نظام الاستبداد المعمم في سوريا مقدماته ومراحله - 11

لومــــوند : نبيل ملحم
حادي عشر: النموذج الستاليني وأثره في افتقاد وعي فصائل حركات التحرر الوطني للبعد الديمقراطي. وهنا أتحدث عن وعي الجيل الثاني للنهضة الذي تنطح لقيادة النضال الوطني ضد القوى الاستعمارية الغربية، أقصد بذلك تحديداً وعي ذلك الجيل الذي مثل وعبر عن مصالح الطبقات الفقيرة من العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة بكل شرائحها ومستويات وجودها, وهو الجيل الذي تصدرت أفكاره وشعاراته واجهة المشهد السياسي والفكري والثقافي في الواقع العربي طيلة فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين, وذلك بعد أن عجزت البرجوازية التقليدية العربية عن تعميم فكر الجيل الأول للنهضة والذي تأثر بقيم وشعارات الثورة الفرنسية وعصر الأنوار وقيم الحضارة الغربية بشكل عام, وهو الجيل الذي تبنى نموذج الدولة البرجوازية الديمقراطية الحديثة المستوحاة من النموذج الأوروبي، وتصدرت أفكاره وشعاراته الفترة الممتدة بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين. فالجيل الثاني للنهضة العربية هو ذلك الجيل من المفكرين والقادة السياسيين الذين تأثروا بالفكر الماركسي بشكل عام و الستاليني بشكل خاص تحت تأثير وهج وشعارات الثورة البلشفية السوفييتية من الناحية النظرية و تحت سطوة وتأثير الفكر والإيديولوجيا الستالينية من الناحية العملية, وكذلك المتأثرون من مثقفي البرجوازية الصغيرة بالفكر القومي البرجوازي نتيجة اتصالهم وانفتاحهم على الواقع الأوروبي وفكر عصر القوميات البرجوازية في أوروبا بكل اتجاهاته وألوانه. إنه الجيل الذي أطلق على حركته السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية (وحتى العسكرية في بعض الأماكن من العالم) اسم حركة التحرر الوطني في الواقع العربي والتي كانت فصيلاً من فصائل حركات التحرر الوطني التي انتشرت في بلدان المستعمرات على المستوى الكوني .
وأعتقد أنه لا يمكن أن نفهم كل أبعاد فكر وثقافة هذا الجيل وكذلك المآلات النهائية والعملية التي وصلت إليها حركة التحرر الوطني العربية ومعها كل فصائل هذه الحركة عالمياً في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية من دون فهم ووعي علاقة هذه الحركة وارتباطاتها بالنموذج الستاليني، أقصد هنا نموذج الدولة الستالينية السوفييتية التي شكل النموذج الفكري والعملي لكل حركات التحرر الوطني في بلدان المستعمرات بشكل خاص. فلا يمكن باعتقادي فهم الأسباب التي قادت إلى وصول حركة التحرر الوطني العربية بكل فصائلها وألوانها السياسية والإيديولوجية إلى الطريق المسدود وأوصلت معها شعوبها إلى نفس المصير والطريق المسدود دون فهم علاقة هذه الحركة بالنموذج الستاليني السوفييتي (من الناحية الفكرية والعملية) ولا سيما أن الستالينية شكلت ظاهرة لها طابعها وتأثيرها العالمي, ويمكنني القول أن الستالينية شكلت الحدث الأبرز والأهم الذي أثر بنتائج ومسار حركة مجمل الأحداث التي عاشتها شعوب المستعمرات السابقة طيلة القرن العشرين, وباعتقادي ستمتد آثارها إلى ما بعد القرن العشرين حيث ستبقى تلقي بظلالها على الكثير من الأحداث والظواهر السياسية والاجتماعية والفكرية التي ستعرفها البشرية لأجل غير قريب, وباعتقادي لا يمكن أن نفهم كيف عبر الاستبداد المعمم إلى واقعنا العربي في النصف الثاني من القرن العشرين وتحديداً كيف بنيت الدولة الاستبدادية الحديثة في واقعنا العربي إلا بدراسة علاقة هذا بالنموذج الستاليني في بناء الدولة والمجتمع وعلاقة الدولة بالمجتمع, فالاستبداد المعمم الذي عرفه الواقع العربي لم يهبط على واقعنا العربي من السماء، ولم يكن نتاج مؤامرة إمبريالية غربية، كما لم يكن نتاجاً طبيعياً للبيئة العربية الشرقية التاريخية (وإن كانت تربة البيئة العربية قد عرفت في القرون الوسطى وما تلاها نوعاً كهذا من الاستبداد المعمم)، كما لم يكن فقط نتاج الطبيعة الطبقية والسياسية لقيادة حركة التحرر الوطني العربية كما يحلو لبعض قوى اليسار الجديد قوله، كما لم يكن نتيجة انحراف نحو إيديولوجيا يمينية أو يسارية...الخ. كما لم يكن نتاج مؤامرة قامت بها لجنة عسكرية من لون طائفي من هنا أو هناك، كما يحلو قوله للذين لا يرون في مجتمعاتنا العربية غير الطوائف والطائفية، كما لا يرون في تاريخنا من صراع غير الصراع الطائفي. إن الاستبداد المعمم الذي عرفه المجتمع العربي في العصر الحديث كان نتاج التراكب و التشابك و التمفصل بين الشروط الموضوعية لبنى التأخر و التخلف التي أشرنا إليها سابقاً والتي شكلت البيئة الداخلية للاستبداد وبين الستالينية كفكر وكنموذج عملي عياني لبناء الدولة والسلطة والمجتمع, إنه النموذج الذي شكل البيئة الخارجية والذي اشتقت منه جميع الأنظمة التي عرفت بأنظمة حركات التحرر الوطني في العالم من الصين وكوريا الشمالية إلى كوبا وغيرها في أمريكا اللاتينية إلى مصر والعراق وسوريا واليمن وليبيا ...الخ في العالم العربي إلى ما عرفته القارة الأفريقية من هذا النموذج (موزامبيق مثالاً ساطعاً...الخ).
إن الطبيعة الطبقية والسياسية والإيديولوجية (شيوعية أو قومية أو يسارية أو يمينية) لم تعط سوى فروق كمية بين هذه الأنظمة (والحركات التحررية في الأساس) أما من حيث النوع والجوهر فنجد أنها ترتبط جميعها بخيط ورابط واحد، إنه النموذج ذاته والفصيلة ذاتها والزمرة الدموية ذاتها، إنها زمرة وفصيلة الدولة الاستبدادية الستالينية، إنها الدولة الاستبدادية الأم أو لنقل النموذج الأم لكل الدول الاستبدادية التي عرفها القرن العشرون. وهنا نسأل ما هي الستالينية وتحديداً ما هو النموذج الستاليني للدولة ؟ وكيف نشأ هذا النموذج وكيف أثر من الناحية الفكرية والعملية عل كل فصائل حركات التحرر الوطني إن كان في واقعنا العربي أو على المستوى الكوني؟؟؟ يمكن القول إن النموذج الستاليني قد نشأ وانتصر نتيجة عدد من انزياحات في مسيرة الثورة الروسية التي بدأت ثورة سوفييتية في شباط 1917، وأسقطت حكم عائلة رومانوف القيصرية، ثم تحولت إلى ثورة بلشفية " سوفييتية " في أكتوبر 1917. الانزياح الأول حدث عندما حاول لينين قائد ثورة أكتوبر البلشفية تطعيم شجرة الماركسية فإذ به يؤسس للستالينية التي ستقوم بقطع الشجرة كلها ومن جذورها أو لنقل إفساد الشجرة كلها ومن جذورها. وهذا التطعيم تمثل في إحلال " أحفاد " الثوري الروسي باكونين ( 1814 – 1876 )، الذي كانت الثورة " عنده ليست سوى هبة شعبية عامة قد تنشب في أية لحظة وفي أيما مكان لتطيح بالنظام الاجتماعي كله بقطع النظر عن درجة التطور التي بلغتها القوى المنتجة "(1)، كما كان يرى كارل ماركس. فقد أحل لينين سلطة الدولة على وسائل الإنتاج مكان سلطة المنتجين الحقيقيين (البروليتاريا) على هذه الوسائل, فنتيجة لوضع روسيا المتخلف وحيث القاعدة المادية التحتية لبناء الاشتراكية لم تكن ناضجة، وبسبب عدم نجدة البروليتاريا الأوروبية لشقيقتها الروسية ولا سيما بعد هزيمة الثورة الألمانية أواخر 1919، ومن ثم انحسار الموجة الثورية التي اجتاحت القارة الأوروبية بعد الحرب العالمية الأولى، لقد كان لينين يقول " إننا معرضون للهلاك إذا لم تندلع ثورة ألمانيا "(2). في هذا المناخ قام لينين بإجراء انزياح في المفهوم الماركسي لبناء الاشتراكية وكإجراء مؤقت ريثما تأتي نجدة البروليتاريا الأوروبية لشقيقتها الروسية، يقول لينين بهذا الصدد " كنا نعرف بكل وضوح بأن انتصار الثورة البروليتارية كان مستحيلاً دون دعم الثورة العالمية. ولقد فكرنا قبل الثورة وبعدها بأن على الثورة أن تندلع بسرعة كبيرة في البلاد الرأسمالية الأكثر تطوراً وإلا تعرضنا للهلاك "(3). وحتى تستطيع الثورة الصمود (من وجهة نظر لينين) في مواجهة المراكز والقلاع الرأسمالية أحدث انزياح أو لنقل تبديل في المفهوم الماركسي لنقل ملكية وسائل الإنتاج، فبدل تحويل ملكية وسائل الإنتاج من ملكية خاصة إلى ملكية جماعية للمنتجين الحقيقيين وبكل ما تعنيه كلمة الملكية الجماعية من معنى حسب المفهوم الماركسي، تم تحويل ملكية وسائل الإنتاج إلى ملكية للدولة. يقول لينين " فإذا استطعنا مثلاً تحقيق رأسمالية الدولة عندنا في غضون ستة أشهر كان ذلك نجاحاً كبيراً لتمكين الاشتراكية نهائياً في بلادنا بعد مضي عام واحد, ولنطورها بشكل يجعلها لا تقهر ... أفليس امتداد سلطة الدولة إلى جميع وسائل الإنتاج الرئيسية ... هي كل ما يلزم لبناء مجتمع اشتراكي كامل انطلاقاً من التعاون, والتعاون وحده "(4). لقد كان موقف كل من كارل ماركس وفريدريك أنجلز واضحاً من اشتراكية الدولة، فكلاهما " أدانا اشتراكية الدولة كما أدانها باكونين : فاشتراكية الدولة هي مرض طفولة الاشتراكية البروليتارية ( حسب أنجلز )، هذه الاشتراكية التي تغتصب المصلحة العامة من مبادرة أعضاء المجتمع لتحولها إلى موضوع للنشاط الحكومي ( حسب ماركس )"(5). وهذا الانزياح شكل الأساس الاقتصادي المادي التحتي الذي تقوم على أساسه نظم الاستبداد المعمم عبر التاريخ، وهو ذاته الأساس الذي نشأت من خلاله الثورة المضادة الستالينية في أحشاء وجوف الثورة السوفييتية البلشفية، وهو الأساس الاقتصادي الذي قامت علية دولة الاستبداد المعمم السوفييتية الستالينية, إن تحويل ملكية وسائل الإنتاج من ملكية خاصة إلى ملكية للدولة كان يعني احتلال واحتكار الدولة للمجال الاقتصادي داخل البنية الاجتماعية الناشئة وكان يعني إعادة تشكيل الطبقات الاجتماعية من جديد داخل البناء الاجتماعي, ولكن هذه المرة تشكيلها داخل أحشاء الدولة وكيانها بوصفها طبقات دولة, أي طبقة عليا للدولة في أعلى الهرم الاجتماعي والسلطة وهرم الدولة، وطبقة سفلى للدولة في أسفل الهرم الاجتماعي وهرم كيان الدولة، وما بينهما من شرائح طبقية تتوسط هاتين الطبقتين الأساسيتين, ولكن هذه المرة تولد الطبقات الاجتماعية وتوجد لا بحسب موقعها وعلاقتها بملكية وسائل الإنتاج (المباشرة) بل حسب موقعها وعلاقتها بالتراتب الهرمي داخل كيان الدولة (أجهزتها ومؤسساتها المختلفة) وكان يعني هذا أن الملكية وعلاقات الاستغلال استبطنت في أحشاء الدولة, أي أن الدولة (وطبقتها العليا) هي من أصبح يمارس العنف الاقتصادي بدل أن كان يمارسه في السابق أصحاب الثروة والملكية الخاصة, أي تم احتكار ممارسة العنف الاقتصادي ليصبح بيد جهة واحدة هي سلطة الدولة، وهذا أسس لاحتكار ممارسة العنف السياسي من قبل الدولة والسلطة, ولا يغير من الأمر شيئاً أن توزع الدولة العنف بنوعيه الاقتصادي والسياسي بشكل " عادل " ومتساو بين أفراد المجتمع. فالعنف هو العنف والاضطهاد هو الاضطهاد إن كان يوزع بشكل شامل أو جزئي, بشكل يطال كل فئات المجتمع وطبقاته أو بشكل حصري حيث يتركز في طبقة اجتماعية دون غيرها. إن إجراءات التأميم التي تم بموجبها تحويل ملكية وسائل الإنتاج من ملكية خاصة إلى ملكية للدولة كان يعني تأميم القوى المنتجة للمجتمع بشقيها أدوات الإنتاج والقوى البشرية العاملة والداخلة في عملية الإنتاج المادي أي كان يعني تأميم البشر أو المجتمع، و تحويل المجتمع إلى مجتمع مملوك للدولة، حيث يصبح المجتمع جزءاً من ملكية الدولة وهذا يعني تحويل المجتمع إلى مجتمع عبيد يعملون لدى أسيادهم من الطبقة العليا للدولة. وإذا كان لينين قد حاول بإعطاء الدولة هذا الدور الاقتصادي ولو بشكل انتقالي ومؤقت إنقاذ الثورة من الهلاك على يد قوى الثورة المضادة البرجوازية المدعومة من قوى الرأسمالية العالمية كما كان يقول، فإنه بهذا الإجراء وبهذه الوظيفة الاقتصادية للدولة يكون قد أسس لهلاك الثورة من الداخل وعلى يد أبنائها أنفسهم, أي أن هذا أسس لأن يكون هلاك الثورة سيكون على يد الطبقة العليا للدولة، وهي الطبقة التي ترعرعت واشتد عودها داخل كيان الدولة التي أصبحت دولة مالكة للثروة وبالتالي دولة مملوءة بالامتيازات والمصالح وبالتالي مولدة للتفارق الطبقي وللطبقات الاجتماعية. وهنا يكون لينين ودون أن يدري أعطى دماء جديدة لاستمرار وجود الدولة وتضخم دورها, وبدل أن تسير الدولة في طريق الاضمحلال والتلاشي ( حسب المخطط الماركسي من الناحية النظرية ) سارت في طريق التغول والشمولية وتحولت لا إلى أداة قمع وقهر كأي دولة طبقية فحسب بل إلى أداة لتوليد مجتمع طبقي جديد وأداة للحفاظ على المجتمع الطبقي المستبطن في جوف الدولة. وإذا حاول لينين استدراك هذا الانزياح والتخفيف من آثار امتداد سلطة الدولة على كامل وسائل الإنتاج بالقول إن قيادة الدولة هذه يجب أن تكون بقيادة البروليتاريا وبالتحالف مع الفلاحين, حيث يقول لينين في هذا الصدد " أفليس امتداد سلطة الدولة إلى جميع وسائل الإنتاج الرئيسية, ووجود هذه السلطة بيد البروليتاريا, وتحالف هذه البروليتاريا مع ملايين الفلاحين الصغار والصغار جداً, وقيادة البروليتاريا لهؤلاء الفلاحين, الخ...هي كل ما يلزم لبناء مجتمع اشتراكي كامل انطلاقاً من التعاون, والتعاون وحده"(6). إلا أن هذا القول ظل قولاً نظرياً , إذ تم في الواقع العملي استبدال قيادة الطبقة العاملة (البروليتاريا) للدولة وتحديداً استبدال قيادة مجالس السوفييت للثورة وللدولة بقيادة الحزب البلشفي للثورة وللدولة, وهنا تم انزياح لا يقل خطورة عن الانزياح الأول، انزياح تمثل بإحلال قيادة الحزب البلشفي للثورة والدولة محل قيادة مجالس السوفييت(7). أي تمت عملية بلشفة الثورة والدولة وبما يعني عدم الاعتراف بقيادة الطبقة العاملة (البروليتاريا) للثورة والدولة والمجتمع، ففي النقاش الذي دار في صفوف البلاشفة عشية انتفاضة أكتوبر، وتحديداً النقاش بين لينين وتروتسكي حول الجهة والأداة التي ينبغي عليها قيادة الانتفاضة والثورة، فقد أصر لينين على أن يقود الحزب البلشفي الانتفاضة والثورة، في حين كان يرى تروتسكي أن تكون هذه القيادة لمجالس السوفييت المنتخبة – والتي أصبحت منتخبة صورياً بعد أكتوبر - وذلك تجسيدا للشعار الذي رفعه لينين في بداية الثورة والقائل كل السلطة للسوفيتات من جهة، وكذلك كي يعطي للثورة وعملية التغيير نوعاً من الشرعية الدستورية وكي لا تكون عملية التغيير خروجاً عن التقاليد الديمقراطية الأوروبية. ومع رجحان الكفة لصالح وجهة نظر لينين وقيادة الحزب البلشفي للثورة تم قطع الطريق على مجالس السوفييت (مجالس العمال والفلاحين والجنود ...الخ) وكل فئات المجتمع على أن تقود الثورة والدولة, وبهذا أحل واستبدل لينين جهة وطرف سياسي واحد مكان مجالس السوفييت التي كانت قبل أكتوبر تمثل كل تنوع الوجود الطبقي والسياسي للطبقة العاملة وحلفائها, أي تم استبدال الواحد مكان المتعدد. وهنا تم التأسيس للانزياح الثالث في مسار الثورة السوفييتية والذي تمثل بعدم الاعتراف بالتعددية السياسية وعدم احترام الإرادة الشعبية حيث تم إلغاء وحل أول جمعية تأسيسية منتخبة بشكل ديمقراطي بعد انتصار الثورة " ذلك أنه بناء على مطالبة الأحزاب السياسية السوفييتية بإنشاء جمعية تأسيسية بالانتخابات وافق لينين ثم جرت الانتخابات ولم يحصل الحزب البلشفي على الأغلبية ...فقد جاء ترتيبه الثاني وحصل على حوالي 9 ملايين صوت وحصل على الأغلبية الحزب الاشتراكي الثوري الذي كان يؤيده الفلاحون وسمح لينين للجمعية أن تجتمع لمدة يوم واحد ثم أصدر قراراً بحلها على أساس أنها تهديد مضاد للثورة وموجهاً ضد السوفيتات وصدر مرسوم الحل في 9 يناير 1918وحين نقرأ المرسوم نجد تبريراً يقوم على أن الجمعية وقعت في براثن القوى السياسية الرجعية غير أن السؤال يبقى قائماً : لماذا إذاً وافق الحزب البلشفي على الانتخابات وحين جاءت في غير صالحه ألغى الجمعية التأسيسية برمتها ؟! وتأتي بعد ذلك مسالة تكوين الحكومة وهل تكون ممثلة لحزب واحد أو ائتلافية ؟...انتهت التجربة بعد الوزارة الائتلافية الأولى بانفراد الحزب البلشفي بالحكم وحل كافة الأحزاب الأخرى وهكذا نشأ حكم الحزب الواحد الذي هيمن على الحياة السياسية في الاتحاد السوفييتي"(8). والأمر لم يتوقف عند عدم الاعتراف بالتعددية السياسية والحزبية بل وصل إلى حد عدم الاعتراف بالتعددية الفكرية وحرية الصحافة " فحين سيطرت جماعة البلشفيك على السلطة بادرت بإصدار مجموعة من القوانين الأساسية أولها خاص بمصادرة الملكية الخاصة للأرض (وهذا ما يمكن فهمه) وثانيها – وهذا ما يلفت النظر بشدة- خاص بإلغاء الصحف المعادية . صدر هذا المرسوم في 27 أكتوبر 1917 موقعاً عليه من لينين رئيس مجلس قوميساري الشعب وإذا راجعنا نص هذا المرسوم نجد تبرير القرار كما يلي " في اللحظة الخطيرة والحاسمة للثورة وفي الأيام التي تلتها مباشرة فإن اللجنة العسكرية الثورية اضطرت لتبني مجموعة كاملة من التدابير ضد الصحافة المضادة للثورة من كل الاتجاهات فقد تصاعدت الصيحات من كل الجوانب بأن السلطة الاشتراكية الجديدة تخرق المبادئ الأساسية لبرنامجها وذلك ضد حرية الصحافة وتود حكومة العمال والجنود أن تلفت نظر السكان إلى الحقيقة التي مؤداها أنه في بلادنا وخلف هذا الستار الليبرالي تكمن مختفية حرية الطبقة الأغنى لكي تحصل على نصيب الأسد من الصحف الموجودة وهي بذلك تتمكن من تسميم العقول وإحداث الاضطراب في وعي الجماهير....ولا نريد أن نسترسل في الاقتباس يكفينا الإشارة إلى أن هذا المرسوم وعد بالعودة إلى حرية الصحافة فور انتهاء السلطة الجديدة من تثبيت أقدامها وهكذا احتاج الأمر إلى أكثر من سبعين عاماً ! إلى أن أتيح لوسائل الإعلام السوفييتية قدر من الحرية بفضل شرارة البيروسترويكا التي أطلقها غورباتشوف!! "(9). لقد أدركت روزا لوكسمبورغ وقبل غيرها من قادة الحركة الشيوعية العالمية وبطريقة عبقرية دور وأهمية النموذج الذي شرع في بنائه قادة الثورة البلشفية، كما أدركت أهمية نقد هذا النموذج وضرورة تصحيح المسار الذي بدأ في بنائه قادة الدولة الفتية درءاً من الكارثة أو لنقل لتجنب بناء نموذج كارثي. وقد عبرت عن ذلك في مقالها الشهير حول الثورة الروسية عام 1918، أي بعد عام من قيام الثورة وهو نص لم ينشر في روسيا إلا بعد عام 1990 ولم يعرفه القارئ العربي كما أعتقد إلا بعد ترجمته عام 2016، حيث تقول في هذا المقال: " لا يوجد شك أيضاً في أن العقلين الحصيفين في قيادة الثورة الروسية، أي لينين وتروتسكي، يقرران اتخاذ بعض الخطوات في طريق مليء بالأشواك ومحاط بكل الفخاخ على أنواعها وهما يشعران بشك كبير ورفض داخلي عنيف، وأنه ليس ثمة شيء أبعد بالنسبة لهما من أن تنظر البروليتاريا العالمية إلى ما فعلاه وما تركاه في ظل الظروف القاهرة وخضم الأحداث المتفاعلة كنموذج سام للسياسة الاشتراكية لا يحظى إلا بالإعجاب الخالي من النقد والتقليد الحماسي. وسيكون من الخطأ أيضاً الخشية من أن نظرة نقدية للطرق التي سلكتها الثورة الروسية حتى الآن يعد تقويضاً خطيراً لهيبة البروليتاريا الروسية ومثالها المبهر الذي استطاع وحده التغلب على الخمول القاتل للجماهير الألمانية "(10). لقد ماتت روزا لوكسمبورغ بعد عام من كتابة هذا المقال دون أن تعلم إن كان النموذج الذي وجهت له نقداً لاذعاً كما سنجد في السطور القادمة، قد تم بناؤه كما أوصت وحلمت أم تم بناء نموذج فيه من الفظائع الشنيعة أشد مما شاهدته وعرفته في النموذج الذي شرع في بنائه المؤسسين الأوائل لينين ومعه تروتسكي. فما الذي قالته في هذا المقال ؟؟؟ ففي سياق نقدها لمقولة كل من تروتسكي ولينين القائلة أن للمؤسسات الديمقراطية التقليدية – البرلمانية - آلية ثقيلة لا يمكن الركون إليها، تقول روزا لوكسمبورغ - وسأحاول هنا نقل أغلب ما قالته لا لخدمة عنوان هذا البحث فحسب بل كون ما قالته يحمل قيمة سيسيولوجية وسياسية عامة وعالية، تقول : " الثورة بالذات هي التي تخلق عبر حرارتها المتوهجة هذا الهواء السياسي الخفيف المتذبذب المنفتح للتلقي الذي تؤثر فيه موجات الأجواء الشعبية ونبض الحياة الشعبية لحظياً وعلى أروع نحو على المؤسسات النيابية. وإلى ذلك تستند كل المشاهد المؤثرة من المرحلة الأولى لكل الثورات، حيث تتحول برلمانات قديمة رجعية أو معتدلة إلى أبعد حد انتخبت في ظل النظام القديم بقانون انتخابي مقيد للحريات فجأة إلى قيادة بطولية للثورة، ويتحول نوابها إلى ثوارها المندفعين. ويقدم لنا البرلمان الانجليزي الطويل الشهير النموذج الكلاسيكي، فقد انتخب عام 1642 وانعقد وبقي لسبع سنوات وشهد في داخله كل تغييرات المزاج الشعبي والنضج السياسي والتصدع الطبقي واستمرار الثورة حتى ذروتها، من المناوشات الأولية الخانعة مع التاج في ظل رئيس برلمان جاث على ركبتيه وحتى إلغاء مجلس العموم وإعدام تشارلز وإعلان الجمهورية. ألم يحدث هذا التحول الرائع ذاته في مجلس الأعيان الفرنسي وفي برلمان لوي فيليب الرقابي، أجل والنموذج الأخير والأكثر إدهاشاً قريب جداً من تروتسكي تكرر في الدوما الروسية الرابعة التي انتخبت في عام الخلاص 1912 في ظل الحكم الأكثر جموداً للثورة المضادة، واستشعرت فجأة في فبراير/ شباط عام 1917 الرغبة الجموحة للثورة وصارت مركز انطلاق لها ؟ . هذا كله يبين أن الآلية الثقيلة للمؤسسات الديمقراطية لديها قدرة عالية على التصحيح، بالطبع في ظل الحركة الحيوية للجماهير وفي ظل ضغطها المستمر بلا توقف. وكلما كانت المؤسسة ديمقراطية، كان نبض الحياة السياسية للجماهير أكثر حيوية وقوة، وكان التأثير أكثر مباشرة ودقة رغم اللافتات الحزبية الجامدة والقوائم الانتخابية المتقادمة ...الخ. من المؤكد أن لكل مؤسسة ديمقراطية حدودها وعيوبها، وهو الأمر الذي تتقاسمه مع كل المؤسسات الإنسانية. لكن العلاج الذي وجده كل من تروتسكي ولينين، ألا وهو إلغاء الديمقراطية، هو أسوأ كثيراً من الضرر الذي يفترض أن يتحكم فيه: فهو تحديداً يبدد المصدر الحيوي ذاته الذي يمكن من خلاله وحده تصحيح كل أوجه القصور الموروثة في المؤسسات الاجتماعية: الحياة السياسية النشطة والحيوية وغير المكبلة للجماهير العريضة. "(11). " لكن المسألة لم تنته عند الجمعية التأسيسية وحق الانتخاب، إذ ينضاف إلى ذلك أيضاً إلغاء الضمانات الديمقراطية لحياة عامة سليمة والنشاط السياسي للجماهير العاملة، أي حرية الصحافة وحق التجمع وتكوين الاتحادات، وهي الحقوق التي جرد منها معارضو الحكومة السوفييتية. لا تكفي أبداً حجج تروتسكي المذكورة أعلاه حول ثقل المؤسسات الديمقراطية المنتخبة بأي حال لتبرير مثل هذه الإجراءات. في المقابل فإن ثمة حقيقة واضحة ولا جدال فيها وهي أنه لا يمكن إطلاقاً تصور سيادة الجماهير العريضة بدون صحافة حرة غير مكبلة وحياة للتجمعات والاتحادات بدون أية عوائق "(12). ثم تقول روزا لوكسمبورغ جملتها الفاصلة " الحرية فقط لأنصار الحكومة- فقط لأعضاء حزب واحد مهما كثر عددهم – ليست حرية. الحرية هي دائماً حرية المختلفين فكرياً. ليس من أجل تشدد " العدالة "، ولكن لأن كل ما يضخ الحياة وما هو شاف ومطهر للحرية السياسية، يرتبط بهذا الجوهر ويفشل تأثيره، لو أصبحت " الحرية " امتيازاً "(13). وفي ظل هذه الإجراءات القمعية التي اتخذها البلاشفة، وفي شروط تضييقهم على الحريات العامة تكشف روزا لوكسمبورغ إلى ما سوف تؤل إليه الأمور في النهاية بما يشبه النبوءة، فتقول : " لقد وضع لينين وتروتسكي السوفيتات بوصفها التمثيل الوحيد للجماهير العاملة عوضاً عن المؤسسات النيابية المنبثقة عن انتخابات شعبية عامة. لكن قمع الحياة السياسية في كل أرجاء البلاد سيؤدي لا محالة إلى شلل الحياة في السوفيتات أيضاً وباضطراد. بدون الانتخابات العامة وحرية الصحافة والتجمع وصراع الآراء الحر، ستحتضر الحياة في كل مؤسسة عامة وستصبح حياة صورية تبقى فيها البيروقراطية وحدها كعنصر نشط. تغفو الحياة العامة تدريجياً ويكون بضعة عشرات من قادة الحزب لديهم طاقة لا تنفد ومثالية لا حدود لها هم أصحاب الأمر والنهي وتحت إمرتهم يدير الأمور في الواقع عشرات من العقول الرائعة، ومن حين لآخر تحشد نخبة من العمال لاجتماعات من أجل التصفيق لخطب القادة وللتصويت بالإجماع على القرارات المقدمة لهم، وهو ما يعني في الواقع علاقة المحسوبية – إنها ديكتاتورية على أي حال، لكنها ليست ديكتاتورية البروليتاريا، وإنما ديكتاتورية حفنة من السياسيين، أي دكتاتورية حسب المفهوم البرجوازي المحض، وفقاً لمفهوم حكم اليعاقبة... وكذلك أيضاً لا بد أن تؤدي هذه الأوضاع إلى توحش الحياة السياسية : عمليات اغتيال وقتل رهائن، الخ. إنه قانون موضوعي قاهر لا يمكن لأي حزب أن يتملص منه "(14).
كل ذلك مهد الطريق أمام ستالين لأن يستبدل فيما بعد سلطة اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب ليحلا مكان الحزب البلشفي، ويحل فيما بعد سلطة الأمين العام للحزب مكان سلطة اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب، وليصبح فيما بعد الأمين العام القائد الأوحد للحزب و للثورة والدولة والمجتمع. إن سياسة استفراد حزب سياسي واحد بالسلطة وبقيادة الدولة والمجتمع واستبعاد بقية القوى السياسية عن المشاركة والمساهمة (بل منعها من الوجود في الحياة السياسية) قاد في مرحلة لاحقة إلى سياسة استفراد تيار واحد داخل الحزب البلشفي الحاكم وعزل وتصفية التيارات الأخرى، وقد وصل الأمر إلى حد التصفية الجسدية والمعنوية لرفاق الأمس من خلال إلصاق تهم الخيانة وما شابه من التهم المخزية بهم وبتاريخهم وبفكرهم, وقد كان ستالين أول من افتتح هذا النهج في الاستفراد بمصير الحزب البلشفي بعد أن قام بتصفية رفاق الدرب والكوكبة الأولى من القادة البلاشفة الذين قادوا الثورة السوفييتية والحزب البلشفي، وقد سار على هذا الطريق كل الستالينيين الذين جاؤوا من بعده إن كان داخل الدولة الستالينية أو خارجها من الستالينيين الشيوعيين أو القوميين أو أنصاف الشيوعيين أو أنصاف القوميين ...الخ إنها التصفيات التي تمت بحجة أن مصلحة الثورة تقتضي تصفية كل المعارضين بدءاً برفاق الدرب وصولاً إلى ارتكاب المجازر والجرائم بحق أبناء المجتمع إن لزم الأمر. ففي سيرورة إحلال الطبقة مكان المجتمع، ومن ثم إحلال الحزب مكان الطبقة، وبعدها إحلال قيادة الحزب مكان الحزب وصولاً إلى إحلال الأمين العام للحزب مكان المجتمع برمته يكتمل تشكل النموذج الستاليني ويأخذ شكله النهائي النموذجي، وفي مسيرة وسيرورة الإحلال هذه المتوافقة مع صيرورة إعادة تشكيل وولادة الطبقات الاجتماعية في أحشاء الدولة تبدأ الدولة والسلطة وفق هذا النموذج بممارسة الإرهاب ضد كل من يقف في مواجهة هذه السيرورة، وحيث يكون أهم وأبرز ضحايا اكتمال هذا النموذج هم المؤسسون الأوائل لهذا النموذج، أقصد بذلك القيادات السياسية والإيديولوجية والفكرية التي وضعت دون أن تدري حجر الأساس لانطلاق تشكل هذا النموذج، فالأفكار الخاطئة عندما تتحول إلى واقع تستقل في منطق حركتها عن نوايا أصحابها إلى الحد الذي يصبح فيه الطريق إلى جهنم مفروشاً بالحرير كما يقول المثل، فوفق هذا المنطق صعد ستالين إلى أعلى هرم السلطة بعد أن قضى على كل البلاشفة الأوائل الذين أسسوا بطريقة خاطئة للسلطة السوفييتية، وكون ستالين كان يدرك أكثر من غيره أن المؤسسين- وعلى رأسهم لينين الذي مات قبل أن يدرك حجم الكارثة التي تم التأسيس لها - قد بنوا له من غير قصد أساس سلطته لهذا كان حريصاً أن يضيف إلى الماركسية التي يحكم باسمها صفة اللينينية كي تصبح بإيعاز من ستالين ماركسية القرن العشرين هي " الماركسية اللينينية ". بالمقابل كان لا بد من قتل تروتسكي بطريقة وحشية، وتخوين التيار الذي بدأ ينشئه داخل الحركة الشيوعية العالمية، فكون ليون تروتسكي كان أول من استشعر خطر صعود النموذج الستاليني، وكونه كان أول من واجه هذا الصعود داخل الدولة السوفييتية، وكونه أجرى مراجعة نقدية في الفترة الممتدة بين 1933- 1940 للإجراءات التي اتخذها البلاشفة وشارك فيها في السنوات الأولى للثورة، وحيث أن أهم ما جاء في هذه المراجعة كان الاعتراف أن النموذج الذي تم بناؤه في السنوات الأولى للثورة لم يكن نموذجاً صالحاً لاستمرار الثورة الروسية، كما توقعت روزا لوكسمبورغ في مقالها المشار إليه سابقاً، ولا صالحاً كنموذج تقتدي به الثورات الأخرى القادمة في العالم، حيث أكد في هذا السياق أن ما كان يسميه البلاشفة في السنوات الأولى رقابة عمالية على الإنتاج لا قيمة له في الواقع العملي في ظل حكم الحزب الواحد، حيث " أكد بوضوح بأنه لكي لا تتحول السوفيتات إلى هياكل فارغة، يجب أن تترافق مع مؤسسات تضمن في الحياة الواقعية صعوداً حاداً للنشاط السياسي والمبادرة السياسية والاجتماعية من جانب جمهور العمال. وهذا يمكن أن يكون فقط نظام تعددية الأحزاب مقابل الحزب الواحد، وحرية حقيقية للصحافة ( بما في ذلك الأحزاب المعارضة ) مقابل احتكار الإعلام من قبل الكتلة القائدة للحزب الواحد، أي الحكومة "(15).

ووفق نفس المنطق والسيرورة وصل حافظ الأسد في سوريا إلى أعلى هرم السلطة بعد أن تم القضاء بدءاً من 23 شباط 1966 على كل المؤسسين التاريخيين لفكرة الدولة القومية البعثية، فقد صعد على ركام من الأخطاء والثغرات الفكرية والسياسية والإيديولوجية التي ارتكبها الآباء القوميين المؤسسين بدءاً بخطأ وطنيتهم – أقصد مفهومهم للوطنية - القائمة على الإيديولوجيا القومية البعثية البرجوازية الصغيرة مروراً بتسييسهم للجيش السوري(16)، ومن ثم سوقهم المجتمع السوري بقوة العسكر إلى السجن الاستبدادي الناصري عام 1958، وصولاً إلى تغطيتهم انقلاب 8 آذار 1963، مع كل ما رافقه من مراسيم حل الأحزاب السياسية، وإلغاء حرية الصحافة، وإعلان حالة الطوارئ في البلاد، والحكم من خلال مجلس لقيادة " الثورة "، وإلغاء الحياة البرلمانية في سوريا. ووفق ذات المنطق كان الأمر في عراق صدام حسين، وفي مصر جمال عبد الناصر، وفي يمن علي ناصر محمد في الجنوب، ويمن علي عبد الله صالح في الشمال، ولم تشذ عن هذا المنطق ثورة المليون شهيد في الجزائر، ولا " ثورة " الفاتح في ليبيا العقيد القذافي، ولا حتى أي ثورة من ثورات حركات التحرر الوطني في العالم. فالدولة وفق هذا النموذج تقوم بوصفها دولة مالكة للثروة ومحتلة للمجال السياسي العام، يضاف إلى ذلك احتلالها للمجال الإيديولوجي، وهو الأمر الذي أنتج الدولة الإيديولوجية، حيث يتم تحويل المجال الإيديولوجي إلى مكنة فكرية إيديولوجية لتبرير كل سلوك تقوم به السلطة، ومن ثم تحويلها المجال الإيديولوجي إلى مجال لإنتاج منظومة فكرية تقدس الدولة والسلطة, وبهذه المكنة الفكرية السوقية والكلبية تحولت الدولة إلى دولة إيديولوجية يغلفها غطاء شبه لاهوتي يشبه الغطاء الذي يغلف الدولة الأوتوقراطية التي عرفتها البشرية في المرحلة ما قبل الرأسمالية من التاريخ، أي تحولت إلى دولة شبيهة للدولة الإقطاعية والعبودية. وهنا نصل إلى أهم ثاني سمة ميزت الدولة وفق هذا النموذج، وهي سمة وصفة ارتكاب الجرائم والفظائع بحق الإنسانية باسم المثل والمبادئ العليا للبشرية والإنسانية. فكل الدول وفق هذا النموذج ارتكبت الجرائم والفظائع بحق الإنسانية تحت شعار أنها تقوم بذلك من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر وبحجة معاداة الاستغلال ومحاربة الرأسمالية والإمبريالية العالمية. فلكي تخفي الدولة الستالينية الأم وجهها القبيح، ومن أجل التغطية على جرائمها وفظائعها الرهيبة في فترة صعودها استغلت كره الشعوب والطبقات الفقيرة في العالم أجمع للرأسمالية الغربية والإمبريالية والاستعمار، وهي الرأسمالية التي أشعلت أزماتها حربين عالميتين راح فيهما في النصف الأول من القرن العشرين الملايين من البشر, وقد استغلت الستالينية هذا فدأبت على ترسيخ فكرة أن للطبقات الفقيرة والشعوب عدواً واحداً ووحيد هو الرأسمالية والإمبريالية, وهي بهذا كانت حريصة على إخفاء حقيقة أن للشعوب والطبقات الفقيرة عدواً آخر لا يقل خطورة عن الرأسمالية والإمبريالية وعرفته الشعوب حتى قبل معرفتها للرأسمالية والإمبريالية ألا وهو الاستبداد والعبودية السياسية ( العدو القديم الجديد للبشرية). ولكي تنجح في إقناع شعوب العالم وخصوصاً في بلدان المستعمرات أن للبشرية عدواً واحداً هو الرأسمالية الإمبريالية دأبت على طول الخط على الهجوم لا على الليبرالية الرأسمالية فحسب بل حتى على الديمقراطية بكل أشكالها وألوانها, حتى أنها اعتبرتها فكرة محض رأسمالية أو من نتاج الفكر والثقافة الرأسمالية, وبالتالي فإن الديمقراطية هي بضاعة وسلعة رأسمالية وإمبريالية ولا علاقة لشعوب العالم وطبقاته الفقيرة بهذه البضاعة والسلعة والفكرة لا من الناحية النظرية ولا من الناحية العملية, وقد نجحت إلى حد بعيد في إقناع شعوب العالم الفقير بهذه الفكرة مستغلة كره هذه الشعوب للرأسمالية والإمبريالية التي طالما أذاقت هذه الشعوب الفظائع والويلات في المرحلة الاستعمارية من التاريخ الحديث وفي مرحلة لم تكن قد جفت " ذكرياته الدامية في التاريخ "(17). وبهذا فقد استطاعت الستالينية أن تضع تحت جناحها ومظلتها كل شعوب العالم الفقير ولا سيما حركات التحرر الوطني لشعوب العالم الفقير معتبرة نفسها الحارث الأمين لمبادئ وشعارات وأهداف الثورة الاشتراكية العالمية, مستغلة بذلك جهل العالم وشعوبه الفقيرة بالاشتراكية الحقيقية ولاسيما أن ثورة أكتوبر كانت أول ثورة اشتراكية تستقر في السلطة في التاريخ الحديث، ولم يكن أمام الوعي الإنساني(على مستوى النخب والجماهير) نموذج ومثال سوى الستالينية التي اعتبرت نفسها استمراراً وتجسيداً لأفكار ومبادئ ثورة أكتوبر الاشتراكية, فكان النموذج الستاليني هو النموذج الوحيد العياني(الشاهد والقاضي) أمام شعوب العالم وطبقاته الفقيرة, ولهذا استطاعت الستالينية أن تضع بسهولة كل شعوب العالم وحركات التحرر الوطني تحت مظلتها وجناحها ولا سيما بعد انتصارها على النازية الألمانية الهتلرية في الحرب العالمية الثانية وبعد تشكيل منظومة دولية ستالينية سميت في الأدب السياسي العالمي بحلف وارسو. إن نجاح الستالينية هذا مكنها من أن تصبح الممثل الدولي(الأممي) للطبقات الفقيرة في العالم وللأحزاب والحركات المعبرة عن هذه الطبقات(الأحزاب الشيوعية والعمالية في العالم والحركات النقابية العمالية في أوروبا الغربية وحركات التحرر الوطني في بلدان العالم الثالث) وقد قاد هذا التمثيل إلى تكريس فكرة ستالينية خطيرة تقول: إن الإمبريالية العالمية هي العدو الوحيد للبشرية وهو الأمر الذي سهل على الكثير من الأنظمة الاستبدادية الحديثة المجرمة وعلى الكثير من الأحزاب القومية البرجوازية الصغيرة أو العمالية الشيوعية طيلة النصف الثاني من القرن العشرين عل تغطية استبدادها وجرائمها بحجة أنها أنظمة أو أحزاب مقاومة وممانعة للإمبريالية العالمية، والمفارقة التاريخية أن هذه الأنظمة شكلت أكبر عدو لشعوبها فأصبحت هذه الأنظمة في نظر شعوبها هي العدو الوحيد وفي بعض الأحيان أصبحت الإمبريالية صديقة لهذه الشعوب، لقد جاءت الاشتراكية الستالينية ونموذجها في بناء الدولة والمجتمع متوافقة ومتوائمة مع بنية وطموحات بعض القوى الطبقية والسياسية في الصعود الطبقي والاجتماعي (ولا سيما عندما كانت تصعد إلى سدة السلطة)، ولهذا تحولت الكثير من حركات التحرر الوطني في العالم ومنها حركة التحرر الوطني العربية إلى مشاريع قوى استبدادية أو كانت قوة استبدادية بالقوة قبل أن تصل إلى السلطة وتحولت إلى قوة استبدادية بالفعل بعد وصولها إلى السلطة, فحركة التحرر الوطني العربية كمثيلاتها في بقية بقاع العالم التي حاربت الرأسمالية والإمبريالية تحت راية النموذج الستاليني كفكر وممارسة كان من الطبيعي والمنطقي أن تتبنى هذا النموذج في بناء الدولة والمجتمع عندما تصل إلى سدة السلطة. إن الممارسة والإرث والتقاليد الستالينية في الاستبداد الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي لم تكن حكراً على القوى والأحزاب والحركات الشيوعية فحسب بل كانت تجربة نهلت منها كل فصائل حركات التحرر الوطني في العالم بكل ألوانها الإيديولوجية والسياسية وكل تياراتها اليسارية واليمينية أنها سطوة الإرث والتقاليد الستالينية التي خيمت طيلة القرن العشرين على سلوك وممارسة كل حركات التحرر الوطني، من وصل منها إلى السلطة ومن لم يصل إلى السلطة. وقد ولدت هذه السطوة أهم الأسباب والعوامل التي قادت إلى افتقاد وعي الجيل الثاني من حركة التحرر الوطني العربية للبعد الديمقراطي. وقد قاد افتقاد المشروع النهضوي إلى هذا البعد إلى تفريغ هذا المشروع من محتواه ومضمونه النهضوي الحقيقي. وإذا ما نظرنا إلى المآل والنتائج التي وصل إليها المشروع النهضوي الذي حمله الجيل الثاني من حركة التحرر الوطني العربية سنجد أنه تحول في الواقع وبعد وصول بعض فصائل هذه الحركة إلى السلطة وبعد بناء الدولة الاستبدادية الحديثة على يد هذه الفصائل تحول المشروع النهضوي إلى مشروع انحطاطي انحلالي قاد إلى تدمير البقية الباقية من الوجود العربي, فبدل أن يقود مشروع النهضة هذا إلى التقدم واللحاق بركب التقدم والحضارة الإنسانية قاد إلى المزيد من التفكك والتشرذم في الوجود والكيان العربي وإلى المزيد من التخلف والتأخر في الواقع العربي وعلى جميع الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية, وإذا ما عرف الواقع العربي من صعود ونهوض تأتى من المشروع النهضوي الذي حمله الجيل الثاني من حركة التحرر الوطني التي وصلت إلى السلطة فلم يكن سوى نهوض الدولة الاستبدادية ونهوض الظلامية الدينية في وعي المجتمع العربي, وما عدا هذين النهوضين لا نجد في الواقع العربي سوى الانحطاط والانحلال والدمار لكل مكونات الوجود الإنساني العربي.


المصادر:
(1). ص 32 هامش في البيان الشيوعي الذي ترجمه العفيف الأخضر.
(2). ص 99 من كتاب ليون تروتسكي الأممية الثالثة بعد لينين والاشتراكية في بلد واحد.
(3). ص 101 المصدر السابق.
(4). ص 113- ص 119 المصدر السابق.
(5). ص 33 هامش في البيان الشيوعي النسخة التي ترجمها العفيف الأخضر.
(6). ص 119 من كتاب ليون تروتسكي الأممية الثالثة بعد لينين والاشتراكية في بلد واحد.
(7). لقد تعامل لينين مع الشعار الذي طرحه " كل السلطة للسوفييت " بطريقة براغماتية صرفة. تقول روزا لوكسمبورغ " وصف البلاشفة مجالس السوفييت بأنها رجعية لأن أغلبيتها من الفلاحين ( ممثلي الفلاحين وممثلي الجنود ). وبعد أن وقفت السوفيتات في صفهم، اعتبرت الممثل الحقيقي لرأي الشعب. لكن هذا التحول المفاجئ كان مرتبطاً فقط بمسألة السلام والأرض." ص 261 من كتاب نصوص مختارة عن الثورة والحزب وأفول الرأسمالية لروزا لوكسمبورغ.
(8). ص 333 من مقال للسيد يسين بعنوان تغيير العالم جدلية السقوط والصمود والوسطية – منشور في كتاب قضايا وشهادات الحداثة - 1 –
(9). ص 132 –133 المصدر السابق.
(10). ص 241 من كتاب نصوص مختارة عن الثورة والحزب وأفول الرأسمالية لروزا لوكسمبورغ.
(11). ص 259- 260 المصدر السابق.
(12). ص 261 - 262 المصدر السابق.
(13). ص262- 263 المصدر السابق.
(14). ص 264 – 265 المصدر السابق.
(15). مع طباعة الثورة المغدورة 1936، وقف تروتسكي بكل وضوح موقفاً داعماً لنظام تعددية الأحزاب. وقد ظهر موقفه بعد ذلك في البرنامج الانتقالي 1938، وظهرت أولى معالم التغيير في آرائه في مقالاته في سنوات 1933 – 1934 حول ألمانيا والولايات المتحدة . من كتاب إرنست ماندل ليون تروتسكي دراسة في دينامية فكره.
(16). يقول خالد العظم في الجزء الثالث من مذكراته ص 44 – 45 " وكانت الصلات بين الحوراني وضباط الجيش السوري متينة جداً، لا لسبب إلا لوحدة اتجاههم السياسي والاجتماعي، وقد تمكن الحوراني بمعونة أولئك الضباط من السيطرة على مدرسة حمص العسكرية التي كانت تخرج كل سنة عدداً من الضباط الشباب، لا يقل عن المئة. والغريب أن أكثرية الطلاب الراسبين في مدارس التجهيز كانوا يهرعون إلى المدرسة العسكرية التي كان يرتادها كل طالب كسول يستطول مدة الدراسة في المدارس العادية، من تجهيزية وجامعية... وقد زاد شوق الضباط للانتساب إلى المدرسة العسكرية بنسبة عدد الانقلابات العسكرية التي كانت تعاني منها البلاد الأمرين، لكنها كانت تعود على الضباط، كل مرة، بسلسلة من الترفيعات التي لا يحلم بها أي ضابط في جيش منظم، ناهيك بالنفوذ والسلطان. وكانت جهود الحوراني منصرفة إلى حشد أكبر عدد ممكن من المنتسبين إليه في المدرسة العسكرية، والسعي لحمل بقية طلابها على الانخراط في حزبه. وكان يلاقي العون والمساعدة من رؤساء المدرسة ومعلميها، ومن أركان الجيش نفسه. ولم تمض فترة سبع أو ثماني سنوات، حتى كان معظم الضباط منتسبين لحزب البعث الاشتراكي "
(17). مقتطف من مقال سعد الله ونوس بعنوان بين الحداثة والتحديث في كتاب قضايا وشهادات الحداثة - 1 – النهضة التحديث القديم والجديد 1990 ص 15.

نظام الاستبداد المعمم في سوريا مقدماته ومراحله - 11 lemonde.in 5 of 5
لومــــوند : نبيل ملحم حادي عشر: النموذج الستاليني وأثره في افتقاد وعي فصائل حركات التحرر الوطني للبعد الديمقراطي. وهنا أتحدث عن وعي الجيل ا...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك