل لوغاك في كتابه " سورية في عهدة الجنرال الأسد " يقول السؤال: كيف استطاع البعثيون أن يجعلوا من انقلاب 8 آذار 1963 انقلاباً بعثياً رغم أن أغلب الضباط الذين قاموا به لم يكونوا بعثيين أو لنقل:" رغم كون الضباط البعثيين الذي اشتركوا به مع الضباط الناصريين والمستقلين لم يكونوا هم الأكثرية "(50). يجيب دانييل لوغاك على هذا السؤال بالقول: " إن الضباط البعثيين كانوا أقلية إلا أنهم كانوا بوضوح منظمين بصورة جيدة داخل المجلس الوطني للقيادة الثورية واستطاعوا توسيع المجلس – الثوري – هذا بإضافة عشرة أعضاء كلهم من المدنيين ومن بينهم خمسة بعثيين. وأصبح مجموع عدد البعثيين في المجلس ثمانية من أصل عشرين إلا أنهم استندوا إلى بعض (المستقلين) وحصلوا على منصب رئيس المجلس والذي استلمه صلاح البيطار"(51). وعلى الرغم من صحة هذا الجواب إلا أنه يبقى جواب لا يحيط بكل الجوانب والأسباب التي جعلت من انقلاب 8 آذار 1963 انقلاباً بعثياً بحتاًبعد أسابيع من وقوعه. فما ينبغي إضافته كي نصل إلى الجواب الشافي والشامل علينا القول:
أولاً: على صعيد تنظيم الصفوف داخل الجيش نجد بأنه في مقابل التنظيم الجيد لصفوف الضباط البعثيين كانت هناك الكثرة غير المنظمة للضباط الناصريين.
وثانياً: إن وقوف ودعم قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، ووضع كل ثقلها السياسي والحزبي خلف هذا الانقلاب، هو ما حوله إلى انقلاب بعثي بحت. فعلى الرغم من التضعضع والتشتت السياسي الذي كان يعانيه حزب البعث العربي الاشتراكي والموروث من سنوات الوحدة مع مصر من جهة، والتشظي الذي أصابه بعد المؤتمر القومي الخامس 1952، إلا أن وضع البعثيين التنظيمي على هشاشته كان أقوى بما لا يقاس من وضع الناصريين الذين كانوا منظمين في الشارع السوري في إطار تيار سياسي أطلقوا على أنفسهم اسم (الوحدويون الاشتراكيون)، وهم تيار سياسي ناشئ وفتي أغلب كوادره من أصول بعثية وغير متجذرة في البيئة السياسية السورية بالقياس مع عمر وتجذر البعث وتاريخه داخل المجتمع السوري. فإذا كان صحيحاً أن السوريين عموماً لم يقعوا يوماً في هيام وغرام مع البعثيين لا قبل ولا بعد انقلاب 8 آذار، إلا أن ما هو صحيح كذلك أن السوريين عموماً كانوا كذلك غير مغرمين كثيراً بالناصريين بعد تجربة سنوات الوحدة مع عبد الناصر، والتي كانت مريرة على السوريين عموماً وعلى أبناء المدن السورية خصوصاً، ولا سيما مدينتي حلب ودمشق. وإذا ما أضفنا إلى كل ذلك الحماس الذي دب في صفوف البعثيين السوريين والعرب على صعيد القيادات والقواعد بعد نجاح الانقلاب البعثي في العراق بتاريخ 8 شباط 1963، أي قبل شهر واحد من الانقلاب البعثي السوري، عندها يمكن أن نفهم كيف استطاع الضباط البعثيون الذين شاركوا في الانقلاب أن ينالوا دعم قيادة حزبهم مضافاً إلى ذلك دعم القيادة القومية للحزب، أي بعبارة مختصرة يمكن القول: بأنه في الأسابيع والأشهر الأولى التي تلت مباشرة انقلاب 8 آذار 1963 حدث تحالف مؤقت بهدف الاستفراد بالسلطة بين ما يسمى بعث التأسيس المدني (البعث القديم أو بعث أواخر الأربعينيات وعقد الخمسينيات) مع بعث الستينيات أو (بعث اللجنة العسكرية التي شاركت في الانقلاب)" والتي يغلب عليها الطابع الريفي "(52).
لقد " كانت المعضلة التي واجهتها اللجنة العسكرية السرية البعثية بعد نجاح الانقلاب، ثلاثية الأبعاد: كيف نتخلص من أو ندعي التجاوب مع ضغوط الشارع العارمة طلباً لعودة الوحدة مع مصر؟ كيف نضرب الناصريين في الجيش استباقياً ووقائياً ولكن بتدرج محسوب؟ ثم كيف نتخلص من عبء الحريري (قائد انقلاب 8 آذار) بعد استنفاد دوره؟ تلاقت سياسات اللجنة العسكرية في ذلك الوقت مع رغبات عفلق – البيطار لجهة التنائي عن وحدة مع عبد الناصر، أو كبديل اضطراري السعي لاتحاد ثلاثي يضم عراق البعث وبما يكفل أن يصبح عبد الناصر بين المطرقة والسندان: بعث دمشق وبعث بغداد. كانت مناورة البعث ماكرة إذ لا يستطيع لا عبد الناصر ولا ناصرييه السوريين الممانعة في احتساب العراق متحداً ثالثاً حتى ولو ناور ناصر خلال الجولة الثانية من مباحثات القاهرة بالقول: أنه مستعد لقبول وحدة سورية عراقية أولاً بمقدار قبوله لوحدة مصرية سورية أولاً. إذاً في مسألة الوحدة لاقى البعثان مخرجاً شبه مريح في طرحهم الثلاثي، لكن المنغص الكبير بقي ثنائية الشارع الناصري والكثافة الناصرية في الجيش (...) وبخديعة ماكرة تلخصت في إيفاد العديد (من الضباط الناصريين) لبغداد لبحث الوحدة العسكرية، ثم ليعودوا إلى منازلهم مسرحين. استمرت التسريحات طوال أيار وحزيران ولم تنفع في ذلك وساطة المهدي بن بركة، أو وساطة هواري بومدين من قبله، ابتغاء رأب الصدع المتفاقم بين عبد الناصر والبعث. في أيار استقال الوزراء الناصريون وقمعت المظاهرات الناصرية الضخمة بالعنف المسلح واعتقل العديد من ناصريي العراق لاتهامهم بالتآمر(...) في ذلك الوقت كان معلوماً للجنة العسكرية (البعثية) اقتراب خطوات الانقلاب الناصري المزمع (بقيادة جاسم العلوان) وكانت تفضل أن يتم الانقلاب ويسحق على أن يجهض باستباق وقوعه بحملة اعتقالات لمنفذيه المتوقعين" والمكشوفين "(53).
والحاصل أن رغبة الفراق البات مع عبد الناصر ومشايعيه كانت عارمة وبمقولة جازمة أن عهد البعث قد بزغ وأنه سيحكم دولتين متجاورتين ليقود العالم العربي على أنقاض عبد الناصر. فبعد استقالة الوزراء الناصريون والقوميون العرب من الحكومة شكل صلاح البيطار الحكومة مرة ثانية " وكان الهدف من تأليف هذه الحكومة الجديدة بعد انسحاب الناصريين من الحكومة السابقة القضاء على الناصريين بمعركة فاصلة في سورية والعراق معاً، ويتبين ذلك من التصريح الذي أدلى به للصحف أوائل أيار 1963 مصدر بعثي، وورد فيه أن اتهاماً للناصريين " بأنهم أرادوا بالدعوة إلى المناصفة في الحكم احتلال مناصب هامة في الدولة حتى يتمكنوا من قطع الطريق على البعث وتحويل الاتحاد إلى عملية ناصرية، وأن حزب البعث مصمم على أن يضطلع هو بمسؤولية الحكم في سورية والعراق ضمن الاتحاد، بينما يضطلع عبد الناصر بمسؤولية الحكم في مصر، ودون ذلك يستحيل أن يقوم تكافؤ في قيادة الاتحاد ما يخضع الأقطار الثلاثة لحكم عبد الناصر شخصياً بدلاً من القيادة الجماعية " وانتهى المصدر البعثي إلى القول: " نريد أن نكون في سورية والعراق الحزب الحاكم لا حزب الحاكم "(54).
وهنا يثور السؤال: هل كانت قيادة الحزب المدنية متساوقة مع عسكرييه في هذا المنظور؟ والإجابة الحاسمة في ضوء وقائع تلك الفترة هي بنعم. كان ميشيل عفلق يظن أن العسكريين الشباب هم أداته للوصول إلى حلم البعث الذي يحكم إقليم الرافدين – الشام لينطلق منه إلى حلم قيادة العالم العربي، إما بالبعث منفرداً أو بالشراكة مع عبد الناصر كحد أقصى"(55). وحتى يكون من السهل إفشال محاولة جاسم علوان الانقلابية المكشوفة والمراقبة، كانت في البداية خطوة التخلص من كتلة المستقلين بقيادة زياد الحريري،ففي البداية " قرر المجلس الوطني (البعثي) قبيل محاولة جاسم علوان تصفية تكتل زياد الحريري في الجيش وتشكيل الحرس القومي مثلما كان يجري في العراق، وتعيين الضابط حمد عبيد قائداً عاماً لهذا الحرس وترفيع أمين الحافظ لرتبة لواء وتعيينه رئيساً للأركان ووزيراً للدفاع لإطلاق يده في قمع المحاولة الناصرية المرتقبة "(56). أو الأصح لوضعه في الواجهة لقمع محاولة جاسم علوان الانقلابية المرتقبة، فعلى الرغم من كل المناصب التي أعطيت للحافظ " ولكنه بالنسبة للجنة العسكرية كان رجلاً من قش دون قاعدة سياسية أو خلفية حزبية. فقد كانوا يمسكون بلجامه من خلف الكواليس حتى أن الأسد ذكر بأن أمين الحافظ " لم يكن يستطيع نقل جندي دون موافقتنا "(57).
بعد ذلك " فاتحت قيادة البعث زياد الحريري عن طريق صلاح البيطار وعلي صالح السعدي بضرورة انتسابه إلى حزب البعث، ولكنه اعتذر قائلاً: أنه يفضل أن يبقى عسكرياً غير منتم لأي فريق سياسي "(58)." في خضم هذه الأجواء قررت اللجنة العسكرية البدء بتصفية كتلة زياد الحريري الصغيرة لكونه الأسهل منالاً وتوطئة للصدام المرتقب مع الناصريين. هنا أيضاً كانت الخديعة هي الأسلوب المتبع: أُقنع الحريري بترؤس وفد لزيارة الجزائر. ولطمأنته اصطحبه عديد من القيادات البعثية المدنية والتي كانت خالية الذهن من مسألة التواطؤ، ومعهم المقدم صلاح جديد. خلال تلك الزيارة جرى تسريح ضباط الحريري وعلى رأسهم قائد اللواء المدرع حسن الجلاغي ومدير المخابرات العسكرية محمود الحاج محمود. عاد الحريري إلى دمشق ليجد نفسه قد أضحى نكرة في المشهد السياسي لدرجة أنه اصطحب إلى المطار يوم 8 تموز مطروداً سفيراً في إسبانيا "(59).
أما ثالث الأسباب في قدرة البعثيين على تحقيق انتصار على الناصريين وتحويل انقلاب 8 آذار إلى انقلاب بعثي بحت، فقد كان الدعم الخارجي الذي تلقاه البعثيون من الأمريكان. فلم يعد سراً أن البعثيين " أتوا إلى السلطة بالقطار الأمريكي "(60). على حد قول علي صالح السعدي أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث في العراق 1963. فقد كانت المصلحة الأمريكية في تلك الفترة متلاقية مع البعثيين لأكثر من سبب، وحيث يأتي في مقدمة هذه الأسباب:
أولاً: استخدامهم كعصا لضرب التوسع المخيف للشيوعيين في الساحة العراقية، وقطع الطريق على المسار الذي كان يسير به صديق الشيوعيين في سوريا، أقصد هنا ضرب تجربة وتيار خالد العظم البرجوازي الديمقراطي الصاعد في سوريا، وهي الوظيفة التي نفذها البعثيون في العراق وسوريا على وجه يفوق ما كان يحلم به الأمريكان ذاتهم. " لقد كانت الولايات المتحدة مؤيدة لنظام البعث في القطرين ولجمال عبد الناصر في آن واحد، وقد صرح (أرمان ماير) سفير الولايات المتحدة في لبنان في إحدى الحفلات التي أقيمت له بمناسبة سفره للولايات المتحدة محدداً السياسة الأمريكية، وذلك رداً على انتقادات بعض النواب اللبنانيين لهذه السياسة بما يلي: " إن الدبلوماسية الأمريكية لا تأخذ درساً من أحد، وأن مصلحة الولايات المتحدة هي في إقامة توازن بين الدول العربية وإسرائيل، وهذا ما يهمنا بالدرجة الأولى حفاظاً على السلام في هذه المنطقة من الشرق الأوسط، وقال: " إن من حق حكومتي أن تؤيد حزب البعث الحاكم في سورية والعراق لما أظهره من شجاعة في مكافحة الشيوعية، ولكن من حقها أيضا ألا تدير ظهرها للرئيس عبد الناصر خوفاً من أن يضع المنطقة في الجو الشيوعي لاعتقادها أنه قادر وحده على أن يفعل ذلك إذا تخلت عن تأييدها له في بعض نواحي السياسة التي يتبعها، ومن هنا كان اعتراف الولايات المتحدة السريع بنظام الحكم الجديد في كل من العراق وسورية بعد الانقلابين الأخيرين وتسلم البعث الحكم في البلدين المتجاورين، ودعم سياسة الحكومتين السورية والعراقية التي ترمي لمكافحة الشيوعية "(61).
لقد كانت المخابرات الأمريكية تقف خلف انقلاب 8 آذار 1963 بطريقة غير مباشرة، فقد تخفى في البداية البعثيون والناصريون ومعهم الأمريكان خلف الجنرال زياد الحريري الذي كان على علاقة واتصال مع المخابرات الامريكية. ثم تخلى عنه الأمريكان لصالح البعثيين قبل انفجار الصراع بين البعثيين والناصريين.فالأمريكان كانوا يعلمون ضعف الحريري كونه شخصية مستقلة سياسياً ولا يمتلك قاعدة عسكرية أو مدنية يمكنها أن تسنده في حكم وضبط المجتمع السوري، الذي كان أهم ما يميزه أنه مجتمع مسيس ويعج بالتيارات السياسية والحزبية التي تضع نصب أعينها الوصول إلى السلطة والعصيان بها، ولا سيما التيارات الحزبية البرجوازية الصغيرة القومية، وقد كان التيار البعثي هو التيار المناسب أكثر من غيره بالنسبة للمصالح الأمريكية في المنطقة في تلك الفترة.
ثانياً: لقد دعم الأمريكان البعثيون ضد الناصريين لتكريس الحالة القطرية على يد دعاة الوحدة القومية ذاتهم، من خلال تغذية الصراع البعثي الناصري على السلطة والنفوذ في الشارع. فالمصلحة الأمريكية كانت تستدعي دعم التجربة البعثية بوصفها تجربة شبيهة للنموذج والتجربة الناصرية من حيث الجوهر والوظيفة والعلاقة الفوقية بالمجتمع، أي خلق جلاد خاص بكل مجتمع قطري، وبنفس الوقت تقطع الطريق على إمساك عبد الناصر بأكثر من ساحة عربية، وبما يعني منع عبد الناصر من توسيع نفوذه في المنطقة وإضعاف قوته في سوق المزايدات والمتاجرة السياسية التي كان النظام الناصري بارعاً في استخدامها وتوظيفها تجاه الكثير من القضايا المطروحة للمبارزة والمبازرة في المنطقة العربية وفي القارة الأفريقية في ذلك الوقت.
خامساً: أقليات ريفية متراصة سياسياً وأكثرية ريفية ومدنية منقسمة:
أما السؤال الثاني فقد طرحه حنّا بطاطو في كتابه الشهير فلّاحو سورية. يقول السؤال: " ما الذي جعل هيمنة الضباط العلويين السياسية ممكنة في النصف الثاني من الستينيات والعقود التالية، في حين لم يكن عدد أبناء طائفتهم يتخطى ثُمُن عدد سكان سورية؟ إذا وضعنا جانباً عاملين تفسيريين عامين – تجزئة البنى الاجتماعية وعدم الفاعلية السياسية للكتلة العظمى من السوريين – فإن السؤال يحل نفسه في سؤال يتعلق بتحديد ما الذي جعل السيطرة الحاسمة للعسكريين العلويين على القوات المسلحة السورية ممكنة؟ لا بد أولاً من القول بوضوح أن العلويين على مستوى سلك الضباط وعلى عكس الانطباع واسع الانتشار، لم يكونوا مهمين عددياً بمثل أهمية السنّة قبل عام 1963، واستمدوا كثيراً من قوتهم الحقيقية من صفوف الجيش الدنيا. وبالمعنى الحسابي، كان عددهم كثيراً بين الجنود العاديين، وكانوا موجودين بوفرة واضحة بين ضباط الصف "(62). ففي عام 1955 كان ما لا يقل عن 55 في المئة أو نحوه من ضباط الصف من الطائفة العلوية حسبما جاء في كتاب بطاطو فلّاحو سورية، وتفسير ذلك حسب بطاطو لا يعود كما يعتقد الكثيرون إلى السياسة الفرنسية تجاه الأقليات الطائفية أيام الانتداب " حين قامت فرنسا بتشكيل القوات الخاصة – كتائب المشاة وسرايا الخيالة - التابعة لسلطة الانتداب من أبناء الأقليات الطائفية والقومية "(63). فهنا علينا أن نعلم بأنه " في حين كان تعداد الفرقة السورية في القوات الفرنسية الخاصة الموروثة عن الفرنسيين في عام 1946 هو 7 آلاف فقط، فإنه تقلص في عام 1948 إلى 2500 رجل فقط لأن العائلات التجارية ومالكة الأراضي الحاكمة في حينه كانت تنظر إلى تلك الفرقة على أنها كبيرة جداً ومكلفة جداً "(64).
ومن جهة ثانية فقد " تدارست القوى الوطنية، بقلق وضع القوات الخاصة، التي لم يكن لها أي دور في حصول سورية على استقلالها، بل على العكس، فقد ذاقوا منها الأمرين خلال فترة الانتداب نظراً لارتباطها بالمؤسسة العسكرية الفرنسية، وكان القسم الأعظم منهم يرى وجوب حلّها بعد جلاء الفرنسيين، لكن فريقاً آخر، كان من أبرز أعضائه أكرم الحوراني، اقترح بقاءها لتكون نواة الجيش الوطني، بعد التأكد من وطنية ضباطها، بحكم أن أصحاب الرتب العالية من هذه القوات كانوا من أبناء الأقليات العرقية والطائفية الذين يغلب ولاءهم العائلي والإثني والطائفي على ولاءاتهم الوطنية والقومية، ولكن الحوراني أخذ على عاتقه فتح حوار مع هؤلاء الضباط لإقناعهم أن يكون ولاءهم للدولة السورية فقط، وأن يبتعدوا عن أي ولاء لفرنسا أو لطوائفهم. وكان تمتع القوات الخاصة بانضباط الجيش الفرنسي وتقاليده، سبباً مرجحاً في عدم حلّها وإبقائها كنواة للجيش الوطني، الذي لم يكن له وجود في سورية عشية الاستقلال "(65).
