نظام الاستبداد المعمم في سوريا مقدماته ومراحله - 13
لومـــوند : نبيل ملحم
الثالث عشر: نظم البعث بين كفتي الشرعية الثورية البائسة ونظام العصبية الطائفية
تتميز أحداث التاريخ العربي، سواء كانت منها الواقعة في التاريخ المعاصر أو الحديث أو الوسيط، بتراكب وتداخل للعناصر الفاعلة والمؤثرة في أغلب الصراعات التي شكلت أياً من أحداث التاريخ التي عرفتها المجتمعات العربية، ولهذا يبدو أي حدث في التاريخ العربي وقبل أن نبتعد عنه كثيراً في المسافة الزمنية، وكأنه مجموعة من الخيوط التي عبثت بها أكثر من يد أو جهة من أيادي التاريخ، حيث تتداخل الخيوط وتتشابك بعضها مع بعض إلى حد تصبح فيه وكأنها كتلة - كوشة - من الخيوط لا يعرف فيها بداية أو نهاية أو أصل لأي من خيوطها الأساسية المشكلة لها.
تتميز أحداث التاريخ العربي، سواء كانت منها الواقعة في التاريخ المعاصر أو الحديث أو الوسيط، بتراكب وتداخل للعناصر الفاعلة والمؤثرة في أغلب الصراعات التي شكلت أياً من أحداث التاريخ التي عرفتها المجتمعات العربية، ولهذا يبدو أي حدث في التاريخ العربي وقبل أن نبتعد عنه كثيراً في المسافة الزمنية، وكأنه مجموعة من الخيوط التي عبثت بها أكثر من يد أو جهة من أيادي التاريخ، حيث تتداخل الخيوط وتتشابك بعضها مع بعض إلى حد تصبح فيه وكأنها كتلة - كوشة - من الخيوط لا يعرف فيها بداية أو نهاية أو أصل لأي من خيوطها الأساسية المشكلة لها.
يشكل هذا البحث وهو الجزء الأول من دراسة سيسيولوجية لما يمكن أن نسميه بلغة الفيلسوف الفرنسي إدغار موران في علم الاجتماع السياسي بالتناول المركب والمعقد " الفكر المعقّد / المركّب والفكر الشامل " لسيرورة الصراع على السلطة البعثية بين عامي 1963 و1970 بشكل خاص، وسيرورة الصراع على السلطة في سوريا بشكل عام منذ وصول البعث إلى السلطة حتى يومنا هذا. كما يشكل هذا البحث دعوة بنفس الوقت للباحثين والمفكرين العرب للتأسيس لهذا الفرع من علم الاجتماع السياسي القائم على التناول المركب والمعقد للصراعات داخل المجتمعات العربية، وحيث أن ذلك تفرضه طبيعة الصراعات والتناقضات داخل المجتمعات العربية، حيث نجد في أغلب الأحيان تراكباً وتداخلاً معقداً لعناصر وأطراف الصراع، الأمر الذي يجعل أي تناول لا يلحظ هذا التراكب والتداخل في معادلة الصراعات معرض من جهة أولى لخطر الانزلاق نحو التبسيط والسطحية في التناول أو ما يمكن تسميته بالمنهج الاستبدالي، حيث يتم استبدال التركيز على العنصر الطبقي، بالتركيز على العنصر الطائفي أو استبدال العنصر الطبقي بالعنصر الحضاري – ريفي / مديني ...الخ من أشكال استبدال العناصر، كما أن عدم رؤية هذا التراكب يجعل أي تناول معرض لخطر الانزلاق نحو التضليل المعرفي أو الأيديولوجي من جهة ثانية، وحيث أن هذا البحث يرتكز على مقولة أن الصراع السياسي داخل المجتمع السوري بشكل عام، والصراع السياسي داخل سلطة البعث بشكل خاص، لم يكن يوماً من الأيام صراعاً بسيطاً بين طرفين واضحين في الهوية، لا من حيث الهوية الاجتماعية الدينية والطائفية، ولا من حيث الهوية الحضارية الريفية / المدينية، ولا من حيث الهوية الطبقية بمعناها الصريح والكلاسيكي، ولا من حيث الهوية السياسية أو الإيديولوجية بمعناها الحزبي المعروف والمتداول في الشروط الطبيعية، ولا حتى من حيث الهوية القومية. لقد كان الصراع السياسي دائماً صراعاً مركباً من أكثر من عنصر، فدائماً يدخل على خط هذا الصراع أكثر من طرف وأكثر من هوية. وحيث يأتي الكشف عن كل المركبات المشكلة لهذا الصراع، وعلاقة وتداخل عناصر الصراع بعضها مع بعض في كل لحظة من لحظات هذه السيرورة أحد الأهداف الأساسية لهذا البحث. وحيث أن تفكيك وإعادة تركيب كل العناصر المشكلة لهذا الصراع هو السبيل الأمثل لتكوين رؤية حقيقية لهذا الصراع، فالكشف عن حقيقة هذا الصراع، يستدعي كما تستدعي عملية الكشف عن أي حقيقة، رؤية الصراع من كل جوانبه من جهة، كما يستدعي من جهة ثانية، عدم التركيز على عنصر من عناصر الصراع وإهمال بقية العناصر الأخرى، وحيث أن هذا الإهمال، قد يكون ناتجاً عن القصور في وعي جوهر الصراع عند الباحث أو بدافع خدمة أجندة سياسية أو إيديولوجية أو ناتجاً عن تعصب منهجي وقصور في الأدوات المعرفية اللازمة لنوع كهذا من البحوث التي تحتاج وتستدعي ضرورة الانفتاح على كل مناهج البحث المعروفة، كما تستدعي ضرورة إنتاج أدوات معرفية مناسبة وقادرة على معالجة هذا النوع المركب والمعقد من الصراعات التي تعرفها بعض المجتمعات.
من المؤكد كما يقول الفيلسوف إدغار موران " أنّ مقاومة ما يمكن ان نسمّيه الفكر الاختزالي تزداد أهميّتها، والمقصود به الفكر الذي يَختزل معرفة كُلّ إلى معرفة العناصر التي تُكوّنه وإلى المعرفة المجزأة، فتغدو الحقائق المستمرة في الطبيعة مبتورة في تخصصات وتخصصات فرعية. وقد بين البعض أنه ينبغي الاعتراض على الفكر الاختزالي أو المجزّأ، بفكر أطلقوا عليه الفكر الكٌلّاني holiste، من فكرة holos الكلّ. لكن عيب الفكر الكٌلّاني تمثل في كونه اختزالياً هو الآخر، بمعنى بدل أن يٌختزل إلى عناصر تتشكل من كٌلّ، اختزل المعرفة إلى معرفة كلّ ما فقط. غير أن الذي سوف نراه هو أن معرفة كلّ ما، لا تتطلب معرفة العناصر المكونة لهذا الكل وحسب، بل ايضاً تلك المتعلقة بالأفعال وردود الأفعال الموجودة، باستمرار، بين الأجزاء والكلّ عندما يكون الكلّ نشيطاً وحياً، وعندما يتعلق بكل اجتماعي وانساني. وحيث الشرط الأول هو وضع المفاهيم في السياق "(1).
لقد عرف المجتمع السوري، قبل وبعد وصول البعث إلى السلطة، صراع الريف مع المدينة، وصراع البرجوازية الصغيرة القومية مع البرجوازية التقليدية وبقايا الإقطاع، وعرف كذلك الصراع الطبقي والسياسي بكل أنواعه وأشكاله، وعرف الصراع مع القوى الاستعمارية بشكلها القديم والحديث. لهذا فإن هذا البحث سيخوض نقاشاً مع الكثير من الأفكار والبحوث التي اعتمدت في رؤيتها لسيرورة الصراع على عنصر واحد من عناصر الصراع وأهملت بقية العناصر، وحيث تأتي البحوث التي تركز على ما هو طائفي أو التي تركز على ما هو طبقي في مقدمة هذه البحوث.
لقد استخدم مفهوم الشرعية الثورية الطبقية طيلة القرن العشرين، من أطراف سياسية وتيارات إيديولوجية عديدة، أغلبها ينتمي إلى التيارات اليسارية الشيوعية والقومية، فقلما حدث انقلاب اجتماعي أو سياسي أو نزاع سياسي أو سطو سياسي على سلطة دولة أو على قيادة حزب أو حتى نزاع داخل جماعة سياسية صغيرة على سلطة وقيادة هذه الجماعة، دون أن يدخل هذا المفهوم، وكأنه الحكم أو الفيصل أو كما يقال، وكأنه بيضة القبان، التي ترجح الكفة في هذا النزاع أو ذاك على الأقل من الناحية النظرية والسياسية والأخلاقية في الكثير من الحالات. يضاف إلى ذلك استخدام تيارات سياسية وإيديولوجية كثيرة ولا سيما منها اليسارية مفهوم الشرعية الثورية أو الطبقية عند تناولها مسببات الصراع على السلطة بين تيارات البعث المختلفة، أو استخدامها عند تقييم هذه السلطة أو تلك من زاوية الصراع الطبقي الصافي، وبما يعني الحكم على شرعية هذا النظام أو ذاك من منظار طبقي صرف.
في كفة ثانية نجد أن أغلب الدراسات والأبحاث التي بدأت تظهر في عالم الفكر السياسي بدءاً من عقد الثمانينيات من القرن الماضي وازداد ظهورها ورواجها كثيراً في العقود الأخيرة إلى حد سيادتها وطغيانها على ما عداها من الأبحاث، والتي تتناول مسألة صعود البعث إلى السلطة في سوريا في 8 آذار 1963، وسيرورة الصراع السياسي التي احتدمت بين تيارات البعث المختلفة والتي انتهت في المحصلة إلى سلطة حافظ الأسد بدءاً من عام 1970، أقول أن أغلب هذه الأبحاث والدراسات الصادرة عن عقول سورية، وكذلك عربية واجنبية أوروبية، ومن مشارب وتيارات سياسية وإيديولوجية مختلفة، فإنها جميعها تركز على العنصر الطائفي في معادلة الصراع على السلطة، إلى حد اعتباره العنصر الأساسي المحرك لأطراف الصراع، أو لنقل إلى حد اعتبار سيرورة الصراع السياسي على السلطة لم تكن في الواقع سوى عملية صراع من أجل تجسيد مشروع طائفي علوي معد مسبقاً من قبل ثلاث شخصيات – محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد - من أعضاء اللجنة العسكرية البعثية التي شاركت في التخطيط وساهمت في تنفيذ انقلاب 8 آذار 1963، وهناك بعض الأبحاث التي لا تغرف إلا من الجعبة الطائفية تعتبره مشروعاً معداً مسبقاً لطالما سعت لتحقيقه الطائفة العلوية منذ قرون. وقد وصل التركيز عند بعض الباحثين على العنصر الطائفي في عملية الاستقطاب والصراع السياسي في تلك الفترة إلى حد اعتبار أن كل الذين انخرطوا في حركة البعث من قيادات تاريخية مشهورة ومعروفة على الصعيد السوري والعربي، ومن الكوادر والمثقفين والقادة العسكريين، عبارة عن بشر سذج وأغبياء ومغفلين ضحك عليهم ثلاثة من الضباط العلويين في اللجنة العسكرية البعثية التي شاركت بالانقلاب. وهنا علينا الاعتراف وعدم نكران حقيقة أن نوعاً كهذا من الأبحاث والأفكار قد لاقت رواجاً وتقبلاً على نطاق واسع على وهج الفكر والاستقطاب الطائفي الذي انتشر واستشرى داخل الحقل السياسي وفي عقول عموم البشر، في عموم المنطقة العربية منذ زمن عقد الثمانينيات من القرن الماضي.
لقد تم اختزال صراع الريف مع المدينة، وصراع البرجوازية الصغيرة مع البرجوازية التقليدية وبقايا الإقطاع، وصراع العمال والفلاحين مع الطبقة المالكة للثروة، وكل الصراع السياسي والإيديولوجي داخل المجتمع مع تداخله مع الصراع الإقليمي والصراع ضد القوى الاستعمارية، أقول تم اختزال كل ذلك إلى صراع طائفي، قاده وأشعله ثلاثة من قادة اللجنة العسكرية التي دبرت الانقلاب البعثي، وحيث أن هذا التفسير الطائفي للصراع والانقلاب، حول آلاف النخب السياسية والثقافية التي غطت وانخرطت في سلطة البعث بدءاً من تاريخ 8 آذار 1963 وصولاً إلى 16 تشرين الثاني 1970 إلى كومبارس مغفل خدم مخططاً معداً مسبقاً من قبل محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد لوصول العلويين إلى السلطة وتشبثهم بها." يلخص جابر رزق المتخصص في الشؤون السورية في مجلة الدعوة المصرية الأصولية هذه الفرضية في جملة واحدة أحسن تلخيص: يقول " لقد استفادت الطائفة النصيرية كل الفائدة (للوصول إلى السلطة) من تلك الفرصة الذهبية التي منحتها إياها دعوة القومية العربية، وهي فكرة أوحى بها المستعمر الصليبي (الغربي) والصهيوني إلى عملائه كافة من المسلمين والعقول الحقودة من الطوائف الأخرى "(2). وأستطيع القول أن كل الأبحاث التي أتت بعد ذلك وأكدت على غلبة العنصر الطائفي في عملية الصراع على السلطة أكدت على فكرة جابر رزق ولكن بشكل ملطف أو لنقل مع بعض اللباقة السياسية والأدبية. إن ما هو خطير في هذه الأبحاث ليست بما فيها من اتهامات مرمية يميناً ويساراً لهذه الطائفة أو تلك أو لهذا التيار السياسي أو ذاك، أو لهذه الشخصية أو تلك، إن الخطر يأتي من كون هذه الأبحاث، تبني وتبشر عن قصد أو من دون قصد بنوع جديد من الشرعية للنظم السياسية في المنطقة، شرعية قائمة على الأغلبية الطائفية بدل الشرعية القائمة على الأغلبية السياسية. فحسب هذه الأبحاث فإن شرعية هذا النظام أو ذاك تأتي من انتماء هذا النظام – ولا سيما رأس النظام - لهذه الأغلبية الطائفية أو تلك، فمثلاً عندما تناقش مسألة شرعية سلطة البعث التي جاءت بها حركة 23 شباط البعثية، لا تناقش من زاوية كونها سلطة تفتقد إلى الشرعية، كونها أتت من خلال الانقلاب العسكري، أو من كونها لم تنل الشرعية من غالبية حزبية داخل حزب البعث العربي الاشتراكي، أو من كونها لم تنل الشرعية من خلال صناديق الاقتراع في انتخابات تعددية وفي شروط من الحرية والحياة الديمقراطية، إن القضية التي يتم التركيز عليها وكأنها من أكبر مصائب التاريخ، يأتي من كون أغلب رموز هذه السلطة كانوا ينتمون إلى الأقليات الطائفية داخل المجتمع السوري. والأمر ذاته يتكرر عند البعض عند مناقشة شرعية نظام حافظ الأسد، حيث نجد أن نزع الشرعية عنه يأتي لا من كونه نظاماً اغتصب السلطة...الخ. بل فقط من كون رأس هذا النظام ينتمي للطائفة العلوية. إن هذا النوع من المنطق والشرعية يمكن وصفها بأنها شرعية بائسة، وهي وجه العملة الآخر للشرعية الثورية البائسة المزيفة، التي اعتمدتها بعض التيارات اليسارية الشيوعية والقومية، التي لم تر في عملية الصراع على السلطة البعثية وفي شرعية السلطة سوى جانبها الطبقي.
لقد عرفت الساحة السورية قبل وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة وفي السنوات القليلة التي تلت وصوله إليها، نوعان من الفرز السياسي أحدهما له صفة موضوعية والآخر له صفة ذاتية. فقد تم موضوعياً اتجاه أبناء الأقليات الطائفية ومعهم أبناء البيئات السنية الريفية الأكثر تهميشاً – على سبيل المثال بعض مناطق حوران ودير الزور- إلى جهة يسار البعث، ويسار الحقل السياسي السوري بشكل عام. ففي أوساط الأقليات الطائفية والقومية، وأوساط البيئات السنية الريفية الأكثر تهميشاً، كانت مركبات الصراع المعقد والمركب داخل المجتمع السوري بشكل عام وداخل سلطة البعث بشكل خاص تندفع إلى أقصى الحدود. ففي صراع الريف مع المدينة، كان أبناء الريف في أوساط الأقليات الطائفية وأوساط البيئات السنية الريفية الأكثر تهميشاً يندفع العداء والصراع مع أبناء المدن إلى أبعد حدوده، في حين نجد أنه كان أقل حدة في الاندفاع في الأوساط السنية بشكل عام. وفي الصراع السياسي الطبقي كانت الأمور تمشي في نفس الاتجاه ويغذي كل ذلك في أوساط أبناء الأقليات الطائفية موروثاً تاريخياً ثقيلاً ومزمناً من المظلومية الدينية والسياسية عمرها قرون، وحيث أن هذا الموروث ظل مختبئاً تحت القشرة الإيديولوجية والثقافية الجديدة القومية البعثية. وحتى الانتماء للتيار القومي البعثي أو غيره من الانتماءات الإيديولوجية اليسارية، كان يعني لأبناء الأقليات الطائفية غير الذي يعنيه لأبناء الأغلبية السنية، فالانتماء للتيارات القومية مثلاً، كانت تعني لأبناء الأقليات الدينية، زيادة عما تعنيه لأبناء الأغلبية السنية، التخلص من الهوية الدينية للدولة التي كانت تجعلهم على مدى قرون من أبناء البطة السوداء. لقد تبنى أبناء البيئات السنية الفكر القومي المعتدل بصيغته ونسخته الأساسية الأولية التي تدعو إلى القطع مع الدولة الدينية القديمة ولكنها لا تدعو بالأساس إلى القطع مع الفكر والتراث الديني الإسلامي، بل بالعكس كانت تدعو للتعايش والتجاور مع هذا التراث والاستفادة منه والبناء فوقه. في حين تبنى أبناء الأقليات الدينية والقومية الفكرة القومية بصيغته ونسخته المعدلة بتأثير الفكر الماركسي إن جاز القول، فالبعث القومي هنا لا يدعو إلى القطع مع الدولة الدينية القديمة فحسب، بل يدعو كذلك إلى القطع مع الفكر الديني والثقافة والتقاليد الدينية بشكل عام. فالفكر القومي الذي دعت إليه الأحزاب القومية بمختلف أشكالها وألوانها، هي من جعل الأجيال الجديدة داخل الطائفة العلوية، بدءاً من أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات من القرن العشرين، يؤمنون بفكرة الدولة الوطنية السورية الواحدة، كبديل عن فكرة آبائهم وأجدادهم الذين طلبوا من دولة الانتداب الفرنسي الانفصال في كيان ودولة علوية في الساحل السوري.
أن كل ذلك باعتقادي هو من وقف موضوعياً عند سبب اتجاه أغلب أبناء الأقليات الطائفية إلى جهة اليسار من البعث، وسبب كون أغلبية رموز سلطة 23 شباط 1966 كانوا من الأقليات الطائفية، وهي السلطة التي أطلق عليها السوريون اسم (عدس) كون أغلبية رموزها من العلويين والدروز والإسماعيليين.
إن هذا الفرز الموضوعي الذي يتراكب فيه ومن دون قصد، السياسي والإيديولوجي مع الطائفي، لم تعرفه الساحة السورية كحالة متميزة وخاصة وفريدة في التاريخ الحديث لشعوب المنطقة، بل عرفته كذلك الساحة العراقية في نفس الحقبة الزمنية. ففي العراق، وقبل أن تعرف الساحة العراقية ومعها كل الساحات في عموم المنطقة العربية وما يحيط بها، المد الديني بنوعيه السني والشيعي، نجد أن الفكر والإيديولوجيا اليسارية بشكل عام كانت أقل انتشاراً في البيئة السنية قياساً بانتشارها الواسع في أوساط البيئة الشيعية أو الكردية أو غيرها من البيئات الدينية والقومية داخل المجتمع العراقي - أما لماذا؟؟؟ فهذا يحتاج إلى بحث مستقل ومطول في سيسيولوجيا المعرفة والثقافة داخل المجتمعات العربية - فقد " كانت القاعدة الاجتماعية للحزب الشيوعي العراقي ذات طابع ثنائي شيعي – كردي. في حين نجد القاعدة الاجتماعية لحزب البعث العربي الاشتراكي ذي الفكر والإيديولوجيا القومية تركزت في البيئة السنية العربية "(3). نتيجة هذا الفرز الموضوعي المشار إليه في الساحتين السورية والعراقية نجد أن ما يقابل النظام السوري الذي أطلق عليه البعض( عدس ) كدلالة على أن أغلبية رموز سلطة 23 شباط 1966 كانت تنتمي إلى الأقليات الدينية، العلوية والدرزية والإسماعيلية، كان هناك( س)في العراق، وتعني سني كدلالة على أن أغلبية رموز حزب البعث العربي الاشتراكي في تلك الفترة كانت تنتمي للطائفة السنية، ففي نفس الفترة، كانت " القيادة القطرية التي تشكلت في كانون الأول 1966 ووالت القيادة القومية للحزب ضد قيادة 23 شباط 1966 في دمشق، كان حزب البعث العراقي بقيادة قطرية محصورة في العرب السنة "(4). رغم كون " الشيعة 63 في المئة من مجموع السكان والسنة 14 في المئة والأكراد 18 في المئة والباقون مسيحيون وتركمان وآخرون"(5).
من المؤكد أن الفرز السياسي داخل صفوف البعث إن كان في سوريا أو العراق لم يكن نتاج الصدفة السياسية، كما يرى على سبيل المثال عزمي بشارة في كتابه " سوريا درب الآلام نحو الحرية"(6). كما لم يكن مقتصراً على جانبه الموضوعي، حيث التراكب الموضوعي للطائفي مع الأيديولوجي مع الطبقي مع الريفي/ المدني. فقد كان هناك فرز واصطفافات وتحالفات لها جانب ذاتي أيضاً. فهناك من عمل بشكل واع على تكريس ما هو موضوعي من خلال التوظيف السياسي الطائفي لما هو واقع موضوعي. حيث نجد هنا مستويين وحدّين لهذا التوظيف السياسي الطائفي، فهناك من استقوى وهو الحد الأدنى من التوظيف بما هو موضوعي خدمة لمشروعه السياسي وخدمة لصراعه مع التيارات الأخرى المنافسة داخل سلطة البعث على المستوى القطري أو القومي، وهي الحالة التي جسدتها سلطة 23 شباط 1966 البعثية في سورية ونظيرتها في العراق. وهناك من عمل بشكل واع على تحقيق الحد الأعلى من التوظيف السياسي الطائفي من خلال التنظيم والاستثمار الواعي لا بما خلقته وولدته العوامل الموضوعية فحسب بل من خلال إدخال عوامل جديد تزيد من تفعيل الفرز الطائفي لنقله من حالته الموضوعية إلى حالة يعمل على تغذيتها ومفاقمتها بشكل واع ومنظم وذاتي، وهي الحالة التي تجسدت على أرض الواقع في سوريا بنظام العصبية الطائفية العلوية الذي أقامه نظام حافظ الأسد في سوريا بشكل مخفي ومستور تحت رداء " الدولة القومية " من جهة، وتحت رداء أغلبية سنية شكلت في البداية أهم رموز النظام العسكرية والسياسية والحزبية. فقبل أن يترعرع العليات في الجيش وآل شاليش ومخلوف وغيرهم في الاقتصاد، كانت كل رموز النظام هم من السنة مصطفى طلاس، وناجي جميل، وحكمت الشهابي، وعبد الحليم خدام ...الخ، والأمر ذاته في القيادة القطرية التي شكلها بعد عام 1970، ومثله في الوزارات.
وفي الحالة العراقية تجسدت بقيام نظام العصبية الطائفية السنية الذي أقامه نظام صدام حسين في العراق، وهو ما عرف بالنظام التكريتي. وحيث أن أصوله كانت من "الأساسيين الذين قاموا بانقلاب 17 تموز يوليو 1968 من الضباط البعثيين كانوا من التكارتة (أحمد حسن البكر، حردان التكريتي، حماد شهاب) ومن سنة بغداد (صالح مهدي عماش) والرمادي (سعدون غيدان) "(7).
إن الاستثمار السياسي الطائفي بما هو موضوعي لم تستثمره بعض قوى الداخل في العراق وسوريا بل تمت كما أعتقد عملية مراقبة وتوظيف ودعم هذا الاستثمار من قبل قوى الخارج، فالدحرجة نحو نظام طائفي في كل من سوريا والعراق لم تكن خارج رؤية ومراقبة ورغبة ودعم قوى الخارج، وحيث أن الأمريكان يقفون على رأس هذه القوى الخارجية، فابتعاد الشارع السوري والعراقي عن ساحة النضال الوطني الحقيقي ضد قوى الخارج الاستعماري لم يكن إلا بعد صعود وسيادة نظامي الاستبداد الطائفي في كل من سوريا والعراق وحيث أن أول نتائج هذا الصعود كان انفتاح المجال وتوفر المناخ المناسب للانتقال من الانقسامات السياسية الأفقية ذات الطابع الوطني إلى حالة الانقسامات العمودية الطائفية البحتة، ودخول الشعبين السوري والعراقي في دوامة الصراعات الطائفية البغيضة. يكفي أن نشير هنا إلى أن الممارسة الطائفية للنظام العراقي الصدامي قادت إلى " ارتماء معظم شيعة العراق في النصف الثاني من السبعينيات في أحضان حزب الدعوة- الإسلامي الشيعي-، وظهر هذا واضحاً عامي 1970 و1980 عندما تحولت ضاحية الثورة شمال بغداد، وأهلها مهاجرون فقراء من محافظات الجنوب منذ 1958، من الشيوعية إلى الشيعية السياسية. واستمر ذلك في فترة ما بعد نيسان 2003 فتحولت قاعدة للتيار الصدري وسميت مدينة الصدر "(8). وكيف أن طائفية النظام السوري الأسدي قادت إلى نقل سنة سوريا – ولا سيما أبناء المدن السورية الكبرى- بدءاً من أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي من أحضان الفكر القومي المعتدل إلى الغرق والضياع في دهاليز المد الديني السني بكل أشكاله وألوانه، سواء كان الشكل الذي رعته وشجعته بذكاء السلطة الطائفية الأسدية أو الذي رعته وشجعته قوى الخارج الدولي والإقليمي أو الذي شجعته قوى داخلية تنتمي إلى فصائل الإسلام السياسي المعارضة للنظام.
إن هذا الفرز الموضوعي الذي يتراكب فيه ومن دون قصد، السياسي والإيديولوجي مع الطائفي، لم تعرفه الساحة السورية كحالة متميزة وخاصة وفريدة في التاريخ الحديث لشعوب المنطقة، بل عرفته كذلك الساحة العراقية في نفس الحقبة الزمنية. ففي العراق، وقبل أن تعرف الساحة العراقية ومعها كل الساحات في عموم المنطقة العربية وما يحيط بها، المد الديني بنوعيه السني والشيعي، نجد أن الفكر والإيديولوجيا اليسارية بشكل عام كانت أقل انتشاراً في البيئة السنية قياساً بانتشارها الواسع في أوساط البيئة الشيعية أو الكردية أو غيرها من البيئات الدينية والقومية داخل المجتمع العراقي - أما لماذا؟؟؟ فهذا يحتاج إلى بحث مستقل ومطول في سيسيولوجيا المعرفة والثقافة داخل المجتمعات العربية - فقد " كانت القاعدة الاجتماعية للحزب الشيوعي العراقي ذات طابع ثنائي شيعي – كردي. في حين نجد القاعدة الاجتماعية لحزب البعث العربي الاشتراكي ذي الفكر والإيديولوجيا القومية تركزت في البيئة السنية العربية "(3). نتيجة هذا الفرز الموضوعي المشار إليه في الساحتين السورية والعراقية نجد أن ما يقابل النظام السوري الذي أطلق عليه البعض( عدس ) كدلالة على أن أغلبية رموز سلطة 23 شباط 1966 كانت تنتمي إلى الأقليات الدينية، العلوية والدرزية والإسماعيلية، كان هناك( س)في العراق، وتعني سني كدلالة على أن أغلبية رموز حزب البعث العربي الاشتراكي في تلك الفترة كانت تنتمي للطائفة السنية، ففي نفس الفترة، كانت " القيادة القطرية التي تشكلت في كانون الأول 1966 ووالت القيادة القومية للحزب ضد قيادة 23 شباط 1966 في دمشق، كان حزب البعث العراقي بقيادة قطرية محصورة في العرب السنة "(4). رغم كون " الشيعة 63 في المئة من مجموع السكان والسنة 14 في المئة والأكراد 18 في المئة والباقون مسيحيون وتركمان وآخرون"(5).
من المؤكد أن الفرز السياسي داخل صفوف البعث إن كان في سوريا أو العراق لم يكن نتاج الصدفة السياسية، كما يرى على سبيل المثال عزمي بشارة في كتابه " سوريا درب الآلام نحو الحرية"(6). كما لم يكن مقتصراً على جانبه الموضوعي، حيث التراكب الموضوعي للطائفي مع الأيديولوجي مع الطبقي مع الريفي/ المدني. فقد كان هناك فرز واصطفافات وتحالفات لها جانب ذاتي أيضاً. فهناك من عمل بشكل واع على تكريس ما هو موضوعي من خلال التوظيف السياسي الطائفي لما هو واقع موضوعي. حيث نجد هنا مستويين وحدّين لهذا التوظيف السياسي الطائفي، فهناك من استقوى وهو الحد الأدنى من التوظيف بما هو موضوعي خدمة لمشروعه السياسي وخدمة لصراعه مع التيارات الأخرى المنافسة داخل سلطة البعث على المستوى القطري أو القومي، وهي الحالة التي جسدتها سلطة 23 شباط 1966 البعثية في سورية ونظيرتها في العراق. وهناك من عمل بشكل واع على تحقيق الحد الأعلى من التوظيف السياسي الطائفي من خلال التنظيم والاستثمار الواعي لا بما خلقته وولدته العوامل الموضوعية فحسب بل من خلال إدخال عوامل جديد تزيد من تفعيل الفرز الطائفي لنقله من حالته الموضوعية إلى حالة يعمل على تغذيتها ومفاقمتها بشكل واع ومنظم وذاتي، وهي الحالة التي تجسدت على أرض الواقع في سوريا بنظام العصبية الطائفية العلوية الذي أقامه نظام حافظ الأسد في سوريا بشكل مخفي ومستور تحت رداء " الدولة القومية " من جهة، وتحت رداء أغلبية سنية شكلت في البداية أهم رموز النظام العسكرية والسياسية والحزبية. فقبل أن يترعرع العليات في الجيش وآل شاليش ومخلوف وغيرهم في الاقتصاد، كانت كل رموز النظام هم من السنة مصطفى طلاس، وناجي جميل، وحكمت الشهابي، وعبد الحليم خدام ...الخ، والأمر ذاته في القيادة القطرية التي شكلها بعد عام 1970، ومثله في الوزارات.
وفي الحالة العراقية تجسدت بقيام نظام العصبية الطائفية السنية الذي أقامه نظام صدام حسين في العراق، وهو ما عرف بالنظام التكريتي. وحيث أن أصوله كانت من "الأساسيين الذين قاموا بانقلاب 17 تموز يوليو 1968 من الضباط البعثيين كانوا من التكارتة (أحمد حسن البكر، حردان التكريتي، حماد شهاب) ومن سنة بغداد (صالح مهدي عماش) والرمادي (سعدون غيدان) "(7).
إن الاستثمار السياسي الطائفي بما هو موضوعي لم تستثمره بعض قوى الداخل في العراق وسوريا بل تمت كما أعتقد عملية مراقبة وتوظيف ودعم هذا الاستثمار من قبل قوى الخارج، فالدحرجة نحو نظام طائفي في كل من سوريا والعراق لم تكن خارج رؤية ومراقبة ورغبة ودعم قوى الخارج، وحيث أن الأمريكان يقفون على رأس هذه القوى الخارجية، فابتعاد الشارع السوري والعراقي عن ساحة النضال الوطني الحقيقي ضد قوى الخارج الاستعماري لم يكن إلا بعد صعود وسيادة نظامي الاستبداد الطائفي في كل من سوريا والعراق وحيث أن أول نتائج هذا الصعود كان انفتاح المجال وتوفر المناخ المناسب للانتقال من الانقسامات السياسية الأفقية ذات الطابع الوطني إلى حالة الانقسامات العمودية الطائفية البحتة، ودخول الشعبين السوري والعراقي في دوامة الصراعات الطائفية البغيضة. يكفي أن نشير هنا إلى أن الممارسة الطائفية للنظام العراقي الصدامي قادت إلى " ارتماء معظم شيعة العراق في النصف الثاني من السبعينيات في أحضان حزب الدعوة- الإسلامي الشيعي-، وظهر هذا واضحاً عامي 1970 و1980 عندما تحولت ضاحية الثورة شمال بغداد، وأهلها مهاجرون فقراء من محافظات الجنوب منذ 1958، من الشيوعية إلى الشيعية السياسية. واستمر ذلك في فترة ما بعد نيسان 2003 فتحولت قاعدة للتيار الصدري وسميت مدينة الصدر "(8). وكيف أن طائفية النظام السوري الأسدي قادت إلى نقل سنة سوريا – ولا سيما أبناء المدن السورية الكبرى- بدءاً من أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي من أحضان الفكر القومي المعتدل إلى الغرق والضياع في دهاليز المد الديني السني بكل أشكاله وألوانه، سواء كان الشكل الذي رعته وشجعته بذكاء السلطة الطائفية الأسدية أو الذي رعته وشجعته قوى الخارج الدولي والإقليمي أو الذي شجعته قوى داخلية تنتمي إلى فصائل الإسلام السياسي المعارضة للنظام.
لقد حدث أبلغ تجسيد على أرض الواقع، ظهر فيه التراكب في عناصر الصراع، أثناء حملة التأميم الكبرى عام 1965 التي قامت بها السلطة البعثية في سوريا. فقد اتسمت هذه الحملة نتيجة اتساع نطاقها بشكل تخطى حدود المنطق والعقل، بطابع ثأري واضح ومركب. فالثأر في هذه الحملة تعدى حدود وصفة الثأر الطبقي الذي تعرفه المجتمعات في لحظات الإطاحة بالطبقة المالكة للثروة، ففي هذه الحملة تراكب مع الثأر الطبقي، ثأر الريف من المدينة، وتراكب مع كل ذلك، ثأر طائفي دفين عند بعض أبناء الأقليات الدينية المحرومة تاريخياً من الثروة والسلطة والمكانة الاجتماعية والمعنوية.
إن المفارقة المضحكة المبكية، هو أن السلطة البعثية الأولى في العراق والتي حكمت العراق بين 8 شباط و18 تشرين الثاني 1963، وبالرغم من كون القاعدة الاجتماعية للحزب كانت تتركز في البيئة السنية العربية، فقد حرص الحزب على أن تمثل قيادته حجم المكونات الطائفية المشكلة للمجتمع العراقي قدر الإمكان. فقد " كان في القيادة القطرية أربعة من الشيعة من أصل ثمانية، وثلاثة من العرب السنة، وكردي شيعي من الفيلية "(9).ولكن بالرغم من ذلك التمثيل " الوطني " فإن العنف البربري الذي مارسته القيادة البعثية بحق الشيوعيين العراقيين بدوافع سياسية بحتة، فإن هذا العنف أخذ موضوعياً طابعاً طائفياً كونه تركز موضوعياً في الأوساط الشيعية التي كانت تشكل القاعدة الاجتماعية للحزب الشيوعي العراقي، و" بسبب أن غالبية أتباع المذهب الشيعي كانت تميل إلى جانب عبد الكريم قاسم، في حين أن نسبة غير قليلة من أتباع المذهب السني ضد قاسم "(10). كما أن " كل الضباط الذين قادوا البعث إلى السلطة يوم 8 شباط كانوا من العرب السنة"(11). ولم يخفف من هذا التراكب الموضوعي بين ما هو سياسي وإيديولوجي بحت وبين ما هو طائفي موضوعي، سوى كون " قيادة الحزب الشيوعي العراقي في الفترة 1955 – 1970 كانت تعكس التركيب الوطني العراقي رغم الطابع الشيعي – الكردي لقاعدته الاجتماعية "(12). يكفي هنا أن نشير إلى أن الكثير من الباحثين العراقيين بمن فيهم الباحثون غير الطائفيين الذين يتناولون الفترة الأولى من حكم البعث فإن أقل الشتائم والأوصاف التي يصفون بها تلك السلطة هو وصفها بأنها سلطة مجرمة وعنصرية وشوفينية (13).
لكل هذا يمكن القول بأنه نتيجة لهذا لتراكب في عناصر الصراع فإن أي باحث عراقي شيعي وطائفي لا يريد أن يرى في الصراع غير مركبه الطائفي، يمكنه أن يقول عن الحركة القومية في العراق ما قاله جابر رزق في مجلة الدعوة المصرية الأصولية عن الحركة القومية في سوريا – وهو القول المشار إليه في بداية هذا البحث- بعد استبدال " النّصيرية " الذين استغلوا الحركة القومية من أجل الوصول إلى السلطة في سوريا على حد قوله، بأهل السنة الذين استغلوا الحركة القومية من أجل الوصول إلى السلطة في العراق، كما يمكنه أن يستبدل الشتائم التي ساقها بحق النّصيريين وكل الأقليات الطائفية الحاقدة على حد تعبيره، بما يطيب له ويشتهي من السباب الشيعي الموجود في الجعبة الشيعية الطائفية الواسعة نحو أهل السنة.
أن تهافت وضحالة وتفاهة وخطر بعض الأبحاث التي تركز على العنصر الطائفي في تفسيرها لسيرورة الصراع على السلطة البعثية في سوريا، لم يكن من تركيزها على هذا العنصر، ولا من عدم التمييز بين ما هو موضوعي وما هو ذاتي في أصول الفرز الطائفي فحسب، بل يأتي من الطريقة التي يتم بها تحديد مستوى العامل الذاتي أو لنقل المقصود بالعامل الذاتي. ففي نوع كهذا من الأبحاث نجد أن العامل الذاتي لا ينحصر في شخص قيادي عسكري أو مدني أو في تيار حزبي أو عسكري أو في مجموعة سياسية أو شريحة طبقية...الخ. تريد الوصول إلى السلطة والعصيان بها، بل يشمل الذاتي طائفة دينية بأكملها، من دون تمييز بين صغيرها وكبيرها، أو بين رجالها ونسائها، أو بين من سعى إلى السلطة من أجل مصالحه وبين من لم يسع إليها أساساً، أو بين من استفاد من أمجاد وامتيازات السلطة وبين من كان ضحية وعاش على الهامش والفتات...الخ. إن خير مثال على هذا النوع من الأبحاث هو ما ورد في كتاب ميشيل سورا العتيد في كتابه الدولة المتوحشة في سوريا، حين استبدل التحليل الطبقي البائس بالتحليل الطائفي الأكثر بؤساً، حيث نجد أن البعض يرى أن أسباب قيام النظام الطائفي الأسدي في سوريا ومعه دولته المتوحشة لا تعود إلى استثمار رأس هذا النظام والزمرة التي أتت معه وتحلقت حوله، في الشروط التاريخية الاقتصادية والسياسية التي عرفها المجتمع السوري في التاريخ القديم، وفي الشروط التاريخية التي أنتجها وعمل على سيادتها النظام الأسدي على مدار نصف قرن من الزمن في التاريخ الحديث، بل تعود إلى الصفات البنيوية الجينية التي تميز الطائفة العلوية، فبحسب ما جاء في هذا الكتاب فإن البعض يرى أن " هذه الطائفة تبدو كخليط من اليهودية والبوذية والزرادشتية، مما يفسر طابع الجبن الذي يتميز به النّصيري، وأكبر دليل على جبنه هو استخدامه للعنف من دون دافع أو سبب ظاهر. صفه أخرى يتصف بها النّصيري – حسبما جاء في كتاب ميشيل سورا- مردها عقيدتهم: قلة المروءة والأخلاق. نذكر هنا أنهم اعتادوا بيع بناتهم أو تأجيرهن لعشر سنوات ليعملن خادمات مقابل مبلغ من المال يدفع سلفاً (...) مثال آخر على أخلاقهم الفاسدة والمثيرة للاشمئزاز: ليلة القبيشة، وهي عيد معلوم عند أهل السنة. يجتمع العلويين في تلك الليلة في البيوت والنوادي، ثم يقومون في وقت معين بإطفاء الأنوار ليقفز كل منهم على أقرب امرأة ليفعل معها الفاحشة.(...) واليوم يهدد قادة البعث النصيري بإجبار كل السوريين على بيع بناتهم، حتى يتساوى الجميع في هذا الانحلال الخلقي، وهو ما يبرز خاصية أخرى في الشخصية النّصيرية، ألا وهي الكراهية العميقة التي يغذّونها ضد كل شخص من خارج الطائفة (...) إن عقيدة هذه الطائفة الباطنية النجسة عقيدة إشراك بالله (...) إنهم يحللون الخمر ويقدسون فرج المرأة (...) فإذاً يبني الإخوان المسلمون تفسيرهم للأزمة – المقصود هنا فترة الصراع التي عرفتها الساحة السورية أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي - على فرضية المؤامرة العلوية. وبفضل هذه الفرضية أيضاً كانوا يؤكدون حق السنة غير القابل للتقادم في أن يكونوا حكام البلاد، كما يجسدون نوعاً ما الشرعية التاريخية الممتدة لأربعة عشر قرناً. فالمؤامرة ليست وليدة الأمس، (...) فالمؤامرة النّصيرية – كما يراها الإخوان المسلمون - مؤامرة ممتدة تاريخياً على مستوى الدولة والأمة والمجتمع – ودليلهم على ذلك في العصر الحديث - كيف تسلق العلويون قمة السلطة عبر تسللهم إلى أجهزة حزب البعث والجيش "(14).
مما لا شك فيه بأنه وجد من القادة العلويين وغير العلويين، إن كان داخل مؤسسة الجيش أو داخل مؤسسة الحزب وسلطة البعث، من عمل على الاستقواء بالولاءات الطائفية أو العائلية أو المناطقية أو العشائرية، إن كان من أجل تقوية مواقعه داخل سلطة البعث أو من أجل مواجهة خصومه السياسيين داخل هذه السلطة التي تكونت بدءاً من 8 آذار 1963،ولكن يمكن الجزم بأنه لم يكن قبل مجيء حافظ الأسد إلى السلطة 1970، لدى أي من الاتجاهات التي سادت في السلطة في الفترة الواقعة بين عامي 1963 و 1970، النية والرغبة والإرادة في بناء نظام سياسي قائم على العصبية الطائفية، فمع حافظ الأسد ومع انقلابه 16 تشرين 1970، اكتملت الفكرة، وبدأ العمل على بناء هذه العصبية. وحيث أن بناء العصبية هنا لا يقصد به بناء نفوذ طائفي داخل مؤسسة الجيش أو الحزب فحسب بل تعني في معناها ومدلولاتها الحقيقية والخطيرة، تحويل طائفة معينة – كالطائفة العلوية - من طائفة دينية بذاتها إلى طائفة سياسية لذاتها، وبما يعني تحويلها إلى قاعدة اجتماعية سياسية يرتكز عليها الحكم والنظام والدولة من جهة، ولها مصلحة مع الحكم والنظام والدولة من جهة ثانية.
من المؤكد أن محمد عمران العضو البارز في اللجنة العسكرية البعثية التي شاركت في انقلاب 8 آذار 1963، استقوى بالولاء الطائفي، فتحالف في البداية مع صلاح جديد وحافظ الأسد داخل اللجنة العسكرية البعثية لتقوية نفوذه داخل اللجنة العسكرية والجيش وداخل الحزب والسلطة البعثية الجديدة، ولكن مع قدوم العام 1964 بدأ الانقسام يتضح ما بين محمد عمران من جهة وبين صلاح جديد من جهة ثانية، وقد وقف حافظ الأسد إلى جانب صلاح جديد في هذا الخلاف منطلقاً في ذلك لا بدافع قناعاته المبدئية بل لأنه رأى أن التخلص من محمد عمران والقيادة القومية للحزب فرصة لإزاحة جبل من القيادات التاريخية الحزبية من أمامه. وقد كان موضوع الانقسام والخلاف بين عمران وجديد قائماً على أولاً: موقف كل طرف من شروط قيام الوحدة مع مصر، وكان من الواضح أن محمد عمران يميل إلى صف ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار في هذا الشأن، وثانياً: موقف كل طرف من إعطاء دور أكبر للجناح السياسي المدني لحزب البعث العربي الاشتراكي، وقد كان محمد عمران يقف كذلك في صف عفلق والبيطار الداعي إلى إعطاء دور أكبر للجناح السياسي داخل السلطة والحزب، في حين كان صلاح جديد وجناح ما سمي القيادة القطرية يميل إلى الإطاحة بالقيادة القومية المدنية للحزب. وثالثاً: كانت هناك الخلافات الإيديولوجية التي كانت تغذي كل الخلافات السابقة، والتي بدأت تظهر بين صلاح جديد الذي بدأ يميل إلى يسار الحزب ومنطلقاته النظرية الجديدة التي تبنت الكثير من المقولات الماركسية كمقولة الصراع الطبقي والاشتراكية العلمية وغيرها، التي أقرها المؤتمر القومي السادس للحزب1963، وبين محمد عمران الذي حافظ على موقفه الوسطي المعتدل إن كان من الناحية الإيديولوجية أو تجاه البرجوازية التقليدية، وحدود ومساحة عمليات التأميم التي بدأتها السلطة البعثية بشكل موسع عام 1965، وكذلك الاعتدال في الموقف من المحيط العربي، وهي المواقف ذاتها التي ميزت خط القيادة القومية. وباعتقادي أن هذه الخلافات هي التي دفعت محمد عمران لإفشاء سر اللجنة العسكرية البعثية إلى القيادة القومية الحزبية. ولم يكن باعتقادي في ذهن محمد عمران في يوم من الأيام بناء نظام علوي طائفي، فأقصى ما كان يطمح إليه تجاه الطائفة العلوية، كان إيجاد مكانة ونفوذ للطائفة العلوية داخل الجيش وداخل الدولة والمجتمع بشكل عام، مكانة ربما تزيد قليلاً ولكن لا تنقص عن حجم وجودها الموضوعي داخل المجتمع السوري. لقد تعددت وتناقضت الشهادات التاريخية في تقييم شخصية محمد عمران إلا أني أميل إلى تصديق الشهادة التي قدمها مدير مكتبه العقيد مجاهد سمعان، التي يقول فيها " كان محمد عمران مؤمناً بحق العلويين بالحصول على حقوقهم كمواطنين سوريين لأنهم كانوا معزولين لسنوات طويلة، فلا يجوز تحدي عموم السوريين كي لا نصل إلى الحرب الأهلية، لهذا على العلويين الابتعاد عن رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء شرط إمساكهم بالجيش على الطريقة التركية "(15).
كذلك استقوى صلاح جديد بحافظ الأسد في صراعه مع تيار القيادة القومية للحزب من جهة، وكي يقوي موقعه داخل الحزب وقيادة حركة 23 شباط 1966 من جهة ثانية، ويمكن القول أن هذا الاستقواء تم بحده الأدنى على أرضية الولاء المناطقي، كون الاثنين ينتميان إلى بيئة جغرافية واجتماعية واحدة، وكذلك محافظة إدارية واحدة جلسا فيها على نفس المقاعد الدراسية في مدارس مدينة اللاذقية عاصمة الساحل السوري. إن ما يدفعنا إلى البحث عن نوع الاستقواء والولاء الذي قام بين الشخصيتين خارج الولاء الحزبي هو عدم وجود أي رابط يدفع صلاح جديد كي يقوم بتقوية حافظ الأسد من خلال ترقيته في الرتب والمناصب العسكرية - من رتبة نقيب عام 1963، إلى رتبة مقدم، ثم إلى رتبة لواء، ثم إلى رتبة فريق ووزير للدفاع السوري. فلو كان الرابط الحزبي هو الدافع في هذه العلاقة القوية، لكان وجد صلاح جديد الكثير من الضباط الحزبيين البعثيين داخل اللجنة العسكرية البعثية أو داخل مؤسسة الجيش من هم أكثر كفاءة من حافظ الأسد عسكرياً وأكثر قرباً منه سياسياً وإيديولوجياً. يكفي أن نشير على سبيل المثال لا الحصر أن رفيقه البعثي سليم حاطوم كان أجدر بهذه الترقية والدعم، ولا سيما أن سليم حاطوم في يوم 23 شباط 1966 هو من " احتل وعزّت جديد دمشق وسيطرا على كل المحاور والطرق المؤدية للعاصمة السورية وشغلا مبنى التلفزيون. وبعكس ما روته الأساطير فلقد بقي دور الأسد في ذلك اليوم (التاريخي) ثانوياً "(16). أو لنقل إن العمل " البطولي " غير العادي الذي قام فيه حافظ الأسد يوم 23 شباط 1966 تمثل في خديعته للفريق رئيس الدولة أمين الحافظ. فقد " كان أمين الحافظ حتى اللحظة الأخيرة يعتقد أن اللواء حافظ الأسد- قائد سلاح الطيران- سيقف إلى جانبه، وأن سلاح الطيران بيده، ولذلك لم يكن يخشى أية تكتلات يعدها اللواء صلاح جديد والرائد سليم حاطوم ما دامت الطائرات جاهزة لقصفها. ولكن في اللحظة الحاسمة وقف سلاح الطيران إلى جانب الانقلابيين، وهدد الوحدات المدرعة التي هرعت لنجدة أمين الحافظ "(17). وقبلها شارك سليم حاطوم وهو برتبة نقيب بفاعلية في انقلاب في 8 آذار 1963 فهو من " دعا باسم المجلس الوطني لقيادة الثورة من على أمواج محطة الإذاعة الرسمية عدداً من الضباط السابقين – المطرودين من الجيش- إلى الالتحاق بالجيش. ومن بينهم كان النقيب حافظ الأسد "(18). إن ما يدفع لاستبعاد الرابط الحزبي والسياسي هو الفارق الكبير والنوعي بين شخصية صلاح جديد المتعصب إيديولوجياً كما وصفه دانييل لوغاك في كتابه (سورية في عهدة الجنرال الأسد)" بعثي مخلص مقتنع بأن الاشتراكية هي الطريق الوحيد التي تؤدي للوحدة العربية ... الثوري الخالص والقاسي...الخ " (19). وبين حافظ الأسد الذي قال عنه دانييل لوغاك " هذا التكتيكي البارع البعيد قدر المستطاع عن الإيديولوجيا "(20).
إن وضع صلاح جديد كل ثقته بشخص كحافظ الأسد إلى حد تنصيبه وزيراً للدفاع، في وقت ترك فيه صلاح جديد بعد تاريخ 23 شباط 1966 كل مناصبه العسكرية ليتفرغ للعمل الحزبي، بعد أن تسنم موقع الأمين العام المساعد في القيادة القومية لحزب البعث الحاكم، وهو الشخصية العسكرية التي هندست انقلاب 23 شباط 1966، وقبلها شارك في هندسة انقلاب 8 آذار 1963، ومن غير المنطقي و المعقول أنه لم يكن يعلم مخاطر الابتعاد عن قيادة المؤسسة العسكرية، أقول إن ذلك يسمح لأي إنسان سوري عاقل أن يعتقد أن عملية الاستقواء والاعتماد على حافظ الأسد ربما تعدت فرضية الأرضية المناطقية التي أشرت إليها في السطور السابقة. وإذا استبعدنا فرضية أن يكون ذلك تم على أرضية الاستقواء الطائفي بدافع من صلاح جديد، فإن الفرضية الأخيرة الأقرب إلى التصديق والمنطق، هي أن يكون حافظ الأسد،" وهو من كان يعلم تماماً أن المستقبل هو ملك يسار الحزب "(21). هو من بادر وأوهم صلاح جديد وهو قائد تيار اليسار في الحزب– وقبلها أوهم محمد عمران - بنوع من الولاء الطائفي الأعمى كي يمنحه الثقة وكل هذه الترقيات، وأن الخطأ الاستراتيجي السياسي الذي ارتكبه صلاح جديد، يكمن في قبوله لهذا النوع من الولاء من جهة أولى، وفي تصديق حافظ الأسد من جهة ثانية، وفي وضع كل ثقته به من جهة ثالثة.
إن ما يدلل على حجم الثقة التي أولاها صلاح جديد لحافظ الأسد لم يكن في تعيينه وزيراً للدفاع في سلطة 23 شباط 1966، بل في التردد كثيراً في اتخاذ قرار حاسم ومبكر في إقالته من مركزه ومنصبه. فرغم انكشاف الخط السياسي الذي يسير فيه الأسد منذ حرب حزيران 1967، - وبعكس ما روجت له حركة 23 شباط البعثية حيت ألصقت تهمة اليمين للقيادة القومية، فإن يمين السلطة البعثية كان مشرباً من مشاربها، وكان حافظ الأسد هو قائد هذا التيار اليميني، وحيث أن ما جمع اليمين واليسار على مخدة واحدة في حركة 23 شباط، كان الموقف من الثروة من جهة أولى، وكانت أصولهم الفلاحية وأحياناً الطائفية من جهة ثانية. حيث أن كلا التيارين كان يدعو لأن تضع الدولة يدها على الثروة. ففي حين كان يرى التيار اليساري أن ملكية الدولة لوسائل الإنتاج والثروة، هي الطريقة الأفضل لتوزيعها بشكل عادل كما كانوا يتوهمون. في حين كان اليمين يرى أن وضع يد الدولة على الثروة يشكل الطريقة المثلى للسطو على الثروة كلها أو في الحد الأدنى مشاركة البرجوازية التقليدية بهذه الثروة ومن موقع القوة -ورغم انكشاف تحركات الأسد داخل الجيش ووضوح خطورة حركة التنقلات التي بدأ يجريها لقادة بعض القطعات العسكرية الاستراتيجية الهامة المحسوبة على صلاح جديد واستبدالهم بقادة موالين له في مناورة سماها الأسد " (بالأرضي شوكي). كل يوم ننقل ضابطاً لم نكن واثقين من ولائه" (22). ورغم معرفة الجميع أن الأسد كما قال عنه دانييل لوغاك بأنه " الرجل الوحيد في سورية الذي يؤسس لنفسه، وليس للدولة جهازاً سرياً! وذلك منذ 1965 حيث شكل لنفسه ميليشيا (سرايا الدفاع الشهيرة) "(23). فقد تردد صلاح جديد وهو الرجل القوي في سلطة 23 شباط بالحسم وتأخر في قرار فصله من الحزب حتى تاريخ 12 تشرين 1970 على إثر سحب الأسد للمدرعات السورية من الأردن في أحداث أيلول الأسود (24). في وقت كان فيه الأسد قد حسم الصراع على الأرض لصالحه منذ 25 شباط 1969 عندما " احتلت المدرعات – التابعة للأسد - النقاط الاستراتيجية في العاصمة دمشق وتسلم رجالها إذاعتي دمشق وحلب كذلك استلموا يوميتي (الثورة) و(البعث). وأطلقوا سراح العديد من السجناء السياسيين من الناصريين والبعثيين القدامى والحورانيين- نسبة إلى أكرم الحوراني - وبنفس الوقت شدد الأسد قبضته على المنطقة العلوية (اللاذقية) حيث يوجد عدد كبير من مناصريه. ولكن الجنرال الأسد لم يتم الانقلاب رغم أنه نجح فيه، فقد اكتفى بتسجيل نقاطه خلال مؤتمر غير عادي للقيادة القطرية الـتأم في آذار 1969 والذي أرضاه في عدة نقاط. (25). لهذا كان حسم الصراع بشكل نهائي في 16 تشرين الثاني 1970 سهلاً على الأسد.
لقد كان صلاح جديد حاسماً في مواجهة جبل من القيادات التاريخية في القيادة القومية للحزب والتي أزاحها عن السلطة في 23 شباط 1966 في حين كان متردداً في مواجهة وزير دفاعه حافظ الأسد، فرغم تحول حافظ الأسد إلى " ممثل للأقلية داخل الحزب بدءاً من تموز 1968 ورغم استقالته من عضوية القيادة القطرية، فقد وجد البعثيون المدنيون أنفسهم غير قادرين على أجبار الأسد على الاستقالة من الحكومة وهو وزير الدفاع. واستغل الأسد الوقت لعزل مناصريهم كلياً داخل الجيش. منطلقاً من مبدئه الذي يقول: إن مساعدة عسكري واحد هي أفضل من مساندة ألف مدني، بدأ مناقلات الضباط المعاندين، بخاصة عزت جديد وقائد اللواء السبعين الهام جداً على المستوى الاستراتيجي، وكانت كل هذه التنقلات تجري متناقضة كلياً مع الأنظمة التي تجعل القيادة القطرية الوحيدة المؤهلة لاتخاذ القرارات فيها "(26).
لقد كان صلاح جديد قائداً شريفاً نظيف اليد، ولكنه بنفس الوقت كان قائداً لا يمتلك الحد الأدنى من مقومات السياسي الاستراتيجي، فقد كان وعيه السياسي الاستراتيجي في مرتبة الصفر والعدم، إن المفارقة الغريبة التي يجدر الوقوف عندها هو أنه في علاقة صلاح جديد بحافظ الأسد والتي أساسها قائم على استقواء صلاح جديد بوزير دفاعه حافظ الأسد، فإن ما كان يحصل على أرض الواقع هو العكس، فقد كان حافظ الأسد " التكتيكي البارع "(27)، كما وصفه دانييل لوغاك يستثمر صراعات صلاح جديد مع خصومه كوسيلة لإزاحة العراقيل من أمام طريقه في الصعود إلى أعلى السلطة. لقد كان صادقاً دانييل لوغاك عندما قال إن صلاح جديد كان آخر ضحايا الأسد. فقبل أن يصبح آخر ضحية من ضحايا الأسد (28)، كان صلاح جديد قد سهل على الأسد المهمة. فقد استطاع حافظ الأسد وتحت غطاء مساعدة صلاح جديد في التخلص من خصومه، القضاء على كل الحلفاء المفترضين لصلاح جديد من جهة، والقضاء كذلك على كل الشخصيات ومراكز القوة التي يمكن أن تقف في وجهه. لقد كانت البداية " بعد انقلاب 23 شباط، حين شعر تكتل الضباط الدروز بأنهم على طريق التصفية من الحزب ومن الحكم، فقد طرد حمود الشوفي من الحزب وقبض على منصور الأطرش وشبلي العيسمي وعزل حميد عبيد الذي كان وزيراً للدفاع، وكان متوقعاً أن يبقى فيها بعد 23 شباط، لكن بدلاً من ذلك ألقي القبض عليه وأحيل للمحاكمة بتهمة التمرد والفساد. وكان منيف الرزاز آخر أمين عام للقيادة القومية قبل حركة 23 شباط، قد تحول إلى العمل السري بعد الحركة وأسس مكتباً عسكرياً من ضباط محترفين ومخلصين للقيادة القومية بقيادة اللواء الدرزي فهد عبيد الشاعر. وقد بدأ الشاعر حواراً مع سليم حاطوم، الضابط الدرزي الناقم على عدم إعطائه صلاحيات وامتيازات توازي دوره في الحركة، فقد كانت لقواته المغاوير اليد الطولى في الهجوم على منزل أمين الحافظ واعتقاله. كما تم الاتصال بضباط آخرين، كانوا كلهم من الدروز، وبدأ التخطيط للقيام بانقلاب يقضي على صلاح جديد وأعوانه. لكن المؤامرة كشفت بطريق المصادفة فاعتقل أكثر من مئتين من الضباط أغلبيتهم الساحقة من الدروز، وسرحت أعداد أخرى منهم، الأمر الذي أثار حفيظة الدروز في الجبل واعتبروا ما حصل موجهاً لهم كطائفة. ولتخفيف حدة التوتر الناشئ توجه وفد من القيادة السورية في الثامن من أيلول 1966 برئاسة رئيس الدولة نور الدين الأتاسي يرافقه صلاح جديد وعدد من الشخصيات إلى السويداء، فكانت هذه الزيارة فرصة لحاطوم لتنفيذ خطوته الانقلابية بنصب كمين لهؤلاء. لكن غلطة حاطوم المميتة كانت (29). في الخديعة التي أوقعه بها حافظ الأسد – الخديعة الثانية بعد خديعته لأمين الحافظ - الذي لم يكن مع الوفد من جهة، وبتوجيهه من جهة ثانية إنذار إلى حاطوم ومن معه بتدمير مدينة السويداء فوق رؤوس سكانها إن لم ينه انقلابه على القيادة، وهو الأمر الذي أجبره إلى إنهاء عملية الانقلاب والهروب إلى الاردن مع مجموعة من الضباط الموالين له. " أما الحقائق التي لم يكشف عنها حاطوم ولا بيان القيادة القطرية فهي إن سليم حاطوم كان قريباً من حافظ الأسد في مواجهة صلاح جديد، ولم يكن بتقدير حاطوم أن يوجه إليه حافظ الأسد إنذاراً بتدمير السويداء إذا لم يكف عن محاولته، ولم يكن حاطوم مغفلاً للدرجة التي يقدّر فيها أن نجاح محاولته مرهون بموقف حافظ الأسد " (30). أعقبت حركة حاطوم " الفاشلة سلسلة تسريحات للضباط في الجيش استمرت حتى ربيع 1967، فسرح 79 ضابطاً في تنظيم الحزب العسكري داخل الجيش، وسرح 400 ضابط آخرين بهدف وضع حد نهائي لأي محاولة انقلابية (...) وقد انضم هؤلاء المسرحين إلى آلاف غيرهم جرى تسريحهم على مدار السنين الممتدة من عهد الوحدة مع مصر، مروراً بالتصفيات المكثفة التي جرت بعد 8 آذار "(31). إلى حد لم يبق في الجيش العربي السوري أي قوة قادرة على خوض مواجهة لا مع جيش العدو الإسرائيلي كما حصل في المواجهة التي تمت في 5 حزيران 1967 فحسب بل حتى مواجهة مع وزير الدفاع حافظ الأسد حتى ولو أرادت وقررت سلطة 23 شباط بقيادة صلاح جديد هذه المواجهة. بعد التخلص من كتلة الضباط الدروز كان التخلص من رئيس الأركان أحمد سويدان وقائد كتلة ضباط حوران. فبعد هزيمة الجيش السوري أمام العدو الإسرائيلي في حزيران 1967 وبدل أن يقوم صلاح جديد بخلع وزير دفاعه من منصبه وهو المسؤول الأول عن تلك الهزيمة، قام بتسريح " أحمد سويدان ومعه 160 ضابطاً من كتلة حوران السنية في الجيش خلال شهر شباط 1968 "(32). والمفارقة التي تدعو للسخرية والاندهاش أن يعين مصطفى طلاس في منصب رئيس أركان الجيش وهو الشخصية المعروفة بولائها للأسد، لهذا كان طبيعياً أن يعقب " ذلك مباشرة إزاحة رجل صلاح جديد الهام عزت جديد عن قيادة اللواء السبعين المدرع، التشكيل العسكري الأقوى في سورية. كذلك أبعد الأسد رفيقه في اللجنة العسكرية وقائد جبهة الجولان أثناء حرب 1967 أحمد المير "(33). وما أن جاء تموز 1968 ومع عودة حزب البعث إلى السلطة في العراق ورغم أن الأسد كان يمثل الأقلية داخل الحزب الحاكم في دمشق ورغم استقالة الأسد من القيادة القطرية إلا أن البعثيين الحاكمين في دمشق بقيادة صلاح جديد وجدوا " أنفسهم غير قادرين على إجباره على الاستقالة من الحكومة وهو وزير الدفاع "(34)." وفي علامة بارزة على طريق استقلاله عن القيادة السياسية، قام الأسد في خريف 1968 بإغلاق الجيش في وجه الحزب وبدأ بتأسيس التشكيلات العسكرية الأولى، التي ستتطور بعد عام 1970 إلى وحدات عسكرية كاملة مستندة إلى أسس طائفية وقبلية وعائلية "(35). وقبل الخاتمة قام الأسد بالتخلص من عبد الكريم الجندي 1979 وهو آخر وأقوى الحلفاء الإسماعيليين للسلطة الشباطية، ثم كانت الخاتمة باعتقال صلاح جديد ومعه كل قيادة السلطة الشباطية بانقلابه في 16 تشرين الثاني 1970.
من المؤكد أن صلاح جديد لم يكن نبياً يسارياً ثورياً منزهاً من أي خطيئة طائفية كما يحاول أن يقدمه الغلاة من مناصريه، كما لا يمكن كما يحاول أعداءه وخصومه السياسيين والطائفيين اختصار شخصيته وتاريخه السياسي من خلال علاقته أو استقوائه بالأسد أو غيره. لقد اجتمعت في شخصية صلاح جديد كل مركبات وتناقضات الصراع المركب والمعقد داخل المجتمع السوري وداخل سلطة البعث. وباعتقادي فإن دانييل لوغاك قد أجاد في وصف صلاح جديد حين قال أنه، " ممثل تماماً لجيل من الضباط ذي الأصول الريفية والجبلية، وهو يحذر البرجوازية المدينية المسلمة في الأساس كما يحذر الطاعون "(36).
من المؤكد أن سلطات البعث لم تنل على " الشرعية التاريخية " القائمة على الدين والطائفية، كما ينظر إليها ويراها التيار الإسلامي الإخواني، كما أنها لم تسع لهذا النوع من الشرعية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا يقول ما هو نوع الشرعية التي تغطت بها سلطات البعث بين عامي 1963 – 1970؟
لقد ارتكزت سلطة البعث بتيارها القومي والقطري قبل 1970 على ما يمكن تسميته بالشرعية الثورية البائسة المزيفة، في حين عجز حافظ الأسد، كما سنرى، عن إيجاد أي نوع من الشرعية تمنحه حداً من القوة يسند بها انقلابه ونظامه، وهو الأمر الذي دفعه للبحث عن مصادر للقوة – كان يعدها حتى قبل صعوده إلى رأس السلطة - فكانت عملية بنائه لعصبية اجتماعية طائفية يستند إليها.
لا يمكن باعتقادي تفسير سلوك النخب القومية البعثية المدنية والعسكرية، سواء كانت قيادات حزبية أو كوادر أو حتى من الناس العاديين الذين انخرطوا في حركة البعث والسلطة البعثية، من دون القيام ببحث في فكرة الشرعيات الثورية الطبقية التي عرفت في العصر الحديث وكان لها صدى وتجليات في ساحات العالم كله. لهذا أرى بأنه من الأهمية بمكان تناول وتبيان مصدر هذا النوع من الشرعية السياسية أو لنقل تبيان كيف نشأ وتطور مفهوم الشرعية الثورية، إن كان على أرض الواقع في بعض الساحات، أو في الثقافة والفكر السياسي الحديث بشكل عام، وكيف تم الركوب عليه في بعض الحالات، وكيف نشأ في أغلب الحالات على يد أفراد وشخصيات وجماعات في منتهى الوفاء لمبادئها، وكيف انتهى واستخدم في بعض الحالات من قبل شخصيات وجماعات حاولت ارتداء لباس ليس على مقاسها، وفي بعض الحالات من قبل جماعات وشخصيات، هي من أكثر الناس قذارة وقلة أمانة ووفاء للمبادئ، حيث سنجد أن " التاريخ كما قال هيجل يكرر نفسه مرتين، وكما أضاف كارل ماركس بأنه إذا ما كرر نفسه، فإنه سيكون مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة "(37). حتى يمكن القول أن فتح ملفات الشرعيات الثورية الطبقية التي عرفتها قرون العصر الحديث، هي عبارة عن فتح لمآسي التاريخ الحديث ومهازله. وهنا أود الإشارة إلى حادثين مفصليين كانا لهما أثر عالمي كبير في مجريات وتطورات الواقع والثقافة والفكر الإنساني والسياسي في التاريخ الحديث، هما حدث الثورة الفرنسية 1879، التي شكلت الحدث الأول الساطع في العصر الحديث الذي تشكل من خلاله ما عرف بالشرعية الثورية، والحدث الثاني هو حدث الثورة البلشفية الروسية 1917، التي تشكلت فيها وعرفت كذلك نوعاً جديداً من الشرعية الثورية، وكيف ان التاريخ أعاد نفسه مرتين في الساحة السورية، مرة على شكل مأساة ممزوجة بالمسخرة، عرفتها سلطة البعث الأولى 1963،وسلطة البعث الثانية في 23 شباط 1966،ومرة على شكل مهزلة ومسخرة صافية مع انقلاب حافظ الأسد 1970.
.........................................................................................................
المصادر:
(1). موقع كوة الفصل السابع من كتاب إدغار موران المعنون الفكر المعقد/ المركب والفكر الشامل. ترجمة د. خديجة زيتلي
(2). ص (157) من كتاب سورية... الدولة المتوحشة تأليف ميشيل سورا. ترجمة أمل سارة ومارك بيالو. الشبكة العربية للأبحاث والنشر
(3). مقال محمد سيد رصاص بتاريخ 28/ 8/2016 على موقع الحوار المتمدن بعنوان الطائفية ...محاولة لتحديد المفهوم.
(4). نفس المصدر السابق.
(5). نفس المصدر السابق. (من يريد الاطلاع على المزيد من المعلومات عليه مراجعة كتاب حنا بطاطو العراق الكتاب الثالث الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار ترجمة عفيف الرزاز منشورات مؤسسة الأبحاث العربية).
(6). يقول عزمي بشارة في الصفحة 269 من كتابه سوريا درب الآلام نحو الحرية " ولما كانت المصادفة أن معظم الضباط الناصريين والمستقلين الوحدويين الذين تمت تصفيتهم في عامي 1963 و1964 ومعظم الضباط البعثيين الموالين للقيادة القومية الذين تم تصفيتهم في شباط 1966 كانوا من السنة، فإن معظم الضباط القدامى والجدد ممن ينحدرون من الأقليات الأخرى ولا سيما العلويين والدروز والاسماعيليين غدوا في الجيش بنسب أعلى بكثير من نسبتهم بين السكان".
(7).مقال محمد سيد رصاص بتاريخ 28/ 8/2016 على موقع الحوار المتمدن بعنوان الطائفية ...محاولة لتحديد المفهوم.
(8). نفس المصدر السابق.
(9). نفس المصدر السابق.
(10). مقال كاظم حبيب بتاريخ 2/ 2 / 2014 في موقع الحوار المتمدن بعنوان الجمهورية الثانية بالعراق – الفصل الأول حزب البعث العربي الاشتراكي على رأس السلطة.
(11). مقال محمد سيد رصاص بتاريخ 28/ 8/2016 على موقع الحوار المتمدن بعنوان الطائفية ...محاولة لتحديد المفهوم.
(12). نفس المصدر السابق. (من يريد الاطلاع على المزيد من المعلومات حول التركيبة الطائفية للحزب الشيوعي العراقي عليه مراجعة الصفحة 309 – 310 من كتاب حنّا بطاطو العراق الحزب الشيوعي الكتاب الثاني ترجمة عفيف الرزاز منشورات مؤسسة الأبحاث العربية).
(13). مقال كاظم حبيب بتاريخ 2 / 2 / 2014 في موقع الحوار المتمدن بعنوان الجمهورية الثانية بالعراق – الفصل الأول حزب البعث العربي الاشتراكي على رأس السلطة.
(14). ص 163 – 165من كتاب سورية... الدولة المتوحشة تأليف ميشيل سورا.
(15). عن موقع العرب مقال بعنوان محمد عمران: ولايزال اغتيال رجال سوريا مستمراً. منشور بتاريخ 21 يونيو 2014.
(16). ص.108 من كتاب سورية في عهدة الجنرال الأسد تأليف دانييل لوغاك. تعريب الدكتور حصيف عبد الغني. مكتبة مدبولي القاهرة.
(17). ص 258 من كتاب تطور المجتمع السوري (1831- 2011) تأليف نشوان الأتاسي.
(18). ص 105 من كتاب دانييل لوغاك
(19). ص 109 المصدر السابق.
(20). ص 108المصدر السابق.
(21). ص 108 المصدر السابق.
(22). ص 109 المصدر السابق.
(23). ص 104 المصدر السابق.
(24). ص114 المصدر السابق.
(25). ص 114 المصدر السابق.
(26). ص 113 المصدر السابق.
(27). ص 108 المصدر السابق.
(28). ص 112 المصدر السابق.
(29). ص 259 كم كتاب نشوان الأتاسي.
(30). ص 259 المصدر السابق.
(31). ص 259 المصدر السابق.
(32). ص 265 المصدر السابق.
(33). ص 275 المصدر السابق.
(34). ص 113 من كتاب دانييل لوغاك.
(35). ص 265 من كتاب نشوان الأتاسي.
(36). ص 109 من كتاب دانييل لوغاك.
(37). ص 6 من كتاب كارل ماركس الثامن عشر من برميير لويس بونابرت.
إن المفارقة المضحكة المبكية، هو أن السلطة البعثية الأولى في العراق والتي حكمت العراق بين 8 شباط و18 تشرين الثاني 1963، وبالرغم من كون القاعدة الاجتماعية للحزب كانت تتركز في البيئة السنية العربية، فقد حرص الحزب على أن تمثل قيادته حجم المكونات الطائفية المشكلة للمجتمع العراقي قدر الإمكان. فقد " كان في القيادة القطرية أربعة من الشيعة من أصل ثمانية، وثلاثة من العرب السنة، وكردي شيعي من الفيلية "(9).ولكن بالرغم من ذلك التمثيل " الوطني " فإن العنف البربري الذي مارسته القيادة البعثية بحق الشيوعيين العراقيين بدوافع سياسية بحتة، فإن هذا العنف أخذ موضوعياً طابعاً طائفياً كونه تركز موضوعياً في الأوساط الشيعية التي كانت تشكل القاعدة الاجتماعية للحزب الشيوعي العراقي، و" بسبب أن غالبية أتباع المذهب الشيعي كانت تميل إلى جانب عبد الكريم قاسم، في حين أن نسبة غير قليلة من أتباع المذهب السني ضد قاسم "(10). كما أن " كل الضباط الذين قادوا البعث إلى السلطة يوم 8 شباط كانوا من العرب السنة"(11). ولم يخفف من هذا التراكب الموضوعي بين ما هو سياسي وإيديولوجي بحت وبين ما هو طائفي موضوعي، سوى كون " قيادة الحزب الشيوعي العراقي في الفترة 1955 – 1970 كانت تعكس التركيب الوطني العراقي رغم الطابع الشيعي – الكردي لقاعدته الاجتماعية "(12). يكفي هنا أن نشير إلى أن الكثير من الباحثين العراقيين بمن فيهم الباحثون غير الطائفيين الذين يتناولون الفترة الأولى من حكم البعث فإن أقل الشتائم والأوصاف التي يصفون بها تلك السلطة هو وصفها بأنها سلطة مجرمة وعنصرية وشوفينية (13).
لكل هذا يمكن القول بأنه نتيجة لهذا لتراكب في عناصر الصراع فإن أي باحث عراقي شيعي وطائفي لا يريد أن يرى في الصراع غير مركبه الطائفي، يمكنه أن يقول عن الحركة القومية في العراق ما قاله جابر رزق في مجلة الدعوة المصرية الأصولية عن الحركة القومية في سوريا – وهو القول المشار إليه في بداية هذا البحث- بعد استبدال " النّصيرية " الذين استغلوا الحركة القومية من أجل الوصول إلى السلطة في سوريا على حد قوله، بأهل السنة الذين استغلوا الحركة القومية من أجل الوصول إلى السلطة في العراق، كما يمكنه أن يستبدل الشتائم التي ساقها بحق النّصيريين وكل الأقليات الطائفية الحاقدة على حد تعبيره، بما يطيب له ويشتهي من السباب الشيعي الموجود في الجعبة الشيعية الطائفية الواسعة نحو أهل السنة.
أن تهافت وضحالة وتفاهة وخطر بعض الأبحاث التي تركز على العنصر الطائفي في تفسيرها لسيرورة الصراع على السلطة البعثية في سوريا، لم يكن من تركيزها على هذا العنصر، ولا من عدم التمييز بين ما هو موضوعي وما هو ذاتي في أصول الفرز الطائفي فحسب، بل يأتي من الطريقة التي يتم بها تحديد مستوى العامل الذاتي أو لنقل المقصود بالعامل الذاتي. ففي نوع كهذا من الأبحاث نجد أن العامل الذاتي لا ينحصر في شخص قيادي عسكري أو مدني أو في تيار حزبي أو عسكري أو في مجموعة سياسية أو شريحة طبقية...الخ. تريد الوصول إلى السلطة والعصيان بها، بل يشمل الذاتي طائفة دينية بأكملها، من دون تمييز بين صغيرها وكبيرها، أو بين رجالها ونسائها، أو بين من سعى إلى السلطة من أجل مصالحه وبين من لم يسع إليها أساساً، أو بين من استفاد من أمجاد وامتيازات السلطة وبين من كان ضحية وعاش على الهامش والفتات...الخ. إن خير مثال على هذا النوع من الأبحاث هو ما ورد في كتاب ميشيل سورا العتيد في كتابه الدولة المتوحشة في سوريا، حين استبدل التحليل الطبقي البائس بالتحليل الطائفي الأكثر بؤساً، حيث نجد أن البعض يرى أن أسباب قيام النظام الطائفي الأسدي في سوريا ومعه دولته المتوحشة لا تعود إلى استثمار رأس هذا النظام والزمرة التي أتت معه وتحلقت حوله، في الشروط التاريخية الاقتصادية والسياسية التي عرفها المجتمع السوري في التاريخ القديم، وفي الشروط التاريخية التي أنتجها وعمل على سيادتها النظام الأسدي على مدار نصف قرن من الزمن في التاريخ الحديث، بل تعود إلى الصفات البنيوية الجينية التي تميز الطائفة العلوية، فبحسب ما جاء في هذا الكتاب فإن البعض يرى أن " هذه الطائفة تبدو كخليط من اليهودية والبوذية والزرادشتية، مما يفسر طابع الجبن الذي يتميز به النّصيري، وأكبر دليل على جبنه هو استخدامه للعنف من دون دافع أو سبب ظاهر. صفه أخرى يتصف بها النّصيري – حسبما جاء في كتاب ميشيل سورا- مردها عقيدتهم: قلة المروءة والأخلاق. نذكر هنا أنهم اعتادوا بيع بناتهم أو تأجيرهن لعشر سنوات ليعملن خادمات مقابل مبلغ من المال يدفع سلفاً (...) مثال آخر على أخلاقهم الفاسدة والمثيرة للاشمئزاز: ليلة القبيشة، وهي عيد معلوم عند أهل السنة. يجتمع العلويين في تلك الليلة في البيوت والنوادي، ثم يقومون في وقت معين بإطفاء الأنوار ليقفز كل منهم على أقرب امرأة ليفعل معها الفاحشة.(...) واليوم يهدد قادة البعث النصيري بإجبار كل السوريين على بيع بناتهم، حتى يتساوى الجميع في هذا الانحلال الخلقي، وهو ما يبرز خاصية أخرى في الشخصية النّصيرية، ألا وهي الكراهية العميقة التي يغذّونها ضد كل شخص من خارج الطائفة (...) إن عقيدة هذه الطائفة الباطنية النجسة عقيدة إشراك بالله (...) إنهم يحللون الخمر ويقدسون فرج المرأة (...) فإذاً يبني الإخوان المسلمون تفسيرهم للأزمة – المقصود هنا فترة الصراع التي عرفتها الساحة السورية أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي - على فرضية المؤامرة العلوية. وبفضل هذه الفرضية أيضاً كانوا يؤكدون حق السنة غير القابل للتقادم في أن يكونوا حكام البلاد، كما يجسدون نوعاً ما الشرعية التاريخية الممتدة لأربعة عشر قرناً. فالمؤامرة ليست وليدة الأمس، (...) فالمؤامرة النّصيرية – كما يراها الإخوان المسلمون - مؤامرة ممتدة تاريخياً على مستوى الدولة والأمة والمجتمع – ودليلهم على ذلك في العصر الحديث - كيف تسلق العلويون قمة السلطة عبر تسللهم إلى أجهزة حزب البعث والجيش "(14).
مما لا شك فيه بأنه وجد من القادة العلويين وغير العلويين، إن كان داخل مؤسسة الجيش أو داخل مؤسسة الحزب وسلطة البعث، من عمل على الاستقواء بالولاءات الطائفية أو العائلية أو المناطقية أو العشائرية، إن كان من أجل تقوية مواقعه داخل سلطة البعث أو من أجل مواجهة خصومه السياسيين داخل هذه السلطة التي تكونت بدءاً من 8 آذار 1963،ولكن يمكن الجزم بأنه لم يكن قبل مجيء حافظ الأسد إلى السلطة 1970، لدى أي من الاتجاهات التي سادت في السلطة في الفترة الواقعة بين عامي 1963 و 1970، النية والرغبة والإرادة في بناء نظام سياسي قائم على العصبية الطائفية، فمع حافظ الأسد ومع انقلابه 16 تشرين 1970، اكتملت الفكرة، وبدأ العمل على بناء هذه العصبية. وحيث أن بناء العصبية هنا لا يقصد به بناء نفوذ طائفي داخل مؤسسة الجيش أو الحزب فحسب بل تعني في معناها ومدلولاتها الحقيقية والخطيرة، تحويل طائفة معينة – كالطائفة العلوية - من طائفة دينية بذاتها إلى طائفة سياسية لذاتها، وبما يعني تحويلها إلى قاعدة اجتماعية سياسية يرتكز عليها الحكم والنظام والدولة من جهة، ولها مصلحة مع الحكم والنظام والدولة من جهة ثانية.
من المؤكد أن محمد عمران العضو البارز في اللجنة العسكرية البعثية التي شاركت في انقلاب 8 آذار 1963، استقوى بالولاء الطائفي، فتحالف في البداية مع صلاح جديد وحافظ الأسد داخل اللجنة العسكرية البعثية لتقوية نفوذه داخل اللجنة العسكرية والجيش وداخل الحزب والسلطة البعثية الجديدة، ولكن مع قدوم العام 1964 بدأ الانقسام يتضح ما بين محمد عمران من جهة وبين صلاح جديد من جهة ثانية، وقد وقف حافظ الأسد إلى جانب صلاح جديد في هذا الخلاف منطلقاً في ذلك لا بدافع قناعاته المبدئية بل لأنه رأى أن التخلص من محمد عمران والقيادة القومية للحزب فرصة لإزاحة جبل من القيادات التاريخية الحزبية من أمامه. وقد كان موضوع الانقسام والخلاف بين عمران وجديد قائماً على أولاً: موقف كل طرف من شروط قيام الوحدة مع مصر، وكان من الواضح أن محمد عمران يميل إلى صف ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار في هذا الشأن، وثانياً: موقف كل طرف من إعطاء دور أكبر للجناح السياسي المدني لحزب البعث العربي الاشتراكي، وقد كان محمد عمران يقف كذلك في صف عفلق والبيطار الداعي إلى إعطاء دور أكبر للجناح السياسي داخل السلطة والحزب، في حين كان صلاح جديد وجناح ما سمي القيادة القطرية يميل إلى الإطاحة بالقيادة القومية المدنية للحزب. وثالثاً: كانت هناك الخلافات الإيديولوجية التي كانت تغذي كل الخلافات السابقة، والتي بدأت تظهر بين صلاح جديد الذي بدأ يميل إلى يسار الحزب ومنطلقاته النظرية الجديدة التي تبنت الكثير من المقولات الماركسية كمقولة الصراع الطبقي والاشتراكية العلمية وغيرها، التي أقرها المؤتمر القومي السادس للحزب1963، وبين محمد عمران الذي حافظ على موقفه الوسطي المعتدل إن كان من الناحية الإيديولوجية أو تجاه البرجوازية التقليدية، وحدود ومساحة عمليات التأميم التي بدأتها السلطة البعثية بشكل موسع عام 1965، وكذلك الاعتدال في الموقف من المحيط العربي، وهي المواقف ذاتها التي ميزت خط القيادة القومية. وباعتقادي أن هذه الخلافات هي التي دفعت محمد عمران لإفشاء سر اللجنة العسكرية البعثية إلى القيادة القومية الحزبية. ولم يكن باعتقادي في ذهن محمد عمران في يوم من الأيام بناء نظام علوي طائفي، فأقصى ما كان يطمح إليه تجاه الطائفة العلوية، كان إيجاد مكانة ونفوذ للطائفة العلوية داخل الجيش وداخل الدولة والمجتمع بشكل عام، مكانة ربما تزيد قليلاً ولكن لا تنقص عن حجم وجودها الموضوعي داخل المجتمع السوري. لقد تعددت وتناقضت الشهادات التاريخية في تقييم شخصية محمد عمران إلا أني أميل إلى تصديق الشهادة التي قدمها مدير مكتبه العقيد مجاهد سمعان، التي يقول فيها " كان محمد عمران مؤمناً بحق العلويين بالحصول على حقوقهم كمواطنين سوريين لأنهم كانوا معزولين لسنوات طويلة، فلا يجوز تحدي عموم السوريين كي لا نصل إلى الحرب الأهلية، لهذا على العلويين الابتعاد عن رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء شرط إمساكهم بالجيش على الطريقة التركية "(15).
كذلك استقوى صلاح جديد بحافظ الأسد في صراعه مع تيار القيادة القومية للحزب من جهة، وكي يقوي موقعه داخل الحزب وقيادة حركة 23 شباط 1966 من جهة ثانية، ويمكن القول أن هذا الاستقواء تم بحده الأدنى على أرضية الولاء المناطقي، كون الاثنين ينتميان إلى بيئة جغرافية واجتماعية واحدة، وكذلك محافظة إدارية واحدة جلسا فيها على نفس المقاعد الدراسية في مدارس مدينة اللاذقية عاصمة الساحل السوري. إن ما يدفعنا إلى البحث عن نوع الاستقواء والولاء الذي قام بين الشخصيتين خارج الولاء الحزبي هو عدم وجود أي رابط يدفع صلاح جديد كي يقوم بتقوية حافظ الأسد من خلال ترقيته في الرتب والمناصب العسكرية - من رتبة نقيب عام 1963، إلى رتبة مقدم، ثم إلى رتبة لواء، ثم إلى رتبة فريق ووزير للدفاع السوري. فلو كان الرابط الحزبي هو الدافع في هذه العلاقة القوية، لكان وجد صلاح جديد الكثير من الضباط الحزبيين البعثيين داخل اللجنة العسكرية البعثية أو داخل مؤسسة الجيش من هم أكثر كفاءة من حافظ الأسد عسكرياً وأكثر قرباً منه سياسياً وإيديولوجياً. يكفي أن نشير على سبيل المثال لا الحصر أن رفيقه البعثي سليم حاطوم كان أجدر بهذه الترقية والدعم، ولا سيما أن سليم حاطوم في يوم 23 شباط 1966 هو من " احتل وعزّت جديد دمشق وسيطرا على كل المحاور والطرق المؤدية للعاصمة السورية وشغلا مبنى التلفزيون. وبعكس ما روته الأساطير فلقد بقي دور الأسد في ذلك اليوم (التاريخي) ثانوياً "(16). أو لنقل إن العمل " البطولي " غير العادي الذي قام فيه حافظ الأسد يوم 23 شباط 1966 تمثل في خديعته للفريق رئيس الدولة أمين الحافظ. فقد " كان أمين الحافظ حتى اللحظة الأخيرة يعتقد أن اللواء حافظ الأسد- قائد سلاح الطيران- سيقف إلى جانبه، وأن سلاح الطيران بيده، ولذلك لم يكن يخشى أية تكتلات يعدها اللواء صلاح جديد والرائد سليم حاطوم ما دامت الطائرات جاهزة لقصفها. ولكن في اللحظة الحاسمة وقف سلاح الطيران إلى جانب الانقلابيين، وهدد الوحدات المدرعة التي هرعت لنجدة أمين الحافظ "(17). وقبلها شارك سليم حاطوم وهو برتبة نقيب بفاعلية في انقلاب في 8 آذار 1963 فهو من " دعا باسم المجلس الوطني لقيادة الثورة من على أمواج محطة الإذاعة الرسمية عدداً من الضباط السابقين – المطرودين من الجيش- إلى الالتحاق بالجيش. ومن بينهم كان النقيب حافظ الأسد "(18). إن ما يدفع لاستبعاد الرابط الحزبي والسياسي هو الفارق الكبير والنوعي بين شخصية صلاح جديد المتعصب إيديولوجياً كما وصفه دانييل لوغاك في كتابه (سورية في عهدة الجنرال الأسد)" بعثي مخلص مقتنع بأن الاشتراكية هي الطريق الوحيد التي تؤدي للوحدة العربية ... الثوري الخالص والقاسي...الخ " (19). وبين حافظ الأسد الذي قال عنه دانييل لوغاك " هذا التكتيكي البارع البعيد قدر المستطاع عن الإيديولوجيا "(20).
إن وضع صلاح جديد كل ثقته بشخص كحافظ الأسد إلى حد تنصيبه وزيراً للدفاع، في وقت ترك فيه صلاح جديد بعد تاريخ 23 شباط 1966 كل مناصبه العسكرية ليتفرغ للعمل الحزبي، بعد أن تسنم موقع الأمين العام المساعد في القيادة القومية لحزب البعث الحاكم، وهو الشخصية العسكرية التي هندست انقلاب 23 شباط 1966، وقبلها شارك في هندسة انقلاب 8 آذار 1963، ومن غير المنطقي و المعقول أنه لم يكن يعلم مخاطر الابتعاد عن قيادة المؤسسة العسكرية، أقول إن ذلك يسمح لأي إنسان سوري عاقل أن يعتقد أن عملية الاستقواء والاعتماد على حافظ الأسد ربما تعدت فرضية الأرضية المناطقية التي أشرت إليها في السطور السابقة. وإذا استبعدنا فرضية أن يكون ذلك تم على أرضية الاستقواء الطائفي بدافع من صلاح جديد، فإن الفرضية الأخيرة الأقرب إلى التصديق والمنطق، هي أن يكون حافظ الأسد،" وهو من كان يعلم تماماً أن المستقبل هو ملك يسار الحزب "(21). هو من بادر وأوهم صلاح جديد وهو قائد تيار اليسار في الحزب– وقبلها أوهم محمد عمران - بنوع من الولاء الطائفي الأعمى كي يمنحه الثقة وكل هذه الترقيات، وأن الخطأ الاستراتيجي السياسي الذي ارتكبه صلاح جديد، يكمن في قبوله لهذا النوع من الولاء من جهة أولى، وفي تصديق حافظ الأسد من جهة ثانية، وفي وضع كل ثقته به من جهة ثالثة.
إن ما يدلل على حجم الثقة التي أولاها صلاح جديد لحافظ الأسد لم يكن في تعيينه وزيراً للدفاع في سلطة 23 شباط 1966، بل في التردد كثيراً في اتخاذ قرار حاسم ومبكر في إقالته من مركزه ومنصبه. فرغم انكشاف الخط السياسي الذي يسير فيه الأسد منذ حرب حزيران 1967، - وبعكس ما روجت له حركة 23 شباط البعثية حيت ألصقت تهمة اليمين للقيادة القومية، فإن يمين السلطة البعثية كان مشرباً من مشاربها، وكان حافظ الأسد هو قائد هذا التيار اليميني، وحيث أن ما جمع اليمين واليسار على مخدة واحدة في حركة 23 شباط، كان الموقف من الثروة من جهة أولى، وكانت أصولهم الفلاحية وأحياناً الطائفية من جهة ثانية. حيث أن كلا التيارين كان يدعو لأن تضع الدولة يدها على الثروة. ففي حين كان يرى التيار اليساري أن ملكية الدولة لوسائل الإنتاج والثروة، هي الطريقة الأفضل لتوزيعها بشكل عادل كما كانوا يتوهمون. في حين كان اليمين يرى أن وضع يد الدولة على الثروة يشكل الطريقة المثلى للسطو على الثروة كلها أو في الحد الأدنى مشاركة البرجوازية التقليدية بهذه الثروة ومن موقع القوة -ورغم انكشاف تحركات الأسد داخل الجيش ووضوح خطورة حركة التنقلات التي بدأ يجريها لقادة بعض القطعات العسكرية الاستراتيجية الهامة المحسوبة على صلاح جديد واستبدالهم بقادة موالين له في مناورة سماها الأسد " (بالأرضي شوكي). كل يوم ننقل ضابطاً لم نكن واثقين من ولائه" (22). ورغم معرفة الجميع أن الأسد كما قال عنه دانييل لوغاك بأنه " الرجل الوحيد في سورية الذي يؤسس لنفسه، وليس للدولة جهازاً سرياً! وذلك منذ 1965 حيث شكل لنفسه ميليشيا (سرايا الدفاع الشهيرة) "(23). فقد تردد صلاح جديد وهو الرجل القوي في سلطة 23 شباط بالحسم وتأخر في قرار فصله من الحزب حتى تاريخ 12 تشرين 1970 على إثر سحب الأسد للمدرعات السورية من الأردن في أحداث أيلول الأسود (24). في وقت كان فيه الأسد قد حسم الصراع على الأرض لصالحه منذ 25 شباط 1969 عندما " احتلت المدرعات – التابعة للأسد - النقاط الاستراتيجية في العاصمة دمشق وتسلم رجالها إذاعتي دمشق وحلب كذلك استلموا يوميتي (الثورة) و(البعث). وأطلقوا سراح العديد من السجناء السياسيين من الناصريين والبعثيين القدامى والحورانيين- نسبة إلى أكرم الحوراني - وبنفس الوقت شدد الأسد قبضته على المنطقة العلوية (اللاذقية) حيث يوجد عدد كبير من مناصريه. ولكن الجنرال الأسد لم يتم الانقلاب رغم أنه نجح فيه، فقد اكتفى بتسجيل نقاطه خلال مؤتمر غير عادي للقيادة القطرية الـتأم في آذار 1969 والذي أرضاه في عدة نقاط. (25). لهذا كان حسم الصراع بشكل نهائي في 16 تشرين الثاني 1970 سهلاً على الأسد.
لقد كان صلاح جديد حاسماً في مواجهة جبل من القيادات التاريخية في القيادة القومية للحزب والتي أزاحها عن السلطة في 23 شباط 1966 في حين كان متردداً في مواجهة وزير دفاعه حافظ الأسد، فرغم تحول حافظ الأسد إلى " ممثل للأقلية داخل الحزب بدءاً من تموز 1968 ورغم استقالته من عضوية القيادة القطرية، فقد وجد البعثيون المدنيون أنفسهم غير قادرين على أجبار الأسد على الاستقالة من الحكومة وهو وزير الدفاع. واستغل الأسد الوقت لعزل مناصريهم كلياً داخل الجيش. منطلقاً من مبدئه الذي يقول: إن مساعدة عسكري واحد هي أفضل من مساندة ألف مدني، بدأ مناقلات الضباط المعاندين، بخاصة عزت جديد وقائد اللواء السبعين الهام جداً على المستوى الاستراتيجي، وكانت كل هذه التنقلات تجري متناقضة كلياً مع الأنظمة التي تجعل القيادة القطرية الوحيدة المؤهلة لاتخاذ القرارات فيها "(26).
لقد كان صلاح جديد قائداً شريفاً نظيف اليد، ولكنه بنفس الوقت كان قائداً لا يمتلك الحد الأدنى من مقومات السياسي الاستراتيجي، فقد كان وعيه السياسي الاستراتيجي في مرتبة الصفر والعدم، إن المفارقة الغريبة التي يجدر الوقوف عندها هو أنه في علاقة صلاح جديد بحافظ الأسد والتي أساسها قائم على استقواء صلاح جديد بوزير دفاعه حافظ الأسد، فإن ما كان يحصل على أرض الواقع هو العكس، فقد كان حافظ الأسد " التكتيكي البارع "(27)، كما وصفه دانييل لوغاك يستثمر صراعات صلاح جديد مع خصومه كوسيلة لإزاحة العراقيل من أمام طريقه في الصعود إلى أعلى السلطة. لقد كان صادقاً دانييل لوغاك عندما قال إن صلاح جديد كان آخر ضحايا الأسد. فقبل أن يصبح آخر ضحية من ضحايا الأسد (28)، كان صلاح جديد قد سهل على الأسد المهمة. فقد استطاع حافظ الأسد وتحت غطاء مساعدة صلاح جديد في التخلص من خصومه، القضاء على كل الحلفاء المفترضين لصلاح جديد من جهة، والقضاء كذلك على كل الشخصيات ومراكز القوة التي يمكن أن تقف في وجهه. لقد كانت البداية " بعد انقلاب 23 شباط، حين شعر تكتل الضباط الدروز بأنهم على طريق التصفية من الحزب ومن الحكم، فقد طرد حمود الشوفي من الحزب وقبض على منصور الأطرش وشبلي العيسمي وعزل حميد عبيد الذي كان وزيراً للدفاع، وكان متوقعاً أن يبقى فيها بعد 23 شباط، لكن بدلاً من ذلك ألقي القبض عليه وأحيل للمحاكمة بتهمة التمرد والفساد. وكان منيف الرزاز آخر أمين عام للقيادة القومية قبل حركة 23 شباط، قد تحول إلى العمل السري بعد الحركة وأسس مكتباً عسكرياً من ضباط محترفين ومخلصين للقيادة القومية بقيادة اللواء الدرزي فهد عبيد الشاعر. وقد بدأ الشاعر حواراً مع سليم حاطوم، الضابط الدرزي الناقم على عدم إعطائه صلاحيات وامتيازات توازي دوره في الحركة، فقد كانت لقواته المغاوير اليد الطولى في الهجوم على منزل أمين الحافظ واعتقاله. كما تم الاتصال بضباط آخرين، كانوا كلهم من الدروز، وبدأ التخطيط للقيام بانقلاب يقضي على صلاح جديد وأعوانه. لكن المؤامرة كشفت بطريق المصادفة فاعتقل أكثر من مئتين من الضباط أغلبيتهم الساحقة من الدروز، وسرحت أعداد أخرى منهم، الأمر الذي أثار حفيظة الدروز في الجبل واعتبروا ما حصل موجهاً لهم كطائفة. ولتخفيف حدة التوتر الناشئ توجه وفد من القيادة السورية في الثامن من أيلول 1966 برئاسة رئيس الدولة نور الدين الأتاسي يرافقه صلاح جديد وعدد من الشخصيات إلى السويداء، فكانت هذه الزيارة فرصة لحاطوم لتنفيذ خطوته الانقلابية بنصب كمين لهؤلاء. لكن غلطة حاطوم المميتة كانت (29). في الخديعة التي أوقعه بها حافظ الأسد – الخديعة الثانية بعد خديعته لأمين الحافظ - الذي لم يكن مع الوفد من جهة، وبتوجيهه من جهة ثانية إنذار إلى حاطوم ومن معه بتدمير مدينة السويداء فوق رؤوس سكانها إن لم ينه انقلابه على القيادة، وهو الأمر الذي أجبره إلى إنهاء عملية الانقلاب والهروب إلى الاردن مع مجموعة من الضباط الموالين له. " أما الحقائق التي لم يكشف عنها حاطوم ولا بيان القيادة القطرية فهي إن سليم حاطوم كان قريباً من حافظ الأسد في مواجهة صلاح جديد، ولم يكن بتقدير حاطوم أن يوجه إليه حافظ الأسد إنذاراً بتدمير السويداء إذا لم يكف عن محاولته، ولم يكن حاطوم مغفلاً للدرجة التي يقدّر فيها أن نجاح محاولته مرهون بموقف حافظ الأسد " (30). أعقبت حركة حاطوم " الفاشلة سلسلة تسريحات للضباط في الجيش استمرت حتى ربيع 1967، فسرح 79 ضابطاً في تنظيم الحزب العسكري داخل الجيش، وسرح 400 ضابط آخرين بهدف وضع حد نهائي لأي محاولة انقلابية (...) وقد انضم هؤلاء المسرحين إلى آلاف غيرهم جرى تسريحهم على مدار السنين الممتدة من عهد الوحدة مع مصر، مروراً بالتصفيات المكثفة التي جرت بعد 8 آذار "(31). إلى حد لم يبق في الجيش العربي السوري أي قوة قادرة على خوض مواجهة لا مع جيش العدو الإسرائيلي كما حصل في المواجهة التي تمت في 5 حزيران 1967 فحسب بل حتى مواجهة مع وزير الدفاع حافظ الأسد حتى ولو أرادت وقررت سلطة 23 شباط بقيادة صلاح جديد هذه المواجهة. بعد التخلص من كتلة الضباط الدروز كان التخلص من رئيس الأركان أحمد سويدان وقائد كتلة ضباط حوران. فبعد هزيمة الجيش السوري أمام العدو الإسرائيلي في حزيران 1967 وبدل أن يقوم صلاح جديد بخلع وزير دفاعه من منصبه وهو المسؤول الأول عن تلك الهزيمة، قام بتسريح " أحمد سويدان ومعه 160 ضابطاً من كتلة حوران السنية في الجيش خلال شهر شباط 1968 "(32). والمفارقة التي تدعو للسخرية والاندهاش أن يعين مصطفى طلاس في منصب رئيس أركان الجيش وهو الشخصية المعروفة بولائها للأسد، لهذا كان طبيعياً أن يعقب " ذلك مباشرة إزاحة رجل صلاح جديد الهام عزت جديد عن قيادة اللواء السبعين المدرع، التشكيل العسكري الأقوى في سورية. كذلك أبعد الأسد رفيقه في اللجنة العسكرية وقائد جبهة الجولان أثناء حرب 1967 أحمد المير "(33). وما أن جاء تموز 1968 ومع عودة حزب البعث إلى السلطة في العراق ورغم أن الأسد كان يمثل الأقلية داخل الحزب الحاكم في دمشق ورغم استقالة الأسد من القيادة القطرية إلا أن البعثيين الحاكمين في دمشق بقيادة صلاح جديد وجدوا " أنفسهم غير قادرين على إجباره على الاستقالة من الحكومة وهو وزير الدفاع "(34)." وفي علامة بارزة على طريق استقلاله عن القيادة السياسية، قام الأسد في خريف 1968 بإغلاق الجيش في وجه الحزب وبدأ بتأسيس التشكيلات العسكرية الأولى، التي ستتطور بعد عام 1970 إلى وحدات عسكرية كاملة مستندة إلى أسس طائفية وقبلية وعائلية "(35). وقبل الخاتمة قام الأسد بالتخلص من عبد الكريم الجندي 1979 وهو آخر وأقوى الحلفاء الإسماعيليين للسلطة الشباطية، ثم كانت الخاتمة باعتقال صلاح جديد ومعه كل قيادة السلطة الشباطية بانقلابه في 16 تشرين الثاني 1970.
من المؤكد أن صلاح جديد لم يكن نبياً يسارياً ثورياً منزهاً من أي خطيئة طائفية كما يحاول أن يقدمه الغلاة من مناصريه، كما لا يمكن كما يحاول أعداءه وخصومه السياسيين والطائفيين اختصار شخصيته وتاريخه السياسي من خلال علاقته أو استقوائه بالأسد أو غيره. لقد اجتمعت في شخصية صلاح جديد كل مركبات وتناقضات الصراع المركب والمعقد داخل المجتمع السوري وداخل سلطة البعث. وباعتقادي فإن دانييل لوغاك قد أجاد في وصف صلاح جديد حين قال أنه، " ممثل تماماً لجيل من الضباط ذي الأصول الريفية والجبلية، وهو يحذر البرجوازية المدينية المسلمة في الأساس كما يحذر الطاعون "(36).
من المؤكد أن سلطات البعث لم تنل على " الشرعية التاريخية " القائمة على الدين والطائفية، كما ينظر إليها ويراها التيار الإسلامي الإخواني، كما أنها لم تسع لهذا النوع من الشرعية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا يقول ما هو نوع الشرعية التي تغطت بها سلطات البعث بين عامي 1963 – 1970؟
لقد ارتكزت سلطة البعث بتيارها القومي والقطري قبل 1970 على ما يمكن تسميته بالشرعية الثورية البائسة المزيفة، في حين عجز حافظ الأسد، كما سنرى، عن إيجاد أي نوع من الشرعية تمنحه حداً من القوة يسند بها انقلابه ونظامه، وهو الأمر الذي دفعه للبحث عن مصادر للقوة – كان يعدها حتى قبل صعوده إلى رأس السلطة - فكانت عملية بنائه لعصبية اجتماعية طائفية يستند إليها.
لا يمكن باعتقادي تفسير سلوك النخب القومية البعثية المدنية والعسكرية، سواء كانت قيادات حزبية أو كوادر أو حتى من الناس العاديين الذين انخرطوا في حركة البعث والسلطة البعثية، من دون القيام ببحث في فكرة الشرعيات الثورية الطبقية التي عرفت في العصر الحديث وكان لها صدى وتجليات في ساحات العالم كله. لهذا أرى بأنه من الأهمية بمكان تناول وتبيان مصدر هذا النوع من الشرعية السياسية أو لنقل تبيان كيف نشأ وتطور مفهوم الشرعية الثورية، إن كان على أرض الواقع في بعض الساحات، أو في الثقافة والفكر السياسي الحديث بشكل عام، وكيف تم الركوب عليه في بعض الحالات، وكيف نشأ في أغلب الحالات على يد أفراد وشخصيات وجماعات في منتهى الوفاء لمبادئها، وكيف انتهى واستخدم في بعض الحالات من قبل شخصيات وجماعات حاولت ارتداء لباس ليس على مقاسها، وفي بعض الحالات من قبل جماعات وشخصيات، هي من أكثر الناس قذارة وقلة أمانة ووفاء للمبادئ، حيث سنجد أن " التاريخ كما قال هيجل يكرر نفسه مرتين، وكما أضاف كارل ماركس بأنه إذا ما كرر نفسه، فإنه سيكون مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة "(37). حتى يمكن القول أن فتح ملفات الشرعيات الثورية الطبقية التي عرفتها قرون العصر الحديث، هي عبارة عن فتح لمآسي التاريخ الحديث ومهازله. وهنا أود الإشارة إلى حادثين مفصليين كانا لهما أثر عالمي كبير في مجريات وتطورات الواقع والثقافة والفكر الإنساني والسياسي في التاريخ الحديث، هما حدث الثورة الفرنسية 1879، التي شكلت الحدث الأول الساطع في العصر الحديث الذي تشكل من خلاله ما عرف بالشرعية الثورية، والحدث الثاني هو حدث الثورة البلشفية الروسية 1917، التي تشكلت فيها وعرفت كذلك نوعاً جديداً من الشرعية الثورية، وكيف ان التاريخ أعاد نفسه مرتين في الساحة السورية، مرة على شكل مأساة ممزوجة بالمسخرة، عرفتها سلطة البعث الأولى 1963،وسلطة البعث الثانية في 23 شباط 1966،ومرة على شكل مهزلة ومسخرة صافية مع انقلاب حافظ الأسد 1970.
.........................................................................................................
المصادر:
(1). موقع كوة الفصل السابع من كتاب إدغار موران المعنون الفكر المعقد/ المركب والفكر الشامل. ترجمة د. خديجة زيتلي
(2). ص (157) من كتاب سورية... الدولة المتوحشة تأليف ميشيل سورا. ترجمة أمل سارة ومارك بيالو. الشبكة العربية للأبحاث والنشر
(3). مقال محمد سيد رصاص بتاريخ 28/ 8/2016 على موقع الحوار المتمدن بعنوان الطائفية ...محاولة لتحديد المفهوم.
(4). نفس المصدر السابق.
(5). نفس المصدر السابق. (من يريد الاطلاع على المزيد من المعلومات عليه مراجعة كتاب حنا بطاطو العراق الكتاب الثالث الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار ترجمة عفيف الرزاز منشورات مؤسسة الأبحاث العربية).
(6). يقول عزمي بشارة في الصفحة 269 من كتابه سوريا درب الآلام نحو الحرية " ولما كانت المصادفة أن معظم الضباط الناصريين والمستقلين الوحدويين الذين تمت تصفيتهم في عامي 1963 و1964 ومعظم الضباط البعثيين الموالين للقيادة القومية الذين تم تصفيتهم في شباط 1966 كانوا من السنة، فإن معظم الضباط القدامى والجدد ممن ينحدرون من الأقليات الأخرى ولا سيما العلويين والدروز والاسماعيليين غدوا في الجيش بنسب أعلى بكثير من نسبتهم بين السكان".
(7).مقال محمد سيد رصاص بتاريخ 28/ 8/2016 على موقع الحوار المتمدن بعنوان الطائفية ...محاولة لتحديد المفهوم.
(8). نفس المصدر السابق.
(9). نفس المصدر السابق.
(10). مقال كاظم حبيب بتاريخ 2/ 2 / 2014 في موقع الحوار المتمدن بعنوان الجمهورية الثانية بالعراق – الفصل الأول حزب البعث العربي الاشتراكي على رأس السلطة.
(11). مقال محمد سيد رصاص بتاريخ 28/ 8/2016 على موقع الحوار المتمدن بعنوان الطائفية ...محاولة لتحديد المفهوم.
(12). نفس المصدر السابق. (من يريد الاطلاع على المزيد من المعلومات حول التركيبة الطائفية للحزب الشيوعي العراقي عليه مراجعة الصفحة 309 – 310 من كتاب حنّا بطاطو العراق الحزب الشيوعي الكتاب الثاني ترجمة عفيف الرزاز منشورات مؤسسة الأبحاث العربية).
(13). مقال كاظم حبيب بتاريخ 2 / 2 / 2014 في موقع الحوار المتمدن بعنوان الجمهورية الثانية بالعراق – الفصل الأول حزب البعث العربي الاشتراكي على رأس السلطة.
(14). ص 163 – 165من كتاب سورية... الدولة المتوحشة تأليف ميشيل سورا.
(15). عن موقع العرب مقال بعنوان محمد عمران: ولايزال اغتيال رجال سوريا مستمراً. منشور بتاريخ 21 يونيو 2014.
(16). ص.108 من كتاب سورية في عهدة الجنرال الأسد تأليف دانييل لوغاك. تعريب الدكتور حصيف عبد الغني. مكتبة مدبولي القاهرة.
(17). ص 258 من كتاب تطور المجتمع السوري (1831- 2011) تأليف نشوان الأتاسي.
(18). ص 105 من كتاب دانييل لوغاك
(19). ص 109 المصدر السابق.
(20). ص 108المصدر السابق.
(21). ص 108 المصدر السابق.
(22). ص 109 المصدر السابق.
(23). ص 104 المصدر السابق.
(24). ص114 المصدر السابق.
(25). ص 114 المصدر السابق.
(26). ص 113 المصدر السابق.
(27). ص 108 المصدر السابق.
(28). ص 112 المصدر السابق.
(29). ص 259 كم كتاب نشوان الأتاسي.
(30). ص 259 المصدر السابق.
(31). ص 259 المصدر السابق.
(32). ص 265 المصدر السابق.
(33). ص 275 المصدر السابق.
(34). ص 113 من كتاب دانييل لوغاك.
(35). ص 265 من كتاب نشوان الأتاسي.
(36). ص 109 من كتاب دانييل لوغاك.
(37). ص 6 من كتاب كارل ماركس الثامن عشر من برميير لويس بونابرت.