المعطى الفلسفي والمعطى الديني في الحراك الإنساني
لومـــــوند : د. باسم عثمان
مقدمة:
عبر التاريخ سعى الناس في مختلف مواطنهم ومشاربهم لفهم طبيعة الوجود وظاهرة الحياة، بدافع أن يرتبطوا بفهم وأدراك يبعث فيهم الاطمئنان والسكينة إلى سلامة وجودهم في الحياة(الدنيا)المادية، وفي الحياة (الاخرة) التي تلي حادثة الموت(الماورائية). ومن عصر لآخر، ظهر اشخاص تميزوا بالحكمة والخُلق الكريم، عرضوا ما لديهم من رؤيا وحقائق حول ذلك، وأيضا حول ما يُصلح به حال الإنسان ويُفسده، رابطين سعادة الإنسان بصلاحه... وشقائه بفساده، منهم كان الأنبياء وكان الحكماء أي الفلاسفة. ويمكن القول، إن الخبرتين الفلسفية والدينية قديمتان قدم الإنسان ذاته، وقد ارتبطا به منذ البداية، فبعد أن نجح الإنسان الأول في السيطرة على الطبيعة وجعل ظروفها ملائمة لحياته، كان من الطبيعي أن يفكر في حقيقة هذا العالم الذي يعيش فيه، ويتساءل عن أصله وأصل الوجود ككل، وهذه التساؤلات هي في صميمها تساؤلات فلسفية. حيث لم يكن ممكنا في ذلك الوقت، الفصل بين الخبرة الدينية والخبرة الفلسفية فكلاهما كان بمثابة بحث عقلي، وقد نجح حينها ارسطو في بلورة تصور شبه متكامل عن تمايز البحث الفلسفي عن البحث العلمي، وتمييز كلاهما لديه عن العقيدة الدينية. لذلك-يُخيّل للبعض من الناس -أن الأصالة في الفكر الإنساني(العقيدي) هو الدخول إلى الماضي لنغيب فيه، ونعتبر ايضا أن الماضي مؤصل في الشخصية ومعمق في الوجود، فيجب علينا أن نقدس الماضي حتى أننا يجب ان نعتبر الأخطاء مقدسات. وعلى هذا الأساس، تحدث-بعض الناس-عن الأصالة الفكرية كما لو كانت تركيزا على التخلف، حيث أن الماضي يحتضن الكثير من التخلف في الفكر وحركة الحياة, ونجدهم يتحدثون عن "التغريب" في الجغرافيا والمكان، كما لو كان هناك فاصل في الخطوط الفكرية بين الشرق كمكان والغرب كمكان آخر,لهذا,عندما نتحدث عن الأصالة في الفكر، فإننا لا نتحدث عن ماض يحتضنه الزمن فيما يسمى تاريخاً، فقد لا يحمل هذا الماضي في بعض مواقعه وخطوطه شيئا يتأصل الانسان به، بل قد يكون شيئاً في السطح وفي الشكل، وقد نجد في الحاضر كثيراً من عناصر الأصالة في الفكر, لأن الانسان يجد فيه نفسه ككائن حي متأصل بما ينتمي في وجوده.لذلك، قد نجد في الغرب قيماً إنسانية لا نجدها في الشرق، وقد نجد في الشرق قيماً انسانية سلبية -لا إنسانية -لا نجدها في الغرب، وذلك لسبب بسيط: وهو أن الفكر لا وطن له، حيث أنه يستوطن مكاناً لأنه ينطلق في وعي انسان مفكر يعيش في هذا المكان، وجاءت الظروف الموضوعية لتفرضه واقعاً في حركة الفكر في هذا البلد. ليس هناك وطن للفكر، الفكر أعلى وأسمى من التاريخ ومن الجغرافيا، حيث أن الجغرافيا والتاريخ يكبران به، به يتقدس المكان والزمان ولا يتقدس الفكر بالزمان والمكان. إن المبادئ في الفكر الانساني لا تدخل في عملية استيراد وتصدير, لأنها ابنة الحياة عندما تحمل عمق الحقيقة وليست ابنة مكان معين، لأن الانسان يصنعها ويبدعها, يستوحيها ويحركها، ثم لينطلق ليفعل بها الواقع في كل المظاهر الانسانية، لذلك, علينا أن نبتعد عن إعطاء الفكر المفاهيم التي تُعلّبه أرضاً وزماناً، لأن الانسان عندما ينطلق ليفكر: فانه يبدع فكراً إنسانياً انطلاقاً من خصائصه الانسانية. إذاً، أنت أصيل بقدر ما يمثل فكرك عمق وجدانك وعقلك، والفكر يكون اصيلا في الحياة بقدر ما يمثل حاجة الحياة في كل ضروراتها، فالقضية ليست انفعالاً ننفعل به, وليست انتماءً طائراً ننتمي إليه، بل هي حياتنا وفكرنا هو حياتنا، لأن الحياة صورة لكل مفاهيمنا التي تفرض نفسها سلباً أو إيجاباً، تقدماً أو تخلفاً، وذلك من خلال الوجدان والفكر الذي نحمله، لذلك، لا يكون الانتماء حالة طارئة في الانسان بل هو حالة ثابتة في وجوده، لأنك بما تنتمي توجد. في هذا المعنى ,لا بد لنا من أن ننطلق لنفكر أولاً، لا الفكر الذي ينطلق ليدرس الانسان في خطوطه العملية في الحياة, يجب علينا أن ندرس إنسانيتنا؟!، أن نفكر وأن يكون الفكر يساوي العقلانية والموضوعية، العقل الذي يقف مستنكراً ليلتقط ملاحظة هنا وأخرى هناك، فكرة هنا وأخرى هناك، ندرس كل انتماءاتنا لنعقلها ولنؤصلها في وجداننا, لأننا قد نكتشف أن كثيراً من انتماءاتنا كانت إرثاً و لم تكن فعلاً!!!، والبيان الإلهي يؤكد على ذلك بقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾،والارث ليس بالضرورة أن يكون سلباً دائماً،لا بد لنا أن ندرس سلبياته و إيجابياته، لأن إرث ما تركه لنا آباؤنا قد لا يكون له دور في حساب حياتنا، لأنه إرث من زمن ماض انطلق من تجربة محدودة و تحرك في أفق محدود، لهذا ليس بالضرورة أن نقدس التراث بل علينا دراسته والتدبر فيه، لأنه كان فكر أناس جربوا وتجربتهم خاضعة للظروف الموضوعية التي كان يمثلها زمانهم، لذلك: هم كسبوا فكراً وعلينا أن نكسب فكراً آخراً، يخضع للظروف الموضوعية والتي يمثلها زماننا, يقول تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾،تجربة لها ما كسبت من فكر خاطئ أو مصيب، ولكم ما كسبتم : أي لكل جيل كسبه, وليس بالضرورة أن يكون كسب الأجيال السابقة هو كسبنا من مسألة الإرث، وقد نكسب ما كسبوه لأننا اقتنعنا به ولأننا أردنا ذلك، لا لأن الآخرين تركوا لنا ذلك؟!!. ان القضية في عالم الفكر والانتماء، ليست أن يكون لك شيء جديد دائماً، ربما يكون لك فكر الآخرين؟! لكن على أساس أن يتحول ليكون فكرك بعد أن تقتنع به أنت، لا... لأن الآخرين اقتنعوا به، وهكذا هي المسألة في عملية التفاعل: "لنفكر معاً"، ولا تكون المسألة " فكروا لنا"، لأن "فكروا لنا" يلغي وجودنا، ولكن "لنفكر معاً" يمنحنا عمق هذا الوجود المتفاعل مع الوجود الآخر. لذلك، تكون لنا الأصالة في الفكر حيث تكون لنا الإرادة وحيث يكون لنا الاختيار، وعندها تكون الأصالة في مواجهة التبعية العمياء، أن تكون مجرد حركة تابعة لحركتهم، تتمثلهم لكنك لا تعيشهم، وجودك التابعي هو الوجود في الظل، وليس الوجود الحقيقي، هو الصدى والشبح، لا... الحقيقة.
المنطلقات في الفلسفة والدين:
ان الفلسفة والدين يختلفان جذرياً في المرجعية المعرفية الرئيسية لكل منهما، حيث ان في الفلسفة: تكون المرجعية المعرفية الرئيسية إنسانية... أي العقل، اما في الأديان: هي من الوحي أو الإلهام، بينما معطى الفلسفة (العقل) يتطور بتطور المعرفة، في حين ان معطى الوحي أو الإلهام ثابت نصاً, لكنه يحتمل التأويل والتدبّر والتفكر: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾,كما ان الأديان مبناها التصديق والتقديس, وتعزو للحياة معنى وللوجود غاية (ما ورائية)، اما الفلسفة تصمت عن ذلك ومبناها التنظير والتحقيق، لكنها كما الأديان تدعو الإنسان أن يحيا هذه الحياة بخلق كريم وهدف نبيل، ويَصُبّان معا في تحقيق النماء والصلاح في الذات الانسانية وعموم الحراك الإنساني.
الفلسفة من منظورها ترى في الأديان نتاجا إنسانياً، وإن كان مؤسسوها قديما أضفوا عليها صفة القداسة بعزوها لمصدر(لاهوتي)، أي مصدر (ماورائي) خارج الاجتهاد الإنساني، ومن ثم درج العوام على اعتبارها كذلك حتى يومنا هذا، أما الأديان فهي ترى في الفلسفة عرضة للخطأ والشطط، وتراها أيضا قاصرة عن تحسس البُعد (الوجداني/الروحاني) الذي تراه الأديان بفطرة الإنسان, وهي ترى أيضا أنها وحدها الممكنة للإنسان من تحسس ذلك البُعد والارتباط به، أي البُعد الذي يبعث في نفس الإنسان الطمأنينة والسكينة وسط اضطرابات الحياة، ويضمن لها حياة ميسرة وكريمة في الآخرة. ان الفلسفة تتفهم الأديان ومحتوياتها من معتقدات غيبية وتخمينات طبيعية، شعائر وطقوس تعبدية وشرائع حياتية ومنظومات أخلاقية، مع أنها لا تتفق مع منطلقات الأديان وجل معطياتها، إلا أنها تتفهم دواعي تشكل الأديان على نحو ما تشكلت به من أثر واقع البيئة الثقافية التي نشأ من رحمها, اما الأديان فهي من جهتها لا تُقّر بالأفكار الفلسفية كونها أفكارا غير منضبطة بضابط (لاهوتي/ ماورائي(، أي الضابط الذي تراه الأديان ضروريا لأجل ضمان سلامة التفكير واستقامة المسلك لدى البشر, إلا أن الأديان لا تغفل عن رؤية ما في المنطق العقلي الفلسفي من مساحة عريضة لتأويل نصوصها المستوحاة أوالملهمة تأويلا موضوعيا، بما لا يتناقض مع المعرفة العلمية المستنبطة بالاجتهاد الإنساني.
خلاصة القول: ان الأديان ظلت ولا تزال على رؤية الفلسفة خصما متحدياً لأطروحاتها الغيبية، وفي المقابل الفلسفة ظلت ولاتزال تنظر للأديان أنها معيقة لنماء الاجتهاد الإنساني المعرفي الحر، في فهم طبيعة الوجود وتشكل الكون ونشوء الحياة، ووضع الإنسان ضمن الكون كائنا حياً واعياً ومحكوماً كأي شيء آخر في الوجود، من خلال السنن الكونية التي لا يعتريها تبدل ولا تحول، بالنتيجة: الفلسفة والأديان يتعامل كل منهما مع الاخر بتحفظ وحذر، ولكن، مع كل ذلك، لا نُعدم في البحث المعرفي سعة للمقاربة بين الفلسفة والأديان، حيث يمكننا النظر إلى الأديان من منظور فلسفي متفهم، وإلى الفلسفة من منظور ديني متفهم, لان المقاربة تبدي أنه رغم التباين بينهما في المرجعية المعرفية الرئيسية، العقل لدى الفلسفة والوحي والإلهام لدى الأديان، ورغم التباين بينهما في جُلّ المحتوى الفكري، الا ان هنالك تلاق بين الاثنين عند مقاصد إصلاح الإنسان خلقيا وإنمائه معرفيا وإسعاد حاله، أضف إلى ذلك، أن الفلسفة والأديان تشاركا عبر التاريخ في توسيع أفق المعرفة عامة، كما أنهما ساهما، كل من منطلقه ومنظوره، في تنظيم حياة المجتمعات وترشيدها وتهذيب أخلاق الفرد, وأن الإدراك بالوحي أو الإلهام لا يعدو كونه في الحقيقة كمثل الإدراك بالمعرفة والمنطق العقلي، إذ أن كليهما مُفرَز عقلي يأتي مُفعّلاً من ملكة خاصة من ملكات العقل, وكلاهما يمكن أن يفتح مدخلاً إلى ملامسة البعد (الوجداني/الروحاني) في وعي الإنسان.
لذلك، في العلاقة بين الفلسفة والأديان، لا نرى الفصم كليا بينهما ولا النظر إليهما كخصمين، ما نراه هو اصطحابهما معاً في نسق توأم معرفي وخُلقي يثري الخبرة الإنسانية عامة ويوجهها، وهو قائم على التعارف والتقابس بينهما، ما من شأنه ان يوسع الأفق المعرفي الإنساني ويعمقه، وإتاحة إمكانات أفضل نحو الأمثل للإنسانية جمعاء.
التوفيق بين الفلسفة والدين:
نقاشاً كان قد بدأه (سبينوزا) عن علاقة اللاهوت بالسياسة، في محاولة تفكيك فتاوى اللّاهوتيين من خلال علاقة الدين بالفلسفة، وعلاقة العقل بالدين، فحسب اللاهوتيين ينبغي أن تطيع الفلسفة علم اللاهوت، بل أن تكون تابعة له لأنه أشرف العلوم وأرقاها, وأشار (سبينوزا) إلى أن حرّية الفلسفة والتفلسف ليست ضد السياسة مثلما ليست ضد الورع والتقى، حيث ان هدفها تفسير النص الديني (الكتاب المقدس),معترفاً بدور الدين وقيمه الأخلاقية السامية، ولكنه ينفي عنه الغيبيات والطقوس والمعجزات؛ فالأديان بعيداً عن العصبيات ينبغي أن تٌعلّم الحكمة والموعظة والقيم الإنسانية، وليس غير العقل من يقوم بذلك، وهكذا فالفلسفة ليست ضد الدين، لكنها ضد التعصّب الديني والتمترس الطائفي. وكان هناك من انتقد الفلسفة وبُعدها المعرفي، وقد " كفَّر" الغزالي التفسير العقلاني للدين الذي اجتهد فيه ابن سينا والفارابي، وذلك حين كتب كتابه الموسوم "تهافت الفلسفة" والذي ردّ عليه ابن رشد بكتاب عنوان "تهافت التهافت"، لكن ابن رشد الذي شدّد على أن القرآن والدين يدعوان إلى إعمال العقل بالمعنى البرهاني، قُمع وأُحرقت كتبه، وجرت محاولات للانتقام منه وطمس صوته وتشويه سمعته، علماً بأنه أعلى من شأن الحرّية والروح وهما أساس الدين، وجوهر تفسير ابن رشد يستند : إلى أن الدين لا يمكن فهمه إلّا على ضوء الفلسفة، وهما رفيقان حميمان لا انفصال بينهما، ذلك هو الدين الروحاني العقلاني القيمي المستنير الحر، فالفلسفة حق والدين حق، والحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد عليه. وقد تنبّه إلى ذلك دعاة الإصلاح الديني من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم الذين تأملوا في السؤال الكبير: لماذا تأخرنا وتقدّم غيرنا؟ حتى اعتبروا التقليد خيانة؟ لأنه يكرس واقع التبعية والشعور بالنقص والانحلال الخلقي، حتى دعوا الى تعلم اللغات الاجنبية للأخذ بالعلوم الحديثة عن الغرب، لان ذلك يعتبر من ركائز و جوهر الاسلام, على الرغم من أن دعاة الاصلاح والنهضة طرحوا السؤال إعجاباً بتقدّم أوروبا في ذلك الوقت، لكن ثقل الماضي ومخزونه السلبي كان وما يزال يحكمنا ويتحكّم فينا، فلم نتخلص بعد من صدمة الاستعمار الذي استعمرنا لسنوات، وأعدنا ميراث الماضي في سلطات مركزية، فلم نستطيع أن نواكب التطور والحداثة, خصوصاً بتعظيمنا لنسق العلوم الدينية على حساب نسق العلوم العقلية والمعرفية، فالأولى تعتبر العقل نسبي في حين أن النص مطلق، ولهذا ينبغي إخضاع الثاني للأول، بل ينبغي أن يكون تابعاً له, لان أصحاب المدرسة اللاهوتية في الفقه يعتقدون أن العقل محدود بحدود "الشرع", ومهمته تطبيق النصوص الدينية فقط ، الأمر الذي جعل من العقل محدود القيمة في المعرفة والبحث, لأنه لا يستطيع المغامرة بحثاً عن المعرفة خارج المنظور الديني. إن مثل هذه النظرة الاستباقية لدور العقل, والتي تجعله محصوراً في إدراك ما يقوله "الشرع", وفي تفسير النصوص الدينية والسير في حدود تطبيقها، هو ما أدى ويؤدي إلى التخلف المعرفي أولاً والعقلي ثانيا والعلمي ثالثاً، وتلك معضلاتنا الأساسية، التي جعلتنا " نتحصّن" بالتخلف, ونمتنع عن أي محاولة لنقد الماضي باتجاه التحديث والعصرنة, التي أخذنا قشورها وتركنا لبّها، حيث حافظنا فقط على بنية الوعي التقليدية حتى لو اعتمدنا التكنولوجيا الحديثة وأسسها العلمية ، لكننا بقينا نغرق في الأيديولوجيا ومصطلحاتها، إذْ أننا لم ننتج المعرفة ولا تقدم دون معرفة, رغم اننا كنا السباقين في انتاجها ، وما زلنا ايضا نرى أن العلم النافع هو نسق علوم الشريعة, مستصغرين من نسق العلوم العقلية والمعرفية، ودليلنا على ذلك, ما نُخصّصه من واردات من الناتج المحلي الإجمالي لشؤون البحث العلمي.!! ونستطيع القول إنه لا يمكن إحراز نهضة حقيقية دون الإقرار بالحق في الفلسفة وبُعدها المعرفي، وبالتالي الحق في الاختلاف والاجتهاد والحرّية خارج دوائر الإجماع المصطنع، لأن ما يحرك التاريخ هو الصراع والحوار والجدل والاختلاف والتبادل والتفاعل، وإلّا فإن مجتمعاً ساكناً سيكون مجتمعاً ميتاً، والأساس في حركيته وديناميته وتنوعه وتعدديته واختلافه، وتلك قيم إنسانية خالصة، وباعتمادها يمكن أن نواجه التحدّيات الخارجية والداخلية، وذلك باستخدام العقل الذي هو أساس فلسفة الدين.
أنماط التفكير: إن أبرز التساؤلات التي تتبادر إلى الأذهان حينما نتحدث عن طبيعة الفلسفة والموقف الفلسفي، تكون عادة حول علاقة الفلسفة بالعلم من ناحية، وعن علاقة الفلسفة بالدين من ناحية أخرى، والحقيقة أن هذه التساؤلات لا تكون حول علاقة الفلسفة وكل من الدين والعلم فقط، بل تكون تساؤلات حول التمييز بين أنماط من التفكير، إذ أن نمط التفكير الفلسفي يختلف عن نمط التفكير في كل من العلم والدين، وهذا الاختلاف في نمط التفكير هو ما يبرز الفروق بين الفلسفة والعلم من ناحية وبين الفلسفة والدين من ناحية أخرى. على الصعيد الديني فقد حسمت الشرائع الدينية السماوية تساؤلات جديرة بالنظر والاعتبار مثل: ما جدوى الفلسفة في وجود الدين؟!، في حين أكد فلاسفة الإسلام على أنه " لا يوجد أي تعارض بين الدين والفلسفة، فالحق لا يضاد الحق"، وأن الحجج العقلية الفلسفية داعمه للإيمان والاعتقاد الديني ومؤكدة له، فالدين والفلسفة يلتقيان في معالجة العديد من الموضوعات مثل: أصل العالم، طبيعة الإنسان، وطبيعة الوجود. وهنا يجدر الإشارة الى ان الحقيقة الفلسفية حقيقة نسبية، يدركها كل فيلسوف من زاوية معينه حسب رؤيته الفلسفية المتميزة، وترجع الى: طبيعة الموضوعات التي يتناولها الفلاسفة بالبحث والتأمل، واختلاف وجهات نظر الفلاسفة ومذاهبهم الفلسفية حول أي موضوع في بحثهم ودراستهم، وهذا من صميم الطبيعة البشرية، اما المنهج المتبع, فهو قائم بطبيعته على ما يفكر فيه عقل الإنسان وعلى ما تقوده إليه تأملاته, وعلى الحجج العقلية المقنعة التي تجعل هذا الفيلسوف أو ذلك يؤمن بحقيقة معينة, وهنا العقل يحتل مكان الصدارة لتجنب المسلمات الغامضة ، فهو يُخضع كل شيء للحوار والجدل ، ولا يعتقد في أي شيء الا أذا امتلك الدليل العقلي عليه. بينما تتركز موضوعات الدين حول علاقة الانسان بالخالق، وكيفية التقرب إليه بالعبادات والعقائد والشعائر الإيمانية، وهي حقائق مطلقة مصدرها علوي سماوي (إلهي)، أي القبول والتسليم بحقائق معينة تسليما مطلقا والإذعان لها إذعاناً تاماً، وهي بذلك تنأى عن أي شك وغير قابلة للتعديل أو التطوير، لذلك، فان المفكر الديني مثله مثل الفيلسوف يستخدم المنطق والعقل في الفهم والتأويل والتفسير والرد على الخصوم، فهما يتحدان في هدف مشترك هو إدراك الحقيقة.
الخلاصة:
إن العلاقة بين الفلسفة والدين ليس صراعا مطلقا، فلا الفلسفات كلها رافضة للدين والإيمان بالألوهية، ولا الدين اتخذ من الفلسفات كلها موقفا سلبيا، فمعظم الفلسفات تكاملت مع الدين، وتتجلى الصلة بين الفلسفة والدين في
حقيقتين أساسيتين:
- الفلسفة والدين يلتقيان في وحدة جوهرية من حيث أنهما وجهان لحقيقة واحدة، فالفلسفة والدين في جوهرهما يسعيان لمعرفة الصانع، لان الفلسفة هي دراسة الموجودات للاستدلال بها على الصانع.
- تشترك الفلسفة والدين في غاية واحدة وهي تحقيق السعادة.
ويجدر الإشارة, الى ان كل الأديان السماوية حثت على إعمال العقل في الكون لإدراك الصانع، ومعرفة حقيقة النفس الإنسانية وعلاقتها بكل ما في الوجود، ومعنى ذلك,أن الإنسان مطالب بأن يُعمل عقله في حياته الإنسانية، لذلك فالقرآن الكريم وكذلك الكتب السماوية الأخرى, لا يذكرون العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه, ومن هنا لا يجوز للإنسان أن يُعَطًّل العقل عن أداء وظيفته في التأمل والتفكير، فإن تعطيل العقل عن أداء هذه الوظيفة يعتبر تعطيلا للحكمة التي أرادها الله من خلق العقل, حيث طالبت كل الكتب السماوية بالدليل والبرهان والاعتماد على الحجج المنطقية والبراهين العقلية للوصول إلى النتائج الصحيحة, يقول تعالى في كتابه العزيز:﴿ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ﴾.