" ومن المؤكد لا يمكن لموطئ القدم القوي للعلويين في القوات الخاصة أن يفسر نفوذهم المهيمن في الجيش حالياً. ثمة عامل سببي آخر أكثر أهمية راح يفعل فعله بثبات بعد الاستقلال مثلما كان تحت الحكم الفرنسي، ألا وهو وضع العلويين الاقتصادي السيئ. وهناك أمر آخر ذو صلة يقدم تفسيراً للعدد المتفوق للعلويين، على الأقل بين المجندين العاديين، هو موضوع البدل. قبل 1964، كان مسموحاً للسوريين أن يشتروا إعفاء من الخدمة العسكرية مقابل 500 ليرة سورية. وفي عام 1964، قيدت تلك العملية بشدة، ورفع البدل إلى 2000 ليرة لحاملي الشهادة الجامعية و1000 ليرة لخريجي المدرسة الثانوية و600 لغيرهم من السوريين. وفي عام 1968، رفع الحد الأقصى للبدل إلى 3 آلاف دولار، ووصل في عام 1978 إلى 5 آلاف دولار، وبات من الواجب تسديده بعملة صعبة. غير أنه كان بمقدور سنّة المدن عموماً في الخمسينيات والستينيات، وبغض النظر عن مدى تواضع وضعهم، أن يتحملوا التضحية ب 500 أو 600 ليرة سورية ليتجنبوا سنة ونصف السنة أو سنتين من الخدمة الإلزامية. أما بالنسبة إلى الفلاحين ولا سيما العلويون، فكانت 500 أو 600 ليرة تمثل قيمة مواسم عدة من العمل الشاق. علاوة على ذلك، قلما كان الفلاحون خالين من الدين. بيد أن صعود العلويين إلى الهيمنة في سلك الضباط هو، في النهاية، ما أكد سيطرتهم الحاسمة على القوات المسلحة. وما عمل لمصلحتهم في هذا الخصوص، أكثر من أي أمر آخر، هو أنه في حين كان الضباط العلويون في أغلبيتهم الساحقة من أصول ريفية ومنبت قروي وأبناء منطقة واحدة، وذوي انتماء بعثي بعد عام 1955، كان الضباط السنّة منقسمين انقساماً لا براء منه سياسياً وإقليمياً وطبقياً. ولا شك في أنه كانت هناك انقسامات في صفوف العلويين أيضاً، كما أثبت اختلاف محمد عمران مع بقية الأعضاء العلويين في اللجنة العسكرية في عام 1964، واغتياله في عام 1972. والصراع على السلطة بين صلاح جديد وحافظ الأسد في فترة 1968 – 1970. لكن هذه الانقسامات نشأت من صراع شخصيات أو تباين في وجهات النظر، في حين أن الانقسامات بين الضباط السنّة غالباً ما كانت ذات معنى بنيوي أعمق. وهكذا، كان هؤلاء الآخرون متمايزين بوضوح إلى ضباط ريفيين وضباط حضريين. وبين الحضريين، كان الأكثر نشاطاً والأكثر تميزاً سياسياً هم الدمشقيون والحمويون، وبين الضباط الريفيين، مجموعتا دير الزور وحوران. كان الدمشقيون ناصريين جزئياً، لكنهم تماهوا، في الأغلب، مع الانفصاليين الذين مثلوا متاهة من العناصر المتضاربة التي تراوح بين مجموعات ذات جذور في الشرائح التجارية والصناعية مالكة الأراضي الغنية من المجتمع وإخوان مسلمين واشتراكيين ويساريين ومستقلين من الطبقتين الوسطى والوسطى الدنيا. وتعاطف الحمويون إلى حد بعيد مع أكرم الحوراني ذي الميل الاشتراكي وجزئياً مع النخبة القديمة. وكان بعض الضباط من دير الزور وحوران ناصريين، لكن اختار معظمهم حزب البعث. نتيجة الانقسامات في صفوف الضباط السنّة – وهنا أنا أبسط على نحو ما وضعاً بالغ التعقيد – كان الأمر ينتهي بسنّة من جماعة معينة إلى تصفية سنة من جماعة أخرى، أو إلى انضمام سنّة من الطبقة الدنيا أو المتوسطة إلى علويين أو دروز في تصفية سنّة الطبقة العليا، أو انضمام سنّة ذوي توجه ريفي إلى علويين ودروز في تصفية السنّة ذوي الأساس الحضري. وبالمعنى السياسي، صُفى الانفصاليون وأنصار أكرم الحوراني والناصريون ومجموعة المستقل زياد الحريري وأنصار البعثي أمين الحافظ بين آذار / مارس 1963 وشباط / فبراير 1966، ومع كل تصفية كان عدد السنّة يتناقص عدداً وأهمية. أما الضربات في آب / أغسطس وأيلول / سبتمبر 1966 ضد الدروز (مجموعتا فهد الشاعر وسليم حاطوم) والضربات في شباط / فبراير 1968 ضد بقية الكتلة السنية الريفية (مجموعة أحمد سويدان الحورانية) فعادت على الضباط العلويين بسيطرة واضحة على الميدان على الرغم من الصدع الذي عكسته فيما بينهم "(66).
السبب الثاني: الذي جعل ما سمي بجناح القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي انتمى إليه أغلب الضباط العلويين ومعهم ضباط الأقليات الدينية (إسماعيليين ودروز) وكذلك ضباط البيئات السنية المهمشة (سهل حوران وريف دير الزور)، هم الأقوى في مواجهة ما أطلق عليه بجناح القيادة القومية والمدنية للحزب الذي يقوده ميشيل عفلق، يعودلعاملين أساسيين:
أولى هذه العوامل: كانت الصفات والسمات الشخصية المتعاكسة بين من كانوا يمثلون القيادة القطرية من صقور العسكر (مثل صلاح جديد وحافظ الأسد وعبد الكريم الجندي وسليم حاطوم وأحمد سويدان ...إلخ) الذين كانوا قادرين ويعملون ليل نهار على جذب الأتباع والأنصار منفردين أو مجتمعين، معتمدين بذلك على الولاءات الشخصية أو الطائفية أو العشائرية أو المناطقية أو كل هذه العوامل مجتمعة داخل الحزب وداخل الجيش وفي بيئاتهم الاجتماعية وفي كل ميدان يمكن العمل فيه، في المقابل كانالذين يمثلون القيادة القومية – إذا ما استثنينا محمد عمران أحد صقور اللجنة العسكرية – كانوا من الحمائم المدنيين وحيث يأتي على رأسهم ميشيل عفلق الذي أهم ما كان يميز شخصيته: الجبن السياسي والشخصي " لقد كان من عادة ميشيل عفلق أن يغادر سورية كلما فشل أو تهدد مركزه، وكان لا يعود إليها إلا إذا قدر أن الفرصة قد أصبحت ملائمة لعودة مركزه ونفوذه على الحزب، وقد فعل ذلك أكثر من مرة سأذكر هنا أهم مرتين، المرة الأولى كانت بعد نشر رسالته المشهورة إلى حسني الزعيم – رسالة الاسترحام المخزية - التي حل بها الحزب وانسحب منه – على إثر اعتقالهعام 1949 - فسافر إلى الأرجنتين وأقام بها في ضيافة خاله "(67).
والمرة الثانية فعلها بعد هزيمته في مؤتمر القيادة القطرية في أيلول 1963. وبعدها في المؤتمر القومي السادس في تشرين الأول 1963، فبعد هزيمته الحزبية والفكرية غادر سورية " وأقام فترة قصيرة في ألمانيا عند شقيقه الذي وظفه في السفارة السورية "(68).
ولم يعد إلى سوريا حتى عام 1965 عندما كان هناك أمل بالتغلب على جناح القيادة القطرية – بقيادة العسكر - داخل الحزب.
ثاني هذه العوامل: كان التكتيك الذي اعتمده ضباط اللجنة العسكرية البعثية السرية وأغلبيتهم من الفئات والبيئات والشخصيات المشار إليها أعلاه وهو التكتيك الذي تجلى في تحالفهم الموضوعي ودعمهمليسار الحزب الذي كان يمثله في مؤتمر القيادة القطرية في أيلول 1963 ياسين الحافظ وحمود الشوفي، وحيث أن هذا التحالف قاد إلى وضع المنطلقات النظرية للحزب ذات الطابع اليساري في المؤتمر القومي السادس للحزب الذي انعقد في تشرين الأول 1963، كما قاد إلى الهزيمة الحزبية والفكرية لجناح القيادة القومية بقيادة ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار. يقول أكرم الحوراني في مذكراته:" لقد كان سقوط عمران وفشل ميشيل عفلق نتيجة للتطرف اليساري والماركسي الذي بدأ ينتشر بسرعة في أوساط المدنيين والعسكريين على السواء، بدلاً من المقولات المهترئة للقيادة القومية التي فشلت فشلاً ذريعاً في أوساط الحزب، حتى أن حافظ أسد تلميذ وهيب الغانم أحد مريدي الأستاذ زكي الأرسوزي خصم الشيوعية والماركسية ذي النزعة القومية على الطريقة النازية، قد انتسب إلى " الخلية الماركسية "(69). التي كان يترأسها حمود الشوفي، والتي انضم إليها علي صالح السعدي والعديد من القيادات الحزبية في سورية ولبنان والعراق، ولا شك أن التنظيرات الماركسية التي غمرت المكتبات السورية وكذلك التنظيرات الماركسية لياسين الحافظ قد كان لها دورها في طغيان التيار اليساري الماركسي على حزب البعث الذي سيطر على مؤتمر القيادة القطرية في أيلول 1963 عندما انتخب حمود الشوفي أميناً قطرياً والضابط حافظ الأسد عضواً في هذه القيادة القطرية التي انضوت فيما بعد تحت لواء صلاح جديد "(70).
ففي الوقت الذي كان يهرب فيه ميشيل عفلق إلى ألمانيا " لجأ الأسد – بعد أن أصبح عضواً في القيادة القطرية إضافة إلى كونه عضواً في اللجنة العسكرية البعثية السرية - إلى خصم عفلق القديم الفيلسوف زكي الأرسوزي، الذي ألهم الأسد خطاه السياسية الأولى عن طريق الدكتور وهيب الغانم. وكان الأرسوزي حينذاك متقاعداً منذ فترة طويلة، إلا أن الأسد أخرجه من عزلته وراح يصحبه معه في جولاته على معسكرات الجيش وجعله يحاضر في الجنود ويلتقي بالضباط. وقد ابتهج الأرسوزي العجوز باهتمام الأسد فراح يكتب مقالات افتتاحية في صحافة الحزب والجيش (...)وفي هذه الأثناء كان الأسد يعمل على وضع كل وحدة من وحدات الجيش تحت مراقبة اللجنة العسكرية التامة وذلك عن طريق وضع ذوي الولاء في القيادات الحساسة وعدم إهمال عملية التثقيف السياسي للقوات "(71).
سادساً: مرحلة الإرهاب " الثوري اليساري " تُسهّل ولادة النظام الأسدي:
لقد أطلقت بعض فصائل الحركة الشيوعية التقليدية على نظام 23 شباط 1966، صفة النظام " الوطني الديمقراطي " كما صنفته بعض أحزاب اليسار الجديد بالنظام " الديمقراطي الثوري " على الرغم من غياب أي ملمح ديمقراطي أو ثوري حقيقي على هذا النوع من النظم وغيره من النظم المماثلة له التي يصح أن نقول عنها بأنها تنتمي إلى نوع من اليسار يمكن تسميته باليساري البرجوازي الصغير المعتوه إيديولوجياً وسياسياً، والمسلح فقط بخطاب شعبوي صارخ والمحروم بنفس الوقت من قاعدة شعبية عريضة داعمة تتناسب مع مستوى ونبرة خطابه. فإذا أبعدنا جانباً بعض الإجراءات التي طالت القشور من ناحية التقشف ونظافة يد بعض المسؤولين في قيادة الدولة والحزب – ولا سيما الجناح المحسوب على صلاح جديد - فإن الإجراءات الحقيقية العميقة التي تجعلنا نقول عن هذا النظام بأنه ديمقراطي أو ثوري فلا يمكن أن نجدها ولا في أي مجال من مجالات البناء الاجتماعي الاقتصادي والسياسي والإيديولوجي. فكل الإجراءات التي قام بها نظام 23 شباط 1966 كانت على مستوى القشور من جهة أولى، وجاءت من جهة ثانية من فوق في ظل غياب أي مناخ ديمقراطي تتمتع به إن كان القوى السياسية الحزبية بشكل عام أو القوى الطبقية ولا سيما القوى الطبقية من عمال وفلاحين التي ادعى هذا النظام تمثيل مصالحها وأنه جاء باسم هذه المصالح.
إن مأساة رموز هذا النظام والمفارقة السياسية التاريخية في مسار حياتهم السياسية والشخصية، تكمن في أنهم أصبحوا في نهاية المطاف مثل الكثير من رموز حزب البعث العربي الاشتراكي جلادين وضحايا في الوقت ذاته. فإذا استثنينا الجناح الذي التف حول حافظ الأسد داخل سلطة 23 شباط البعثية، فيمكن القول بسهولة أن أغلب إن لم نقل كل رموز هذا النظام كانوا جلادين (ولو بدرجات مختلفة)، ثم تحولوا إلى ضحايا بعد الانقلاب الأسدي عليهم في تشرين الثاني 1970. " بعد انقلاب الثالث والعشرين من شباط أصبح الوضع في سورية أكثر تطرفاً في جنوحه واستبداده، فقد أعلن هذا العهد على لسان وزير دفاعه حافظ أسد في الخطاب الذي ألقاه على مجموعة من ضباط الجبهة بتاريخ 12 / 5 / 1966: " إن الثورة مصممة على أن تضرب أعداءها، كما أنها مصممة على سحقهم وتصفيتهم تصفية نهائية، مرة واحدة وإلى الأبد "وقال: " إننا نرجو ونتمنى أن يخوضوا معنا المعركة هذه المرة، وإننا بانتظارهم " وقال أيضاً: " وإذا كنا قد وقعنا في الماضي وارتكبنا مثل هذه الأخطاء، وعفونا عندما يجب ألا نعفو، وليس من حقنا أن نعفو، فلن نرتكب مثل هذه الخطيئة مستقبلاً أبداً ". كما أشار إلى أن المجموعة العسكرية التي قامت بانقلاب 23 شباط 1966 قد أجرت تقييماً لكل الفئات السياسية قبل الانقلاب، وكان الاتفاق بالإجماع حول هذا التقييم (جريدة البعث 13 / 5 / 1966). كما أشار أحمد سويدان رئيس الأركان – والذي سيتحول فيما بعد إلى ضحية من ضحايا النظام البعثي – في الاجتماع نفسه إلى التصفيات المستمرة بعد انقلاب شباط في الجيش السوري قائلاً: " إننا لن نسمح بأن تتسلل إلى صفوف الجيش عقيدة أخرى " وكان قد تم في هذه الفترة تسريح أكثر من سبعين ضابطاً من المناصرين للقيادة القومية بينهم ضباط كبار أمثال محمد عمران ومزيد الهنيدي، كما تم تسريح عدد من الضباط بتهمة " البرجوازية " وقد صرح إبراهيم ماخوس – الذي سيتحول بدوره فيما بعد إلى ضحية من ضحايا النظام البعثي - وزير الخارجية لمجلة آخر ساعة (أواخر حزيران 1966): " إن الحزب هو الأساس، وأن الجيش كباقي المؤسسات يجب أن ينظم حزبياً، فهو قطاع شعبي يشارك بالانتخابات ويخضع بالتالي للقيادة السياسية، ولذلك تم تسريح كل الضباط البورجوازيين، واشترط الأصل الشعبي للانتساب للكلية العسكرية "(72). لقد شكل الثنائي عبد الكريم الجندي رئيس مكتب الأمن القومي لسطلة 23 شباط البعثية وابن عم سامي الجندي، وخالد الجندي أخو سامي الجندي، الوجهينالأكثر قبحاً لنظام 23 شباط البعثي 1966،وحيث أن الثنائي الجندي شكلا أبلغ مثالين عن الشخصيات التي لعبت دور الجلاد والضحية في الوقت ذاته. فبعد هزيمة حرب حزيران مع إسرائيل 1967 " طلب بعض أعضاء الحزب استقالة الأسد من منصبه كوزير للدفاع، وإسقاط عضويته في القيادة القطرية لحزب البعث، وطرحت القيادة القطرية ذلك للتصويت في اجتماع طارئ فشل ذلك"(73). فقط بسبب صوت عبد الكريم الجندي. فقد صوت عبد الكريم الجندي ضد قرار الفصل، وهو الأمر الذي رجح كفة التصويت لمصلحة الأسد وأنقذ رأس حافظ الأسد. والمفارقة هنا أن عبد الكريم الجندي كان أول ضحايا حافظ الأسد. فبعد عامين من هذا التصويت وعندما اشتد الصراع بين جناح صلاح جديد الذي كان ينتمي إليه الجندي وجناح حافظ الأسد داخل الحزب،قام حافظ الأسد 1969 من خلال أخيه رفعت الأسد بقتل الجندي في مكتبه وقيدت حينها الجريمة تحت اسم الانتحار. المفارقة الثانية هي أن أساليب التعذيب ومعاقبة المعارضين السياسيين من قبل ضباط المخابرات في ظل نظام 23 شباط بقيادة عبد الكريم الجندي،لم تختلف عما عرفه فيما بعد المعارضون السياسيون السوريون في ظل النظام الأسدي، إن كان في ظل نظام الأسد الأب أو الابن. فبعد انقلاب 23 شباط البعثي 1966، على ما عرف بسلطة القيادة القومية في الحزب، قام منيف الرزاز المنتمي للقيادة القومية المخلوعة عن السلطة بتشكيل لجنة عسكرية سرية معارضة للانقلاب الشباطي، أو ما عرف بانقلاب القيادة القطرية، وقد تولى قيادة هذه اللجنة العسكرية الضابط فهد الشاعر (صاحب مقولة ضرورة إقامة المجتمع المتجانس). " فلم يمض وقت طويل على اختفاء فهد الشاعر بعد انكشاف تنظيمه - كرئيس للجنة العسكرية السرية التي كونتها القيادة القومية بعد انقلاب 23 شباط 1966، حتى ألقي القبض عليه، وقام على تعذيبه مدير المخابرات عبد الكريم الجندي، ويقال: أنه أرغمه على المشي على يديه ورجليه كالحيوانات وركب معذبوه على ظهره، بالإضافة إلى إلقائه في المياه القذرة. أما سليم حاطوم فقد لقي مصرعه بعد عودته من عمان، إثر حرب الخامس من حزيران 1967، لينضم إلى الجيش متصوراً أن عودته لدمشق ستكون موضع ترحيب من قبل حافظ الأسد، وأن علاقته السابقة معه ستشفع له، ولكن ما إن وصل إلى السويداء حتى ألقي القبض عليه وسيق إلى دمشق، ليتولى عبد الكريم الجندي تعذيبه والانتقام منه، حيث دقت عظامه وكسرت أضلاعه. إن الصورة التي تم بها تنفيذ الإعدام بسليم حاطوم، وبدر جمعة وغيره من الضباط العائدين من عمان كانت محزنة جداً، فقد أطلقت عليهم النار بعد تعذيبهم أشد العذاب، وهم في حالة النزع الأخير."(74).
ومثلما أصبحت أذرع المخابرات السورية في ظل نظام الأسد الأب ثم الابن تطارد وتطال المعارضين السياسيين خارج البلاد، ولا سيما في لبنان من خلال بث الرعب والفوضى داخل الساحة اللبنانية، كان الأمر ذاته يحصل في ظل النظام البعثي الشباطي الذي سبقه، يقول أكرم الحوراني في مذكراته: " ومثلما كنا نفعل خلال ديكتاتورية أديب الشيشكلي عندما كنا نطبع المنشورات والنشرات الداخلية في لبنان ثم نرسلها إلى سورية، حاولنا أن نرسل إلى الاشتراكيين العرب من بيروت نشرة داخلية مطبوعة، ولكن هذه النشرة وقعت في أيدي الأمن اللبناني الذي استدعاني وطلب مني محذراً عدم القيام بأي نشاط سياسي في لبنان، كما أخبرت بأن عبد الكريم الجندي رئيس المخابرات السوري هدد المسؤولين اللبنانيين قائلاً: إن تفجير قنبلة في منطقة الحمراء وأخرى في منطقة البرج – وهما المنطقتان اللتان كان يتمثل بهما ازدهار بيروت قبل الحرب الأهلية - يمكن أن يقنع المسؤولين اللبنانيين بمنعي من ممارسة النشاط السياسي في لبنان."(75).
ثم يقول أكرم الحوراني في مذكراته: " من ذكريات تلك الفترة أن شخصاً فلسطينياً زارني ليقول لي: أنه مرسل من قبل عبد الكريم الجندي على رأس مفرزة من عناصر المخابرات هدفها اختطافي، وأن الخطة الموضوعة هي: الاتفاق مع أحد العاملين في مقهى الجندول ليضع مخدراً في قهوتي، وعندما يغمى علي تأتي سيارة إسعاف لحملي رأساً إلى دمشق. ومن الجدير بالذكر أن النظام العسكري البعثي، على اختلاف فئاته (ولا سيما في زمن قيادة رئيس جهاز المخابرات عبد الكريم الجندي)، قد اختطف من لبنان، وحتى من جزيرتي قبرص ورودس، بعض المعارضين السوريين وفي مقدمة المختطفين الضابط مصطفى خليل مؤلف كتاب سقوط الجولان وملفات الجولان"(76).
لقد ارتكب عبد الكريم الجندي " عمليات جنونية من تعذيب واغتيالات، ومما جعله يتمادى في ممارساته أنه كان مدعوماً من صلاح جديد وجماعته الذين كانوا يعتبرونه هاماً للنظام، ويشير باترك سيل في كتابه عن حافظ الأسد، نقلاً عن أسعد كامل الياس مدير مكتب يوسف زعين رئيس الوزراء آنذاك، أن زعين بكى عندما بلغه نبأ موت عبد الكريم الجندي وعلق على ذلك بقوله: لقد تيتمنا "(77).
من جهة ثانية فقد كان خالد الجندي من أبرز الشخصيات والأمثلة البعثية التي تنتمي لما أسميه اليسار المعتوه إيديولوجياً وسياسياًوالتي أخذت موقع الجلاد والضحية في الآن ذاته " لقد روعت سورية ودمشق بصورة خاصة، بعد أحداث السويداء – محاولة سليم حاطوم في أيلول 1966 الانقلاب على صلاح جديد وفي أيار 1967 عندما أضرب تجار دمشق – مما دعاه النظام (بالكتائب العمالية المسلحة) التي كان يشرف عليها خالد الجندي المعين من قبل النظام رئيساً لاتحاد نقابات العمال، فقد تسلمت هذه الكتائب الأسلحة ونزلت إلى الشوارع لتنفذ قرار منع التجول رافعة شعار تصفية أعداء الثورة، متجاوزة كل القوانين، وأصبح ما تفعله هو القانون، فقد طالب خالد الجندي في مجلة الاشتراكي الصادرة في 12 / 9 / 1966 بالاعتراف بقانون واحد هو قانون الثورة، ووصف المتباكين على حرمة القانون والداعين لاحترامه بأنهم من الرجعيين وعملائهم، وأن الهدف من تشكيل هذه الكتائب هو تصفية الرجعيين من أعداء الثورة، وكان الجندي قد هاجم بعض الدوائر الحكومية (منها الهيئة العامة للبترول) متسلحاً بالسلاسل الحديدية وسحب بعض موظفيها عنوة من وراء مكاتبهم بتهمة أنهم من العائلات البورجوازية ... وصرح لجريدة الثورة بأن قوائم قد وضعت بأسماء العائلات البورجوازية التي يجب طرد أبنائها من وظائفهم، ثم قال: لقد طردنا وحجزنا حريتهم فاضطروا لتقديم استقالاتهم، وقدموا ضمانات بأنهم لن يحاولوا العودة إلى أعمالهم ومن يخالف فسوف يتعرض لعقوبة الإعدام. وفي الوقت نفسه، ومن عمان حيث كان لاجئاً إليها بعد أحداث السويداء، صرح خالد الحكيم رئيس اتحاد نقابات العمال، أن الكتائب المسلحة التي روعت المواطنين ليست من العمال بل من جنود اللواء سبعين، وعلى كل حال فإن تصرفات الكتائب المسلحة قد أقلقت سورية – إلى الحد الذي تحول فيه قصر اتحاد العمال في دمشق إلى مكان يتم فيه تعذيب المعتقلين كما يتم في أقبية المخابرات - ويقال بأن زعين – المقصود الدكتور يوسف زعين رئيس الوزراء السوري في ذلك الوقت - كان أول من عارضها وأيده صلاح جديد مما أدى إلى إبعاد الجندي إلى اللاذقية حيث كان من عمال المرفأ، وصدر بيان باسمه يعلن حل هذه الكتائب "(78).
لقد شكل خالد الجندي مثالاً نموذجياً لليسار المعتوه إيديولوجياً وسياسياً، ويمكن القول بأنه لو تسنى لخالد الجندي أو أمثاله البقاء في أعلى هرم السلطة لكان أقام باسم اليسار والشيوعية والفقراء نظاماً عبودياً لا يقل في عتوه وقسوته عن النظام الذي نعرفه الآن في كوريا الشمالية، كما لا يقل في دمويته عن نظام الخمير الحمر " الشيوعي " الذي عرفته كمبوديا في منتصف السبعينيات من القرن العشرين. إن ما عزز قناعتي وتقييمي حول هذا النوع من اليسار المعتوه هو المقال الذي نشرته مجلة الشيوعي الناطقة باسم حزب العمل الشيوعي في سوريا في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي بتوقيع خالد الجندي في زاوية وجهة نظر.حيث نجد أن الجندي يدافعفي هذا المقال عن الستالينية ويبرر بطريقة غير مباشرة كل جرائمها تحت حجة كون الستالينية من وجهة نظره تشكل المثال الأصدق والأدق عن الماركسية الحقة، وهو الأمر الذي يدفعنا للاعتقاد بأن الجندي كان مستعداً- وباسم الماركسية - لو أعطيت له السلطات اللازمة لارتكاب نفس الجرائم التي ارتكبها ستالين في المرحلة التي حكم فيها الاتحاد السوفييتي. إن المفارقة هنا أن بعض البعثيين الذي كانوا في موضع الجلاد ثم أصبحوا في موقع الضحية اعترفوا أو اعتذروا في آخر حياتهم عن أعمالهم السابقة أو عن تفكريهم السابق أو طريقة إدارتهم للحكم سابقاً،ولا سيما بعد أن أدركوا أنهم كانوا يوماً ما في موقع الجلاد حتى ولو بطريقة غير مباشرة. لقد أدرك على سبيل المثال صلاح البيطار بعد أن أصبح من أوائل ضحايا النظام الذي أقامه حزب البعث العربي الاشتراكي. فبعد انقلاب 23 شباط 1966 أعلن انسحابه من الحزب في بيان " نشرته جريدة الجريدة البيروتية بتاريخ 10 / 11 / 1967"(79).من دون أن يعفي نفسه من حمل نصيبه من المسؤولية عما جرى. " وفي أواخر السبعينيات وقبل اغتياله بيوم واحد كتب مقالاً تحت عنوان: عفواً شعب سورية العظيم نادماً ومستغفراً من الشعب السوري "(80).
المفارقة هنا أن صلاح الدين البيطار الذي لم يمنحه المجتمع الدمشقي أصواته كي يفوز في مقعد بمجلس النواب السوري في انتخابات 1961، يعتذر من الشعب السوري ولا يتملص من مسؤوليته مما جرى للشعب السوري في ظل النظام البعثي، في حين نجد أن خالد الجندي الذي روع المجتمع الدمشقي والمدن السورية في النصف الثاني من الستينيات بالكتائب العمالية ونقاباته العمالية الصفراء المشكلة والمهندسة من فوق وتحت إشراف السلطة، لم يعتذر فحسب رغم كل التكاليف التي دفعها من سجن ونفي وملاحقة بل يفتخر كونه مؤمناً ويفتخر بعتهه الأيديولوجي والسياسي. " يمكن القول إن عهد البعث كان أسوأ وأخطر العهود التي مرت على سوريا بعد الانفصال. فمنذ صعوده إلى السلطة في 8 آذار 1963، انتهج سياسة معادية للكرد، يستند في ذلك على وضع مخططات استراتيجية مغلفة بالكثير من الحقد والكراهية السوداء، والإقدام على تنفيذها أمنياً وحكومياً عبر كافة أجهزة الدولة كنوع من الموت البطيء للعنصر الكردي، أو ما يمكن تسميته بالتطهير العرقي الصامت في ظل قانون الطوارئ والأحكام العرفية. لقد التزم البعث عقائدياً بنهج " محمد طلب هلال المدمّر ومشروعه المقترح (الحزام العربي) لتصفية القضية الكردية في سوريا "(81). لم يعترف البعث يوماً بالكرد أو بوجود مسألة قومية كردية في سورية تحتاج إلى حل في إطار وطني ديمقراطي، بل على العكس من ذلك كان يعتبر الكرد " دخلاء " و" ومهاجرين " و " صنيعة الاستعمار والصهيونية " لذا أطلق البعث العنان لمخططاته الأمنية للتعامل مع الملف الكردي (...) ومع مجيء نظام 23 شباط 1966 البعثي لم يتبدل موقف الحكم من القضية الكردية، بل راح يشدد قبضته على الكرد، والقيام بمزيد من الإجراءات التي تخلخل بنية المجتمع السوري، حيث أقدم قادة الحكم الجديد، التيار اليساري المزعوم في البعث، على تنفيذ مخطط محمد طلب هلال تحت يافطة الاشتراكية (ونوع تطهيري وانتقائي وموجه من الإصلاح الزراعي المزعوم في منطقة الجزيرة السورية) لإنهاء الوجود الكردي في سوريا، وقد بدأوا بالخطوات التمهيدية لتنفيذ مشروع الحزام العربي على أرض الواقع. ففي حزيران عام 1966، أبلغ مدراء نواحي ورؤساء المخافر الشرطة الفلاحين الكرد على امتداد الحدود مع تركيا، لمغادرة مناطقهم واختيار مكان جديد للعيش في المناطق الجنوبية ذات الطابع العربي، لذلك اعتبرت المنطقة منطقة أمنية وراحت الدوريات تجوب المنطقة وتبلغ أهالي القرى للضغط عليها لترك أراضيها حتى تستولي عليها الدولة، وتتصرف بها. وفي يومي 20 و21 آب عام 1966 قامت السلطات بحملة اعتقالات كانت الأوسع في تاريخ الحركة القومية الكردية في سوريا والثانية من حيث الترتيب بعد اعتقالات عام 1960 والتي تركزت أساساً في منطقة الجزيرة. شملت معظم الفئات والطبقات الاجتماعية للشعب الكردي في كافة مناطق الجزيرة (...) وفي بداية عام 1967 باشرت السلطات السورية بتنفيذ المرحلة الثانية من الحزام العربي بالهجوم المسلح وبث الرعب والإرهاب بين السكان الكرد واعتقال العديد من الفلاحين بسبب رفضهم المغادرة وتمسكهم بأراضيهم "(82).
صحيح أن طبقة كبار رجال المال - من التجار- ورجال الدين في المدن السورية ولا سيما في العاصمة دمشق لعبوا دوراً كبيراً في حث السوريين لاستقبال حافظ الأسد عندما زار المدن السورية بعد انقلابه 1970، وصحيح أن تجار دمشق بالاشتراك مع كبار رجال الدين هم من نحروا له الخراف أمام الجامع الأموي، وعلقوا لافتات على باب سوق الحميدية في دمشق كتب عليها " طلبنا من الله المدد فأمدنا بحافظ الأسد " إلا أنه علينا الاعتراف أن طبقة التجار ومعهم كبار رجال الدين لم يكن باستطاعتهم بدفع كل هذه الكتلة البشرية التي استقبلت الأسد عندما زار المدن السورية لولا أملهم بالتخلص من فترة الإرهاب والقمع والتضييق على الحريات الشخصية والعامة التي سادت في ظل النظام القديم البعثي الذي مثل نظام الإرهاب اليسار البرجوازي الصغير المعتوه أيديولوجياً وسياسياً.
يقول أكرم الحوراني في مذكراته:" ومن بين تلك المظاهر الاحتفالية كانت مدينة حماه وريفها من أكثر الأماكن حماسة وحشوداً في استقبال حافظ الأسد، ويبدو أن لذلك علاقة فيما تأمله جماهيرها من عودتي إلى سورية، وقد سمعت وأنا في بيروت أصغي لوقائع الزيارة من الإذاعة السورية هتاف عشرات الألوف المجتمعة في ساحة العاصي وهي تطالب بهذه العودة "(83).يشير أكرم الحوراني في مذكراته إلى واقعتين لهما دلالات مهمة:
الواقعة الأولى تدلل على ضيق الأفق اليساري البرجوازي الصغير وخوف سلطة 23 شباط البعثية من الديمقراطية ومن الشعب الذي تحكم باسمه، والواقعة الثانية تدلل على القطار الذي جاء به النظام الأسدي إلى السلطة:
" الواقعة الأولى: عندما وقع الخلاف بين حافظ الأسد وصلاح جديد فقد جاءني إلى بيروت الأستاذ سليمان الخش من القيادة القطرية بسيارته الرسمية وكان وزيراً للتربية والتعليم، كنت جالساً أقرأ في إحدى مقاهي الروشة، فسلم علي بود، وبعد حديث طويل تعرض للخلاف بين صلاح جديد وحافظ الأسد وتحدث عن المأزق الذي وصل إليه النظام العسكري في سورية وسألني عن المخرج فقلت له: لا مجال للخروج من هذا المأزق إلا باتباع النهج الديمقراطي والإقلاع عن حكم الإرهاب والمخابرات والتسليم بالتعددية الحزبية وضمان الحريات العامة والشخصية، فكان جوابه: إن الديمقراطية ستفسح المجال لعودة عفلق والبيطار إلى سورية، كما أن عملاء الاستعمار – يقصد هنا البرجوازية السورية التي أصدر بحقها النظام البعثي الذي جاء في انقلاب 8 آذار 1963 مرسوم العزل السياسي – سيعودون إلى الساحة السياسية، قلت له: إن الديمقراطية هي حق لجميع المواطنين سواء بالنسبة لعفلق أو البيطار أو لغيرهم حيث السيادة للشعب ولحكم القانون .
أما الواقعة الثانية: فهي زيارة المرحوم كمال ناصر لي عندما اشتد الخلاف بين صلاح جديد وحافظ أسد وأصبح على وشك الانفجار. قال لي المرحوم كمال ناصر: إن حافظ أسد استدعاه إلى دمشق وسهر معه حتى الصباح، وطلب منه أن يتصل بي وبميشيل عفلق ويسألنا عن رأينا في الانقلاب الذي سيقوم به ضد حكم صلاح جديد وجماعته، وقبل أن يسمع رأيي قال لي: بأن الانقلاب المزمع القيام به هو انقلاب رجعي وغربي وهذا هو رأي القيادة الفلسطينية، فقلت له: إنني لست حريصاً على بقاء نظام صلاح جديد الديكتاتوري القائم على أجهزة المخابرات ومصادرة الحريات والتعذيب ولا تنس محاولة اختطافي أخيراً من قبل مخابرات عبد الكريم الجندي، فهل تتوقع مني أن أدافع عن بقاء هذا النظام؟؟؟ وبالمقابل هل يمكن أن أفتي لحافظ أسد أن يقوم بانقلاب بينما علمتني التجارب أن أي انقلاب عسكري هو ضد مصلحة سورية وضد الديمقراطية؟ "(84).
في الواقع لم يكن ما سميته بالإرهاب " الثوري " الذي مارسه نظام 23 شباط 1966 على الشعب السوري هو السبب الوحيد الذي سهل ولادة النظام الأسدي في 16 تشرين الثاني عام 1970، بل ينبغي أن نضيف أن مناهضة أبناء المدن لنظام البعث بشكل عام، وتحالف طبقة كبار رجال الدين السنة في المدن السورية الكبرى ومعهم طبقة التجار مع جناح حافظ الأسد داخل السلطة البعثية التي حكمت سوريا بين عامي 1966-1970، كان من أهم العوامل التي سهلت ولادة النظام الأسدي، كما أن هزيمة النظام البعثي أمام العدو الإسرائيلي في حرب 5 حزيران 1967 كانت المقدمة التي عرت وقصمت ظهر البعير البعثي الحاكم لمصلحة جناح حافظ الأسد الذي يمكن القول بأنه:جاء بقطار أمريكي إسرائيلي " ومباركة سوفييتية "(85).
..................................................................................................................................................................................المصادر:
(1). الصفحة 3120 من مذكرات أكرم الحوراني.
(2) الصفحة 3121 المصدر السابق نفسه.
(3). الصفحة 3121 المصدر السابق نفسه.
(4). يقول أكرم الحوراني في مذكراته: إن أهم ما شغل الرأي العام السوري أوائل عام 1965 قضية شبكات التجسس الأمريكية " لقد علقت إحدى النشرات الداخلية للاشتراكيين العرب الصادرة في تلك الفترة على اكتشاف شبكات التجسس الأمريكية ومحاكمة الأتاسي والحاكمي، تحت عنوان أخبار وتعليقات بما يلي : " اعترف الجاسوس فرحان الاتاسي أنه كان يتقاضى راتباً شهرياً قدره / 600 / ل.س من نادر الأتاسي عدا عن أجرة السكن وأن نادر الأتاسي كان ينظم عقوداً تجارية صورية باسم فرحان الأتاسي، وأن هذا الأخير كان يعمل مع قريبه المحامي موفق أتاسي على حل قضايا الشركات الأجنبية المدرجة في القائمة السوداء - لدى مكتب مقاطعة إسرائيل - والذي لفت انتباه الناس أن الوقائع لم تشر إلى استدعاء (المليونير) نادر الأتاسي أو موفق الأتاسي فلماذا؟ ومما تجدر الإشارة إليه أن ميشيل عفلق كان قد عقد المؤتمر الخامس للقيادة القومية في دار فرحان الأتاسي بالذات بينما (تبرع) المليونير نادر الأتاسي بمنزله لنوم القادة المؤتمرين وإطعامهم، وفي هذا المؤتمر تمت مؤامرة تمزيق الحزب وطرد قادة الاشتراكيين الأحرار وعلى رأسهم أكرم الحوراني. إن المحاكمة قفزت فوق هذه الفضائح والشعب يطالب الشرفاء في الحكم وكشف ما طمس بفتح تحقيق جديد " ص 3387 من مذكرات أكرم الحوراني.
(5). الصفحة 3136 المصدر السابق نفسه.
(6). الصفحة 3247 المصدر السابق نفسه.
(7). الصفحة 3245- 3256 المصدر السابق نفسه.
(8).الصفحة 3247 المصدر السابق نفسه.
(9).الصفحة 3456 المصدر السابق نفسه.
(10).الصفحة 3258- 3289 المصدر السابق نفسه.
(11).الصفحة 3502 المصدر السابق نفسه.
(12).الصفحة 3184 المصدر السابق نفسه.
(13)." مع عام 1944، كان أنصار الأرسوزي قد ابتعدوا عنه، وربما وجدوا عنصريته غير مرضية فكرياً، أو ربما ظنوا أنه لم يكن عملياً بما يكفي. علاوة على ذلك، كان تأثر الأرسوزي بالفقر الذي غرق فيه تأثيراً شديداً: فقد منعه الفرنسيون من التعليم في أي مدرسة عامة أو خاصة، وعاش في عام 1941 في منزل متواضع في حي السبكي في دمشق مع سبعة أو ثمانية من تلامذته اللوائيين، وكان مثلهم ينام على الأرض، ويستخدم الكتب وسائد، وكان يعيش على صحن يومي من الحمص. وصار مكتئباً متوتر الأعصاب مع حس بالمرارة، وأخذ يسيطر عليه الإحساس بالاضطهاد وبات يشك حتى في أتباعه. " من كتاب حنّا بطاطو كتابه فلّاحو سورية أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم الصفحة 266 ترجمة عبد الله فاضل ورائد النقشبندي، منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الطبعة الأولى 2014.
(14).الصفحة 3140 من مذكرات أكرم الحوراني.
(15).الصفحة 266- 267 من كتاب حنّا بطاطو كتابه فلّاحو سورية أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم.
(16).من مقال كمال خلف الطويل ساهم في تحريره في موسوعة المعرفة تحت عنوان اللجنة العسكرية للبعث السوري.
(17).الصفحة 3142 من مذكرات أكرم الحوراني.
(18). لمعرفة المزيد حول التفاصيل راجع ص 3144- 3143 من مذكرات أكرم الحوراني.
(19).الصفحة 3729 المصدر السابق نفسه.
(20).الصفحة 3249 المصدر السابق نفسه.
(21).الصفحة 3327-3330 المصدر السابق نفسه.
(22).ان الاقتصاد السوري تميز عام 1962 بزيادة محسوسة بالدخل القومي بلغت 350 مليون ليرة بحيث بلغ الدخل (2،750) مليارين وسبعمائة وخمسين مليون ليرة، وذلك بسبب زيادة الإنتاج الزراعي لجودة الموسم، ونشاط الحقل الصناعي وحركة المطار والفعالية التجارية... ان هذا العام تميز باستقرار اقتصادي وثبات قوة النقد السوري رغم الاستيرادات والنفقات غير المنظورة مما يجعل عام 1963 أكثر ازدهارا في مختلف النشاطات الاقتصادية) ص 3228 من مذكرات أكرم الحوراني.
(23).الصفحة 3219- 3222 من كتاب مذكرات أكرم الحوراني.
(24).الصفحة 3250 المصدر السابق نفسه.
(25).يقول أكرم الحوراني في مذكراته في الصفحة 3475 " في أواخر شهر آب 1965 تم تعيين المجلس الوطني الموسع من خمسة وتسعين عضواً من ممثلي القيادة القومية والقطرية ومن أعضاء حزب البعث والمستقلين ومن ستة عشر ضابطاً من بينهم اللواءان صلاح جديد وحافظ أسد، وقد دخل ميشيل عفلق في اليوم الأول لانعقاد هذا المجلس بتاريخ 1 / 9 / 1965 قاعة المجلس النيابي السوري بمظاهرة احتفالية، هذا المجلس الذي حرمه الشعب من دخوله طيلة العهود الديمقراطية. لقد سقط ميشيل عفلق في الانتخابات مرتين في عامي 1947، 1949 فشكل هذا السقوط لديه عقدة نفسية من الطريقة الديمقراطية التي تقضي بانتخابات النواب من قبل الشعب ".
(26).الصفحة 3475 المصدر السابق نفسه.
(27).صفحة 36 من كتاب " قضايا وشهادات الحداثة – 1 – عصام خفاجي.
(28).جاء في الموسوعة الدمشقية عن ثريا الحافظ ثريا الحافظ (1911- 2000)، مدرسة سورية من دمشق، قادت الحركة النسائية في الخمسينات وكانت أول امرأة تخلع الحجاب تيمناً بالرائدة المصرية هدى الشعراوي، وأول سيدة سورية تترشح لمجلس النواب سنة 1953. وهي زوجة الصحفي منير الريّسن صاحب جريدة بردى. ولدت ثريا الحافظ في دمشق وكان والدها الأميرلاي أمين لطفي الحافظ من الضباط العرب في الجيش العثماني. وقد تم إعدامه شنقاً في ساحة الشهداء ببيروت يوم 6 أيار 1916، بأمر من الحاكم العثماني جمال باشا. درست الحافظ في مدرسة دار المعلمات وتخرجت منها سنة 1928 لتعمل مدرسة لمادة اللغة العربية ثم مديرة في تجهيز البنات بدمشق. وكانت في شبابها من أنصار الزعيم الوطني الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، زعيم الحركة الوطنية السورية. شاركت ثريا الحافظ في كل المظاهرات النسائية التي خرجت ضد الاحتلال الفرنسي في دمشق وكانت أول سيدة تخلع الحجاب علناً أمام السراي الكبير في ساحة المرجة سنة 1936، تيمناً بالرائدة المصرية هدى شعراوي. وكانت تكتب مقالاً أسبوعياً في جريدة بردى التي كان يملكها ويديرها زوجها منير الريّس، مطالباً بتحرير المرأة من قيد المجتمع الذكوري سياسياً واجتماعياً. وخلال القصف الفرنسي على مدينة دمشق يوم 29 أيار 1945، أسست ثريا الحافظ " دار كفالة الفتاة " من أجل مساعدة بنات شهداء العدوان. وقد استمرت هذه الجمعية حتى عام 1965. اجتمعت ثريا الحافظ مع قائد الانقلاب الأول حسني الزعيم سنة 1949 وكانت على رأس وفد من نساء دمشق يطالب أعضاءه بإعطاء المرأة حقوقها السياسية، منها حق الانتخاب وحق الترشح للمجلس النيابي. وفي سنة 1953 كانت ثريا الحافظ أول سيدة سورية تترشح لمقعد نيابي في الانتخابات البرلمانية التي تمت في عهد الرئيس أديب الشيشكلي ولكنها لم تنجح بسبب محاربة المجتمع الذكوري. وفي نفس السنة أسست حلقة أدبية في منزلها سميت منتدى سكينة الأدبي، حضرها كبار الشخصيات الوطنية والأدبية فخري البارودي وخليل مردم بك والأمير مصطفى الشهابي. كما أسست جمعية رعاية الجندي سنة 1965 وشاركت بالمقاومة الشعبية التي انطلقت من دمشق دعماً للرئيس جمال عبد الناصر خلال حرب السويس. وقد أيدت الرئيس عبد الناصر تأييداً مطلقاً سنة 1958، ودعمت قيام الوحدة السورية المصرية. وعند انهيارها وقفت في وجه قادة الانفصال ووصفتهم بالخونة. وفي يوم انقلاب 8 آذار 1963، قادت مظاهرة باتجاه منزل رئيس الحكومة خالد العظم، مطالبة بسحله كما سحل ثوار العراق رئيس حكومتهم نوري السعيد، وذلك بسبب كونه جزءاً من حكم الانفصال وموقفه السلبي من الوحدة ورئيسها. ويمكن أن نضيف على ما جاء في الموسوعة الدمشقية أنها كانت اول شبيحة سياسية في سورية، فموقفها يذكرنا بالشبيحات الأسديات في مدينة طرطوس الذين استقبلوا أمام فرع أمن الدولة في طرطوس سيارات الأمن التي تقل معتقلي الثورة السورية من مدينة بانياس في ربيع عام 2011 وهم يهتفون بالموت وضرورة إعدام هؤلاء المعتقلين.
(29).الصفحة 3262 من مذكرات أكرم الحوراني.
(30).يقول أكرم الحوراني في مذكراته ص 3468 " خلال إقامتي في باريس، وبعد انقلاب 23 شباط 1966 زارني عدد من المهندسين السوريين وبينهم مختصون في شؤون البترول فأخبروني بأن حكومة زعين التي تشكلت بعد هذا الانقلاب عازمة على إلغاء اتفاقية تمديد أنابيب النفط مع الشركات البريطانية، وأن اتفاقاً جديداً مزمعاً عقده مع مجموعة من الشركات الإيطالية، وأن هذا العقد الجديد سيوفر على الحكومة السورية مبلغاً يقارب الأربعين مليون ليرة سورية (...) لقد لفت نظري في حديث المهندسين الفارق الكبير في الأسعار بين الاتفاقيتين مما لا يمكن أن يحدث بدون رشاوى لعدد من المسؤولين وهي الشائعة التي راجت عند عقد الاتفاقية مع الشركات البريطانية وتناولت عدداً من القيادات البعثية العسكرية والمدنيةبينهم وزير الدفاع حمد عبيد والضابط رفعت الأسد (لاحظ هنا أن رفعت الأسد كان لصاً منذ نعومة مخالبه)، وأحد أعضاء مجلس الرئاسة، ووزير الاقتصاد هشام العاص وبعض أعضاء القيادة القومية اللبنانيين والعراقيين ولكن لا يوجد دليل يؤيد ذلك " ص 3468 من مذكرات أكرم الحوراني.
(31).الصفحة 3442 المصدر السابق نفسه.
(32).الصفحة 3448 المصدر السابق نفسه.
(33).الصفحة 3277 من مذكرات أكرم الحوراني، ولمن يريد معرفة الصحف المصادرة فما علية سوى مراجعة مذكرات أكرم الحوراني ص 3277.
(34).الصفحة 3257- 3258 من مذكرات أكرم الحوراني.
(35).الصفحة 3278 من مذكرات أكرم الحوراني.
(36). جمال الاتاسي هو من ضحايا تلك السلطة البعثية والسياسي السوري الذي يصح ان نقول انه لدغ من الجحر مرتين مرة بهذا التصريح والمشاركة بالسلطة البعثية الانقلابية والمرة الثانية لدخوله عام 1972 بالجبهة الوطنية التقدمية التي شكلها النظام الاسدي بعد انقلاب 1970.
(37).الصفحة 3278 – 3279 من مذكرات أكرم الحوراني.
(38).الصفحة 3279 من مذكرات أكرم الحوراني.
(39).الصفحة 3280- 3281 المصدر السابق نفسه.
(40).يقول أكرم الحوراني في مذكراته ص 3282 " لقد تعرفت على المقدم صبحي يعقوب وزوجته الحموية في نيسان 1966 في مدينة ستراسبورغ، وكانا منتسبين الى جامعتها، وذلك بعد الافراج عني من سجن المزة وسفري الى فرنسا للتداوي، فسألت المقدم يعقوب عن سبب تسريحه من الجيش فقال: لأنني من أصل شركسي. ثم ذكر الدورات المتعددة التي حضرها في مجال هندسة الميكانيك ولا بد من الإشارة الى ان القرى الشركسية الواقعة بين حمص وحماه التي يقطنها الشرك منذ العهد العثماني قد انتسب معظم افرادها للحزب العربي الاشتراكي منذ تأسيسه.)
(41). الصفحة 3281- 3282 من مذكرات أكرم الحوراني.
(42).الصفحة 3283 من مذكرات أكرم الحوراني. لمن يريد معرفة هذه القوائم عليه مراجعة مذكرات أكرم الحوراني ص 3283 – 3284.
(43).الصفحة 3293 من مذكرات أكرم الحوراني.
(44).الصفحة 3495 من مذكرات أكرم الحوراني ومن يريد معرفة قائمة من تم اعتقالهم مراجعة الصفحة 3495- 3496 من مذكرات أكرم الحوراني.
(45).الصفحة 178- 179 من كتاب الأسد الصراع على الشرط الأوسط تأليف باترك سيل منشورات شركة المطبوعات للتوزيع والنشر الطبعة العاشرة 2007.
(46).صفحة 312- 313 من كتابه " فلاحو سورية ... أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شاناً وسياساتهم " تأليف حنّا بطاطو ترجمة عبد الله فاضل ورائد النقشبندي. الناشر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الطبعة الأولى 2014.
(47).صفحة 301-302 من كتاب " فلّاحو سورية ... أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم " تأليف حنّا بطاطو ترجمة عبد الله فاضل ورائد النقشبندي. الناشر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الطبعة الأولى 2014.
(48).صفحة 302 نفس المصدر السابق نفسه.
(49).صفحة 302 نفس المصدر السابق نفسه.
(50).على أثر انقلاب 8 آذار تم تشكيل المجلس الوطني الأول وتألف من: ثلاثة بعثيين هم: محمد عمران وصلاح جديد وموسى الزعبي، وأربعة ناصريين هم: راشد القطيني وفواز محارب وكمال هلال ودرويش الزوني واربعة مستقلين هم: لؤي الأتاسي ذو الهوى الناصري (رئيساً للمجلس الوطني المشكل) وزياد الحريري وغسان حداد وفهد الشاعر. موسوعة المعرفة مقال بعنوان " اللجنة العسكرية للبعث السوري " ساهم بشكل رئيسي في تحريره كمال خلف الطويل الجزء الثاني.
(51).صفحة 105 من كتاب " سورية في عهدة الجنرال الأسد " تأليف دانييل لوغاك.
(52)." على عكس أعضاء المكتب التنفيذي للبعث القديم الذين كانوا قبل " الاندماج " في الاشتراكيين العرب في عام 1952، من أصل حضري وسنّي بالدرجة الأولى (انظر الجدولين (11- 1) و(11- 2))، كانت المجموعة الداخلية من اللجنة العسكرية بين عامي 1960 و1965 بكاملها من القرى والبلدات الريفية وتنتمي الى طوائف ابتداعية. ولم يشكل الضباط السنّة، ومعظمهم من أصول ريفية، سوى 20 في المئة عشية انقلاب آذار/ مارس عام 1963، و50 في المئة بين تموز/يوليو 1963 وكانون الأول / ديسمبر 1964 من مجموع أعضاء اللجنة، مقارنة بمشاركة سنّية تصل إلى 75 في المئة في المكتب التنفيذي للبعث القديم في عام 1945 (انظر الجدولين (11—2) و(12- 2)). علاوة على ذلك، من بين الأشخاص التسعة عشر الذين خدموا في هذه اللحظة أو تلك في (اللجنة العسكرية)، لم يكن سوى 26,5 في المئة من المدن السورية الرئيسة (انظر الجدول (12- 2)). الصفحة 283 من كتاب " فلّاحو سورية ... أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم " تأليف حنّا بطاطو ترجمة عبد الله فاضل ورائد النقشبندي. الناشر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
(53)." استطاعت اللجنة العسكرية أن تنفذ إلى أحشاء التجمعات الناصرية العسكرية وهي ترتقب منها تحركاً مضاداً يوفر لها الغلبة على البعث خصوصاً بعد تسارع وتعاظم التسريحات وذلك عبر أحد عملائها الرائد محمد النبهان الذي استطاع أن يحوز ثقة قائد هذه التجمعات العقيد جاسم علوان ومنه عرفت باليوم والساعة ما يمور في أجوائهم من نقمة وما بدؤوا في الترتيب له من تحرك ". المصدر موسوعة المعرفة مقال بعنوان " اللجنة العسكرية للبعث السوري " ساهم بشكل رئيسي في تحريره كمال خلف الطويل (الجزء الثاني).
يقول أكرم الحوراني في مذكراته الصفحة 3296 حول هذا الموضوع " أما السبب الثاني لفشل محاولة جاسم علوان الانقلابية فهو أنها كانت مخترقة من قبل النقيب محمد نبهان الذي كان مخبراً (للجنة العسكرية البعثية السرية) وهو ما جعل قيادة البعث تتخذ كل التدابير لإفشال المحاولة "
(54). الصفحة 3291 - 3292 من مذكرات أكرم الحوراني.
(55).موسوعة المعرفة مقال بعنوان " اللجنة العسكرية للبعث السوري " ساهم بشكل رئيسي في تحريره كمال خلف الطويل الجزء الثاني.
(56). الصفحة 3297 من مذكرات أكرم الحوراني
(57).الصفحة 165 من كتاب الأسد ... الصراع على الشرق الأوسط. تأليف باترك سيل. منشورات شركة المطبوعات للتوزيع والنشر. الطبعة العاشرة 2007
(58).الصفحة 3296 من مذكرات أكرم الحوراني.
(59).من مقال ساهم بشكل رئيس في تحريره كمال خلف الطويل في موسوعة المعرفة العربية تحت عنوان اللجنة العسكرية للبعث السوري.
(60).من المفيد هنا الاطلاع على مقال صادق الطائي في القدس العربي بتاريخ 14 يناير 2017 بعنوان بعث العراق والقطار الأمريكي ... محاولة تفكيك.
(61).الصفحة 3301 من مذكرات أكرم الحوراني.
(62). صفحة 304 من كتاب " فلّاحو سورية ... أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم " تأليف حنّا بطاطو ترجمة عبد الله فاضل ورائد النقشبندي. الناشر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الطبعة الأولى 2014.
(63).يقول حنا بطاطو في كتابه المشار إليه أعلاه " من العوامل التي كثيراً ما تقدم في هذا الخصوص السياسة الموجهة نحو الأقليات التي اتبعها الفرنسيون بين عامي 1921 و1945. ومن الصحيح بالفعل أنه من بين كتائب المشاة الثماني في القوات الخاصة العاملة في سورية تحت الانتداب الفرنسي تألفت ثلاث كتائب بالكامل أو في الأساس من العلويين، ولم يدخل في تركيبها أي عربي سني. ومن الصحيح أيضاً أن من بين سرايا الخيالة الاثنتي عشرة التي تتوافر عنها البيانات، تألفت واحدة فقط هي السرية 24، من عرب سنّة ريفيين من دير الزور والرقة، وضمت اثنتان، هما السريتان 21 و25 بعض العناصر العربية السنية من قبيلة شمر أو من مدينتي إدلب وحمص. وجميع الوحدات الأخرى كانت من الدروز أو الشركس أو الأكراد أو الآشوريين أو الأرمن أو الإسماعيليين" الصفحة – 304- 305.
(64).الصفحة 304 نفس المصدر السابق
(65).الصفحة 196 من كتاب تطور المجتمع السوري (1831- 2011) تأليف نشوان الأتاسي.
(66).الصفحة 305-307 من كتاب " فلّاحو سورية ... أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم " تأليف حنّا بطاطو ترجمة عبد الله فاضل ورائد النقشبندي. الناشر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الطبعة الاولى 2014.
(67).الصفحة 3368 من مذكرات أكرم الحوراني.
(68).الصفحة 3368 من مذكرات أكرم الحوراني.
(69).من المؤكد أن حافظ الأسد لم يؤمن يوماً بالإيديولوجيا والفكر الشيوعي، فعقله البراغماتي وشخصيته الميكافيلية البارعة والفريدة كانت تدفعه للعمل في أي اتجاه يخدم صعوده في هرم الحزب والسلطة البعثية، لقد كان يعلم بأن الرياح تسير وتهب لمصلحة يسار البعث داخل السلطة البعثية، وكان عليه ركوب الموجة بأي وسيلة وطريقة كونها أقصر وأسهل طريق للوصول إلى أعلى درجات سلم السلطة، لهذا كان طبيعياً أن يبيع في البداية رفيقه في اللجنة العسكرية البعثية السرية محمد عمران بعد أن تبين أنه أقرب إلى تيار القيادة القومية لمصلحة رفيقه صلاح جديد الذي أصبح يقود تيار اليسار داخل اللجنة العسكرية البعثية السرية ، ثم في مرحلة ثانية كان عليه بيع رفيقه صلاح جديد لمصلحة خطه ومشروعه السياسي ولمصلحة تفرده وتحكمه المطلق بالسلطة.
(70).الصفحة 3376 من مذكرات أكرم الحوراني.
(71).الصفحة 151 من كتاب الأسد ... الصراع على الشرق الأوسط، تأليف باترك سيل، منشورات شركة المطبوعات للتوزيع والنشر الطبعة العاشرة 2007.
(72).الصفحة 3483- 3484 من مذكرات أكرم الحوراني.
(73).من دراسة بعنوان " استيلاء حافظ الأسد على السلطة رغم هزيمة 1967: أهمية الأصدقاء والولاء والخوف في أنظمة البعث للكاتب مروة كانيا ترجمة أحمد عيشة منشورات مركز حرمون للدراسات المعاصرة.
(74).الصفحة 3502 من مذرات أكرم الحوراني.
(75).الصفحة 3570 من مذكرات أكرم الحوراني.
(76).الصفحة 3576 – 3577 من مذكرات أكرم الحوراني... لمن يريد معرفة الشخصيات التي تم اختطافها في تلك الفترة مراجعة مذكرات أكرم الحوراني الصفحة 3577.
(77). الصفحة 3581 من مذكرات أكرم الحوراني.
(78).الصفحة 3501- 3502 من كتاب مذكرات أكرم الحوراني. كما يقول حنا بطاطو في كتابه فلّاحو سورية الصفحة 328 " غير أنه لم يقبل آب التالي حتى حل جديد الكتائب وصادر أسلحتها، زاعماً، باسم القيادة القطرية لحزب البعث، أنها " قد أنشئت من دون علم الحزب" وأن قائدها استخدمها ل " غاياته الخاصة" ول " إرهاب المواطنين وتجريدهم من حريتهم ". واتهم الجندي أيضاً، من بين أمور أخرى، ب " تسليم الاتحاد العام لنقابات العمال إلى الاتحاد الدولي لنقابات العمال الذي تسيطر عليه الأممية الشيوعية " من دون الحصول على موافقة الجمعية العامة للاتحاد كما يقتضي نظامه الداخلي ".
(79). الصفحة 3146 من مذكرات أكرم الحوراني
(80).الصفحة 3147 من مذكرات أكرم الحوراني.
(81).محمد طلب هلال هو الملازم أول رئيس الشعبة السياسية في الحسكة، قدم للسلطة البعثية مشروع ما عرف بالحزام العربي بتاريخ 11 / 12 / 1963 وفي هذا الهامش أعرضملخصاً لأهم المقترحات التي جاءت في هذا المشروع التطهيري، 1 – أن تعمد الدولة إلى عمليات التهجير إلى الداخل، مع التوزيع في الداخل، ومع ملاحظة عناصر الخطر أولاً فأولاً، ولا بأس أن تكون الخطة ثنائية أو ثلاثية السنين....2 – سياسة التجهيل: أي عدم إنشاء مدارس أو معاهد علمية في المنطقة... 3- إن الأكثرية الساحقة من الأكراد المقيمين في الجزيرة يتمتعون بالجنسية التركية. فلا بد لتصحيح السجلات المدنية، وهذا يجري الآن...4 سد باب العمل: لا بد لنا أيضاً مساهمة في الخطة من سد أبواب العمل أمام الأكراد...5 – شن حملة من الدعاية الواسعة بين العناصر العربية ومركزة على الأكراد...6- نزع الصفة الدينية عن مشايخ الدين عند الأكراد...7- ضرب الأكراد بعضهم، وهذا سهل... 8- إسكان عناصر عربية وقومية في المناطق الكردية على الحدود...9- جعل الشريط الشمالي للجزيرة منطقة عسكرية كمنطقة الجبهة...10 – إنشاء مزارع جماعية للعرب الذين تسكنهم الدولة في الشريط الشمالي...11- منع السماح لمن لا يتكلم اللغة العربية بأن يمارس حق الانتخابات والترشح في المناطق المذكورة 12- منع إعطاء الجنسية السورية مطلقاً لمن يريد السكن في تلك المنطقة...( لمن يريد معرفة المزيد عن مشروع الحزام العربي مراجعة دراسة محمد طلب هلال المنشور على موقع wekhevi.
(82). مقتطفات من دراسة للكاتب عمر رسول تحت عنوان الكرد والاعتقال السياسي في سورية (1920-2017) نشرت في العدد الثاني من مجلة قلمون للدراسات المعاصرة. كما نشرت في موقع مدارات كردية بتاريخ 27 / 5 / 2018.
(83).الصفحة 3581- 3582 من مذرات أكرم الحوراني
(84).الصفحة 3579 من مذكرات أكرم الحوراني.
(85).يقول عبد المنعم علي عيسى في مقال في جريدة الأخبار اللبنانية نشر بتاريخ 22 / كانون الأول / 2021 تحت عنوان المسكوت عنه في العلاقة الروسية السورية " يروي يوسف زعين رئيس آخر وزارة في عهد صلاح جديد لصحافي مصري بعيد خروجه من السجن لدواع صحية أن السفير السوفياتي في دمشق كان قد زار صلاح جديد يوم 15 تشرين الثاني من هذا العام الأخير في مقر احتجازه قبل يوم واحد من إعلان حافظ الأسد عن انقلابه على رفاق الأمس، وفي ذلك اللقاء عرض السفير على جديد القبول بالقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن في أعقاب حرب حزيران 1967 في مقابل وقف إجراءات الانقلاب وعودة الأمور إلى مجاريها، لكن الأخير رفض بشدة، فسارت الأمور في اليوم التالي نحو إعلان الأسد عن " قيام الحركة التصحيحية ".