نظام الاستبداد المعمم في سوريا مقدماته ومراحله - 4

لومــــوند : نبيل ملحم 
رابعاَ: علاقة الدولة بوسائل الإنتاج والطبقات الاجتماعية:
مع قيام الدولة البرجوازية التقليدية في مرحلة الانتداب الغربي ثم الاستقلال, تم لأول مرة في تاريخ المجتمع العربي انفصال ملكية وسائل الإنتاج عن الدولة, فعبر كل تاريخ المجتمع العربي القديم والوسيط, كانت الدولة هي الجهة المالكة لوسائل الإنتاج ولا سيما ملكية الأراضي وسيلة الإنتاج الأساسية في المجتمعات القديمة والوسيطة, ومع قيام الدولة السورية في مرحلة الانتداب الفرنسي ثم الاستقلال الوطني ( 1918– 1958 ) عرف المجتمع السوري كغيره من المجتمعات العربية لأول مرة الدولة غير المالكة لوسائل الإنتاج, إن كانت هذه الوسائل هي الأراضي أو غيرها من وسائل الإنتاج الحديثة البرجوازية, أي تم الانتقال من حالة الدولة الغنيمة اقتصادياً والغول سياسياً الاستثنائية إلى حالة الدولة الطبيعية، وقد جاء تخلي الدولة عن ملكيتها كنتيجة لضعف ومن ثم هزيمة وتفكك الدولة الإمبراطورية الإقطاعية العثمانية, التي كانت تقوم بالسيطرة على المجتمع العربي وتفرض سيطرتها وملكيتها على وسائل الإنتاج (الأراضي), لقد ظلت الدولة في الواقع العربي مالكة لوسائل الإنتاج من الأراضي طيلة زمن العصور الوسطى وما تلاها وصولاً إلى مطلع العصر الحديث، أي منذ أن قامت الدولة العربية الإسلامية مروراً بالعصر الأموي والعباسي وما تلاهما وصولاً للعصر العثماني الذي استمر على نهج العصور السابقة من ناحية جوهر علاقة الدولة بالأراضي، " فبعد الغزو العثماني لسورية عام 1516، اعتبرت السلطة الجديدة نفسها المالك الفعلي للأرض ( حق الرقبة )، ولها بالتالي الحق في جمع الضرائب والرسوم والأعشار من الذين يؤول إليهم ( حق الانتفاع )، وكان ذلك بغرض الحصول على مقدار ثابت من المال لصالح خزينتها. وقد كان يتم " تلزيم " حق الانتفاع هذا بمزايدات سنوية وفق ما عرف بنظام " الالتزام ". وخلال القرنين اللاحقين حصل العديد من التجار الميسورين وبعض الوجهاء الدينيين وزعماء الانكشارية المحليين على إقطاعات ضريبية عن طريق تلك المزايدات السنوية التي كانت تقيمها السلطة العثمانية. لكن هذا النوع من الملكية لم يكن ثابتاً، بل كان يخضع للتغيّر والتبدّل المستمرّين بحكم طبيعته المؤقتة، إضافة إلى عوامل أخرى متعددة. وفي القرن الثامن عشر عمدت الحكومة العثمانية، نتيجة تزايد أعباء الهدر المالي وازدياد عجزها عن فرض سلطتها المركزية على ولاياتها، إلى تمديد " الالتزام " السنوي ليغدو التزاماً مدى الحياة، متخذاً صفة الملكية الدائمة، وبذلك أصبح الملتزم " مالكاً ". وكان المالكون لرأس المال من بين تجار المدن، هم من قاموا أساساً بشراء وراثة الإقطاع الضريبي. "(1). ثم استكملت عملية تخلي الدولة عن أملاكها من الأراضي بعد هزيمتها ورحيلها عن كيان المجتمع العربي, فقد قامت سلطة الانتداب الفرنسي الذي حل كبديل عن السيطرة العثمانية الإقطاعية ببيع ما تبقى من أملاك الدولة التي كانت تعود ملكيتها للدولة التركية إلى أصحاب الثروة من أعيان و وجهاء وتجار وأصحاب أملاك وإقطاع ومتبرجزين, الأمر الذي أدى إلى نشوء طبقة من الملاكين العقاريين يملكون الأراضي ملكية خاصة, فلم تعد ملكية الملاكين العقاريين هي ملكية تصرف, أي لا يملكون إلا حق التصرف بها ,ولم يعد الناتج يعود إلا إلى جيوبهم, أي لم يعد يعود أي جزء منه إلى خزينة الدولة كما كان الحال في ظل الدولة العثمانية وعبر كل تاريخ الدولة في الواقع العربي. وما ساعد على وجود الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج الرأسمالية، هو أن البرجوازية نشأت وتطورت بشكل مستقل عن الدولة وعن كيانها وملكيتها في مرحلة تفكك الإمبراطورية العثمانية ثم في مرحلة السيطرة الغربية وبعدها مرحلة الاستقلال, هكذا نشأت الدولة في مرحلة الانتداب ثم الاستقلال الوطني بوصفها دولة لا تملك وسائل الإنتاج, أي لم تعد الدولة هي الجهة الوحيدة التي تحتكر ملكية وسائل الإنتاج الأساسية، كما لم تعد الدولة تحتل المجال الاقتصادي في البناء الاجتماعي إذ اقتصرت ملكية الدولة على الهياكل الارتكازية التحتية في المجال الاقتصادي, والتي كانت ضرورية من أجل النهوض بالاقتصاد الوطني من جهة ومن أجل تخديم الرأسمال الخارجي والداخلي في مرحلة الانتداب من جهة ثانية, ثم من أجل تخديم البرجوازية المحلية الصاعدة بعد الاستقلال الوطني من جهة ثالثة, لهذا فقد اقتصرت ملكية الدولة على الهياكل الارتكازية من خطوط حديدية وطرق ومرافئ ومطارات وغيرها، ويعود سبب ملكية الدولة لهذه الهياكل بشكل أساسي لأن البرجوازية المحلية لم تكن قادرة بمفردها على القيام بكل هذه المشاريع الاقتصادية الكبيرة، رغم رغبة وسعي النخب البرجوازية السورية التي أسست الدولة الحديثة البرجوازية في جعل ملكية هذه الهياكل والقطاعات الارتكازية ملكية مشتركة بين القطاع الخاص والدولة. يكفي هنا لمعرفة العقلية الاقتصادية ودرجة الإحساس بالمسؤولية الوطنية تجاه قضية بناء الاقتصاد السوري عند هذه النخب الإشارة إلى ما قاله خالد العظم أحد أهم وأبرز الوجوه المحسوبة على النخب البرجوازية السورية التي شاركت وساهمت في بناء الدولة البرجوازية الحديثة في سوريا قبل وبعد الاستقلال الوطني، ففي مذكراته حول مشروع بناء مرفأ اللاذقية الذي يعد من الهياكل الارتكازية الكبيرة للاقتصاد الوطني السوري، والذي اتخذ قرار إنشائه في 12 شباط لعام 1950 حين كان خالد العظم رئيساً للحكومة السورية. يقول " أما ما يتعلق بكيفية تدارك المال وملكية المرفأ فكنا أمام هذه الإمكانيات: 1- منح امتياز إنشاء واستثمار المرفأ إلى شركة مساهمة أجنبية. وقد استبعدنا هذه الإمكانية لأول وهلة تجنباً لتدخل أحدى الدول الأجنبية في شؤون أحد المرافق السورية العامة، وذلك رغم أن هذه الطريقة أقرب تناولاً إذا نظرنا إلى سهولة تدارك المال اللازم. 2- منح ذلك الامتياز إلى شركة مساهمة سورية. وكانت هذه الوسيلة مقبولة مبدئياً لولا الصعوبة التي قدرناها في إمكان تغطية رأس مال هذه الشركة. 3- انفراد الدولة بهذا الامتياز واستثماره لحسابها. وكانت هذه الوسيلة مرضية أيضاً لأنها تحقق فكرة تأميم مرافق البلاد الأساسية، لكنها كانت مشوبة بخشية سوء إدارة الدولة للأعمال التجارية. وبعد التفكير العميق واستشارة الخبراء وأصحاب الرأي السديد، اعتمدنا إحداث أسلوب يجمع بين فوائد الإمكانيتين الأخيرتين، بحيث ينشأ شركة مساهمة سورية تمنح هذا الامتياز، على أن تشترك الدولة فيها بشراء الأسهم التي تعطى عند الاكتتاب وعلى أن تضمن الدولة للمساهمين ربحاً سنوياً لا يقل عن خمسة بالمئة"(2). ما يلفت الانتباه هنا. أولاً: الدرجة العالية بالإحساس بالمسؤولية الوطنية تجاه قضية بناء الاقتصاد السوري عند هذه النخب، بعكس ما كانت تروج له بعض القوى والتيارات السياسية والإيديولوجية في تلك الفترة والتي لا تزال ذيولها ربما تحمل نفس التقييم والحكم القائل أن نخب تلك الفترة كانت رجعية ومتحالفة مع الاستعمار. وثانياً: إدراك النخب السورية التي كانت تبني الدولة بوقت مبكر إلى مخاطر امتلاك الدولة لكامل الأسهم، فانفراد الدولة في ملكية المرفأ تعني كما قال خالد العظم سوء إدارة الدولة للأعمال التجارية أو لنقل تحوله إلى قطاع للنهب والسلب من قبل الموظفين القائمين على إدارته والمعينين من قبل الحزب المسيطر على السلطة والدولة. فالعظم يعتبر وهو محق بأنه إذا أصبح رأس المال محصوراً بيد الدولة فأن ذلك يقود إلى أن " تصبح الدولة إقطاعية ضخمة " (3). يكفي هنا للتدليل على صحة مخاوف العظم الإشارة إلى المصير الذي وصل إليه مرفأ اللاذقية الذي تحول بعد أن امتلكته الدولة وبعد أن أتبعته إلى وزارة النقل عام 1974 وبعد أن آلت جميع أسهم القطاع الخاص إلى الدولة عام 1982، أقول تحول إلى مرفأ للنهب والنصب. وفي نفس السياق من المهم الإشارة على سبيل المثال لا الحصر إلى مصير بعض الشركات السورية التي ذاع صيت نجاحها محلياً وعربياً وعالمياً والتي تم تأميمها في مرحلة الوحدة مع مصر ( 1958 – 1961 )، الأمر الذي قاد إلى دمار هذه الشركات وتحويلها إلى خردة أو تحولت بشطبة قلم إلى سراب كما يقول الدكتور سامي مروان مبيض في كتابه " عبد الناصر والتأميم وقائع الانقلاب الاقتصادي في سورية " مثل " الشركة التجارية الصناعية المتحدة المساهمة المغفلة أو " الخماسية " والتي أنشئت بالمرسوم التشريعي رقم 21 لعام 1946 الصادر عن رئيس الجمهورية شكري القوتلي، ثم تمت عملية تأميمها في العشرين من تموز 1961، بموجب القانون رقم 117 الصادر عن رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر "(4). ومثال الشركة السورية للغزل والنسيج التي تأسست في حلب عام 1933، والتي تم تأميمها في عام 1959 زمن الوحدة مع مصر. ولكي ندرك حجم الجريمة التي ارتكبها لصوص السلطة والدولة الذين نظموا أنفسهم في طبقة عليا للدولة مستغلين تحويل هذه الشركات إلى ملكية الدولة، إن كان في زمن الوحدة أو من استغل هذه العملية بعد ذلك ولا سيما بعد 8 آذار 1963 حين استكملت إجراءات التأميم على يد سلطة البعث، حيث تم قطع مسار التطور البرجوازي الطبيعي الصاعد بشكل نهائي لصالح شكل ومسار استثنائي جديد من الوجود البرجوازي ومن وجود الدولة، حيث استبطنت علاقات الإنتاج البرجوازية في أحشاء الدولة، وحيث بدأت صيرورة تغيير وظائف الدولة الطبيعية بالتلازم مع الفرز السياسي والطبقي داخل سلطة البعث، فقد أضيفت وظائف جديدة للدولة من خلال استخدام الدولة أولاً : كأداة لنقل مركز ثقل السلطة والثروة داخل المجتمع. وثانياً: كأداة لرشوة المجتمع وتخريبه وإفساده سياسياً وأخلاقياً، وثالثاً: كأداة لإعادة إيقاظ وبناء وتكوين العصبيات القبلية والطائفية داخل الدولة والمجتمع. ورابعاً: كأداة لإعادة بناء الهرم الطبقي الاجتماعي من جديد من خلال الدولة وفي أحشاء الدولة. وحيث أنتجت هذه الصيرورة عندما وصلت إلى ذروتها ونهايتها المنطقية شكلاً من وجود الدولة الاستثنائي، هو ما أسميها دولة الاستبداد المعمم البرجوازية، وحيث أن أهم ما يميز هذا النمط من وجود الدولة هو في كونها تصبح دولة أقوى من المجتمع. أعود وأقول كي ندرك مدى وحجم الجريمة الناتجة عن نقل ملكية هذه الشركات وغيرها إلى الدولة علينا أن نعرف أن رأسمال الشركة " الخماسية " عند التأسيس، " كان مليون و 250 ألف ليرة سورية دفع كل من المساهمين ( الخمسة ) 250 ألف منها، ورفع رأس المال تدريجياً حتى وصل إلى خمسة عشر مليوناً عام 1948م، في الوقت الذي كانت فيه ميزانية الدولة لذلك العام لا تتجاوز 107 مليون ليرة سورية " (5). أي بتدمير وتخريب هذه الشركة بعد أن تحولت ملكيتها للدولة، نحن أمام جريمة تخريب وتدمير ما يقارب 14% من ميزانية الدولة السورية في ذلك الزمن. أما الشركة السورية للغزل والنسيج في حلب. " في عام 1932 تقرر أن يكون رأسمال الشركة مائة ألف ليرة ذهب عثماني – الليرة الذهبية كانت حينها تعادل حوالي خمس ليرات ونصف الليرة السورية – وعندما صدر قانون التجارة السوري عام 1949، فرض القانون أن يكون رأسمال الشركة بالليرات السورية بدلاً من الليرات الذهبية العثمانية، فتحدد رأس المال بعشرة ملايين ليرة سورية ... وفي عام 1954 قرر مجلس الإدارة توزيع سهم مجاني واحد لكل سهم، فازداد رأس مال الشركة إلى عشرين مليون ليرة سورية وحقق حملة مضاعفة الأسهم أرباحاً مضاعفة ... في العام 1959 أصدر الرئيس جمال عبد الناصر قراراً بتأميم الشركات الخاصة، وتم تأميم أملاك الشركة ... وانتهت شركة الغزل والنسيج وتحولت آلاتها تدريجياً إلى خردة "( 6). أي إن ما تم تخريبه وتدميره بنقل ملكيتها للدولة يساوي حوالي 18 % من ميزانية الدولة السورية في ذلك الزمن. وإذا ما أردنا تكوين فكرة شاملة عن حجم الدمار والخراب الذي لحق بالاقتصاد الوطني السوري نتيجة انتقال الملكية إلى الدولة من المفيد معرفة. " إن عدد المنشآت الاقتصادية التي شملها التأميم من شركات صناعية وتجارية وبنوك وشركات تأمين قد وصل عددها إلى 250 شركة، بقيمة إجمالية تقدر في ذلك الوقت بما يزيد عن حوالي 268 مليون ليرة، وإلى جانب تأميم شركات بملايين الليرات في ذلك الوقت، هناك أموال تم تهريبها خوفاً من التأميم قدر عددها في عام 1964 بحوالي 800 مليون ليرة. ومن الشركات التي تم تأميمها نجد: الخماسية، الدبس، الصناعات الحديثة، الجوخ، وشركة السكر والمغازل والمناسج والمحالج، والفيجة، والكونسروة...الخ، وبعد أن كانت هذه الشركات رابحة قبل التأميم فإن خسائرها قد وصلت بعد التأميم إلى ما يزيد عن 85 مليار ليرة ( حسب احصائيات رسمية لوزارة الصناعة السورية ومن المؤكد ان الارقام الحقيقية هي أضعاف مضاعفة لهذا الرقم ). وعلينا أن نعلم بأنه قد خرج 80% من المعامل المؤممة من الخدمة ومنه ما تم بيع معداته وتحول إلى تراب " (7 ). وبنقل ملكية هذه الشركات وغيرها إلى الدولة لم يقتصر الخراب والدمار على الجانب الاقتصادي بل أن الأمر وصل إلى الجانب السياسي والاجتماعي، وإذا كنت سأتناول الجانب السياسي فيما بعد وبشكل موسع، فإني سأتوقف هنا عند الجانب الاجتماعي لهذه القضية، ولن أتوقف هنا عند تفاصيل ما خسرته الحركة النقابية العمالية بشكل خاص والنقابات السورية بشكل عام من مكتسبات جراء تملك الدولة لهذه الشركات، إذ يكفي أن أشير إلى مسألة في غاية الأهمية والدلالة، وهي أن فاعلية الحركة النقابية وقوتها وقدرتها على تحصيل المكتسبات من أرباب العمل يتأتى من استقلال الحركة النقابية عن أرباب العمل من جهة وعن سلطة الدولة كرب عمل جديد من جهة ثانية. فبعد ما يزيد عن عقدين من تأسيس وعمل النقابات العمالية المستقلة في سوريا ( 18 آذار 1938) ،وبعد أن كانت قد حققت الحركة النقابية العديد من المكتسبات والخبرة والسمعة والمكانة على خريطة ولوحة الصراع الاجتماعي، تعرضت في عام 1959 بعد التأميم إلى حملة من التنكيل تمثلت بمحاولة تنحية النقابيين المنتخبين، وعندما أعاد العمال انتخاب نفس النقابيين لجأت سلطات الوحدة إلى سجن النقابيين، وحل النقابات القائمة، وتأسيس نقابات غير موجودة وتعيين رؤساء النقابات واتحادات المحافظات وضرب استقلالية الحركة النقابية في الصميم، وقد اكتمل المشهد المأساوي بعد عام 1970 عندما جاء النظام الأسدي إلى السلطة فأجهز على البقية الباقية من استقلال النقابات السورية، عندما قام بحلها من جديد بتاريخ 10 نيسان 1980 وتحويلها إلى نقابات صفراء تعمل فقط لخدمته. أما عن العمال الذين خرجوا إلى بهو الشركة " الخماسية " في 20 تموز 1961، لاستقبال وزير الداخلية عبد الحميد السراج الذي أشرف على عملية التأميم والاستملاك بنفسه وهم يرددون شعار " تسقط الشركة الخماسية ! أمم، أمم، أمم "، فهؤلاء ينطبق عليهم ما قاله يسوع المسيح " يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون ". فقد كانوا يقعون تحت تأثير وسيطرة وهم وضعته وزرعته في عقولهم الأحزاب الشيوعية والقومية البرجوازية الصغيرة التي كانت تعتقد وتتوهم بدورها ( سأتناول في فصل قادم أساس ومنبت هذا الوهم ) أن نقل ملكية وسائل الإنتاج إلى الدولة يعتبر إجراءً ثورياً وتحولاً أساسياً للانتقال إلى النظام الاشتراكي المأمول. أعود للقول مع الانتقال من ملكية التصرف إلى الملكية الخاصة الحقيقية بشكلها الإقطاعي والبرجوازي على مدار قرن من الزمن بدءاً من عام 1858 تاريخ تطبيق قانون الأراضي العثماني وصولاً إلى 1958 تاريخ الوحدة مع مصر وقطع هذا المسار عبر التأميم، تمت ولأول مرة في التاريخ السوري. أولاً: عملية تكون سلالات طبقية ثابتة ومستقرة (8). فعلى مدار كل القرون الماضية، كانت الطبقة المالكة للثروة في حالة تبدل مستمر، ففي كل عصر من عصور الدولة كان يتم استبدال الطبقة المالكة للثروة، ومع كل حاكم أو سلطان في أي من عصور الدولة كانت تتم كذلك عملية استبدال الطبقة المالكة للثروة، فكون الحاكم أو السلطان أو الملك " يملك كل شيء، فهذا يستتبع منطقياً أن الرعية لا تملك في الحقيقة بل تتصرف بأملاك الحاكم، وبالتالي يستطيع السلطان بنفس المنطق أن يزيد أو ينقص حسب مشيئته أو حاجته من عوائد هذه الأملاك، هذا في الأحوال العادية، وفي الحالة القصوى يستطيع أن يسحب حقوق التصرف من أصحابها ويضعها بين يديه مباشرة أو ينقلها إلى أناس آخرين " (9). " أما السيد الشرقي فقد يصبح صعلوكاً والعبد الشرقي قد يصبح سلطاناً "(10). ولم يخرج عن هذا الإطار حتى محمد علي باشا صاحب مشروع " التحديث " من فوق من خلال رأسمالية الدولة في مصر، فقد كان محمد علي باشا المالك الوحيد لأراضي مصر، كما كانت دولته هي التاجر الوحيد لمنتجاتها والصانع الوحيد لمصنوعاتها، فالتغير الوحيد الذي طرأ حول ملكية الأراضي في عهده كان تغيير اسم النظام مع الإبقاء على جوهره " حيث تم الانتقال من نظام " الالتزام " الذي كان سائداً في الحقبة العثمانية إلى نظام مشابه له اطلق عليه نظام " العهدة "... وقد استمر ذلك حتى دخل الإنكليز مصر غازين عام 1882. في تلك الحقبة، عمل الإنجليز على إعادة تنظيم الأراضي على النمط الأوروبي، فأصدروا قانوناً يقضي بالملكية التامة...ولم تعرف مصر استقراراً داخل الطبقة المالكة للثروة إلا بعد هذا التاريخ، ففي عام 1952، بدا النظام الملكّي أكثر استقراراً بعد نصف قرن من إقرار الملكّية الخاصة للأرض الزراعية وإلغاء كل أشكال الحيازة الأخرى، لكن هذا الاستقرار كان استقرار ما قبل العاصفة، حيث ستشهد الملكّيات تحولات جديدة في النصف الثاني من القرن العشرين " (11). ثانياً: ومع الانتقال إلى الملكية الخاصة الحقيقية تمت عملية انفصال كيان الدولة عن كيان الطبقات الاجتماعية, فالطبقات الاجتماعية لم تعد تتوالد بوصفها طبقات دولة, أي لم تعد الطبقة السائدة هي الطبقة العليا للدولة أو طبقة أصحاب الدولة, ولم تعد الطبقة المسودة هي الطبقة السفلى للدولة, كما أن الطبقة الوسطى لم تعد بوجودها وحركتها مرتبطة ومرتهنة للطبقة السائدة في المجتمع, كما كان عليه الحال في ظل الدولة الاستبدادية المعممة الإقطاعية التي عرفها المجتمع العربي طيلة ما يقارب ال14 قرناً من الزمن. والقول إن الطبقات الاجتماعية لم تعد طبقات دولة, يعني أن إنتاج وإعادة إنتاج الطبقات الاجتماعية لم يعد يتم من خلال الدولة وفي أحشائها, أي أن التراتب الطبقي الاجتماعي لم يعد يقوم وينتج داخل كيان الدولة وإنما خارج كيانها وأجهزتها ومؤسساتها (الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية), أي لم يعد للدولة أي دور في الفرز والتفارق الطبقي الاجتماعي، ومع قيام التفارق والتراتب الطبقي خارج كيان الدولة, غدت الدولة هي نتاج وانعكاس ولو بطريقة غير مباشرة لهذا التراتب والتفارق الحاصل خارج كيانها, أي أن البناء الفوقي والدولة بشكل خاص غدا ولأول مرة في التاريخ العربي انعكاساً ونتاجاً لواقع وحركة البناء التحتي في البنية الاجتماعية, وغدت الدولة في وجودها وحركتها وتطورها مرتبطة بحركة البنية التحتية, أي لم يعد البناء الفوقي عموماً والدولة خصوصاً تلعب دورًا مسيطراً في تحديد حركة وتطور البنية الاجتماعية، كما تحدد اتجاه حركة المجتمع بشكل عام. ومع ولادة الطبقات الاجتماعية متحررة من قيود الدولة, أصبحت الطبقات الاجتماعية أكثر دينامية وحركية, والحركية التي نقصدها لا عملية الاستبدال الطبقي التي كانت تحدث للطبقات الاجتماعية في كل عصر من عصور الدولة أو مع كل حاكم أو سلطان أو ملك من ملوك الدولة, إن ما نقصده بالحركية والدينامية هو عملية التغير والتبدل المستمر التي كانت تحصل في بنية الطبقات الاجتماعية وفي نمط وجود وتوالد الطبقات الاجتماعية, وفي طريقة تعبيرها عن ذاتها, وفي شكل علاقة الطبقات بعضها مع بعض. فالطبقة السائدة المالكة للثروة تصبح ولأول مرة في التاريخ السوري, قوة سياسية مستقلة في وجودها عن الدولة, ومستقلة في قوتها عن قوة الدولة , فلم تعد مرتبطة بالدولة والسلطة السياسية بشكل مباشر, إن الاستقلال الاقتصادي للطبقة السائدة عن الدولة, ولد وخلق تيارات وأجنحة متباينة ومتعددة ومتبدلة, ووفر إمكانية وفرصة لتبادل السلطة ( تبادل الهيمنة) داخل الطبقة السائدة, فالدولة ككيان وكقوة, أصبحت مستقلة عن كل الأجنحة والتيارات داخل الصف البرجوازي. وحتى الطبقة العاملة المسودة التي نشأت داخل إطار علاقات الإنتاج الرأسمالية, والتي بدأت تتسع وتنمو, بمقدار نمو واتساع العلاقات الرأسمالية داخل البنية الاجتماعية, نقول حتى هذه الطبقة, استطاعت بدورها أن تشكل قوة طبقية وسياسية مستقلة في وجودها وحركتها عن الدولة, إذ استطاعت الطبقة العاملة وخلال فترة قصيرة من عمرها أن تشكل تنظيماتها النقابية والحزبية المستقلة كأطر تدافع من خلالها عن مطالبها السياسية و الاقتصادية, وتحسن من خلالها شروط وجودها داخل علاقات الإنتاج الرأسمالية. فمع تشكل الطبقات الاجتماعية خارج كيان الدولة, لم تعد الطبقات الاجتماعية في الواقع هي ذلك القطيع الذي تجره خلفها الدولة, لقد انفتحت أمام الطبقات الاجتماعية إمكانية أن تتحول إلى طبقات لذاتها, إذ إن شرط تحول الطبقات الاجتماعية إلى طبقات لذاتها, هو توفر حد من الحرية, وهنا توفر هذا الحد لمجرد الخروج من عباءة وكيان الدولة. ومع وعي الطبقات الاجتماعية لذاتها ومصالحها, تحولت إلى طبقات فاعلة في التاريخ, وبدأ ينمو البعد السياسي ,أي البعد الإنساني للإنسان السوري ,بعد أن جرد الفرد والطبقات الاجتماعية في الواقع العربي ,ولمدة قرون وقرون من الزمن, من هذا البعد السياسي والإنساني, وبدأ وكأن التاريخ لم يعد هو تاريخ الدولة ومراحل نشوئها وصعودها ثم ازدهارها ثم انحطاطها, ولم تعد فاعلية الطبقات الاجتماعية مستترة ومستبطنة في أحشاء الدولة, بل غدت فاعليتها صريحة ومباشرة، وغدا التاريخ هو تاريخ الطبقات الاجتماعية المتصارعة والمتحركة, لا تاريخ للدولة و مراحلها, أو تاريخ هذا الحاكم أو ذاك من حكام الدولة, وغدت الدولة في وجودها وحركتها, صدى للصراع الطبقي والسياسي الدائر داخل المجتمع، وغدا التاريخ السياسي هو تاريخ الصراع السياسي الطبقي الاجتماعي الدائر بين الطبقات الاجتماعية, إنه التاريخ الأصيل المعبر عن حركة المجتمع كل المجتمع, إنه التاريخ الوحيد الذي هو من صنع المجتمع المتحرر من قيود الدولة وحاكمها المستبد. إنه التاريخ السياسي الحقيقي الذي يصنعه البشر بإرادتهم الحرة حيث لا يزيفه هذا الحاكم أو ذاك من حكام الدولة, إنه التاريخ الذي أتى في إطار ما تم تسميته بيقظة شعوب المستعمرات، وهو ما وفر شرط الوعي من جهة, والتحرر من نير الدولة الاستبدادية العثمانية، وهو ما وفر شرط الحرية من جهة ثانية, ومع تكامل شرط الوعي مع شرط الحرية, كانت فترة من تاريخ الشعب السوري, استطاع خلالها أن يهزم المستعمر القديم العثماني والجديد الأوروبي, واستطاع أن ينهض لبناء دولته المستقلة الحرة بعزيمة لا تلين, قبل أن تأتي قوى الاستبداد وتقطع الطريق عليه, وتبني دولة الاستبداد المعمم, على أنقاض وجثة وأحلام الشعب السوري, أي قبل أن تأتي دولة الاستبداد المعمم, وتكبل المجتمع بقيودها الاستبدادية, وتجر المجتمع بكل طبقاته كالنعاج إلى ساحة الفعل الذي تريده الدولة وحاكمها المستبد, ويصبح التاريخ هو تاريخ أفعال وأعمال الدولة وحاكمها المستبد, تاريخ الدولة لا تاريخ الشعب, حيث الفرق بين أن يكون التاريخ هو تاريخ الدولة, وبين أن يكون هو تاريخ الشعب, كالفرق بين ما هو مزيف وما هو حقيقي, فإن كان التاريخ هو أثر لحركة الشعب الحر كان تاريخاً حقيقياً, وإن كان التاريخ أثراً لحركة الدولة كان تاريخاً مزيفاً. 
....................................................................................
( 1 )- ص (20 - 21 ) كتابه تطور المجتمع السوري ( 1831 – 2011 ) تأليف نشوان الأتاسي.
( 2 )- ص 120 مذكرات خالد العظم الجزء الثاني.
( 3 )- ص134 مذكرات خالد العظم الجزء الاول.
( 4 )- المصدر موقع التاريخ السوري المعاصر.
( 5 )- المصدر مقال سامي مروان مبيض في موقع رصيف 22 في 16 يونيو 2020، بعنوان من قصة نجاح عظيمة إلى مأساة رهيبة ...كيف أنهى قرار التأميم شركة " الخماسية " الصناعية في سوريا.
( 6 )- حسب ما جاء في الموسوعة التاريخية لأعلام حلب بتاريخ 16 أيلول 2016 على لسان المحامي علاء السيد
( 7 )- المصدر مقال بلقيس أبو راشد في موقع اقتصاد ومال وأعمال السوريين بعنوان رصاصة " ثورة آذار " ... في صدر الاقتصاد السوري بتاريخ 9 آذار 2013.
( 8 )- تجدر الإشارة هنا إلى أن مقال رامز طعمة بعنوان ملكية الأرض والسلطة السياسية في دمشق ( 1858 – 1958 ) في مجلة دراسات تاريخية عدد ( 43- 44 ) من العام 1992 يشكل مرجعاً لمن يود معرفة مزيد من التفاصيل عن ملكية العائلات الدمشقية للأراضي في تلك المرحلة.
( 9 )- ص281 كتابه العرب في مرآة التاريخ تأليف بوعلي ياسين.
( 10 )- ص286 المصدر السابق.
( 11 )- المصدر مقال مصطفى شلش بعنوان صراع في الوادي: الأرض والفلاح والمستثمر في مصر نشر في موقع babelwad"" بتاريخ 22 شباط 2019.
نظام الاستبداد المعمم في سوريا مقدماته ومراحله - 4 lemonde.in 5 of 5
لومــــوند : نبيل ملحم  رابعاَ: علاقة الدولة بوسائل الإنتاج والطبقات الاجتماعية: مع قيام الدولة البرجوازية التقليدية في مرحلة الانتداب...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك