نظام الاستبداد المعمم في سوريا مقدماته ومراحله - 5

لومــــوند : نبيل ملحم
خامساً: دولة برجوازية حديثة ناجزة وبطء في صيرورة تعميم التبرجز
بالرغم من كون خصائص وبنية البرجوازية التقليدية العربية ومنها السورية في بداية تجربتها ووجودها في السلطة والسوق, تشير إلى ضعف وهشاشة هذه الطبقة الاجتماعية, إلا أن ذلك لا يشير إلى كل حقيقة وجودها داخل البناء الاجتماعي, فإذا كان صحيحاً ضعف قاعدتها الاجتماعية وعمقها الطبقي داخل المجتمع، إلا أن ذلك لم يكن في مستوى ومجال قوتها السياسية والثقافية, فالوزن السياسي والثقافي للبرجوازية السورية في تلك المرحلة كان أكبر بما لا يقاس من وزنها وحجمها الاجتماعي والطبقي داخل المجتمع السوري. وأن يكون لطبقة اجتماعية وزن سياسي أكبر من حجمها الاجتماعي والطبقي ليست سابقة في التاريخ البشري, فالطبقة العاملة الروسية مثلاً في بداية القرن العشرين وعشية ثورة أكتوبر البلشفية التي أسقطت القيصرية الروسية عام 1917, كان وزنها السياسي ودورها أكبر بما لا يقاس من حجم وجودها الطبقي. وقد تأتت القوة السياسية للبرجوازية السورية التقليدية في تلك المرحلة من ضعف القوة السياسية للطبقات الأخرى داخل المجتمع السوري, وإذا كان ضعف الطبقات المسحوقة من الفلاحين وطبقة العمال الفتية في تلك المرحلة مفهوماً ولا يحتاج إلى تفسير وتعليل, إلا أن ضعف الطبقة الإقطاعية القديمة في وجودها الطبقي والاجتماعي داخل البناء الاجتماعي السوري هو الذي يجب أن نشير إليه, حتى نفهم كيف أن الطبقة البرجوازية السورية الجديدة على الواقع السوري في تلك المرحلة, كان لها الوزن السياسي الأكبر من بين كل الطبقات الاجتماعية داخل المجتمع. إن الطبقة الإقطاعية بالرغم من وجودها القديم داخل البناء الاجتماعي السوري, وبالرغم من أنها حاولت أن تجدد شبابها الطبقي والسياسي بعد هزيمة رأسها العثماني في الحرب العالمية الأولى, من خلال ما حصلت عليه من أملاك تركة الرجل المريض العثماني من بوابة تعاونها مع الاحتلال الفرنسي, وحيث أصبحت تملك الأراضي بالأصالة عن نفسها. يقول المؤرخ السوري عبد الله حنا " لم تتغير أشكال الملكية الزراعية في عهد الانتداب تغيراً جوهرياً عما كان عليه في أواخر العهد العثماني. فقد كرس قانون 1930 الفرنسي – كما هو الحال في القانون 1858 – حق الملكية الكبيرة الإقطاعي. ولم يبدل شيئاً في المفهوم العثماني الإقطاعي لحق الملك. وتدل الوقائع أن الملكيات الكبيرة أخذت في الاستقرار، وضمنت حرية ( الملكية الإقطاعية ) من المصادرة وغيرها. واتسعت مساحة الملكيات الإقطاعية نتيجة الاستيلاء على أراضي أملاك الدولة، لقاء التقرب والتزلف من المستشارين الفرنسيين ( ضباط الاستخبارات) وتأييد سياستهم والوقوف في وجه الحركة الوطنية."(1).
أقول بالرغم من كل ذلك إلا أن الطبقة الإقطاعية السورية كانت تسير باتجاه التقهقر السياسي التدريجي ونحو هاويتها السياسية والطبقية, وقد تأتى هذا كنتيجة لعدد من الأسباب و هي :
أولاً- هزيمة رأسها وولي نعمتها العثماني, الذي حكم الشعوب العربية قروناً من الزمن بوصفه ممثلاً سياسياً لهذه الطبقة على أرض الواقع, تحت حجة وذريعة كونه ممثلاً للإسلام كما ادعى.
ثانياً- الدفع الذي أعطته الرأسماليات الغربية وحكوماتها الاستعمارية للبرجوازية في المجتمع العربي, لا حباً بالبرجوازيات العربية, وإنما حباً بمصالحهم المتمثلة في تلك المرحلة بمحاربة وطرد العثمانيين من المنطقة العربية كي يتسنى لهم الحلول مكانهم كمستعمرين جدد.
ثالثاً- وما ساعد وساهم في إضعاف طبقة الإقطاع سياسياً كان تعامل وتعاون قسم من هذه الطبقة مع المستعمر الجديد الغربي, كما كان حالها مع المستعمر القديم العثماني, وقد شكل هذا التعاون مع المحتل الأجنبي المسمار الأكبر في نعش قوتها السياسية, وفي المقابل كان رجالات الطبقة الجديدة البرجوازية يشكلون في أعين المجتمع أبطال الاستقلال الوطني.
رابعاً- لقد استطاعت البرجوازية السورية ومنذ المرحلة الأولى من نشأتها أن تشكل تعبيراتها السياسية الحزبية, في حين عجزت الطبقة الإقطاعية وعبر كل تاريخها عن تشكيل تعبير سياسي خاص بها, وحتى عندما دخلت إلى الأحزاب فإنها دخلت إلى الأحزاب البرجوازية القريبة منها سياسياً وطبقياً. هكذا استطاعت البرجوازية السورية أن تكون وازنة سياسياً أكثر من كل الطبقات الاجتماعية داخل المجتمع, ونتيجة لهذا الوزن السياسي استطاعت وبسهولة أن تفرض مشروعها ونموذجها المقتبس من النموذج الأوروبي في بناء الدولة السورية البرجوازية. يذكر نشوان الأتاسي في كتابه تطور المجتمع السوري ( 1831 – 2011 ) حادثة ذات دلالة عميقة في هذا الشأن، ففي انتخابات الجمعية التأسيسية في سوريا في شباط 1928 والتي تم انتخابها من أجل وضع دستور جديد للبلاد، ونتيجة لقيام سلطة الانتداب الفرنسي بالتعاون مع الحكومة الموالية لهم بالتلاعب في صناديق الاقتراع فقد تمكن الفرنسيون " من تأمين فوز شخصيات من خارج الكتلة ( الوطنية ) في مدن صغيرة ومناطق ريفية وزراعية لا وجود فيها للكتلة ( الوطنية ) وكذلك في لواء اسكندرون " (2). في المقابل فإن الكتلة الوطنية التي مثلت في تلك المرحلة أول جسم سياسي مثل البرجوازية السورية بكل أطيافها وشرائحها وتوجهاتها السياسية المختلفة والتي قادت منذ ذاك التاريخ وهي موحدة النضال من أجل الاستقلال الوطني وعملية بناء الدولة السورية في تلك المرحلة، فإنها لم تحصل في تلك الانتخابات في المحصلة النهائية للنتائج " إلا باثنين وعشرين مقعداً من أصل مقاعد الجمعية السبعين، أي اقل قليلاً من الثلث" (3). ولكن بالرغم من ذلك فقد " بدا واضحاً خلال الجلسة الافتتاحية للجمعية التأسيسية في 9 حزيران مدى قدرة الوطنيين على السيطرة على مسار الجلسة، وتشتت " المعتدلون " والأعيان الريفيون وزعماء البدو الذين راهنت المندوبية العليا ( الفرنسية ) على قدرتهم في التصدي للوطنيين، فلم يتمكن هؤلاء من مجاراة الوطنيين في بلاغتهم وبراعتهم السياسية، فقبعوا في أماكنهم وعقدت ألسنتهم عن الرد، وبذلك استطاعت الأقلية الوطنية أن تقسمهم وتعزلهم، وكانت النتيجة أن انتخب هاشم الأتاسي رئيساً للمجلس، وإبراهيم هنانو رئيساً للجنة الجمعية لوضع الدستور مع 26 نائبا آخر كانوا في معظمهم من الوطنيين، ثم انتخبت هذه اللجنة اثنين من أكفأ أعضائها، هما فوزي الغزي وفايز الخوري، عضوين في لجنة الصياغة الفرعية. وبذلك غدت الجمعية التأسيسية مؤسسة رسمية معارضة للحكومة المعينة من قبل الفرنسيين(4). وبالرغم من كل المناورات السياسية التي قامت بها سلطة الانتداب فقد استطاعت الجمعية التأسيسية من وضع مسودة دستور جديد " في غضون شهرين، فوضعت مسودة من 115 مادة، بوحي من أنظمة ديمقراطية أوروبية، وقد تبنت فيها جمهورية برلمانية ذات مجلس واحد ينتخب لمدة أربعة أعوام باقتراع شامل على مرحلتين، جاء الدستور وثيقة حديثة لا تعكس فقط ما لدى واضعيها الرئيسيين فوزي الغزي وفايز الخوري، من ذهنيتين قانونيتين منسجمتين بدقة، بل أيضاً النخبوية الديمقراطية للكتلة الوطنية "(5).
ولكي نحل لغز وأحجية هذه الفاعلية السياسية للنخب البرجوازية السورية يكفي أن نعلم أن أغلبية أعضاء الكتلة الوطنية كانوا ذوي " مستوى تعليمي مرتفع بصورة غير عادية، وكان 90 % من أعضائها قد تلقوا تعليماً علمياً بدلاً من التعليم الديني التقليدي، وحصل أكثر من نصفهم على تعليم عال في اسطنبول لإعدادهم للخدمة الإدارية أو العسكرية في الإمبراطورية العثمانية، والتحق 20 % آخرون بجامعات في أوروبا، أو بالكلية البروتستانتية السورية في بيروت حيث درسوا القانون أو الإدارة العامة أو الطب. وتظهر الخلفية المهنية للقيادة أن 40 % منهم كانوا " سياسيين محترفين " وكان ثلثهم محامين أو أساتذة قانون في الجامعة السورية بدمشق ومنخرطين في السياسة المحلية، بينما اشتمل الثلث الآخر على ثلاثة أطباء وتاجرين ووجيه ديني وموظف وضابط شريفي متقاعد "(6). وهكذا كان منطقياً ومفهوماً أن تستطيع البرجوازية السورية فرض منطقها في إقامة دولة برجوازية حديثة ديمقراطية في مجتمع نسبة السكان المقيمين في الأرياف من الفلاحين تصل إلى حدود 75 بالمئة من عدد السكان الإجمالي, وبهذا أصبحنا أمام دولة برجوازية حديثة مع بقاء المجتمع القديم دون أن يمسه التغيير. حيث 75 بالمئة من عدد السكان يعيشون في الأرياف، بعضهم يرزحون تحت نير العلاقات الإقطاعية وشبه الإقطاعية, أي دولة برجوازية حديثة دون أن يكون لها رصيد برجوازي مكافئ في البناء التحتي الاجتماعي, فكانت الدولة تبدو وكأنها غطاء و " قشرة رقيقة تغطي تصدعات مجتمع تقليدي قديم ."(7). فالبرجوازية السورية ونتيجة لخصائصها التاريخية، كأي برجوازية عربية لم تستطع تعميم التبرجز داخل البناء الاجتماعي, فلم تقم بالقضاء الجذري والحاسم ولا حتى اللين والبطيء مع طبقة الإقطاع, وبما يعني تعميم وتوسيع علاقاتها الإنتاجية وسيادتها الشاملة في البناء الاجتماعي و على حساب العلاقات الإقطاعية, وبما يعني توسيع وجودها الطبقي وتعميم التبرجز داخل المجتمع بدل احتكاره من قبل قلة قليلة من مالكي الثروة وحتى قلة قليلة من العائلات السورية, ولأنها لم تقم بذلك فإن الدولة البرجوازية التي أقامتها, قامت على سطح بحر يموج تحت وطأة علاقات الإنتاج والاستغلال والاضطهاد الإقطاعي, ويهدد في كل لحظة بأمواجه بتدمير وقلب كل ما تم بناؤه. لقد اختارت البرجوازية السورية التقليدية منذ اليوم الأول في تجربتها في بناء الدولة النموذج البرجوازي الأوروبي الغربي التعددي الديمقراطي, وبما يعني في ذلك الزمن القطع مع النموذج والشكل العربي و العثماني الاستبدادي الإقطاعي الذي عاش في ظله المجتمع العربي قروناً وقروناً من الزمن, وبما يعني ترك المجال السياسي في البناء الاجتماعي حر ومستقل وغير مقيد ومحتكر من قبل السلطة السياسية للدولة, وفتح المجال للتعددية السياسية, وبما يعني إعطاء الحرية للقوى السياسية والاجتماعية في تشكيل الأحزاب السياسية وتشكيل تنظيماتها النقابية بعيداً عن تدخل الدولة ووصايتها, وقد فتحت البرجوازية السورية المجال السياسي إلى الدرجة التي يمكننا من القول أن سوريا أصبحت في تلك الفترة " برجاً للأحزاب خلال الأعوام التي سبقت الوحدة مع مصر عام 1958، وبأنها كانت غنية في الحياة السياسية بصورة لا تجاريها فيها أية دولة عربية أخرى "(8). فالحرية في تشكيل الأحزاب والنقابات للقوى السياسية والاجتماعية يعد الركن الأساسي وحجر الأساس في بناء الدولة البرجوازية الحديثة, فمن دون ذلك يصبح أي كلام عن دولة حديثة لغواً وديماغوجية يراد منها ذر الرماد في العيون. لقد, استطاعت البرجوازية السورية بعد سلسلة الانقلابات العسكرية التي حدثت عقب الاستقلال مباشرة أن تفرض سيطرتها وسيادتها على حدودها الخارجية, وبما يعني الحد ما أمكن من التدخلات الإقليمية والدولية في الشأن السوري التي كانت وراء موجة الانقلابات العسكرية الثلاثة الأولى بعد الاستقلال والتي بدأها حسني الزعيم بتاريخ 30 مارس 1949، ثم أعقبه في 14 آب 1949 انقلاب سامي الحناوي ثم ختمت الموجة الأولى بانقلاب أديب الشيشكلي الذي تم على مرحلتين فكانت الوثبة الأولى إلى السلطة يوم 19 كانون الأول 1949، ثم كانت الوثبة الثانية والحاسمة يوم 31 تشرين الثاني 1951، وإذا كان صحيحاً أن سلسلة الانقلابات العسكرية بدأت من جهة أولى نتيجة الانقسام في صفوف البرجوازية السورية وظهور ثنائية البرجوازية الدمشقية والحلبية على المستوى السياسي والذي انعكس بتشظي الكتلة الوطنية إلى الحزب الوطني الذي مثل مركز الثقل السياسي للبرجوازية الدمشقية وحزب الشعب الذي مثل مركز الثقل السياسي للبرجوازية الحلبية، وحيث أن الارتباطات الإقليمية المختلفة لكلا الحزبين ساعد في إضعاف تماسك الدولة السورية الفتية. ومن جهة ثانية كان هناك الخلاف بين السياسيين المدنيين من الجيل الأول الذين كانوا يقودون الدولة وبعض السياسيين الصاعدين إلى مسرح الحياة السياسية من الجيل الثاني الذين حملوا الجيل الأول مسؤولية النكبة في فلسطين، مضافاً إلى ذلك محاولة أحزاب هذا الجيل كالحزب العربي الاشتراكي بزعامة أكرم الحوراني، والحزب السوري القومي الاجتماعي بزعامة أنطوان سعادة، وحزب البعث العربي بزعامة ميشيل عفلق، استخدام الجيش لأول مرة في عملية الصراع الطبقي والسياسي على السلطة. ومن جهة ثالثة كان هناك الصراع بين السياسيين المدنيين من الجيل الأول والعسكريين في سوريا حول الجهة التي تتحمل مسؤولية النكبة في فلسطين عام 1948، وحول قضايا لها علاقة بالفساد داخل مؤسسات الدولة ولا سيما مؤسسة الجيش، كفضيحة السمن المغشوشة (9). ومثلها فضيحة الأسلحة الصدئة المغشوشة التي وجدت في مستودعات الجيش(10).
ولكن بدء الانقلابات واستمرارها وتتابعها لم يكن بفعل العوامل الداخلية فحسب بل أضيف إليها فعل التدخل الخارجي الإقليمي والدولي في الشأن السوري وتمفصله مع الصراعات الداخلية. فقد كان هناك التدخل السعودي الأمريكي في الشأن السوري من أجل تأمين الموافقة على اتفاقية مد النفط السعودي عبر الأراضي السورية من خلال أنابيب شركة التابلاين(11). كما كان هناك التدخل العراقي البريطاني من أجل تأمين الموافقة على مد أنابيب شركة النفط العراقي عبر الأراضي السورية، كما كان هناك الصراع على سوريا بين المحور الهاشمي في العراق وشرقي الأردن والمحور السعودي المصري من أجل ضم أو شد سوريا إلى هذا المحور أو ذاك. كما كان هناك التدخل الإسرائيلي والأمريكي من أجل عقد اتفاقية الهدنة الدائمة مع إسرائيل بعد حرب 1949 وفق الشروط الإسرائيلية (12). وإذا كانت هذه الانقلابات فتحت أبواب سوريا مشرعة لهذه التدخلات من كل حدب وصوب فإن البرجوازية السورية استطاعت في النهاية أن تجعل الساحة السورية فاعلة في هذه التدخلات بدل أن تكون منفعلة, وتحويل سوريا من " كرة تتقاذفها جاراتها المتنافسات "(14). إلى لاعب أساسي في محيطها الإقليمي والدولي. كما استطاعت البرجوازية السورية أن تفرض سيطرتها وسيادتها على حدودها الداخلية وبما يعني خلق حد من التوازن السياسي الاجتماعي بين القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة داخل المجتمع السوري, حيث مكنها هذا التوازن من الحكم عبر شرعية الانتخابات والاقتراع العام, وانفتح المجال بالتالي لعملية تداول السلطة وتنظيم عملية الهيمنة السياسية بين القوى السياسية والطبقية داخل المجتمع، كما تمت عملية بناء السلطة التشريعية (البرلمان) عبر الانتخابات العامة، كما تمت عملية فصل السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية بعضها عن بعض.
وقد كانت أكبر وأهم خطوة اتخذتها البرجوازية السورية على هذا الطريق (طريق بناء الدولة الحديثة) كان فصلها لكيان الدولة ذي الطابع العام والثابت عن كيان السلطة السياسية ذي الطابع الخاص والمتغير, أي فصل أداة السيطرة العامة عن أداة الهيمنة الخاصة, فهذا الفصل يعد بدوره حجر أساس في بناء أي دولة حديثة, وهذا الفصل يعني أن لا تكون أجهزة ومؤسسات الدولة هي ملك للسلطة السياسية (كما هو الحال في النظم الاجتماعية ما قبل رأسمالية) وإنما هي ملك للمجتمع ككل. فجعلت كيان الدولة أي أجهزتها ومؤسساتها المختلفة السياسية والاقتصادية والعسكرية مؤسسات تخص المجتمع ككل ومفصولة أو لنقل غير مرتبطة وتابعة بشكل مباشر للسلطة السياسية وكيانها, وقد قاد فصل كيان الدولة عن كيان السلطة السياسية بالتكامل مع تحرير المجال السياسي إلى:
أولاً: أن تكون عملية تداول السلطة (تداول الهيمنة وتنظيمها), عملية ممكنة ومتاحة, فمع فصل كيان الدولة عن كيان السلطة السياسية, ومع تحرير المجال السياسي, أصبح من غير الممكن أن يستقوي أي طرف يصل إلى السلطة بقوة الدولة وأجهزتها, ولا سيما منها العسكرية والأمنية, وبالتالي الاستعصاء بالسلطة والحكم.
ثانياً: ومع انفصال كيان الدولة العام عن كيان السلطة الخاص, تحررت الدولة من إيديولوجية السلطة السياسية, فلم تعد تستطيع السلطة المتبدلة والمتغيرة, أن تطبع بطابعها الخاص أو بطابع إيديولوجيتها الخاص الدولة والمجتمع, فأصبحت الدولة هي دولة المجتمع بأكمله, لقد كانت الدولة في سوريا في الخمسينيات من القرن العشرين هي قومية وليست بقومية, وشيوعية وليست بشيوعية, وليبرالية وليست بالليبرالية, وإسلامية وليست بإسلامية, إنها الدولة التي تحمل كل ألوان الطيف السوري, إنها الدولة التي تستحق أن يقال عنها أنها دولة وطنية لأول مرة في تاريخ الدولة السورية, وباعتقادي إن الدولة أي دولة لا تستحق أن يقال عنها أنها وطنية إلا إذا تحللت من أي طابع إيديولوجي خاص, فالمجتمع كل المجتمع لا يمكن أن يعتنق ودفعة واحدة إيديولوجيا وحيدة بعينها, إلا إذا كانت إيديولوجيا الباطل والضلال.
ثالثاً : إن هذا الفصل قاد إلى نتيجة مهمة تمثلت بأن أصبحت المؤسسة العسكرية وهي من أهم أجهزة و مؤسسات الدولة (إن لم نقل أهمها على الإطلاق في ذلك الزمن), مؤسسة ليست حكراً على أبناء الطبقة الغنية داخل المجتمع أو على أبناء العائلات المالكة للثروة في المدن كما كان الحال في العهدين العثماني - وبدرجة أقل في مرحلة الانتداب - عندما كان الأمر مقتصراً على الأغنياء الذين يرسلون أبنائهم إلى الأستانة لتعلم العلوم العسكرية والانخراط في الجيش وبالتالي الانتماء إلى الجهاز الفوقي في الإدارة والحكم والجاه وبالتالي التأهيل لموقع اجتماعي وسياسي. فبدءاً من تاريخ 1 آب من عام 1946 وهو تاريخ استلام الحكومة السورية الوطنية للقوات المسلحة وكل ما يتعلق بإدارتها من سلطات الاحتلال الفرنسي أصبحت مؤسسة للجميع تضم تحت لوائها وجناحها وبعيداً عن الانتماء الحزبي أو الاجتماعي أبناء الطبقات المتوسطة في الريف والمدينة وحتى في بعض الحالات ممن ينتمون إلى الطبقات الفقيرة من المجتمع. يقول باترك سيل " لقد كان معظم الضباط في الجيش السوري من أفراد العائلات المتنفذة ... ولكن الأغلبية الساحقة من طلاب الكلية العسكرية أصبحت بعد عام 1946 من الطبقة الوسطى والدنيا التي تربت فكرياً وهي على مقاعد الدراسة بوسيلة أو أخرى في مدارس حركات الشباب النظرية التي ظهرت للوجود في الثلاثينات والأربعينات "(14). وتحديداً أبناء الريف السوري الفقير, أي أصبحت المؤسسة العسكرية وهي من أكبر وأهم المؤسسات داخل كيان الدولة ملكاً للجميع ولا تتبع إلى كيان سلطة سياسية بعينها تستخدمها متى تشاء وكيفا تشاء.
رابعاً : مع هذا الفصل وبالتكامل مع تحرير المجال السياسي, بدأت تظهر أجيال جديدة وقشرة جديدة من النخب السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية, ذات الأصول الشعبية والريفية, إلى جانب النخب السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية التقليدية البرجوازية والمدنية. وتحت ضغط وتوالد الثنائيات التي تحدثت عنها سابقاً, بدأت تنتقل هذه الثنائيات إلى داخل المؤسسة العسكرية، قيادات عسكرية ريفية مقابل قيادات عسكرية مدنية, ونخب سياسية ذات أصول فقيرة أو ريفية مقابل نخب سياسية ذات أصول غنية أو مدنية, إن هذا قاد إلى صيرورة من الاستقطاب السياسي الطبقي الاجتماعي من نوع خاص, تمثلت باصطفاف أبناء الريف من سياسيين وعسكريين في مواجهة أبناء المدن من عسكريين وسياسيين, وهو الأمر الذي سيقود إلى قطع مسار التجربة والمشروع البرجوازي في بناء الدولة الحديثة الديمقراطية. لقد آمنت البرجوازية السورية ومنذ البداية وبما ينسجم مع مشروعها في بناء الدولة البرجوازية الحديثة أن شرعية السلطة السياسية تتأتى من خلال الانتخابات, أي أن السلطة الشرعية هي السلطة المنتخبة من الشعب وبشكل مباشر, سواء أكانت سلطة تشريعية (برلمان), أم سلطة تنفيذية (رئاسة الجمهورية والحكومة), إلا أن هذه الانتخابات وبالرغم من قيمتها التاريخية والسياسية التي لا تقدر بثمن, وبالرغم من أنها انتقلت بالإنسان السوري ولأول مرة في التاريخ من حالة الإنسان الفرد إلى حالة الإنسان المواطن صاحب الحقوق السياسية, إذ دون اكتساب الإنسان هذا الحق السياسي في الانتخابات لا يمكن أن يصل إلى المواطنة, وبالرغم من أن هذه الانتخابات أوصلت لأول مرة في التاريخ العربي الحديث نائباً شيوعياً إلى قبة البرلمان, نقول بالرغم من كل ذلك إلا أن السلطة السياسية والتشريعية بقيت حكراً على قلة قليلة من المجتمع السوري, بل حكراً على قلة قليلة من العائلات السورية الغنية, ويعود السبب في ذلك إلى قصر عمر التجربة الديمقراطية من ناحية, وإلى احتكار التبرجز والثروة داخل المجتمع السوري من قبل قلة قليلة من أبنائه وعائلاته من جهة ثانية, ونتيجة لهذا التمثل في السلطة (في السلطة التشريعية والتنفيذية), الذي لا يعبر ولا يعكس حقيقة التوازن و الوجود السياسي والطبقي داخل المجتمع فقد كانت التجربة الديمقراطية وتجربة بناء الدولة الحديثة عرضة للانتقاد، وعرضة لهيجان الشارع السياسي, والمزايدات السياسية والإيديولوجية والطبقية....الخ. فالبرجوازية السورية التقليدية, زرعت شجرة الدولة البرجوازية الحديثة, ولكن دون أن تحرث التربة عميقاً في الواقع السوري, لتوفير المناخ المناسب لاستمرار حياة هذه الشجرة, فهي أولاً : فصلت كيان الدولة عن كيان السلطة (وهي خطوة عظيمة), ولكن دون أن تقوم بتوفير الشروط التحتية اللازمة لإلغاء توالد الثنائيات داخل المجتمع, دون أن تردم ولو بالحد الأدنى الهوة القائمة بين الريف والمدينة, وتقضي على الاستقطاب الحاد والثنائيات الحادة القائمة داخل المجتمع.
وثانياً : ودون أن تقوم أو تستطيع تعميم التبرجز داخل البنية الاجتماعية السورية وبما يعني توسيع قاعدتها الطبقية والاجتماعية والسياسية وخلق تدرج طبقي داخل الهرم الاجتماعي, وبما يعني توليد برجوازية صغيرة ومتوسطة وفتح آفاق لتطورها الاجتماعي والسياسي والطبقي, أي توسيع قاعدة التمثيل والوجود البرجوازي في السلطة والمجتمع. لقد كانت سرعة تطور البناء الفوقي، وبما يعني سرعة المضي في مشروع بناء الدولة الحديثة غير متساوقة مع سرعة تطور وتقدم البناء التحتي, فبعد صيرورة من التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, حدثت قبل وبعد الاستقلال, أصبحنا أمام بنية فوقية تحتاج إلى بنية تحتية اجتماعية أكثر تطوراً وصلابة، كي تستطيع حمل أعباء البنية الفوقية المتقدمة, وهنا نلاحظ أن مسألة بناء الدولة البرجوازية الحديثة ليست مسألة إرادية أو سياسية أو أخلاقية مجردة, بل هي مسألة تحتاج إلى أن يتم التأسيس لها في الواقع التحتي الاقتصادي والاجتماعي, إذ ينبغي أن يتلازم مع طرح المشروع السياسي لبناء الدولة البرجوازية الحديثة, طرح مشروع تنموي اقتصادي اجتماعي يحمي ويحمل المشروع السياسي وإلا كانت نهايته الفشل, فالتناقض بين سرعة تطور البناء الفوقي, وبطء تكون البناء التحتي الاجتماعي غالباً ما يقود إلى كارثة إن لم يتم حل هذا التناقض. وهنا علينا أن نعي أن صيرورة برجزة المجتمعات الأوروبية استغرقت حوالي أربعة قرون من تراكم التطور البرجوازي، وحيث أن الدولة البرجوازية الحديثة التي عرفتها المجتمعات الأوروبية جاءت كتتويج لهذه الصيرورة الطويلة من تراكم التطور والوجود البرجوازي في الواقع. وبهذا المعنى فقد كانت البرجوازية السورية فتية بمقياس المساحة الزمنية والتاريخية اللازمة لعملية مراكمة التطور البرجوازي الذي يقود إلى التخلص من بقايا النظام الإقطاعي القديم وتعميم التبرجز داخل المجتمع. ولهذا سنجد في الفصول اللاحقة بأن القوى السياسية والاجتماعية التي كانت تعبر عن الطبقات الفقيرة من عمال وفلاحين ومعهم الطبقة الوسطى الناشئة في المجتمع في تلك المرحلة، وبدل أن تحل هذا التناقض بشكل صحيح من خلال الضغط على البرجوازية السورية الفتية في تجربتها في السلطة والسوق، مع إعطائها الفرصة والمساحة الزمنية الكافية لتقوية الأساس المادي التحتي الاجتماعي والطبقي للدولة الحديثة، فإن هذه القوى قامت بحل هذا التناقض من خلال تدمير الهيكل والنموذج برمته على رؤوس أصحابه لصالح هيكل ونموذج كارثي استثنائي أخرج المجتمع من سياق ومسار تطوره الطبيعي، ووضعه على أسوأ مسار لتسريع وتعميم التبرجز، وهو المسار الذي أوصل المجتمع إلى الهاوية التي يتخبط في قاعها الآن.
.............................................................................................
المصادر:
(1)- مقتطف من دراسة للمؤرخ عبد الله حنا، بعنوان " من الاستغلال الإقطاعي إلى الاستغلال الرأسمالي الطفيلي " والمنشورة في حريف 2009 في جريدة النور الدمشقية التابعة لأحد الأحزاب الشيوعية المنخرطة في الجبهة الوطنية التقدمية، ثم أعاد نشر مقتطفات منها على صفحته في الفيس بوك بتاريخ 24 يونيو 2020.
(2)- ص112 من كتاب تطور المجتمع السوري ( 1831 – 2011 ) تأليف نشوان الأتاسي.
(3)- ص112 من كتاب تطور المجتمع السوري ( 1831 – 2011 ) تأليف نشوان الأتاسي.
(4)- ص 112 – 113 من كتاب تطور المجتمع السوري ( 1831 – 2011 ) تأليف نشوان الأتاسي.
(5)- ص113 من كتاب تطور المجتمع السوري ( 1831 – 2011 ) تأليف نشوان الأتاسي.
(6)- ص108 – 109 من كتاب تطور المجتمع السوري ( 1831 – 2011 ) تأليف نشوان الأتاسي.
(7)- ص70 من كتاب الصراع على سوريا تأليف باترك سيل.
(8)- ص 16 من كتاب الصراع على سوريا تأليف باترك سيل.
(9)- فضيحة السمنة المغشوشة في مستودعات الجيش أشار إليها بالتفصل الكاتب البريطاني باترك سيل في كتابه الصراع على سوريا ص 65. وكذلك تناولها بالتفصيل خالد العظم في مذكراته في الجزء الثاني ص 182.
(10)- يشير خالد العظم في الجزء الأول من مذكراته في معرض حديثه عن الأسلحة المغشوشة التي استخدمت في حرب النكبة في فلسطين عام 1948 إلى دور حسني الزعيم في شراء هذه الأسلحة للجيش السوري. يقول " وكانوا يبعثون البعثات إلى أوروبا فتتعاقد على الصفقات بأي ثمن، فيغرق وينسف بعضها، ويصل الباقي، وإذ به سلاح فاسد وذخيرة أكسبها إخفاؤها تحت الأرض سنين عديدة طبقة من الصدأ أفقدها فعاليتها. وقد شاهدت بأم عيني عمالاً يستخدمهم متعهدو جلب الأسلحة والذخائر في إزاحة طبقة الصدأ ليخفي عن المحققين عتقها ورداءتها. وكانت تلك المشاهدات أحد أسباب حنق حسني الزعيم ولجوئه إلى القيام بانقلابه. فقد كان شريكاً لأولئك المتعهدين ومتفقاً معهم على إخفاء رداءة الذخيرة والسلاح وقبول تسلمه في حالته الراهنة! ". مذكرات خالد العظم الجزء الأول ص 384.
(11)- يذكر خالد العظم في الجزء الأول من مذكراته كيف أن موقف أعضاء البرلمان السوري كان سلبياً اتجاه الاتفاق المطروح لمد أنابيب النفط السوري عبر الأراضي السورية كونه كان اتفاقاً مجحفاً بحق المصالح الوطنية السورية في شروطه وكيف أنه " كان موقف النواب السلبي تجاه هذا الاتفاق في طليعة الأسباب التي حملت حسني الزعيم على القيام بانقلابه العسكري في الثلاثين من شهر آذار 1949. وليس ذلك لأن حسني كان مهتماً بتصديق الاتفاق، بل لأنه كان آلة صماء استعملها الأمريكيون مباشرة، أو عن طريق الإفرنسيين وعملائهم، للإطاحة بالحكومة وبمجلس النواب وإيصال حسني الزعيم إلى الحكم. فلا عجب أن يعمد فوراً إلى إصدار مرسومين اشتراعيين، صدقا وأبرما بهما كلا من الاتفاقيتين. وقد أتيت فيما بعد على ذكر ما تم بشأن هاتين الاتفاقيتين في عهد وزارة هاشم الأتاسي، على إثر مقتل حسني الزعيم، وكيف أن أمريكا وبريطانيا وفرنسا اشترطت للاعتراف بالحكومة السورية الجديدة – وهو عملياً اعتراف بالانقلاب الثاني الذي قاده سامي الحناوي - أن تقر هاتين الاتفاقيتين، وكيف أن وزير الخارجية ناظم القدسي، أعطى وزراء تلك الدول كتاباً رسمياً بما طلبته." ص 375 مذكرات خالد العظم الجزء الأول.
(12)- يذكر خالد العظم في الجزء الأول من مذكراته كيف أن الحكومة السورية كانت قد اتفقت مع أعضاء البرلمان على شروط للهدنة مع إسرائيل تؤمن فيها المصالح الوطنية السورية وكيف أنه " في الأيام الأخيرة من شهر آذار. ولم يمهلنا حسني الزعيم، فقام بانقلابه صباح الثلاثين منه، وتولى هو بنفسه أمر المباحثات مع اليهود. ويقال أنه اجتمع مع بن غوريون. وانتهت مفاوضات الهدنة بين سورية واليهود في عهد حسني الزعيم بأن قبلت سورية الانسحاب من جميع الأراضي التي كانت احتلتها، بعد حمامات الحمة ومحطة سكة الحديد فيها. كما تنازلت عن طلب جعل خط الهدنة ماراً بمنتصف سطوح المياه. وقبلت أن تكون الحدود السياسية السابقة بين سورية وفلسطين هي الخط الفاصل. أما الأراضي المحتلة، فعادت بمعظمها إلى اليهود، عدا جزء منها سمي منطقة مجردة لا يجوز للقوى العسكرية دخولها. وتركت بالإضافة إلى ذلك منطقة كانت القوى اليهودية احتلتها ليلة الهدنة، وهي كائنة على الجرف المشرف على بحيرة طبرية. وأصبحت بموجب هذه الشروط جميع الشواطئ على بحيرة طبرية مناطق مجردة لا يجوز للقوى العسكرية ولوجها، وهي تدخل ضمن الشاطئ السوري لمسافة عشرة أمتار مما تصل إليه مياه البحيرة على أعلى ارتفاع " ص ( 381 – 382 ) مذكرات خالد العظم الجزء الأول.
(13)- ص71 من كتاب الصراع على سوريا تأليف باترك سيل.
(14)- ص 60 من كتاب الصراع على سوريا تأليف باترك سيل.
نظام الاستبداد المعمم في سوريا مقدماته ومراحله - 5 lemonde.in 5 of 5
لومــــوند : نبيل ملحم خامساً: دولة برجوازية حديثة ناجزة وبطء في صيرورة تعميم التبرجز بالرغم من كون خصائص وبنية البرجوازية التقليدية الع...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك