نظام الاستبداد المعمم في سوريا مقدماته ومراحله - 10



لومـــــوند : نبيل ملحم

عاشراً: علاقة الريف بالمدينة وصعود نظم الاستبداد المعمم.
لا أبالغ إن قلت أن شكل ومحتوى العلاقة الشاذة التي قامت في الواقع العربي بين المدينة التي تركزت فيها تاريخياً الثروة والسلطة، والريف الذي تركز فيه الاستغلال والشقاء والفقر، كان له دور أساسي ومهم في تحديد مسار تطور المجتمعات العربية منذ العصور الوسطى وصولاً للزمن المعاصر مروراً بالعصر الحديث. وأجرؤ على القول أن أي دراسة سيسيولوجية تتناول تطور الواقع العربي عبر كل مراحل التاريخ من دون ملاحظة أثر هذه العلاقة، تبقى دراسة ناقصة غير مكتملة. وكون البحث في هذه العلاقة مع أسبابها التاريخية وأهم مظاهرها عبر كل مراحل التاريخ يستغرق مساحة كبيرة تحتاج لمجلدات وكتب من أجل تغطيتها، وكون الإسهاب في تغطية هذه العلاقة في كل مراحل التاريخ يمكن أن تغرقنا وتبعدنا عن الموضوع الأساسي في هذه السلسلة، أقول بإيجاز وتكثيف بأنه في شروط دولة الاستبداد المعمم الإقطاعية التي عرفها المجتمع العربي طيلة العصر الوسيط حيث ساد الركود والاستنقاع في تطور القوى المنتجة وفي علاقات الإنتاج وتوالد وحركية الطبقات الاجتماعية طيلة قرون من الزمن، لهذا لم يكن للصراع الطبقي - مع استخدام لغة ابن خلدون - " إلا أن يكون ردود فعل يحاول العمران البدوي أن يأخذ بها ثأره دورياً من العمران الحضري. وفي دوامة هذا الأخذ بالثأر، المختبئ دوماً تحت عباءة عشائرية أو طائفية، تخرّب المدينة والريف كلاهما، لا تتبلور الطبقات فتتحدد ملامحها ومصالحها بل غالباً ما يصبح التداخل بين أرباب النقود والحرف والأرض والسلطة أكثر تشابكاً. وما تكاد تقوم أسرة جديدة، بالاسم طبعاً، منحدرة من الريف لبدو ( بنو حمدان مثلاً ) حتى تجد نفسها بمنطق الدولة البيروقراطية ذاته الوريثة الأمينة لشعار سليمان بن عبد الملك لصاحب خراج مصر عندما أوصاه بسلخ جلد الفلاح المصري : " احلب الضرع فإن انقطع فاحلب الدم " !(1). وباستثناء الفترة التي حكم بها إبراهيم باشا بلاد الشام ( 1831- 1840)، حيث شهدت تلك الفترة محاولة للاهتمام بالريف وتطوير الزراعة من أجل استقرار الريف وخدمة الصناعة فإن " جميع الخصائص السابقة تم ترسيخها تحت الاستعمار العثماني : فأصبحت المدن قرى والقرى خراباً، وخضع الفلاح والتاجر كلاهما لنهب منظم فاق وحشية كل ما عرفناه من نهب وحوش العهود السالفة "(2). ولم تتجل طفيلية الطبقة الحاكمة والمالكة للثروة في المجتمع العربي في " علاقتها بالريف وحسب بل تتجلى أيضاً وبقوة في خصائصها الأخرى التي لازمتها في كل العصور وازدادت في القرن السادس عشر أصالة ورسوخاً: فعلى حين كانت البورجوازية الأوروبية في العصر الحديث تحقق، من أجل امتلاكها لنمط إنتاجها الحضري، فصل الصناعة عن الزراعة وتحوّل المانيفاتورة المنزلية والنسائية إلى ورشات قائمة على تقسيم العمل وتشغيل الرجال، كانت البرجوازية البيروقراطية- والأصح هنا القول الطبقة العليا لدولة الاستبداد المعمم الإقطاعية- عندنا تنهب المنتجين المباشرين في الريف والمدينة من أجل استهلاكها السفيه وتوظيفاتها العقارية، وذلك ما قضى على الرأسمال الصناعي، الذي انطلقت منه البورجوازية الغربية، بالكساح المزمن. لقد وجدت الحاضرة الأوروبية، بفضل امتلاكها لنمط إنتاجها الحضري الخاص، بدون الريف وضده. أما الحاضرة العربية فلم توجد قط إلا معتمدة طفيلياً على الريف. لأنها ما امتلكت نمط إنتاجها الحضري المميّز. وإذا كان التاريخ البورجوازي الأوروبي جهداً متواصلاً لتمدين الريف وتصنيع المدينة، فتاريخ البورجوازية العربية جهد متواصل لبدونة الريف وترييف المدينة: بدونة الريف بإفقاره الوحشي، وسيلة وغاية، بحيث يضطر بعض سكانه للهجرة إلى المدن ليتحول إلى بروليتاريا رثّة يقض لصوصها مضاجع التجار والأغنياء، ويضطر الباقون إما إلى الاعتصام بالمناطق الجبلية الجدباء أو للتحول مجدداً إلى قبائل رحّل تعتاش من نهب قوافل التجار وفرض الجزية على الفلاحين، وإما إلى ترك معظم أراضيهم بوراً وزرع ما يبقيهم على قيد البقاء البائس وحسب. وليس عجيباً إذن أن تخرب القرية: فولاية طرابلس التي كانت في مطلع القرن السادس عشر تضم 3000 قرية انحطت في القرن الثامن عشر إلى 400، وحلب التي ضمت 3200 قرية لم يبق منها في القرن الثامن عشر إلا 400، وانخفض مردود الزراعة السقوية في مصر العثمانية بنسبة 70 % عما كانت عليه في العهد المملوكي المقيت، مثلما بدونت الريف ريّفت المدينة لا عبر إعادة التوظيف في الأرض وحسب، بل أيضاً عبر إرغام التاجر، الذي يلاحقه شبح المصادرة حيثما يتلفّت، على التوظيف في الأرض بدلاً من المانيفاتورة والمصارف لسهولة مصادرتها. وبذلك ركدت قوى وعلاقات الإنتاج وأعاقت بالتالي تعاقب الطبقات على السلطة مما جعل المدينة العربية دائمة الحضور لكن قاعدتها الاقتصادية الدائمة كانت الملكية العقارية لا الحضرية "(3).

لم تقتصر خصائص التطور في الواقع العربي على صفة ترييف المدن وبدونة الأرياف بل كانت هناك خاصية أخرى عرفتها بعض الساحات العربية المشرقية، خاصية أن بعض الجماعات البشرية التي كانت تنتمي لطائفة دينية معينة لم تعرف المدينة وحياة المدينة حتى وقت قريب من التاريخ الحديث، لأسباب لها علاقة بخصائص الصراع الطبقي والسياسي والديني الذي ساد في الواقع العربي طيلة العصر الوسيط وما تلاه، فتاريخياً اقتصر السكن في المدن العربية المشرقية على المسلمين السنة ومعهم المسيحيين - مع أقلية يهودية - وهو ما أطلق عليه جاك فولريس نموذج المدينة العربية المشرقية(4). وحيث أن الانتقال في العيش بين المدينة والريف كان ممكناً لهؤلاء حسب شروط الحياة الاقتصادية، في حين لم تعرف بعض الطوائف الدينية تاريخياً سوى العيش في الريف منذ أن استقرت وتشكلت في منطقة جغرافية محددة كأقليات " مدمجة أو متراصة "(5). حتى وقت قريب من العصر الحديث، وقد استمر هذا الوضع لزمن طويل حتى فتحت أبواب المدن أمام الجميع مع انهيار آخر دول الخلافة الإسلامية العثمانية وبدء تشكل الهويات والدول الوطنية الحديثة في الواقع العربي، فهنا بدأت تتشكل حسب رؤية إيرا لا بيدوس المدينة العربية المشرقية التي " يخترقها المجتمع الكلي بتياراته الطائفية والقبلية والاقتصادية " (6). فحتى الربع الأول من القرن العشرين نجد في المنطقة الجغرافية التي شكل فيها العلويون أغلبية سكانية بأن سكان المدن فيها كمدينة اللاذقية التي شكلت عاصمة الدولة العلوية زمن الانتداب الفرنسي ومعها مدينة طرطوس وجبلة وبانياس كان يتألف فقط من المسلمين السنة ومعهم المسيحيين. إن هذا الواقع قاد تاريخياً في بعض الساحات إلى تشكل ما يمكن تسميته بالطوائف والجماعات البشرية الريفية البحتة كالعلويين والاسماعيليين والدروز، ومن المؤكد أن هذه الطوائف التي عاشت وانعزلت في الريف لعدة قرون من الزمن تشكل في لا وعيها الجمعي وزمة وعقدة تجاه المدينة والتمدن وأبناء المدن، فإذا كانت المدينة التي تتركز فيها السلطة وقوة الدولة تشكل لكل أبناء الريف عموماً رمزاً للاضطهاد الطبقي، فإن المدينة بالنسبة لهذه الطوائف الريفية كانت تشكل رمزاً للاضطهاد الطبقي والديني معاً. " وعموماً لم يكن للأقليات، ما عدا الأقلية المسيحية، دور يذكر في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سورية خلال الحكم العثماني، حتى أن بعضها عانى من الاضطهاد والتهميش بسبب معتقداتها الدينية والمذهبية، خاصة الأقلية العلوية "(7). وبعكس ما كان سائداً في الواقع العربي في العصر الوسيط وما بعده فقد عرف الواقع الأوروبي طيلة قرون العصر الوسيط خضوع المدن للأرياف الإقطاعية، ومع ظهور الرأسمالية على مسرح التاريخ تغيرت العلاقة بين الريف والمدينة في الواقع الأوروبي وعلى المستوى الكوني، ولكن هذا التغير في العلاقة لم يكن بالكيفية والنوعية التي عرفها الواقع العربي في العصور السابقة على الرأسمالية أو حتى التي عرفها في ظل الرأسمالية. فالبورجوازية الأوروبية بنمط إنتاجها الجديد فصلت المنتجين عن وسائل إنتاجهم الأرض، فمنهم من ساقتهم وهم الأغلبية إلى المدن وحولتهم إلى بروليتاريا مدنية قطعت كل صلاتها بالريف، أما الباقي فقد تركتهم في الريف ولكن في إطار رسملة العلاقات الزراعية الأمر الذي يعني أن ذلك لم يقد إلى خراب الريف بل إلى تمدين الريف وتصنيع المدينة. " ففي عام 1848 كان تسعة أعشار سكان العالم خارج نمط الإنتاج البورجوازي الحديث(8). وفي عام 1920 تجاوز عدد سكان المدن عدد سكان الأرياف. واليوم ثلاثة أرباع الإنسانية على الأقل تقيم في المدن(9). ولهذا فإن أي استراتيجية محلية أو عالمية في الوقت الحديث والمعاصر تقوم على " رفع شعار تحرير المدن بالأرياف وتطويق الحواضر بالبوادي هو اليوم حماقة لا أكثر "(10). مع التغلغل الرأسمالي في الواقع العربي بعد وقوع المجتمع العربي تحت السيطرة المباشرة للاحتلال الغربي تمت صياغة البنى الاجتماعية في الواقع العربي وفق مصالح ومتطلبات واحتياجات الرأسمال الأوروبي, فتمت عملية ربط البنى الاجتماعية الرأسمالية الجديدة العربية بالبنى الغربية الرأسمالية المتقدمة, وقد كان من أولى نتائج هذا الربط أن البنى ما قبل الرأسمالية (الإقطاعية) التي كانت سائدة في الواقع العربي قبل ذلك الوقت, وبالرغم من بقائها وتعايشها إلى جانب البنى الرأسمالية الحديثة, وبالرغم من عدم توفر الشروط اللازمة والكافية للقضاء الجذري والحاسم عليها إلا أن هذه البنى أصبحت منذ ذلك الحين تعيش حالة من الأزمة, أزمة في وجودها وفي قدرتها على التطور والبقاء والاستمرار, فحتى البنى الإقطاعية التي استطاعت التكيف والتعايش مع الواقع الجديد فإنها تعايشت وتكيفت من موقع الأزمة، أي بوصفها بنى تعيش حالة الاندحار أو تقاوم الاندحار والموت. فحركة النظام الرأسمالي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية والتي ترتبط بها حركة بنى التخلف الرأسمالي في الأطراف لم تكن تعطي للبنى الإقطاعية الحياة والبقاء إلا لفترة محدودة من الزمن، فترة محددة بنوع من التقسيم الدولي للعمل وبمستوى تطور حركة الرأسمال الغربي والتي كانت تتقدم باتجاه تكنيس كل هذه البنى الإقطاعية وعلى المستوى الكوني. وهنا من المهم الإشارة إلى أن القوى القومية البرجوازية الصغيرة التي طالما مننت الشعوب العربية بأنها هي التي حررتها وخلصتها من الإقطاع عبر الإصلاح الزراعي، والواقع أن تكنيس الإقطاع إن كان في الواقع العربي أو على المستوى العالمي كان سيأتي عاجلاً أم آجلاً. أولاً: نتيجة التغيرات في بنية الاقتصاد الرأسمالي العالمي الذي تحدده بنية الاقتصاد في المراكز الرأسمالية ويجد انعكاسه في الأطراف، فالمراكز الرأسمالية كانت بحاجه بعد الحرب العالمية الثانية بفترة ليست طويلة إلى خلق وتعميم مجتمع الاستهلاك على الصعيد العالمي نتيجة فوائض الإنتاج المتأتي من سرعة التطورات التقنية، وبالتالي كانت بحاجة إلى خلق قوة شرائية في مجتمعات الأطراف التي كانت تعيش على شراء منتجات وسلع المراكز الغربية، وبالتالي كانت بحاجة إلى الإصلاح الزراعي - وهو أسوأ خيار لحل قضية الاستغلال الإقطاعي في العلاقات الزراعية-(11)، أو إصلاح علاقات الاستغلال الإقطاعية من خلال تشجيع رسملة العلاقات الزراعية في الريف في مجتمعات الأطراف من أجل رفع القوة الشرائية لسكان هذه المجتمعات الفقيرة. وثانياً: نتيجة حدة الاستقطاب السياسي العالمي في زمن الحرب الباردة وضرورات مواجهة المد الشيوعي في العالم. فقد كانت استراتيجية الولايات المتحدة التي قادت النظام الرأسمالي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية تقوم على تخفيف حدة شروط الاستقطاب والفرز الطبقي والسياسي في الساحات التي كانت ترى أن عسف العلاقات الطبقية تقود إلى ارتماء متزايد للشعوب المظلومة في أحضان الأحزاب الشيوعية، ولهذا كان طبيعياً أن تجيب الإدارة الأمريكية شاه إيران عندما ذهب إلى واشنطن في بداية الستينيات يطلب منها تزويده بالسلاح لمواجهة الخطر الشيوعي السوفييتي، أن يكون الجواب الأمريكي بأن نصحته بالقيام " بالثورة البيضاء " عام 1963 التي تم بموجبها قيام الشاه بالإصلاح الزراعي في إيران عسى أن يخفف ذلك من شدة الاستقطاب السياسي ويقطع الطريق على تنامي نفوذ الحزب الشيوعي داخل المجتمع الإيراني، وكما أقرّ الشاه نفسه فقد صممت " الثورة البيضاء " من أجل " استباق ثورة حمراء من أسفل ". ولهذا يمكن القول بأنه لم يكن بإمكان كل البنى الإقطاعية على تغيير وظيفتها وبنيتها وبما يعني قدرتها على الحياة في ظل السوق العالمية الرأسمالية أو لنقل لم يكن بمقدورها أن توجه نشاطها بهذا الاتجاه, وبحيث تستطيع الاحتفاظ بسلطتها على النشاط البشري والاقتصادي بالأشكال التي كانت تتم قبل حالة التغلغل والوجود الرأسمالي في الواقع العربي, بعد أن كانت تعيش حالة من الانغلاق والانعزال في ظل الدولة العثمانية الإقطاعية ولفترة قرون من الزمن, وقد كان من أول نتائج الأزمة التي عاشتها البنى الإقطاعية في الواقع العربي في النصف الأول من القرن العشرين " هو هجرة أبناء البلدات المفقرة المحطمة نتيجة تغير خطوط التجارة أو أنماط الاستهلاك وبالتالي انهيار الحرف التي تخصصت بها تلك البلدات قبل الانخراط في السوق الرأسمالية العالمية"(12). طبعاً هنا من المهم الإشارة إلى أن الهجرة هذه أتت لا بسبب تأزم البنى الإقطاعية فحسب، بل كذلك، بسبب حالة الفقر المدقع الذي عاشه الريف السوري بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة نتيجة المحل في المواسم الزراعية من جهة ونتيجة شدة النهب للأرياف والمدن السورية الذي قامت به الدولة العثمانية لتمويل جيوشها في الحرب من جهة ثانية، " ونتيجة لهذه الأوضاع الاقتصادية فقد قام المهاجرون الريفيون الذين هجروا مناطقهم المصابة بالمجاعة بغزو مدينتي دمشق وحلب، كما عانت حلب من تدفق اللاجئين الأرمن الهاربين من الاضطهاد التركي... وفي هذه الأثناء أغرقت – بضم الألف - دمشق بطوفان من الحجازيين ورجال القبائل السوريين الذين شكلوا جنود جيش فيصل... إضافة إلى هؤلاء القادمين الجدد كان هنالك الضباط والمدنيون غير الدمشقيين الذين كان كثير منهم محدثي التحّول إلى الحركة العربية، والباحثين عن مناصب في الحكومة الجديدة "(13). وثانياً: كانت هجرة بعض أبناء الأرياف وخاصة من أبناء الأقليات الدينية والقومية الذين انخرطوا في سلك الدرك وجيش الشرق الذي أقامه الفرنسيون. وثالثاً: بسبب قيام الدولة الوطنية بعد الاستقلال الأمر الذي أدى إلى " تضخم دور المدينة (ولا سيما العاصمة)الكبير كمركز نشاط سياسي – اقتصادي – إداري – حضاري للبلاد كلها"(14). ولا سيما بعد أن تمت عملية تطوير ولو محدود في حركة التعليم التي بدأت مراكزها الأولى في المدن وفي العاصمة تحديداً (بالنسبة للتعليم الجامعي) كما تمت عملية إقامة منشآت اقتصادية صناعية كبيرة بالمعنى النسبي وكان مركزها الأول كذلك في العواصم والمدن الكبرى. يضاف إلى ذلك كله النمو المتزايد في مؤسستي الجيش والأمن ولا سيما أن أغلب الساحات العربية كانت لديها قضية تحرير أرض مغتصبة إضافة إلى قضية تحرير فلسطين وحيث شكلت هاتان المؤسستان الوعاء الذي ملأه أبناء الريف الفقراء أو الساعين إلى تحسين أوضاعهم أو الطامحين إلى ما هو أبعد من ذلك. وقد كانت أكبر موجات الهجرة لأبناء الريف إلى المدن السورية هي تلك التي أعقبت مباشرة انقلاب 8 آذار 1963، حيث تمت عملية استبدال أبناء المدن الذين كانوا يعملون في مؤسسات الدولة والسلطة القديمة بأبناء الريف الذين كانوا يشكلون الخزان البشري للأحزاب القومية، وقد غير ذلك ملامح المدن السورية - ولا سيما العاصمة - وبنية السلطة خلال السنوات الممتدة بين ( 1963 - 1970)، ثم بعد هذا التاريخ ازدادت موجة الهجرة هذه وقاد ذلك إلى تجذر كل مظاهر التغير في ملامح المدن وبنية السلطة. للأسباب المذكورة فقد تمت في الواقع العربي عملية هجرة واسعة من الريف إلى المدينة حيث ازداد عدد سكان العواصم "المشرقية الكبيرة بحوالي 20 ضعفاً "(15). ولكن هذه الهجرة والزيادة السكانية للمدن لم يقد إلى ما قادت إليه الهجرة والزيادة في مجتمعات أخرى من العالم ولا سيما المجتمع الأوروبي مثلاً الذي عرف نفس الظاهرة, ونعني ظاهرة الهجرة وزيادة سكان المدن, فقد عرف المجتمع الغربي الأوروبي هذه الظاهرة في أحد المراحل التاريخية من مراحل تطور الرأسمالية, وتحديداً مرحلة التراكم البدائي للرأسمالية الأوروبية وفي المرحلة التالية عندما سادت الرأسمالية على مسرح التاريخ الأوروبي والعالمي. والاختلاف بين حالة المجتمع العربي والمجتمع الغربي يكمن بشكل جوهري وأساسي في أن الرأسمالية في الواقع العربي بخلاف الرأسمالية في المجتمع الغربي لم تستطع أن تجتذب وتهضم وتدخل هؤلاء المهاجرين من السكان إلى عالم وحركة رأس المال, إن كان إدخال قسم منهم من خلال تحويلهم إلى بروليتاريا صناعية, وحيث رأينا في فقرة سابقة أن مستوى التصنيع الذي قامت به البرجوازية العربية كان متدنياً إلى الحد الذي لم يكن يسمح باستقطاب وجذب معظم هؤلاء المهاجرين, أو إدخال قسم آخر إلى عالم رأس المال وبما يعني توسيع كيان الطبقة المالكة للثروة وتحديداً توسيع كيان الطبقة البرجوازية, أي إدخال جمهرة من الناس إلى عالم رأس المال وبما يعني فتح آفاق أمام البرجوازية الصغيرة في المجتمع إن كان بقسمها التقليدي أو البرجوازية الصغيرة الحديثة التي بدأت تنمو ويزداد حجمها ووجودها وحتى دورها في المجتمع العربي بعد الاستقلال وبعد تطور عملية التعليم الجامعي. وبمقدار ما كانت البرجوازية العربية تعجز عن بلترة قسم من الناس وتعجز عن جذب أعداد من البرجوازية الصغيرة إلى مواقعها الطبقية من خلال ما أطلقت عليه سابقاً عملية تعميم التبرجز كانت كتلة وجمهرة البرجوازية الصغيرة تحتل حجماً وموقعاً متزايداً باطراد داخل المجتمع العربي, وعدم قدرة البرجوازية العربية على فتح آفاق التطور والصعود الطبقي (التبرجز والرسملة) أمام هذه الجمهرة من السكان التي بدأت تقيم بشكل أساسي في المدن (من صفوف المهاجرين وغير المهاجرين) قاد إلى أن يبقى التبرجز والرسملة في المجتمع العربي كما قلت سابقاً هي من احتكار قلة قليلة من السكان معزولة في مدن محددة أو في أحياء محددة أو حتى في عائلات محددة وقليلة , وبدل أن توسع الطبقة البرجوازية من كيانها الطبقي والاجتماعي وبالتالي من قاعدتها الاجتماعية والطبقية والسياسية، فقد ظلت البرجوازية العربية محدودة وضعيفة وهزيلة في كيانها الطبقي وبالتالي ضعيفة وهزيلة في قاعدتها الاجتماعية والطبقية والسياسية, كما قاد هذا إلى عداء كتلة ضخمة وهائلة من سكان الأرياف ومن البرجوازية الصغيرة ومن مهمشي المدن ولا سيما المهاجرين الذين كانوا أكثر المهمشين داخل هذه المدن, لهؤلاء الذين يحتكرون الثروة والتبرجز, والسعي والنضال من أجل كسر هذا الاحتكار, وبما يعني القضاء على الشروط المقيدة للتبرجز والتطور البرجوازي, وفتح كل الآفاق أمام التطور البرجوازي والتطور والصعود الطبقي ولا سيما فتح آفاق التطور الطبقي أمام صعود البرجوازية الصغيرة, وهذا الكسر لاحتكار التبرجز وفتح آفاق التطور البرجوازي لم يكن له أن يتم في الواقع تاريخياً من خلال الطبقة الوسطى وذلك يعود لعدم وجود مثل هذه الطبقة في البنية الاجتماعية, فالطبقة الوسطى تاريخياً في الواقع السوري كما العربي حافظت على بنيتها وطبيعتها التجارية الصرفة عبر كل تاريخ وجودها في الواقع، ولأن مثل هذه الطبقة الوسطى القادرة على تعميم التبرجز غير موجودة فإن هذا التطور لم يكن له أن يتم في شروط الواقع السوري والعربي إلا بأحد طريقين لا ثالث لهما: إما عن طريق المسار الطبيعي الطويل من خلال إعطاء تيار الصيرورة الصاعدة داخل البرجوازية السورية الفسحة والمجال الزمني التاريخي اللازم لإنجاز هذا الانتقال. وحيث أن فكرة طرح إعطاء فسحة وفرصة تاريخية لتيار الصيرورة الصاعدة ليس طرحاً نظرياً خيالياً لا أساس له في الواقع السوري في تلك المرحلة من التاريخ، فهذا الطرح كان مجسداً على أرض الواقع، ولكنه لم يستمر بسبب خيانة البعثيين لهذا الطرح والفكرة. فقد عرفت الساحة السورية بعد الاستقلال وبعد التخلص من موجة الانقلابات العسكرية التي أعقبت الاستقلال تحالفاً طبقياً سياسياً أطلق عليه التجمع القومي الذي حكم سوريا من كانون الأول 1956 حتى يوم قيام الوحدة مع مصر يوم 22 شباط 1958. وقد ضم هذا التحالف الحاكم في صفوفه الكتلة الديمقراطية بقيادة خالد العظم، إضافة إلى بعض أعضاء الحزب الوطني، وحزب البعث العربي الاشتراكي، ودعم الحزب الشيوعي السوري. وقد جاء هذا التحالف لأول مرة في تاريخ سوريا الحديث استجابة لحاجات المواجهة الوطنية مع القوى الاستعمارية، ولحاجات استمرار التجربة الديمقراطية وتطور هذه التجربة، كما أن هذا التحالف كان على المدى القريب والمتوسط استجابة لحاجات تخفيف حدة الأزمة الاجتماعية داخل المجتمع السوري، وعلى المدى البعيد استجابة لحل هذه الأزمة في الإطار البرجوازي والدولة الديمقراطية. فقد واجه هذا التحالف الطبقي السياسي الحاكم كل المحاولات الأمريكية في تلك المرحلة لتطويع القرار السياسي السوري باتجاه السياسة الأمريكية في المنطقة بدءاً بالوقوف في وجه حلف بغداد، والوقوف مع مصر في معركة تأميم قناة السويس وصولاً إلى الاتفاقية العسكرية الاقتصادية مع الاتحاد السوفييتي التي كسرت الحصار الغربي المفروض على المشتريات والمنتجات السورية بإيعاز أمريكي. وقد كان أحد أجنحة تيار الصيرورة الصاعدة داخل البرجوازية السورية يتجه نحو بلورة حالة سياسية حزبية نوعية من خلال تشكيل حزب سياسي كان من المرجح أن ينال في أي انتخابات برلمانية على الغالبية البرلمانية، كما كان يرجح أن يشكل بديلاً عن الأحزاب السياسية البرجوازية التقليدية القديمة التي كان ينهشها الفساد السياسي والمالي بكل أشكاله بما في ذلك الارتزاق السياسي والمالي للخارج، ولكن هذا التحالف أقصد التجمع القومي الحاكم كما الحالة السياسية الحزبية المزمع إنشاؤها بقيادة العظم تم إفشالهم من خلال خيانة البعثيين(16)، الذين قاموا بالدفع مع الجيش – بانقلاب غير معلن على حد تعبير خالد العظم - باتجاه وحدة غير مشروطة مع مصر وحيث كانت أحد أهم الأسباب في السرعة في قيام الوحدة غير المشروطة هو حسب قول خالد العظم في مذكراته قطع الطريق على قيام الحزب الذي كان يتجه العظم لتشكيله من جهة، وغيرة عبد الناصر من المكانة التي كانت تحتلها سوريا إقليمياً وعالمياً وعمله لخطف هذه المكانة وإضافتها إلى رصيده كي يساوم بها الغرب على ظهر الشعبين السوري والمصري ومعهم الشعوب العربية. لقد تلاقت مصالح الأمريكان وعبد الناصر والبعثيين على قطع مسار التطور السياسي في سوريا كل وفق حساباته ومصالحه التي أصبحت معروفة للجميع. إن أكبر تعبير عن خط التطور الطبيعي للمجتمع الذي كان يطمح إليه ويعمل نحوه خالد العظم أحد أهم رموز تيار الصيرورة الصاعدة داخل البرجوازية السورية، وأحد أهم رموز التجمع القومي الذي حكم سوريا في تلك المرحلة، كان ما عبر عنه خالد العظم في مذكراته عندما برر علاقته وتحالفه السياسي مع أكرم الحوراني وهو الشخصية التي تميزت بالكره المتبادل بينه وبين رموز البرجوازية السورية والطبقة المالكة للثروة، يقول: " ويلومني البعض بأنني، مع كوني من أصحاب رؤوس الأموال، لم أحاربه. وإنما حملته على كتفي إلى أعلى مراتب الدولة، وهي رئاسة مجلس النواب. كما أنني ساندت حزبه في انتخابات 1954، وألفت معه التجمع القومي، وأعنته على خصومه. وجوابي على هذا القول إني دخلت الساحة السياسية في 1943، وشكري القوتلي وسعد الله الجابري وجميل مردم وأمثالهم من قادة البلاد، يتجاذبون أكرم الحوراني ومن شاكله. وذلك على الرغم من كونهم من الطبقة المحافظة ومن أصحاب رؤوس الأموال. ومع ذلك فإني لم أساير الحوراني حتى 1954، حين شعرت بأن مقاومته في غلوه لا تكون بالعنف والشدة. وذلك لانعدام العناصر المستعدة لهذا النوع من المعالجة. وتبين لي أن أحسن وسيلة لتخفيف حدة تطرفه هي السير إلى جانبه، والسعي لتوجيه نشاطه، والاكتفاء بتحقيق ما يقتضي من الخطوات الإيجابية الوئيدة في التقدم الاجتماعي، بحيث تنتقل البلاد من أوضاعها الرأسمالية السيئة إلى أوضاع أسلم وأضمن لمصلحة صاحب رأس المال والعامل، وذلك بمراحل مدروسة، لا بنزوات طائشة وانقلابات جذرية. فكنت، إذاً، من القائلين بالتطور التدريجي الوئيد المطرد الذي لا يعيق الإنتاج، بل يزيد من الدخل القومي عن طريق تحسين التوزيع. ولم أكن من القائلين بالثورة الاجتماعية، لأنني كنت أخشى منها على الإنتاج أن يتوقف نشاطه وعلى الأموال أن تتسرب إلى الخارج ، فتحرم البلاد منها. وعلى ذلك رافقت الحوراني منذ 1954 حتى أواخر 1957 ولم أمكنه من تحقيق أي نزوة من نزواته الخطرة. فهو لم يستطع تنفيذ أي بند من بنود سياسته إلا في عهد الوحدة عامي 1958 و1959 حينما ناصره عبد الناصر، فتجاوبت مبادئهما وأهدافهما. واستفاد الحوراني من جهل عبد الناصر بواقع الحال في سورية، فأغراه بالتفاف الفلاحين جميعهم حوله، فأمر بالإصلاح الزراعي وأهمل المشاريع الاقتصادية الكبرى التي لو حققت كما رسمتها في عام 1957، لمكنت الفلاح من الحصول واقعياً على أرض مروية كافية لنشاطه في الوقت الذي يبقى صاحب الأراضي القديمة غير محروم منها. فكنت أسير إذاً مع هذا السيل الجارف وأعمل على توجيهه في المسالك غير المضرة بالمجموع، حاسباً حساب طغيانه وخطر اتساعه، عاملاً على مراقبة سيره واتجاهه "(17).

. أما الخيار الثاني للتطور، فكان الطريق الاستثنائي السريع ولكن الكارثي والشاذ والمدمر، وذلك من خلال تكليف الدولة بهذه المهمة, أي من خلال السطو على السلطة والدولة عن طريق مؤسسة الجيش، ولا يغير من النتيجة إن كان من خلال حزب يساري تسلق ظهر ثورة شعبية، كما لا يغير من النتيجة نوع الراية الإيديولوجية التي يتم السطو باسمها على الدولة، فهنا وبكل الحالات في شروط سيادة النموذج الستاليني السوفييتي داخل ما كان يسمى فصائل حركات التحرر الوطني فإن قيادة التطور في النهاية ستكون من خلال إقامة الدولة المالكة للثروة التي ستقوم في البداية بتعميم الفقر ثم عاجلاً أم آجلاً بتعميم التبرجز والرسملة المستبطنة في أحشاء الدولة أو المعلنة بشكلها الصريح في السوق، وهو المسار الذي أنتج في الواقع العربي في أكثر من ساحة قيام دولة الاستبداد المعمم البرجوازية ذات الأصول البرجوازية الصغيرة القومية, إذ في اللحظة التي ستقوم الدولة بتعميم التبرجز والرسملة وتلغي حالة احتكار التبرجز فإنها في نفس اللحظة ستقوم بخلق شروط احتكار السلطة, أي سيتم انتقال المجتمع من حالة احتكار التبرجز من قبل قلة قليلة، إلى حالة الاحتكار الدائم للسلطة من قبل قلة قليلة, وسنرى بأنه كما كان احتكار التبرجز يقود إلى تسهيل الوصول إلى السلطة، فإن الاحتكار الدائم للسلطة سيقود إلى تسهيل الوصول إلى الثروة, وهذا ما سنراه بالتفصيل عند دراسة دولة الاستبداد المعمم التي عرفها الواقع السوري والعربي بشكل عام, وسنجد أن الذين سيقودون عملية السطو على السلطة والدولة هم ما أطلق عليهم " قيادات الثورات القومية " البرجوازية الصغيرة, وهم ذاتهم الجيل الثاني الذي تنطح لقيادة النهضة في المجتمع العربي بعد فشل النهضة الأولى, وسنجد أن قيادات " الثورات المعاصرة " أي الانقلابات العسكرية البرجوازية الصغيرة القومية والنظم التي ولدت منها لم يكونوا سوى هؤلاء المهاجرين من الريف إلى المدينة، والذين " شاطروا المهاجرين (الفقراء) حقدهم على " فساد " المدينة التي حرمتهم من التمتع بمباهجها ووضعتهم في موقع دوني ضمن تقسيمها للعمل "(18). فمن هذه البيئة الاجتماعية انبثق ونشأ القسم الغالب من الجيل الثاني للنهضة والقسم الأعظم لقادة النظم و" الثورات " البرجوازية الصغيرة القومية ولا سيما الذين شيدوا النظم الاستبدادية الحديثة. فقد قام هؤلاء القادة بإزاحة أبناء العاصمة والمدن الكبرى ممن لعبوا دوراً قيادياً في المراحل الأولى من التحولات الاجتماعية والسياسية عقب انتهاء الاحتلال العثماني، وطيلة فترة الاحتلال الغربي ومن ثم قيادة دولة الاستقلال, حتى أنهم أزاحوا رفاقهم من أبناء المدن الذين شاركوهم في " ثوراتهم " البرجوازية الصغيرة القومية المزعومة, فهذه الإزاحات تمت في الحالة السورية وفق سيرورة – سأعود لتناولها فيما بعد تحت عنوان سيرورة تطييف وترييف السلطة والدولة - دخلت في تركيبتها والعوامل المحركة لها عدة عناصر ومركبات متداخلة، حيث تداخل المركب الطبقي بكل مستوياته مع الريفي / المدني مع الإيديولوجي مع السياسي مع الطائفي مع المناطقي مع القومي ...الخ من المصفوفة المشكلة لنوع كهذا من الصراعات المركبة، ففي البداية وبعد أن أمنت التيارات القومية وعلى رأسها حزب البعث العربي الاشتراكي الغطاء السياسي لانقلاب 8 آذار 1963 قامت البرجوازية الصغيرة القومية عموماً – ناصريين وبعثيين - المدعومة والمسنودة من قيادة الانقلاب ومن قاعدتها الريفية العريضة بإزاحة أبناء العاصمة والمدن الكبرى ممن لعبوا دوراً قيادياً في دولة الاستقلال الوطني, ثم في المرحلة الثانية مع انقلاب 23 شباط 1966 تمت عملية إزاحة النخب المدنية العسكرية والسياسية والإيديولوجية التاريخية – القيادة القومية - التي أمنت الغطاء السياسي والإيديولوجي لانقلاب 8 آذار 1963 لصالح النخب العسكرية والإيديولوجية والسياسية المدعومة بشكل أساسي من قاعدة ريفية غالبيتها من أبناء الأقليات الطائفية – علويين واسماعيليين ودروز – وقد ضم انقلاب 23 شباط 1966 – القيادة القطرية - تيارين أساسيين، تيار يساري برجوازي صغير غالبيته من أصول ريفية معادية للطبقة المالكة للثروة، وقد كانت نقطة قوة هذا التيار متمركزة في القاعدة الحزبية البعثية (الشباطية ) الحاكمة، وقد حاول هذا التيار انتزاع ما تبقى من الثروة من يد البرجوازية السورية بهدف وضعها بيد الدولة من أجل توزيعها من خلال الدولة وبشكل عادل من وجهة نظرهم. أما التيار الثاني فكان تيار يميني ذو أصول ريفية كذلك، وقد كانت نقطة قوة هذا التيار متركزة داخل مؤسسة الجيش بقيادة حافظ الأسد وزير الدفاع في تلك المرحلة، وقد التقى هذا التيار مع التيار الأول على قضية ضرورة وضع يد الدولة على الثروة ولكن لا من أجل توزيعها من خلال الدولة بشكل عادل كما كان يرى ويتوهم التيار الأول بل من أجل العصيان بالسلطة، ووضع يده على الثروة كحد أقصى أو مشاركة ما تبقى من البرجوازية السورية في الثروة كحد أدنى، وهنا جاءت المرحلة الثالثة مع انتصار هذا التيار بانقلاب حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني 1970، وقد تم التمهيد لهذه المرحلة بالتخلص من بعض الشخصيات العسكرية والسياسية البارزة والفاعلة داخل الطائفة الاسماعيلية، فتم إبعاد أحمد المير والتخلص من عبد الكريم الجندي، وقبل ذلك تمت عملية تصفية " تكتل الضباط الدروز "(19)، التي انتهت بالتخلص من سليم حاطوم، كما تم التخلص من أحمد سويدان رئيس أركان الجيش " ومعه 160 ضابطاً من كتلة حوران السنية في الجيش خلال شهر شباط 1968"(20)، كما تمت عملية " إزاحة رجل صلاح جديد الهام عزت جديد عن قيادة اللواء السبعين المدرع التشكيل العسكري الأقوى في سوريا "(21). لكل هذا كان الطريق مفتوحاً أمام التيار الذي يقوده حافظ الأسد للوصول للسلطة 1970، كما كان الطريق مفتوحاً أمام الأسد من أجل مركزة كل السلطات بيده، من أجل البدء ببناء أوليغارشية عائلية حاكمة، مستندة على عصبية طائفية ( علوية )، مضافاً إليها قاعدة طبقية سياسية عامة. لقد تمت إزاحة جميع أبناء المدن بحجة أنهم كانوا أقل قطعاً مع الماضي، فباسم القطع مع الماضي الإقطاعي البرجوازي، تم القضاء على كل " أشكال الممارسة السياسية (الليبرالية) ومع تقاليد الحياة الاجتماعية "(22). وتم القضاء على ما تبقى من الفكر النهضوي الحقيقي الذي أتى به الجيل الأول من مفكري النهضة العربية، وتكمن المأساة في أن قادة هذه الأنظمة الاستبدادية قامت بكل ذلك باسم الجماهير وحتى أحياناً من خلال هذه الجماهير, فباسم القطع مع الماضي الإقطاعي البرجوازي قامت هذه الأنظمة بامتصاص " هياج القاعدة الشعبية باسم محاربة فساد الماضي بإقطاعييه وعماله بيساره ويمينه بأحزابه ونقاباته, بهرطقة مثقفيه التي تم تصويرها عاجزة ولا تعرف سوى الكلام الذي يقسم الصف الوطني "(23). طبعاً بذلك استطاعت بعض هذه النظم كالنظام الناصري تشكيل قاعدة اجتماعية وطبقية وسياسية كبيرة في بداية قيامها وبذلك استطاعت أن تعمم ثقافة وفكراً يفتقد لأي بعد ديمقراطي ونهضوي حقيقي. هكذا بقيت دولة البرجوازية التقليدية حتى نهاية الخمسينيات كما في الساحة السورية مكشوفة الظهر وغير مغطاة بأي فكر نهضوي حقيقي يدعم أركانها, فقد كانت دولة ديمقراطية دون أن يكون هناك تأصيل للفكر الديمقراطي في بنى القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة داخل المجتمع, لقد كانت كل القوى السياسية السورية في الخمسينيات ترفض فكرة حكم العسكر، ولكن في الوقت ذاته كانت كل القوى السياسية وخاصة القوى القومية البرجوازية الصغيرة تستقوي بالمؤسسة العسكرية ضد خصومها السياسيين، وقد قاد استقواء السياسيين بالعسكر من خلال إيجاد قواعد ونقاط ارتكاز لهذه الأحزاب داخل المؤسسة العسكرية إلى الدرجة التي أصبح فيها الجيش السوري " مفتتاً ومنغمساً في العمل السياسي إلى حد تلاشت معه الحدود بين المدنيين والعسكريين في حمأة الصراع المعقد المتشابك الذي شهدته سنوات ما قبل الوحدة مع مصر"(24). ثم قاد ذلك فيما بعد إلى أن يسيطر العسكريون على المدنيين ثم يحكم العسكر ومن دون المدنيين.



المصادر:
(1). ص218 البيان الشيوعي النسخة التي ترجمها العفيف الأخضر.
(2). ص219 المصدر السابق.
(3). ص213 – 214 المصدر السابق.
(4). ص 285 من كتاب " سورية ... الدولة المتوحشة " تأليف ميشيل سورا.
(5 ). الأقليات " المدمجة أو المتراصة " هو تعبير أخذ في البروز لتعريف أقليتين سوريتين رئيسيتين وهما الأقلية العلوية والأقلية الدرزية، بحكم أن هاتين الأقليتين تشكلان نوعاً من الأغلبية في المناطق الجبلية التي تقطنها كل منهما. وهذا لا ينطبق على باقي الأقليات التي تتوزع، دون تركيز، على مساحة الجغرافيا السورية. والتي جرى تعريفها كأقليات " مبعثرة أو متناثرة " ص60 كتاب تطور المجتمع السوري ( 1831 – 2011 ) تأليف نشوان الأتاسي.
(6). ص 285 من كتاب " سورية ... الدولة المتوحشة " تأليف ميشيل سورا.
(7). ص60 من كتاب تطور المجتمع السوري ( 1831- 2011) تأليف نشوان الأتاسي.
(8). ص66 البيان الشيوعي النسخة التي ترجمها العفيف الأخضر.
(9). ص66 المصدر السابق.
(10). ص66 المصدر السابق.
(11). يعتقد الكثيرون في أوساط اليسار أن الإصلاح الزراعي مطلب ماركسي لحل قضية الاستغلال الإقطاعي. وهنا من الضروري الإشارة إلى أن كارل ماركس عارض مفهوم الإصلاح الزراعي عند باكونين وقوامه تفتيت ملكية المزارع الكبرى إلى رقع صغيرة وتحول الفلاح الفقير إلى غني والعامل الزراعي إلى فلاح صغير لا يحلم إلا بتكبير قطعته. ومثل هذا التقطيع لأوصال المزارع الكبيرة لا يمكن إلا أن يلحق الضرر بإنتاج الأرض وإنتاجيتها: يقول كارل ماركس " لا ينبغي أبداً توطيد الملكية الصغيرة بتكبير قطع الأرض الصغيرة بوضع المزارع الكبرى بين أيدي الفلاحين حسب تصور باكونين الثوري " ص 34 البيان الشيوعي النسخة التي ترجمها العفيف الأخضر.
(12). ص36 قضايا وشهادات – الحداثة – 1 –عصام خفاجي.
(13). ص66 من كتاب تطور المجتمع السوري ( 1831- 2011 ) تأليف نشوان الأتاسي.
(14). ص 35 قضايا وشهادات – الحداثة – عصام خفاجي.
(15). ص 35 المصدر السابق.
(16). يقول خالد العظم " وتلك الحكومة في دمشق التي تجرؤ على الخروج على الطاعة، وتبدأ السير في طريق مؤد إلى التحرر من النفوذ الغربي... وهذه الحكومة يجب أن تزول، والعنصر الفعال فيها، خالد العظم يجب أن يتوارى أو يوارى! أليس هذا هو السر في حمل محمود رياض البعثيين الاشتراكيين على مقاطعة الانتخابات البلدية في 1957، لأنها كانت ستضعفهم وتقوي أصدقاء خالد العظم ؟ أليس هذا هو منشأ حملة محمود رياض على فكرة خالد العظم في حزب جديد، لئلا يشتد ساعده ويسيطر على المجلس التشريعي في 1958؟ أليس هذا أيضا هو السر في موقف البعثيين العدائي من حليفهم خالد العظم، وهم الذين كانوا أتباعاً لمحمود رياض، يتلقون منه التوجيه والايحاء ؟ لقد خافوا على أنفسهم ثم خافوا على مصر، فراحوا يجتمعون سرا برشيد الكيخيا، وببعض رجال حزب الشعب، ليخذلوا التجمع القومي ويقيموا محله جبهة بعثية اشتراكية شعبية وطنية يدور في فلكها سائر العملاء وأجراء الاستعمار ! ذلك لان الشعبيين والوطنيين يؤثرون الانقياد لأكرم الحوراني ولمصر على التعاون مع خالد العظم، رغم أنه أنقذ حياة بعضهم من حبل المشنقة الذي كان يمسك بأطرافه أكرم الحوراني وعفيف البزري. لكن مصلحة بريطانيا ومصلحة الولايات المتحدة هي في أن يبعد عن ميدان السياسة كل من نادى بالصداقة مع الدول الشرقية، دون الغربية ! أما أكرم الحوراني، رغم مشاركته هذا الرأي، فهو عدو الشيوعية لا من حيث مبادئها، بل من حيث الجماعات القائلة بها في سورية " ص 41 – 42 من مذكرات خالد العظم الجزء الثالث.
(17). ص 38 – 39 كتاب مذكرات خالد العظم الجزء الثالث.
(18). ص37 قضايا وشهادات – الحداثة – عصام الخفاجي.
(19). ص 258 من كتاب تطور المجتمع السوري ( 1831- 2011) تأليف نشوان الأتاسي.
(20). ص 265 المصدر السابق.
(21). ص 265المصدر السابق.
(22). ص37 قضايا وشهادات – الحداثة – عصام الخفاجي
(23). ص 37 المصدر السابق.
(24). من كتاب الصراع على سوريا تأليف باترك سيل ص 319 وللمزيد يمكن مراجعة الصفحات 319- 320 - 321 - 322.

نظام الاستبداد المعمم في سوريا مقدماته ومراحله - 10 lemonde.in 5 of 5
لومـــــوند : نبيل ملحم عاشراً: علاقة الريف بالمدينة وصعود نظم الاستبداد المعمم. لا أبالغ إن قلت أن شكل ومحتوى العلاقة الشاذة التي قامت في ا...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك