نظام الاستبداد المعمم في سوريا مقدماته ومراحله - 12



لومـــوند : نبيل ملحم


الثاني عشر: أصول ثقافة الوهم والخداع الشعبوية.

إن عمق الأزمتين الاجتماعية والوطنية، التي كان يعيشها المجتمع السوري، ومثله كل الشعوب العربية، في العقود الثلاثة التي سبقت وتلت الاستقلال الوطني، وبناء الدولة الوطنية، وسعي القوى- الأحزاب القومية البرجوازية الصغيرة بكل مشاربها ومعها الأحزاب الشيوعية - التي تنطحت لحل هاتين الأزمتين، أدى شيئاً فشيئاً، إلى طغيان الهم الاجتماعي والوطني في وعي هذه القوى بشكل خاص، وفي وعي الشارع الشعبي بشكل عام، على حساب الهم والمسألة الديمقراطية، وفي كثير من الأحيان كان انشغال هذه القوى بهذين الهمين يتم على جثة القضية الديمقراطية، وفي أحسن الأحوال يجعل الاهتمام بها بالحدود الدنيا، وهو الأمر الذي قاد إلى افتقاد وعي الجيل الثاني للنهضة لبعده الديمقراطي. فعمق الأزمة الاجتماعية المتمثلة بعدم قدرة البرجوازية العربية التقليدية على إيجاد إصلاح سريع للعلاقات الزراعية، وبما يعني القضاء على العلاقات الإقطاعية، إن كان من خلال رسملة العلاقات الزراعية، وهو أفضل الحلول، وهو ما كان يجري على أرض الواقع ولكن بخطا بطيئة، وكان يحتاج إلى مساحة زمنية وتاريخية متوسطة الطول كي يكتمل بشكله الناجز، أو من خلال إجراء إصلاح زراعي، يتم بموجبه توزيع وبعثرة الأراضي على الفلاحين، وهو أسوأ الحلول ولكنه أسرعها, يضاف إلى ذلك عمق الأزمة الوطنية والقومية المتمثلة بعجز البرجوازية التقليدية العربية على رتق الانقسام القومي الذي نتج عن مؤامرة سايكس - بيكو وتحرير الأراضي العربية المحتلة، ولا سيما بعد هزيمة جيوشها في حرب فلسطين عام 1948، الأمر الذي قاد إلى ما عرف بالنكبة، وتقسيم فلسطين، وبناء دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية. إن عمق هاتين الأزمتين كان وراء الاستراتيجيات السياسية والثقافية الخاطئة التي جعلت من النضال الاجتماعي والوطني المهمة المركزية في وعي ونضال الأحزاب والطبقات والنخب الحاملة للنهضة في مرحلتها الثانية, كما أن عمق هاتين الأزمتين سهل على هذه القوى تمرير وتبرير هذه الاستراتيجيات الخاطئة من خلال التضليل والضلال الإيديولوجي، إن كان الستاليني أو القومي البرجوازي الصغير البعثي ومن على شاكلته، إن كان أمام جمهورها في الشارع أو أمام قواعدها ونخبها الحزبية، كما أن عمق الأزمتين سهل على بعض ممن انخرطوا في هذه الحركة في إيجاد الغطاء اللازم لطموحاتهم بالصعود الطبقي والتفرد بالسلطة. يكفي أن نشير هنا إلى أن " أول تدخل للجيش في السياسة في منطقة الشرق الأوسط " (1)، بعد انقلاب بكر صدقي في العراق عام 1936، كان في سوريا، وحيث كان ذلك من أولى تداعيات نكبة فلسطين عام 1948، مضافاً إليها عمق الأزمة الاجتماعية التي كان يعيشها المجتمع السوري التي تفاقمت بين عامي 1943 – 1949، نتيجة تفشي الفساد في دوائر الدولة الفتية(2)، فكان الانقلاب العسكري عام 1949 بقيادة حسني الزعيم، بتشجيع ودفع لا من القوى الإقليمية والدولية صاحبة المصلحة فحسب، بل كذلك – وهنا المفارقة - بدفع وتأييد من أبرز رجالات الجيل الثاني للنهضة في سوريا، وصديق الفلاحين السوريين، والمدافع الأكبر عن حقوقهم، أقصد هنا أكرم الحوراني، الذي يعد أول من دعا الجيش في العصر الحديث للتدخل في السياسة في سوريا, أو لنقل أول من استقوى بالجيش على خصومه السياسيين(3). ودعم الانقلاب العسكري الأول لم يقتصر على الحوراني فحسب بل جاء كذلك من حزب البعث الذي نظم حينها في دمشق " مظاهرات جالت في الأسواق مهللة بالانقلاب "(4). إن ضغط الأزمتين الاجتماعية والوطنية ولد اتجاهاً ساد شيئاً فشيئاً داخل صفوف ما كان يسمى فصائل حركة التحرر الوطني العربية, اتجاهاً يؤمن بأن حل هاتين الأزمتين لا يمكن أن يكون إلا من خلال القفز السريع إلى السلطة، وأن القفز السريع إلى السلطة لا يمكن أن يتم إلا من خلال المؤسسة العسكرية (الانقلاب العسكري) وبلغة ذلك الجيل كل ذلك يسمى " ثورة " حتى لو كانت أداتها الجيش, والشرعية هنا هي " الشرعية الثورية ". ولهذا نستطيع أن نقول بأن كل فصائل حركة التحرر الوطني العربية في جيلها الثاني بدءاً من سوريا مروراً بمصر والعراق واليمن بشقيه الجنوبي والشمالي وصولاً إلى ليبيا والسودان والجزائر كانت كلها وراء حشر الجيش بالسياسة, والمفارقة أن هذه الفصائل لم تستخدم يوماً الجيش ضد خصومها الحقيقيين من أعداء الوطن الذين في الخارج، فالجيش كان أكبر وأقوى وسيلة استقوت بها فصائل حركة التحرر الوطني العربية على خصومها في الداخل، في البداية ضد الإقطاع و البرجوازية التقليدية، ثم كان استقواؤها بعضها على بعض من خلال الجيش، فالشيوعيين والبعثيين في العراق استقووا بالجيش لذبح البرجوازية التقليدية العراقية ومعها الملكية، ثم قام البعثيون بالاستقواء بالجيش لذبح الشيوعيين العراقيين، وفي سوريا استقوى البعثيون بالجيش بجر السوريين إلى السجن الناصري عام 1958 لقطع الطريق على توسع نفوذ الحزب الشيوعي في سوريا, ثم في مرحلة لاحقة كانت نفس المؤسسة العسكرية أكبر وأهم وسيلة استقوت فيها التيارات والاتجاهات السياسية بعضها على بعض داخل نظام البعث الذي حكم كلاً من سوريا والعراق، وقد استمرت عملية الاستقواء بالمؤسسة العسكرية عبر سلسلة الانقلابات العسكرية إلى أن استقرت السلطة بيد حاكم مستبد استطاع أن يحول الجيش(بعد أن تمت تصفية كل الخصوم) من مؤسسة وطنية مهمتها الدفاع عن الوطن إلى مؤسسة تابعة للسلطة ومهمتها الوحيدة هي الدفاع عن السلطة والحاكم المستبد، أي حولها إلى مؤسسة مفرغة من أي محتوى وطني، وفي بعض البلدان العربية حولها إلى مؤسسة ذات طابع طائفي أو قبلي أو عشائري أو جهوي. فبعد الانقلاب العسكري الأول والذي كان يسمى ثورة ضد الإقطاع والبرجوازية التقليدية كانت تتوالى بعده الانقلابات العسكرية ( تتوالى عملية الاستقواء بالجيش) في صراع التيارات والاتجاهات داخل صفوف الحزب أو الحركة التي وصلت إلى السلطة. ففي مصر كانت البداية مع انقلاب حركة الضباط الأحرار التي سميت ثورة 23 يوليو 1952، ثم كان بعد ذلك انقلاب عبد الناصر عل رفيقه محمد نجيب عام 1954، وفي العراق كانت البداية مع انقلاب عبد الكريم قاسم في 14 تموز عام 1958، والذي سمي ثورة، ثم تتالت الانقلابات العسكرية في العراق، وفي سوريا كانت البداية بانقلاب عسكري قاده مجلس عسكري باسم حزب البعث العربي الاشتراكي وقد سمي بثورة الثامن من آذار عام 1963، ثم تتالت الانقلابات بعد ذلك، والأمر ذاته كان في كل من السودان واليمن، وحتى الجزائر التي كانت الوحيدة التي انتصرت بها ثورة حقيقية في البداية ولكنها لم تشذ عن شقيقاتها العربيات في عملية استقواء التيارات والاتجاهات داخلها بالمؤسسة العسكرية في صراعها بعضها مع بعض. لقد تكرر نفس المشهد في أغلب الساحات العربية، انقلاب يسمى ثورة، ثم تتبعه سلسلة من الانقلابات حتى يستقر الأمر لحاكم مستبد تنتهي عند سلطته سلسلة الانقلابات. لهذا نجد أن أكبر مفارقات التاريخ التي عرفتها الأحزاب والحركات التي وصلت إلى السلطة(في الوطن العربي وخارجه) عبر الاستقواء بالمؤسسة العسكرية، هو أن النخب الفكرية والسياسية التي استقوت بالجيش وحشرته بالسياسة ضد خصومها السياسيين(من الإقطاع والبرجوازية التقليدية) كانت أولى ضحايا هذا الاستقواء, فمع صعود العسكر إلى السلطة وضعت النخب السياسية المدنية تحت رحمة النخب العسكرية، ثم تمت عملية الاستغناء الكلي عن هذه النخب السياسية والفكرية إلى الدرجة التي تكون فيها داخل المجتمعات العربية ما يمكن تسميته بمتحف للنخب السياسية والفكرية التي لم تظهر يوماً إلى النور ومسرح الحياة العامة، وظلت مغمورة ومستورة ولم يعرف أو يسمع بها أحد من الجماهير التي لطالما آمنت بأفكار وقيم وشعارات ومبادئ هؤلاء القادة, في الوقت الذي تمتلئ فيه الشوارع وشاشات التلفاز والجرائد في العالم العربي بصور القادة العسكريين وعلى رأسهم سيدهم الحاكم المستبد، وفي الكثير من الحالات كان مصير هؤلاء القادة من النخب السياسية والفكرية أسوأ من ذلك حيث كان يتم رميهم خارج أوطانهم إلى المنافي أو رميهم في القبور بعد اغتيالهم أو رميهم في السجون وتركهم حتى الموت بوصفهم خونة " الثورة ".
لقد استخدم البعثيون في سوريا الأزمتين الاجتماعية والوطنية القومية كذريعة وغطاء وسلم ومطية للتسلق إلى السلطة ثم الاستفراد بها، وهو الأمر الذي انتج ثقافة المزايدة والاتجار بهاتين القضيتين، وهو الأمر الذي تكشف بشكل صارخ في موقف البعثيين من الوحدة مع مصر عام 1958، وبعدها موقفهم من انقلاب 8 آذار 1963، حيث كان الهدف في كلا الحالين استفراد البعثيين بالسلطة على حساب خصومهم السياسيين من إقطاع وبرجوازيين وشيوعيين في قضية الوحدة، وبعد 8 آذار 1963 يمكن إضافة خصومهم الناصريين، يكشف لنا خالد العظم في مذكراته الخلفيات الانتهازية النفعية لموقف البعثيين من الوحدة مع مصر، ومن ثم موقفهم من انقلاب 8 آذار 1963، من خلال السلوك السياسي لصلاح الدين البيطار أحد أهم الشخصيات البعثية في تلك المرحلة، يقول العظم " والغريب في الأمر إن صلاح البيطار اشترك معنا في ذلك الاجتماع الذي كرس الانفصال وأعطاه طابع الإجماع ووضع مع نجيب الأرمنازي صيغة البيان الذي وقعناه كلنا. ثم رشح نفسه في معركة الانتخابات النيابية عن دمشق ( وجاء ذات مرة يطلب مني العون على نجاحه كما فعلت في انتخابات 1954 ) واشترك في الاستفتاء الذي رافق تلك الانتخابات، فوافق طبعاً على الدستور المؤقت المعروض على الاستفتاء، مع أنه يكرس تأسيس الجمهورية العربية السورية ( أي فصل سورية عن مصر). لكن صلاح البيطار يحاسبنا اليوم، هو نفسه، على أننا عملنا للانفصال، وهو يريد إحالتنا على المحاكمة والحكم علينا بتهمة الخيانة العظمى! نحن لم نشترك في الحكومات المؤلفة في عهد الوحدة، ولم نستقل من إحداها كما فعل البيطار، ولم ننقلب على الوحدة لأن رئيسها أبى أن يسلمنا زمام الأمر في سورية. فقد أبدينا تحفظنا منذ تأسيس الوحدة ولم نبدل رأينا. فنحن طلاب وحدة صحيحة، لا تسليم سورية إلى مصر. ثم إن صلاح البيطار يعارض اليوم عودة الوحدة كما كانت عليه في الماضي. فهو يؤيد اليوم الاتحاد الفيدرالي ويريد أن تستقل سورية بشؤونها الخاصة، أتعرفون لماذا ؟ لأنه يريد أن يحكم هو وأعضاء حزبه سورية دون إشراك أحد آخر. لكن سورية التي رفضت ديكتاتورية عبد الناصر لا تقبل دكتاتورية البيطار وميشيل عفلق. فهي ترفض كل دكتاتورية، مصرية كانت أم سورية. وهي لا تقبل أن يحكمها حزب لم ينجح أحد من مرشحيه يوماً إلا عندما ساندته هيئات أخرى. فقد سقط ميشيل عفلق في انتخابات 1949، وصلاح البيطار في انتخابات 1961، ولعل لهذين الفشلين أثراً في عودة المذكورين إلى اللجوء إلى شعار الوحدة، يحملانه ويخدعان الأهلين به من جديد... وهما إذا نجحا في الوصول إلى المناصب الوزارية بعد 8 آذار 1963 فلأن فريقاً من الضباط لم يجد أمامه غيرهما يوليه سلطة الحكم المدني. وهما اليوم ومن لف لفهما يقفون اليوم في وجه عبد الناصر، تماماً كما وقفنا نحن، ويطلبون اتحاداً فيدراليا بين سورية ومصر والعراق. فالذي يكرس الانفصال، فعلاً، هو حزب البعث، وعلى رأسه صلاح البيطار. فهو يرفض الوحدة مع مصر اليوم، مع أنه كان ينادي بها في الأمس كسلم يوصله إلى مقعد الرئاسة. فما إن وصل إلى مراميه حتى انبرى يعمل للاتحاد دون الوحدة. وهكذا أصبح يسير على خطانا بلا خجل. والفرق بيننا وبينه أننا نقول بالاتحاد العربي والوحدة العربية، سواء كنا في الحكم أو خارجه. أما هو فيستقيل من حكومة الوحدة لأن المصريين لم يقطعوه سورية، هو وحزبه، ليتصرف بمقدراتها كما يشاء. ثم يعود إلى المطالبة بالوحدة بعد أن أقصاه الشعب في 1961 عن مجلس النواب. لكنه يتراجع عن المطالبة بالوحدة ويعمل للاتحاد، عندما يتسنم الحكم بعد 8 آذار 1963. لأنه يحتفظ بإدارة سورية وبالسيطرة عليها، دون عبد الناصر. هذا الرجل المتقلب، العامل لمصلحة نفسه ومصلحة حزبه فقط، يتهمنا نحن المواطنون المخلصون بالخيانة والعمالة وبالانفصال كجريمة، ويصدر بالاتفاق مع مجلس قيادة الثورة مرسوماً تشريعياً بعزل (74) شخصاً من العاملين في الحقل السياسي عزلاً مدنياً، ويمنعهم – وأنا من جملتهم – من ممارسة حقوقهم السياسية ومن معاطاة الصحافة ومن حق التوظف، ليسرح ويمرح وحده في الحقل العام وليرقص كالسيدات."(5). وبعد ذلك جاء انقلاب 23 شباط حيث كان الهدف هذه المرة استفراد جناح من البعثيين على حساب وفوق جثة رفاق دربهم البعثيين القدامى المدنيين والعسكريين بذريعة الحل الجذري اليساري حسب وجهة نظرهم إن كان للقضية الاجتماعية وتلبية مصالح العمال والفلاحين! أو للقضية الوطنية وتحرير الأرض المحتلة!. وبعد ذلك كان انقلاب حافظ الأسد في تشرين 1970 واستفراده بالسلطة تحت غطاء وحجة التخفيف من غلو رفاق الأمس في حركة 23 شباط في معالجتهم للقضيتين الاجتماعية والوطنية، وحيث كان مبرر الانقلاب تصحيح المسار وفك طوق عزلة النظام البعثي الداخلية والخارجية، في وقت لم يبق فيه من البعث سوى الاسم والغطاء اللازم للحكم، ومعه ثقافة الاتجار بالقضيتين الاجتماعية والوطنية القومية. أن أكبر مفارقات التاريخ الحديث، أن البعثيين الذين كانوا من أكثر القوى السياسية التي نفخت بالقضايا الوطنية والقومية، تحت راية محاربة الإمبريالية الأمريكية، كانوا يلتقون دائماً مع الأمريكيين في دعم أغلب الانقلابات العسكرية التي حدثت في سوريا، بدءاً بانقلاب حسني الزعيم 1949، مروراً بانقلابهم الأبيض الذي دفع نحو الوحدة مع مصر 1958، وصولاً إلى انقلاب 8 آذار 1963، ولا يغير من الأمر والنتيجة إن كان هذا الالتقاء والتوافق يتم موضوعياً أو ذاتياً. وهنا أقول إن الأمريكان ومن الأيام الأولى التي حلوا به في المنطقة، كبديل عن الاستعمارين الإنكليزي والفرنسي كانوا يرون أن أفضل وسيلة زمن الحرب الباردة لقطع الطريق على النفوذ السوفييتي الشيوعي في المنطقة من جهة، وضبط الشعوب العربية وغيرها من شعوب المستعمرات التي بدأت بالنهوض في النصف الأول من القرن العشرين من جهة ثانية، هو الدفع بها نحو قبضة حكم الجنرالات، وقد كان يدرك الأمريكيون تجارب التاريخ الحديث والقديم في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، ففي دروس صراعات العالم القديم انتصرت روما على قرطاجة في حروب القرن الثالث والثاني قبل الميلاد ( 241 – 149 ) ق.م لأن الشعب الروماني وقف بجميع طبقاته كتلة واحدة أمام العدو، فقد كان نظام الحكومة الروماني يقضي بإشراك الشعب مع الأشراف، ولم تكن ثمة فوارق تحول دون اتفاق الجميع، وفي المقابل فإن الفئة الحاكمة في قرطاجة لم تكن تعامل عامة الشعب إلا بالاحتقار. الأمر الذي يعني أن أفضل مناخ ينبغي توفيره لتحقيق هزيمة العرب أمام إسرائيل هو مناخ نقص الحرية لدى شعوب الطوق المحيطة بإسرائيل، فهزائم العرب أمام إسرائيل في الحروب التي جاءت بعد حرب 1948 لم تكن ناتجة عن نقص في السلاح في سوريا ومصر بل كانت نتاج النقص في حرية الشعبين السوري والمصري. لقد كان يدرك الأمريكيون أن أفضل نموذج يحقق ذلك الضبط والنقص في الحرية هو النموذج الستاليني المعدل، نموذج شمولي يتمتع بقاعدة اجتماعية – كانت في البداية قاعدة اجتماعية طبقية ثم تدحرجت في بعض المجتمعات لتتحول إلى قاعدة اجتماعية طائفية أو قبلية - يرتكز عليها وتؤمن له حداً من الصمود والقدرة على الاستمرار، ولكن من دون الإيديولوجيا الشيوعية، نموذج رمادي إيديولوجياً، لا هو رأسمالي كلاسيكي ولا هو ستاليني شيوعي، نموذج خليط من أسوأ ما في الرأسمالية مع أسوأ ما في " الشيوعية " الستالينية، نموذج قادر على امتصاص النهوض الوطني الذي عرفته تلك المجتمعات، من خلال تحويل النهوض الوطني إلى هياج وطني شعبوي يمكن احتواؤه وتفريغ شحنته في ظل نوع كهذا من النظم، كما يمكن لهذا النوع من النظم أن يمتص الهياج الطبقي الاجتماعي الناتج عن بقاء طبقة الإقطاع، وذلك من خلال إصلاح زراعي يتم بموجبه إرضاء وامتصاص نقمة طبقة الفلاحين التي تشكل 75% من عدد السكان، وقد شكل نظام عبد الناصر في مصر النموذج الأول المعدل وراثياً عن النموذج الستاليني والمراد قيامه وتعميمه في المنطقة، وقد كان البعثيون في سوريا مع إيديولوجيتهم القومية البرجوازية الصغيرة أفضل القوى المرشحة والمرحب بها أمريكاً بأن تقوم ببناء هذا النظام، وهو ما تم تجسيده على أرض الواقع في سوريا بدءاً من 8 آذار 1963، وقبلها بروفة الوحدة مع مصر 1958، يكفي هنا أن نعلم ما صنعته البحبوحة الديمقراطية التي عاشها الشعب السوري بين عامي 1954 - 1958 وأثر تلك البحبوحة الديمقراطية على مناعة الموقف الوطني لسوريا على الصعيدين الشعبي والحكومي، حتى ندرك الدافع الأمريكي للبحث عن نموذج غير ديمقراطي بديل عن النموذج الديمقراطي في سوريا. يقول خالد العظم في مذكراته " وقد رحبت الدول الاشتراكية بالصداقة بينها وبين سورية وراحت تزيد في تأييدها في أوساط الأمم المتحدة، وتمد لها يد المعونة الاقتصادية والفنية، وتعينها على تصريف المحاصيل التي تمنعت الدول الغربية عن شرائها، جرياً على قاعدة الحصار الاقتصادي، واستمرت هذه الدول الاشتراكية، وفي مقدمتها الاتحاد السوفييتي وتشكوسلوفاكيا على توريد الأسلحة والذخائر وإرسال الخبراء في الأمور العسكرية والفنية. ثم إنها أعلنت استعدادها لدعم مخططات سورية ومشاريعها الاقتصادية والاجتماعية بالمال، يسدد على أقساط ذات آجال طويلة وبفائدة زهيدة. وجاء الخبراء الروس الإخصائيون بشتى أنواع المشاريع ودرسوا اقتراحات خبرائنا وقاموا بجولات في أنحاء البلاد. وشملت المشاريع التي أعلن السوفييت عن استعدادهم لتمويلها وتزويدها بالمعدات والخبراء في بناء السدود على الأنهر بحيث تزيد مساحة الأراضي المروية نحو ثمانية ملايين دونم من أطيب الأراضي وأخصبها. هذا بالإضافة إلى بناء السكك الحديدية الموصلة بين البحر ومطارح الإنتاج، ناهيك بالدراسة الجيولوجية لوضع خريطة مفصلة عما تحت الأرض، وبالمعامل العديدة وأهمها معمل إنتاج السماد الكيميائي، وبمحطات توليد الكهرباء وغير ذلك من المشاريع، سواء منها ما اكتملت دراسته أو ما يحتاج إلى دراسة جديدة . وطار صواب الدول الغربية من هذه المعونة المالية التي حصلت سورية عليها من الاتحاد السوفييتي، وتبين لها أن هذه البلاد لم تعد تلك البلاد الفقيرة المحتاجة إلى قرض يمنحه البنك الدولي بفوائد لا تقل عن 6 % وبشروط تعسفية لا يقبل بها إلا المكوي على نار الفقر والفاقة، وإلى خبراء إفرنسيين أو بريطانيين يحتفظون بالحقائق ويخدعوننا بالأكاذيب والدراسات والاستنتاجات الخاطئة قصداً وإيهاماً. هذا فضلاً عن أن سورية ما عادت بحاجة إلى ممالأة مصالح هذه الدولة أو تلك، حتى تشتري منها عشرين ألف طن من القمح، أو عشرة آلاف طن من القطن! والأعمق من هذا وذاك أن الدول الغربية تيقنت أنه لم يعد في سورية سياسي يجرؤ على إظهار علاقته بها أو تقديره لها أو ترجيحه التعامل معها. وبات القائلون بالصداقة والتعاون مع الدول الشرقية أسياد الموقف في مجلس النواب وفي الجيش وفي الأوساط الشعبية. وصار عملاء الاستعمار أتباعه ومحاسبيه ودعاته يلامسون الجدران إذا مشوا في الشوارع، ويركنون إلى الزوايا المظلمة إذا دعوا إلى حفلة، ويلوذون بالصمت المطبق في المجالس والنوادي ... إلا أن هذه النكسات المتتابعة التي لحقت بسياسة الدول الغربية، وخاصة فشلها في احتلال مصر وفرض سيطرتها عليها وعلى سائر الدول العربية وفي مقدمتها سورية، لم ترجعه عن غيه. فظل يحيك المؤامرة تلو المؤامرة مضحياً بمن يكشف أمره فيها من عملائه وأجرائه، مغدقاً الأموال بسخاء لشراء الضمائر وخداع البسطاء وذوي المطامع الدنيئة، لعله في النهاية يجد الفجوة التي يستطيع الولوج عبرها إلى احتلال قلعة العروبة والاستيلاء على قلبها الخفاق. لكنه، ولله الحمد، كان يصطدم في كل مرة بعقبة أو بعقبات كأداء تحول بينه وبين أهدافه "(6). ولقد كان على رأس هذه المؤامرات التي دفعت بها أمريكا إلى المنطقة العمل على تسليم سورية إلى قبضة عبد الناصر 1958، وبمساعدة البعثيين. وهنا يكفي أن نشير إلى ما قاله البعثيون أنفسهم عن الوحدة بعد عامين على قيامها، بعد أن فقدوا الأمل في أن يقتطع عبد الناصر سوريا لهم، يقول خالد العظم في مذكراته " يقول البعثيون اليوم – بعد أن استقالوا من الوزارات في مطلع 1960 – أن الولايات المتحدة، بعد أن أخفقت مؤامراتها العديدة لإبعاد الساسة التقدميين عن مركز الحكم في سورية وخاب أملها بنجاح أية مؤامرة في المستقبل، لم تر أمامها سبيلاً سوى اللجوء إلى عبد الناصر وإغرائه بزعامة الوحدة العربية. فمهدت له السبيل لدى الفئات التي تتلقى التوجيه السياسي منها وأوعزت لها بحمل العسكريين – المضحك والفضيحة في هذا القول أن البعثيين هم الوحيدون الذين أوعزوا للعسكريين – المناوئين لحزب البعث على المطالبة بالوحدة بين سورية ومصر. فكانت هذه، على زعم البعثيين، أكبر خديعة سياسية وقعت سورية في حبائلها "(7). في الواقع لم تكن الساحة السورية في تلك المرحلة تتمتع بمناعة وطنية من الناحية السياسية فحسب، بل كانت هذه المناعة قائمة على أساس من القوة في البنية الاقتصادية، يكفي هنا أن نشير إلى بعض الحقائق والأرقام الاقتصادية، حتى نثبت أن سوريا كانت منارة الشرق في تلك المرحلة، وأن بقاء هذه المنارة مشتعلة، كان يشكل خطراً على المصالح الغربية يفوق الخطر الذي شكلته تجربة محمد علي باشا في مصر في القرن التاسع عشر. ففي عام 1957 كان سعر صرف الدولار الأمريكي يساوي 3 ليرات سورية. وكان ترتيب سورية من ناحية القوة الاقتصادية المركز 35 من أصل 200 دولة في العالم، كما كان ترتيب سورية بين دول الشرق الأوسط من ناحية مستوى المعيشة في المركز الأول، كما كان ترتيب سوريا بين الدول العربية من ناحية حرية الصحافة والتعددية السياسية والديمقراطية في المركز الأول(8). إن كل ذلك دفع الأمريكان إلى الإسراع في وأد التجربة السورية في مهدها، بداية عن طريق الوحدة مع مصر 1958، ثم استكملت بانقلاب البعث 1963 ،حتى وصلت إلى آخر محطاتها مع حافظ الأسد 1970.
إن غياب البعد الديمقراطي، في وعي القوى القومية البرجوازية الصغيرة، ومعها القوى الشيوعية، في تلك المرحلة، لم يكن ناتجاً عن الانشغال بالهمين الاجتماعي والوطني فحسب، بل إن هذا الغياب كان كذلك نتيجة لانسياق هذه القوى خلف الوعي الشعبوي من جهة أولى، ونتيجة الحلول الخاطئة وغير الديمقراطية في برامج ورؤية هذه القوى لحل المسألتين الوطنية والاجتماعية من جهة ثانية. فهذه القوى كانت تبرر افتقاد وعيها لبعده الديمقراطي، من خلال القول، إن هم عامة الناس للحصول على رغيف الخبز وتحرير الأراضي المحتلة، كان متقدماً على الهم الديمقراطي، والواقع أن في هذا القول تكمن نصف الحقيقة وليست الحقيقة كلها، فإذا كان صحيحاً أن الهمين الاجتماعي والوطني كانا في المقدمة من ناحية الانشغال والأهمية الحياتية المباشرة لعامة الناس، إلا أن الاعتقاد بإمكانية الحصول على مكتسبات حقيقية للناس، إن كان في الحقل الاجتماعي، أو الحقل الوطني، في غير مناخ الديمقراطية، هو ضرب من الوهم، ودعوة لتكريس ثقافة الوهم والشعبوية، فالقانون العام في دروس وتجارب التاريخ، تشي أن أي مكسب للناس، في أي حقل من حقول الحياة، لا يمكن لعامة الناس الدفاع عنه، أو تطويره، هو حق يمكن انتزاعه من نفس الجهة التي منحته. سواء كانت هذه الجهة سلطة حزب أو دولة ، فالسلطة التي تمنح أي حق من الحقوق من الباب يمكن أن تنتزعه من الشباك في اليوم التالي إذا كان ذلك يتم في شروط غياب الديمقراطية. إن الانسياق خلف الشعبوية، وبما يعني عدم العمل على الارتقاء بثقافة المجتمع إلى فضاء الإحساس ووعي قيمة الحرية، وضرورة الحرية والديمقراطية، بوصفها نمط حياة ووجود من جهة، وبوصفها أسمى قيمة في فلسفة التاريخ من جهة ثانية، وبوصفها أفضل آلية عرفتها البشرية لتحصيل الحقوق ومراكمتها من جهة ثالثة، هي دعوة لتكريس ثقافة الوهم والزيف. لقد استخدمت القوى القومية البرجوازية الصغيرة البعثية وغيرها هياج الشارع الشعبي الوطني والاجتماعي، في أكثر من محطة سياسية، من أجل المزايدة على خصومها السياسيين، أو من أجل محاربة هؤلاء الخصوم، وقد كانت محطة الوحدة مع مصر 1958، من أكبر المحطات التي استخدم فيها البعثيون ومعهم عبد الناصر، هياج الشارع الشعبي الوطني والاجتماعي، للتغطية على الأهداف الحقيقية للوحدة، أو لنقل من أجل فرض الوحدة بشروطهم غير ديمقراطية. لقد تم تدمير البعد الديمقراطي في وعي القوى التي تنطحت لحل الأزمتين الاجتماعية والوطنية لا من خلال الانسياق خلف الهياج الشعبوي فحسب، بل من خلال رؤيتها التي لا تستدعي الديمقراطية لحل هاتين الأزمتين، فإذا كان حل الأزمة الاجتماعية من خلال استبدال إقطاع الأراضي بإقطاع الدولة الفاسدين الحثاليين فإن الأمر لا يتطلب ويستدعي الديمقراطية لتحقيق ذلك، فمثل هذا الحل يكفي لتحقيقه انقلاب عسكري يضع الدولة والمجتمع وكل ما يملكه المجتمع في يد سلطة سياسية محمية بالعسكر. وإذا كان حل القضية الوطنية وتحرير الأراضي العربية المحتلة سيتم من خلال الشعارات الوطنية الفارغة، فإن المسألة لا تحتاج إلى الديمقراطية، إذ يكفي لتحقيق ذلك وجود مكنة إعلامية تقدم الوعود والأكاذيب ليل نهار حتى يتم ذلك، فقد استطاعت سلطة 23 شباط 1966 البعثية التي ربما كان انقلابها الوحيد الذي جاء من خارج الإرادة أو لنقل الرغبة الأمريكية، وهي السلطة التي ادعت أنها من أكثر نظم البعث وطنية، حتى أنها سبقت عبد الناصر في سوق المزايدات الوطنية، أٌقول أنها لم تكن بحاجة إلى الديمقراطية كي تزج فقط على الورق، وفي الإعلام، بآلاف العمال والفلاحين في معركة 5 حزيران 1967، مع اسرائيل، كما أن هذه السلطة لم تكن بحاجة إلى الديمقراطية، كون وزير الدفاع في هذه السلطة كان بإمكانه في هذه الحرب أن يسلم الجولان إلى إسرائيل من دون أن تحاسب الحكومة أمام البرلمان، كون الحكومة قائمة أساساً من دون وجود برلمان منتخب من الشعب. كما أن هذه السلطة كان بإمكانها الهروب اثناء المعركة من عاصمتها إلى حمص من دون خوف من محاسبة من أحد، كونها جاءت بالأساس إلى سدة السلطة من دون انتخابات. كما أن هذه السلطة لم تكن بحاجة إلى الديمقراطية من أجل تحرير الأرض، فقد كان بإمكانها عسكرة المجتمع، وحيث أنها اتهمت مسبقاً كل من يتخلف عن لبس الخاكي العسكري، بأنه خائن للوطن، وغير نافع في المعركة. كما أنها لم تكن بحاجة إلى الديمقراطية كونها قررت تحرير الأرض المحتلة بعد أن أقصت عن الحكم كل رفاق الأمس من مدنيين وعسكريين، إلى حد أن قاعدتها الاجتماعية والسياسية والحزبية والعسكرية كانت بحجم لا يمكنه تحرير قن من الدجاج وقع بين مخالب ثعلب. 

على هذا الأساس يمكن أن نقول أن المسألة الديمقراطية بالكاد كان لها وجود في برامج وشعارات وفعل الأحزاب التي كانت تدعي تمثيلها للطبقات الفقيرة. وإذا كانت المسألة الديمقراطية قد وجدت من مكان لها في بعض المراحل, فقد كان يتم طرحها والمطالبة بها بوصفها وسيلة وليس كهدف, وسيلة من أجل إنجاز بعض المكاسب الاجتماعية أو الوطنية أو بعض المكاسب السياسية أو الطبقية الآنية, فهذه الأحزاب لم ترفع شعار الديمقراطية كون الديمقراطية هدفاً ينبغي النضال من أجل إنجازه وبالتالي ترسيخ مبادئ وقواعد الديمقراطية داخل كهدف من الأهداف الآنية والاستراتيجية المستقبلية, فالأحزاب الشيوعية والقومية البرجوازية الصغيرة الواقعة جميعها تحت سطوة التجربة والنموذج الستاليني أو تحت سطوة وضلال الإيديولوجيا القومية البرجوازية الصغيرة كانت تعتبر المسألة الديمقراطية والتعددية السياسية هي صفة ملازمة للبرجوازية والدولة البرجوازية والمجتمع البرجوازي بشكل عام. إن شعار ومهمة بناء النظام الوطني الديمقراطي الذي سيستكمل مهام الثورة الوطنية الديمقراطية التي عجزت عن تحقيقها البرجوازية التقليدية والذي رفعته فصائل حركة التحرر الوطني العربية, وبالرغم ما في هذا الشعار من بريق واختيار جيد ومتقن للكلمات – الوطني – الديمقراطي - فإن هذا الشعار ينتمي إلى قاموس الشعارات البراقة التي عهدتها البشرية مع الأنظمة الفاشية والنازية والستالينية التي تمجد الوطن والوطنية في الوقت الذي تدوس فيه على أقدس أقداس الوطن, وتمجد الحرية والشعب في الوقت الذي تدوس فيه على رقاب كل أبناء الشعب, أنه شعار مركب من مزيج من التضليل الإيديولوجي والنفاق والمزايدة السياسية والأخلاقية على البرجوازية التقليدية ودولتها التعددية الديمقراطية. فإذا كان المقصود بالنظام الوطني الديمقراطي هو النظام الاجتماعي المراد بناؤه وإقامته فإن الأنظمة الاجتماعية لا تقاس بالمقاييس السياسية بل تقاس الأنظمة الاجتماعية بالمقاييس التاريخية, فنقول عن نظام اجتماعي أنه نظام عبودي أو إقطاعي أو برجوازي أو اشتراكي. وإذا كان المقصود بالنظام الوطني الديمقراطي هو النظام السياسي، فإن القول بأن نظاماً ما أنه وطني، فهذا يعني أن كل معارضي هذا النظام هم لا وطنيون، أي أنه يحمل في طياته تخوين للآخرين الذين لا ينتمون لهذا النظام، أي أن الوطنية هنا هي حكر على جهة دون غيرها داخل المجتمع، وهذا يعني شق المجتمع إلى وطنيين وغير وطنيين. ثم إن وطنية أي نظام سياسي لا يأتي توصيفها (أي منح هذه الصفة) من النظام السياسي ذاته, أي لا يكفي أن يقول نظام سياسي ما عن نفسه بأنه نظام وطني فيصبح بشكل تلقائي نظاماً وطنياً، فهذا فيه تضليل إيديولوجي، لأن وطنية أي نظام سياسي لا تأتي من ذاته بل تأتي الوطنية من خلال الشرعية السياسية التي يكتسبها النظام السياسي, وحيث أن الشرعية السياسية لأي نظام سياسي لا تأتي إلا من خلال الانتخابات العامة، أي من خلال كون هذا النظام هو نظام منتخب ونال الشرعية من غالبية أبناء المجتمع. فالوطنية ليست ادعاء أو مجموعة شعارات يرفعها نظام سياسي حتى يصبح وطنياً، أو حتى يحق له ارتداء ثوب الوطنية, فالوطنية هي احترام الإرادة الشعبية والقبول بالاحتكام لهذه الإرادة، أي أن تكون شرعية الوجود السياسي والفعل السياسي مأخوذة من الجماهير ومن خلال الانتخابات الحرة النزيهة، وكقاعدة عامة يمكن القول بأن كل نظام سياسي منتخب ونال الشرعية من خلال كونه منتخباً من غالبية أبناء المجتمع، يمكن أن نقول عنه أنه نظام وطني مهما كان الاتجاه الإيديولوجي والسياسي لغالبية أبناء المجتمع, واحترام الإرادة الشعبية هنا لا يقصد بها احترام إرادة الذين يقفون في صف النظام فحسب، بل حتى احترام إرادة الخصوم، أي أن النظام الوطني هو النظام الذي يحافظ على حقوق خصومه السياسيين ويتعامل مع أي معارضة حزبية كانت أم جماهيرية بوصفها معارضة خصوم لا معارضة أعداء، وما عدا ذلك لا يمكن أن يوصف بالوطنية أي نظام سياسي، إذ تبقى وطنية أي نظام سياسي معلقة ومؤجلة حتى يصبح نظاماً منتخباً بشكل ديمقراطي وفي إطار تعددي, أي أن كل نظام منتخب هو نظام شرعي، وبالضرورة فهو نظام وطني، إذ لا وطنية خارج وطنية الشعب (بالمعنى المادي التاريخي لمفهوم الشعب)، وبهذا المعنى يمكن أن نقول بأن كل نظام غير منتخب هو نظام تبقى وطنيته معلقة حتى يثبت شرعيته من خلال الانتخابات الحرة. وهنا من المهم الإشارة إلى أن الشرعيات الثورية التي تمتلكها الأنظمة التي تفرزها الثورات هي شرعيات مؤقتة ولا تصبح شرعية حقيقية إذا لم تتوج بالشرعية المنتخبة، أي تبقى الشرعية هنا معلقة وقلقة حتى ينال النظام السياسي الجديد شرعيته من خلال الانتخابات الحرة الديمقراطية. فإذا ما نال النظام الشرعية عبر الانتخابات يكون نظاماً ثورياً أي نظام أتى بثورة، وإذا لم ينل هذه الشرعية عبر الانتخابات يكون نظاماً انقلابياً، بل ومغتصباً للسلطة، إذا أصر على البقاء في السلطة السياسية. فعبر الانتخابات تنال الأنظمة السياسية شرعيتها أو تجدد شرعيتها أو تؤكد شرعيتها الثورية أو تثبتها. إن القول أن هدف حركة ما أو حزب سياسي ما هو بناء نظام برجوازي تعددي ديمقراطي أو نظام اشتراكي تعددي ديمقراطي أو أن يضاف إلى ذلك مهام ذات طابع وطني وديمقراطي فهذا مفهوم, ففي كلا الحالتين هناك دلالة على نوع وشكل النظام الاجتماعي المراد بناؤه. أما أن يكون الهدف هو بناء نظام وطني ديمقراطي، فهذا غير مفهوم، وغير موجود، إلا في القاموس السياسي الستاليني أو الهتلري أو الفاشي, فهنا إخفاء متعمد لنوع النظام الاجتماعي من جهة، و تعمد من جهة ثانية في ارتداء ثوب الوطنية (بدل تحديد نوع النظام الاجتماعي)، وذلك لإيجاد مبرر للتخلص من الخصوم أو مبرر لتصفية الخصوم بحجة أنهم غير وطنيين, أي مبرر للتعامل مع الخصوم كما يتم التعامل مع الأعداء الخارجيين. وإذا ما أخذنا الشق الثاني من شعار إقامة النظام الوطني الديمقراطي الذي رفعته فصائل حركة التحرر الوطني العربية, أي إذا أخذنا كلمة الديمقراطية الموجودة في هذا الشعار فإننا سنجد بأن المقصود بها هو الديمقراطية الشعبية التي طالما تغنت بها أنظمة الاستبداد الستالينية في أوروبا الشرقية, والتي كانت تشكل بالنسبة لفصائل حركة التحرر الوطني العربية النموذج الذي يجب الاحتذاء به. فهذه الديمقراطيات الشعبية لم تكن في الواقع العملي سوى استبدال للديكتاتورية البرجوازية، بديكتاتورية من اعتبروا أنفسهم ممثلي العمال والفلاحين والطبقات الفقيرة, أي لم تكن في الواقع سوى إقامة الدولة الاستبدادية الشمولية، ولكن باسم الطبقات الشعبية, أي لم يكن فيها من الديمقراطية سوى إعطاء الحرية المطلقة لممثلي الطبقات الشعبية ممن وصلوا إلى السلطة في إقامة الدولة الاستبدادية وممارسة العبودية بحق كل شرائح وطبقات المجتمع وباسم المجتمع وطبقاته الفقيرة. فالديكتاتورية عند هؤلاء مرفوضة ما دامت تتم باسم البرجوازية، وهي مقبولة لأنها تتم باسم العمال والفلاحين والفقراء, والديكتاتورية هنا لا تتم وتمارس ضد البرجوازية فحسب، بل حتى ضد العمال والفلاحين والفقراء, أي ضد كل طبقات المجتمع إن اقتضى الأمر. إن الديمقراطية التي تحدثت عنها فصائل حركة التحرر الوطني العربية والعالمية والمقتبسة كما قلنا من الديمقراطيات الشعبية في أوروبا الشرقية كانت من أكبر سخريات القرن العشرين, وأكبر امتهان واحتقار للديمقراطية في التاريخ. فهذه الديمقراطيات الشعبية لا يمكن مقارنتها حتى بالديمقراطيات العبودية التي عرفتها البشرية في العصور القديمة عند الإغريق أو الرومان. فحتى الملك أو القيصر في روما زمن العبودية " لم يكن مطلق التصرف بل كان مقيداً بهيئتين إحداهما مجلس الشيوخ وهو مكون من رؤساء الأسر الذين يبقون أعضاء في المجلس طوال حياتهم ولا يستطيع الملك أن يقطع أمرأ دون موافقتها وكل مل يقرره الملك والشيوخ يعرض على جمعية العشائر التي هي الشعب الأصلي في روما، وإذا مات الملك انتخب رؤساء الأسر ملكاً جديداً ثم تقرر هذه الجمعية هذا الانتخاب "(9). فهناك على الأقل كانت ديمقراطية طبقة الأحرار(الشعب) مكفولة وقائمة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ولم تكن الديمقراطية شعاراً ولافتة وقناعاً كما كان الحال لدى أنظمة الاستبداد في أوروبا الشرقية، أو كما هو حال أنظمة حركة التحرر الوطني العربية. فكل فصائل حركة التحرر الوطني العربية التي تنطحت لحمل راية النهضة (الجيل الثاني) كانت تعاني من انفصام وازدواجية سياسية وإيديولوجية وأخلاقية تجاه المسألة الديمقراطية. فهذه الفصائل من شيوعية وقومية ونصف شيوعية ونصف قومية رفعت شعار الديمقراطية وطالبت بالديمقراطية ما دامت هي خارج السلطة, بل يمكن أن نقول أنها أقامت الدنيا ولم تقعدها وألفت المجلدات والكتب وملأت المكتبات بالكلام والحديث عن ضرورة تحرير الإنسان والبشرية من كل أشكال الاستعباد والرأسمالية والإمبريالية, وضرورة نقل البشرية إلى ملكوت الحرية, ولكن الذي حدث في الواقع هو أنه ما إن كان يصل أي من فصائل حركة التحرر الوطني إلى السلطة ويصبح صاحب سلطة و دولة حتى يبدأ باحتكار السلطة, وممارسة الاستبداد ليس بحق خصومه التاريخيين فحسب، وإنما ممارسة الاستبداد بحق حلفاء الأمس، ورفاق الطريق، وكل فرد من أفراد المجتمع دون استثناء, حتى يمكن أن نقول أنها مارست على مجتمعاتها في ظل حكمها ودولتها مستوى من القمع لم تعرفه وتعيشه الشعوب العربية حتى في ظل السيطرة الاستعمارية الأجنبية حتى في شكلها الصهيوني. إن تاريخ فصائل حركة التحرر الوطني العربية مليئة بالدلائل التي تشير وتؤكد عدم إيمان هذه الفصائل بالديمقراطية كهدف، وكنمط حياة، وكنمط من وجود الدولة والسلطة، وكنمط من علاقة الدولة بالمجتمع، وكنمط من الوجود والممارسة السياسية، إن كان من موقع المعارضة أو موقع الموالاة. ومن الدلائل الفارقة على عدم اهتمام واكتراث فصائل حركة التحرر الوطني العربية بالمسألة الديمقراطية كان تحالف هذه القوى ودخولها في جبهات " وطنية تقدمية " مع أنظمة عسكرية، فقد شكلت القوى التي دخلت في جبهات " وطنية تقدمية " العباءة والغطاء الذي ارتدته نظم الاستبداد المعمم في سوريا والعراق، كغطاء وقناع " للتقدمية والوطنية "، وشكلت هذه القوى البغال التي جرت عربة الاستبداد إلى كل المحطات التي مرت بها الدولة الاستبدادية، كما شكلت المكنة الإيديولوجية لتبرير كل جرائم وأفعال الأنظمة الاستبدادية. هكذا نشأت حركة التحرر الوطني العربية، وحملت راية النهضة دون أن تمتلك في فكرها وثقافتها وممارستها أي بعد ديمقراطي, وبهذا أفرغت النهضة من أي مضمون ومحتوى نهضوي حقيقي, وبهذا تم التأسيس لقيام دول ونظم الاستبداد المعمم في الواقع العربي في العصر الحديث, وتم إجهاض عملية النهضة من أساسها, وسنجد أن القاعدة الاجتماعية والشعبية التي اكتسبتها فصائل حركة التحرر الوطني العربية قبل أن تصل إلى السلطة، بدأت تتآكل شيئاً فشيئاً بعد أن وصلت إلى سدة السلطة، أو بعد أن شاركت في السلطة عبر جبهة وطنية تقدمية مزعومة، وبعد أن أصبح هدف القوى الحاكمة أو المشاركة في الحكم هو السلطة أو الحصول على مكتسبات السلطة، وبعد ممارستها للاستبداد من خلال السلطة والدولة الاستبدادية التي شيدتها باسم الجماهير، وبعد أن جردت المجتمع برمته من كل الأدوات والوسائل السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية اللازمة كي يدافع عن المكتسبات الاجتماعية والسياسية والوطنية التي اكتسبها في مراحل سابقة, كما حرمته من الأدوات والوسائل اللازمة لنيل المزيد من هذه المكتسبات, بعد هذا كله كان من الطبيعي أن تتحول هذه القوى إلى دكاكين سياسية تبيع الكذب والتضليل الإيديولوجي والثقافي في سوق الأنظمة الاستبدادية, وكان من الطبيعي والمنطقي أن تبتعد الجماهير عن هذه القوى وعن فكرها وثقافتها وحتى إيديولوجيتها وتتوجه باتجاه الفكر الديني والغيبي وترتمي في أحضان الإسلام السياسي بشكله الحزبي أو المؤسساتي والرسمي.

المصادر:
(1). ص 70 من كتاب الصراع على سوريا تأليف باترك سيل.
(2). للمزيد يمكن مراجعة مذكرات خالد العظم الجزء الثاني ص 179 - 180.
(3). لمزيد من المعلومات راجع كتاب باترك سيل ص 61 حول دور أكرم الحوراني بانقلاب حسني الزعيم، و ص 120 ودوره في انقلاب أديب الشيشكلي.
(4). ص 201 من كتاب مذكرات خالد العظم الجزء الثاني.
(5). ص 211 – 213 من كتاب مذكرات خالد العظم الجزء الثالث.
(6). ص 50 – 51 المصدر السابق.
(7). ص 52 المصدر السابق.
(8). المصدر العدد 49 من جريدة المسار للحزب الشيوعي – المكتب السياسي.
(9). ص 12 من كتاب تاريخ القرون الوسطى تأليف محمد رفعت.
نظام الاستبداد المعمم في سوريا مقدماته ومراحله - 12 lemonde.in 5 of 5
لومـــوند : نبيل ملحم الثاني عشر: أصول ثقافة الوهم والخداع الشعبوية. إن عمق الأزمتين الاجتماعية والوطنية، التي كان يعيشها المجتمع السوري، و...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك