فلسطين وحتمية مواجهة قاتل متسلسل

لومـــــوند : محمد وزين
كما هو متوقع عادت حالة الغليان الى منطقة الشرق الاوسط الأحداث بعد الأخيرة التي شهدتها الاراضي الفلسطينية المحتلة بداية من محاولة إخلاء الفلسطينيين من بيوتهم في حي الشيخ جراح بقرار من محكمة اسرائيلية جائرة، ليليه تحرش و تغول وغطرسة من قطعان المستوطنين والجيش والشرطة ، الى تصاعد الاحتجاجات وصولا الى معركة الصمود والكرامة التي خلقت ولأول مرة توازنا في الرعب . كأنها البدايات الاولى ،وكأن التاريخ يعيد نفسه، ويستعيد وقائع ومواقف من مطلع القرن الماضي: الشعب الفلسطيني ينتفض على إمتداد أرضه الكاملة، النافية لقرار التقسيم، والحركة الصهيونية تستخدم مختلف أنواع الاسلحة التي تملكها من أجل ان تسود. الجانبان يتذكران تلك الحقبة بالذات، العشرينات والثلاثينات التي شهدت التكوين الاول للهوية الوطنية الفلسطينية، والتأسيس الاول للكيان اليهودي، بدءاً من مدن الساحل الفلسطيني التي شهدت الموجات الاولى من الهجرة اليهودية، والتظاهرات والرصاصات الاولى التي أطلقتها المقاومة الشعبية الفلسطينية في يافا، وحيفا، وعكا، واللد، والرملة، وتل ابيب..وفي غزة، التي كان لها على الدوام هامش متميز في الحراك الشعبي الفلسطيني، ثم في التفلت من القبضة الصهيونية. موازين القوى هي نفسها، لم تتغير ولم تتبدل: جاء الصهاينة، مدججين بالسلاح المتطور، الذي كانت له الكلمة الفصل في إعلان كيانهم الغاصب ،دولة عندما إنضمت الى المستوطنين الاوائل كتائب يهودية كاملة التسليح والتجهيز من فرق الحرب العالمية الثانية، فأخمدت الثورة الفلسطينية الاولى، وهزمت بسهولة فائقة الجيوش العربية مجتمعة،حربا وخيانة وجسدت المزاعم الصهيونية بالحصول على أرض بلا شعب..في تلك الدولة، كان الشرخ موجوداً على الدوام بين المجتمعين اليهودي والعربي.و مع وصولهما إلى الضربات الفعلية من خلال المعركة الحالية التي ساهمت في إبانته وفي تعميقه الى حد لم يسبق له مثيل منذ الانزال الصهيوني الاول على الساحل الفلسطيني . وهو سيؤدي حتما الى صراع جديد على الهوية، وعلى الفرز السكاني، وربما أيضا على التهجير، بل وحتى مراجعة قرار التقسيم نفسه...الايام الراهنة، تكتب فصلاً جديداً من ذلك التاريخ المتصل. ما بدأ بحسابات سياسية صغيرة لبنيامين نتانياهو من تشجيع للمتطرفين اليهود من السلالة السياسية لباروخ غولدشتاين على طرد سكان حي الشيخ جراح من منازلهم والاستيلاء عليها، بغية إحداث تغيير لمصلحة بقائه في الحكم، انقلب إلى انتفاضة فلسطينية ثالثة شملت مدناً وبلدات كثيرة داخل الخط الأخضر. وهكذا استعاد الفلسطينيون وحدتهم بعد عقود من الانقسام بين مناطق السلطة وقطاع غزة، وبين طرفي الخط الأخضر، إضافة إلى فلسطينيي الشتات الموزعين في أرجاء العالم. لعل أكثر ما يثير الحماس هو امتداد الاحتجاجات الشعبية إلى مدن وبلدات كحيفا وأم الفحم واللد وغيرها من المدن المحتلة التي أريد لها أن تبقى خارج فلسطين أوسلو، بعد عقود على الاتفاقية المشؤومة والتي قلصت فلسطين إلى حدود ضيقة يخترقها –فوق ذلك- سرطان المستوطنات. لكن الفلسطيني لم يغادر، ولم يستسلم، ولن يسلم. وهو ما زال متشبثاً، كشعب واحد، أو على الأقل كوعي موحد، بأرضه الممتدة من البحر الى النهر، يقاوم ويقاتل. والاسرائيلي الذي حقق ما بدا له أنها معجزة، بات مضطراً مرة أخرى الى حمل السلاح والهجوم على الاحياء والمنازل الفلطسينية أينما وجدت، والتلويح بالاعلام والسكاكين والعصي.كأنه عاد الى سيرته الاولى، عصابات الهجانة والأرغون ومليشيات البالماخ ، سابقة لوجود الدولة والجيش والمؤسسة، تخوض حرب شوارع فعلية، مع "جيران" كانوا شركاء في الهوية، ولو من الدرجة الثانية، فباتوا العدو الذي يكمن لهم على مفارق الطرق ويتحدى وجودهم الممتد لقرون على أرضهم.فالمعركة الراهنة هي إستعادة حرفية لمعارك مطلع القرن الماضي. هذا ما يتفق عليه الفلسطينيون والاسرائيليون في هذه الايام الصعبة. وهم يقاتلون اليوم على هذا الاساس، كأنهم يستكملون ما فاتهم، ويصفون حسابات الماضي التي لم تحسم، ولن تحسم.. إلا بإعتراف اليهود أنهم ليسوا على أرض بلا شعب، وبإعتراف الفلسطينيين أن قضيتهم بحاجة الى تحديث كامل، يشمل جميع رموزها وأدواتها..... ما يميز هذه الجولة الأخيرة هو كمية عناصرها وقيمتها وربما مدتها. في عودة لعملية الجرف الصامد عام 2014، حاول الجيش الإسرائيلي دك البنية التحتية في غزة.وكذلك منشآتها كما اعتقل وقَتل العشرات من سكان غزة ، بمن فيهم نشطاء كبار في حماس والجهاد الإسلامي تَم استهدافهم شخصيًا. إن وجود علامات من هذا العيار في مرمى إسرائيل في مثل هذه المرحلة المبكرة من المواجهة ليس أمرًا شائعًا، وقد يكون الهدف منه استغلال الفرصة المحدودة قبل فك الارتباط بين الجانبين. تصريح نتنياهو في 11 مايو بأن سفك الدماء "سيكون على رأس" حماس والجهاد الإسلامي - وتعهده بأن "هذه الحملة ستستغرق وقتا" - يشير إلى أن إسرائيل ليس لديها خطط فورية لخفض قواتها. وقد تم بالفعل حشد الآلاف من جنود الاحتياط. حماس طبعا ردت فأصدرت إنذارًا نهائيًا لإسرائيل للتراجع عن تواجدها في الحرم القدسي وفي الشيخ جراح ، ثم بدأت باطلاق الصواريخ باتجاه المدن المحتلة في وقت من الأوقات في 11 مايو ، اضطر مطار بن غوريون الدولي إلى تعليق حركة المرور وتحويل الرحلات الجوية إلى أماكن أخرى. تم ضرب خط أنابيب الطاقة في إيلات-عسقلان ،فلم تسلم أي منطقة من صواريخ المقاومة ولم يشعر الإسرائيليون بهذا التعرض للعنف في الذاكرة الحديثة. وهو ماسينعكس حتما على المشهد السياسي في اسرائيل فخصوم نتنياهو واستنادهم الى فضائح فساده و مع احتدام الفوضى في إسرائيل ، لم تكن حتمية الإطاحة به أكثر حدة من أي وقت مضى ، لكنهم سيواجهون معركة شديدة الانحدار فالأحزاب العربية ، التي يغازلها خصوم نتنياهو ، ستكون الآن أكثر ترددًا في التعاون لتشكيل حكومة جديدة مع أمثال يائير لابيد من يسار الوسط ورئيس حزب يمينا نفتالي بينيت ، اللذان أعربا عن دعمهما. لعملية غزة. وهما بدورهما سيكونان أكثر تشككًا في مثل هذه الشراكة أيضًا. قد يكون هذا الخيار قد تم استبعاده تمامًا في 13 مايو، عندما سحب بينيت دعمه لحكومة "الوحدة". والتفويض بتشكيل ائتلاف يمكن أن ينتهي به الأمر بالعودة إلى الكنيست لمدة 21 يومًا إضافية، يمكن خلالها لليمين المتطرف أن يتحد لإبقاء نتنياهو الفاسد في السلطة. لا شك أن الاحداث الاخيرة أعادت للقضية الفلسطينية وهجها،وأجهزت على رواية إسرائيل كونها واحة ديموقراطية متحضرة وسط صحراء الهمجية المحيطة بها.وذلك بالتعاطف الواسع في الرأي العام العربي والعالمي مع الفلسطينيين، في الجولة الحالية من الصراع، بما في ذلك قسمٌ من الرأي العام الإسرائيلي نفسه، هو أيضاً تمدد معنوي مهم بصرف النظر عن النتائج المباشرة التي يمكن توقعها. فالصراع غير متكافئ كما كان دائماً، وسينتهي لغير مصلحة الفلسطينيين كما كان دائماً. لكن ما حدث، إلى اليوم، يبقى ذو قيمة كبيرة، رمزياً واستراتيجياً، ولا بد أن يفرض نفسه على المعادلات السياسية في الفترة القادمة. على الأقل من حيث إزالة آثار كوارث ترامب في أبعادها الفلسطينية، من إضفاء شرعية على سرقة القدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، وكذا أبعادها العربية المتمثلة في تصهين عدد من الدول العربية البعيدة جغرافياً عن فلسطين بعد تطبيعها مع دولة الاحتلال.ما ترك الفلسطينيين من دون خيارات غير خيار المواجهة العسكرية من دون أي اكتراث لنتائجها أو خسائرها في الجانب الفلسطيني لكن نهاية هذا الصراع، لن تكرر الماضي حرفياً. في البدء، حققت المعركة الراهنة حتى الآن إنجازاً إستراتيجياً مهماً: هي أوقفت، أو ربما عطلت واحدة من أشرس الحملات الاسرائيلية الاميركية التي كانت تستهدف إنكار صلة الشعب الفلسطيني بأرضه، تمهيداً لإنكار وجود ذلك الشعب بحد ذاته وتآكل قضيته، فإسرائيل حرصت على تجزئة وتذرير الشعب الفلسطيني خلال العقود الماضية؛ لأن وجود الشعب الفلسطيني موحدًا، ووجود التمثيل السياسي الموحد له هو أكثر ما يؤلمها، ويهدِّد شرعيتها. فقد عملت إسرائيل، وساعدتها حكومات عربية، وقوى عربية وفلسطينية، قصدًا و خيانة، على تقسيم الفلسطينيين بطرق متنوعة، على أساس جغرافي إلى فلسطينيي الـ 48 وفلسطينيي الـ 67 وفلسطينيي الضفة الغربية وفلسطينيي قطاع غزة، وفلسطينيي الشتات... إلخ. لذلك، فإن إعادة بناء مفهوم الشعب الفلسطيني، والنظر إلى الفلسطينيين بوصفهم شعبًا واحدًا، واعتبار فلسطين كلها ساحة واحدة، وإعادة بناء التمثيل السياسي الوطني الديمقراطي للفلسطينيين على هذا الأساس، هو العنصر المركزي والأهم في تغيير موازين القوى.وبالتالي فهذا الحدث في تقديري هو فرصة مهمة لإعادة بناء النضال الفلسطيني. فالمعارك ستتوقف عاجلًا أم آجلًا، و يمكن توقع عودة إسرائيل وحماس إلى التقاليد والخضوع للوساطة، على الأرجح من قبل المحاورين المصريين أو القطريين.أو الاتراك او حتى الأمريكان و سيطالب كل جانب بعد ذلك بانتصار من نوع ما ويصمم على تحسين موقفه قبل الجولات المستقبلية التي يكاد يكون من المؤكد تفجرها في غياب سلام حقيقي.مع محتل تقوم سياسته على الالغاء ، فبدلًا من الاستغراق في عدّ ضحايا وخسائر إسرائيل، لا بدّ من الانهماك فعلًا في توحيد الفلسطينيين في كل العالم استنادًا إلى رؤية فلسطينية وطنية ديمقراطية جامعة، فهذا هو ما سيبقى بعد انقشاع غبار المعارك، وهذا هو المكسب الحقيقي الذي يمكن أن يبنى عليه، وهو فعلًا ما يمكن أن يغيِّر شيئًا في موازين القوى، ويؤلم إسرائيل حقًا. أما خسائر إسرائيل البشرية فستطوى بعد مدة زمنية، وستعوِّض خسائرها المادية ببساطة أو ستتلقى المساعدة من دول أخرى، وستنشغل مراكز بحوثها العسكرية في استكشاف نقاط ضعف قبتها الحديدية أو البحث عن حلول أخرى لتعزيز أمنها. ما حدث في القدس وأرجاء فلسطين، كبير، وسيترك بصمة قوية على مستقبل الصراع. لكن مع ذلك من المجحف التفاؤل بانتصار المقاومة في الوقت الراهن فلا هي تملك سلاحاً قادراً على الانتصار على الآلة العسكرية الإسرائيلية، ولا المجتمع الدولي سيسمح بهزيمتها. و الفلسطينيون يدركون اختلال موازين القوى الباهظ هذا، ويعرفون حدود ما يمكن أن يحققوه. لكنهم في المقابل اثبتتوا أن الشعب الفلسطيني ما زال موجوداً على أرضه، من البحر الى النهر، ولم يعد في حاجة الى العطف ( أو حتى الشفقة) من الشعوب العربية والاجنبية كافة، بما فيها الشعب الاميركي نفسه، وإدارته المتواطئة جهارا فهذا الشعب الجبار قد أحيا من جديد، ولو بشكل خجول، أفكار التسوية التي بدا أنها دُفنت أيام ترامب، لا سيما منها حل الدولتين..فلا بد ان تطلق بشكل أو بآخر عملية سياسية ما، تبنى مرة أخرى، ليس فقط على وجود الشعب الفلسطيني، بل على تصميمه وإرادته وإستعداده الدائم للفداء، مهما كانت موازين القوى مختلة لصالح اليهود، ومهما كانت مظاهر الخذلان العربي جارحة ومدمرة. ما حدث في فلسطين المحتلة هذه الأيام يضع الحقائق الواقعية أمام العالم بشكل مكشوف لا يستطيع الإعلام الشيطاني أن يخفيه، ولا تستطيع بعض الحكومات المتضررة أن تمنع بروزه أو تشوّه صورته، فيوماً بعد يوم يتضح كذب أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يهزم ، والتي تكرست عبر الهزائم المتتالية للجيوش النظامية العربية في كل المعارك وبأيام معدودة فقط لكل معركة، دون السماح للعقل الجمعي العربي باستيعاب صدق الأسطورة من عدمه، والانتباه إلى أن هذه الجيوش شاركت في المعارك لتُهزم، وأن الجيش الصهيوني شارك منذ البداية لينتصر، سواء تمت النتائج بترتيب مسبق مع بعض الأطراف المهزومة، أو بتهيئة الأسباب والمناخ العام ليكون المنتصر منتصراً والمهزوم مهزوماً. ولذا فإن الإعلام القذر لا يسمح بوضوح الرؤية لأن الوضوح يعرّي الأساطير السابقة والذين صنعوها أو شاركوا في صنعها، ويكشف حقائق لا يراد لها أن تنكشف، وهكذا يصبح الاعتداء الحالي على فلسطين المحتلة حرباً بين إسرائيل وحماس، دون أن يسمح هذا الإعلام للحقيقة بالوصول للعقل الشعبي العربي بشكل حقيقي ومتجرد، وهي أن الصهاينة معتدون مجرمون مدفوعون بمصالح المغتصب للتمدد على كل الجغرافيا العربية والاستيلاء على الثروات والقدرات إنهاء الخصوصية الثقافية للمجتمعات العربية ونشر عولمة الغرائز وبوهيمية الإنسان والاستسلام للمصير المجهول. حفظ الله فلسطين وأهلها مشكورين على دروس العزة والنخوة والكرامة ،والمجد والخلود لشهداء القضية فعلى هؤلاء النشامى تبكي البواكي.
فلسطين وحتمية مواجهة قاتل متسلسل lemonde.in 5 of 5
لومـــــوند : محمد وزين كما هو متوقع عادت حالة الغليان الى منطقة الشرق الاوسط الأحداث بعد الأخيرة التي شهدتها الاراضي الفلسطينية المحتلة بدا...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك