نظام الاستبداد المعمم في سوريا مقدماته ومراحله - 3

لومـــــوند : نبيل ملحم
ثالثاً: خصائص البنى الرأسمالية العربية التقليدية ما قبل صعود الاستبداد.
أعلم أن كثيرين لن يجدوا جديداً في حديثي عن خصائص الرأسمالية العربية في تلك الفترة، كون أغلب النخب العربية والسورية خاصة لديها حمولة ثقافية هائلة حول هذا الموضوع بسبب تربيتها وخلفياتها الحزبية والإيديولوجية القديمة التي لطالما اهتمت وركزت على هذه الخصائص، فقد كان هذا الموضوع كما نعلم جميعاً في مقدمة أولوياتها السياسية والثقافية والمعرفية دائماً وأبداً. أقول ذلك للتأكيد أن حديثي في الأسطر التالية حول خصائص البنى الرأسمالية العربية في تلك الفترة لا يندرج في باب تقديم الجديد المعرفي، بل يأتي ضمن سياق التمهيد والتتابع الضروري والمنهجي والمعرفي لتطور الفكرة والبحث، كما من أجل تتبع منشأ وأصل الكثير من الظواهر والأفكار التي سأتناولها فيما سيتقدم من فصول في هذه السلسلة، مع التأكيد أولاً: أني سأستعرض ذلك محاولاً قدر المستطاع التخلص من أي حمولة إيديولوجية أو تحريض سياسي قد يبعدنا عن الفهم الموضوعي لانعكاس ذلك على بعض الظواهر التي أنتجتها داخل المجتمعات العربية وثانياُ: من أجل تسليط الضوء على بعض الظواهر في الواقع العربي الناتجة عن هذه الخصائص والتي قلما تم الإشارة إليها أو التركيز عليها سابقاً. فما هي هذه الخصائص:
أولاً: بنية التخلف حلقة في سلسلة الإنتاج الرأسمالي العالمي:
يمكن القول بسهولة إن ولادة علاقات الإنتاج الرأسمالية في الواقع العربي تمت بفعل العامل الخارجي (الأوروبي)، ففي النصف الاول من القرن التاسع عشر " جرت تحركات دبلوماسية بادر بها البريطانيون أولاً، ثم اقتفى أثرهم – في آخر الأمر – معظم شركاء التجارة الأوروبيون إلى إبرام اتفاقيات مع الإمبراطورية العثمانية هدفت إلى تخفيض التعرفة الجمركية وتسهيل تغلغلهم التجاري. وكانت باكورتها الاتفاقية التجارية الإنكليزية - العثمانية لعام 1838. وتم بموجب بنود هذه الاتفاقية، رفع جميع الاحتكارات التجارية، وسمح للتجار البريطانيين بشراء البضائع في أي بقعة كانت من الإمبراطورية العثمانية... وما لبثت أن انضمت إليها دول أوروبية أخرى. وكان شأن هذه المعاهدات- في ذلك الحين- أن تكون ( الاداة السياسية الفاعلة في عملية دمج مناطق جديدة في الاقتصادات ( الأوروبية ) الآخذة بالتوسع ) والتي وصفت بإمبريالية السوق الحرة. وقد وقعت مناطق من الإمبراطورية العثمانية مثل سورية ضمن مجال الأنشطة الاقتصادية التي تسيطر عليها أوروبا لتصبح جزءاً من امبراطورياتها ( غير الرسمية ). ص 81 كتاب دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تأليف ليندا شيلشر ". وفي السياق نفسه يقول نشوان الأتاسي في كتابه تطور المجتمع السوري ( 1831 – 2011 ). " يمكن القول بأن تشكّل الطبقات على مستوى له مغزاه، ( بمعنى تشكل طبقات جديدة غير القديمة المعروفة ) لم يبدأ في سوريا إلا في القرن التاسع عشر، وقد حدث ذلك نتيجة لتكامل الاقتصاد السوري تدريجياً مع السوق العالمية، أما في الفترات التي سبقتها فقد كان التعرّف على وجود طبقات أضعف بكثير، كما كان مدى حياتها قصيراً، وهذا أمر يعود أساساً إلى أن علاقاتها بملكية الأرض لم تكن كما أسلفنا مستقرة... ص22 ". فعلاقات الإنتاج الرأسمالية في الواقع العربي قامت بوصفها حلقة في سلسلة الإنتاج الرأسمالي الأوروبي، حلقة تؤمن سوقاً لتصريف الإنتاج الرأسمالي الأوروبي، كما تؤمن سوقاً لنهب المواد الخام اللازمة للإنتاج و الصناعة الرأسمالية الأوروبية، فالبرجوازية العربية كما يقول العفيف الأخضر في الفصول التي أضافها إلى البيان الشيوعي الذي ترجمه، انخرطت ابتداءً من القرن الثامن عشر في السوق العالمية من " موقع الفلاح لا من موقع الصناعي : تصدير أصواف وقطن بلاد الشام ومصر لمانشستر ودودة القز لمصانع حرير ليون. ص204 ". وحيث أن القسم الأساسي من الإنتاج يتم في المراكز الأوروبية التي شكلت مركز النظام الرأسمالي العالمي، وقد اختلفت وظيفة الحلقات الطرفية في النظام الرأسمالي العالمي حسب كل مرحلة من مراحل تطور الرأسمالية الأوروبية، ابتداءً من المرحلة التجارية مروراً بالمرحلة الصناعية وصولاً لمرحلة سيطرة رأس المال المالي والشركات العابرة للقارات والمتعددة الجنسيات على كل مفاصل الاقتصاد العالمي...الخ فالرأسمال الأوروبي في حركة تطوره وتوسعه على الصعيد الكوني يفرض في كل مرحلة تقسيماً جديداً للعمل على الصعيد العالمي، وعلى هذا الأساس فقد غدت حلقات التصنيع الأساسية تقوم في الحلقات المركزية من السلسلة في حين أعطيت للحلقات الواقعة في بنى التخلف الطرفية وظيفة الحلقات الصناعية الثانوية، حيث أعطيت للمراكز الرأسمالية الأوروبية وظيفة تصنيع وسائل وأدوات الإنتاج إقامتها في بنى التخلف (المستعمرات بشكلها القديم ثم الجديد )، كانت تقوم بشكل أساسي لإجراء بعض العمليات الأولية في الصناعة، مكان وجود مواد الخام قبل نقلها إلى المراكز الصناعية الأوروبية مستفيدين من قوة العمل الرخيصة في بنى التخلف قياساً بقيمة قوة العمل في المراكز الصناعية. وبسبب كل ما سبق فقد تحولت مجتمعات المستعمرات إلى مجتمعات رأسمالية متخلفة دون صناعة وتصنيع وحيث بقيت مجتمعات طابعها الأساسي زراعي، وهي ميزة المجتمعات والنظم الاجتماعية ما قبل الرأسمالية.
ثانياً: تعايش البنى ما قبل الرأسمالية مع البنى الرأسمالية وظاهرة الثنائيات:
إن كون علاقات الإنتاج الرأسمالية ولدت ونمت وتطورت لا بفعل التراكم التاريخي لقوى الإنتاج الرأسمالي في أحشاء المجتمع العربي، بل بفعل تطور قوى الإنتاج في مجتمعات أخرى خارجية شكلت الحلقة المولدة للنظام الرأسمالي العالمي، إن هذا الشكل التاريخي لولادة علاقات الإنتاج الرأسمالية في بنية مجتمع ما قبل رأسمالي أدى إلى أن لا تدخل علاقات الإنتاج الرأسمالية الوليدة في صراع حاد وتناحري مع علاقات الإنتاج القديمة الإقطاعية التي كانت سائدة في الواقع العربي والتي استمرت حتى إلى ما بعد الاستقلال من نير الاحتلال الاستعماري الغربي المباشر بوقت ليس بالقليل. أقول لهذا فإن البنى القديمة ما قبل الرأسمالية وتحديداً البنى الإقطاعية في الواقع العربي استطاعت أن تحافظ على وجودها وبقائها إلى جانب البنى الحديثة الرأسمالية، حيث نتج عن ذلك تشكيلة اجتماعية رأسمالية يتعايش ضمن إطارها التاريخي البنى القديمة على الصعيد الاقتصادي و السياسي والاجتماعي و الثقافي والإيديولوجي، أي نتج عن ذلك أحد أهم خصائص بنى التخلف الرأسمالي المتمثلة في عدم قدرتها على إحداث قطع نوعي وجذري و على جميع الصعد و بشكل حاسم مع بنى المجتمع الإقطاعي القديم، فبدل إحداث هذا القطع النوعي الجذري فقد جرى تكييف و تطويع البنى الإقطاعية من خلال ربطها وتوجيهها لخدمة الإنتاج و البنى الحديثة الرأسمالية، فالإنتاج لم يعد موجهاً بشكل أساسي نحو الاستهلاك المحلي بل تم توجيهه لخدمة حاجات الطبقة البرجوازية الناشئة وكذلك حاجات السوق الرأسمالية العالمية. يقول نشوان الأتاسي في كتابه تطور المجتمع السوري ( 1831 – 2011)، " في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبعد أن تتابعت، بلا توقف، عملية التملّك الخاص في المدن والضواحي وفي أطراف المناطق الزراعية، وبدأ تحوّل الزراعة إلى التجارة مع تطور وسائل الاتصالات الحديثة...حلّت الزراعة الموجّهة للسوق محل زراعة الاكتفاء الذاتي ص24 ". فبعد أن وجد بديلاً عن الجمال التي كانت تشكل لقرون عماد القوافل التجارية العربية إلى منتصف القرن التاسع عشر، فقد تطورت وتوسعت التجارة العربية في تصدير المواد الخام : الحبوب، والصوف، والزيوت، والجلود، والقطن، والبصل...الخ.
وهكذا يمكن القول بأنه كما أن النظام الرأسمالي العالمي قد تم تقسيمه إلى بنى متقدمة شكلت المراكز و بنى متخلفة شكلت الأطراف، فكذلك تم تقسيم بنى التخلف إلى بنى قديمة و بنى حديثة، أي غدت بنية التخلف صورة في انقسامها وعدم تجانسها لبنية النظام الرأسمالي العالمي المنقسم وغير المتجانس. وهنا يمكن القول بأنه بمقدار ما كانت تقوم المراكز الأوروبية بإعادة إنتاج الانقسام و عدم التجانس على الصعيد العالمي فإنها كانت تقوم كذلك على إعادة إنتاج الانقسام و عدم التجانس في بنى التخلف الرأسمالية في الأطراف، وكما ارتبطت بنى التخلف الرأسمالية على الصعيد العالمي مع بنى التقدم الرأسمالية في المراكز الأوروبية ارتبطت كذلك البنى الإقطاعية بالبنى الرأسمالية في بنية التخلف في بعض المراحل، إن سمات انقسام العالم إلى بنى متقدمة و بنى متخلفة و انقسام البنى المتخلفة إلى بنى حديثة وبنى قديمة و في كل المجالات الاقتصادية و السياسية و الثقافية هي سمة ملازمة للنظام الرأسمالي العالمي بشكل عام و ملازمة للبنى الرأسمالية المتخلفة بشكل خاص وهي سمة ملازمة لكل مراحل تطور النظام الرأسمالي العالمي منذ أن تكون إلى يومنا هذا، ولهذا سنجد أن انقسام بنى التخلف الرأسمالي إلى ثنائيات حديثة و قديمة سيستمر بأشكال متعددة و مختلفة حسب كل مرحلة من مراحل التطور الرأسمالي، بدءاً بالرأسمالية التي سنسميها بالتقليدية التي أول ما نشأت في واقع بنى التخلف وصولاً للرأسمالية التي نشأت بوصفها الطبقة العليا للدولة الاستبدادية البرجوازية، وهو الأمر الذي سيستمر إلى ما بعد ذلك، أي أن هذا الانقسام سيستمر إلى أن يتم العمل في الأطر الوطنية وعلى المستوى الكوني على تجاوز هذه الثنائيات كلها.
إن ثنائية بنى حديثة بنى قديمة التي وجدت في بنى التخلف الرأسمالي في الواقع العربي تجلت في أكثر من شكل وفي أكثر من حالة وفي أكثر من مرحلة فهي لم تقتصر على ثنائية بنى إقطاعية بنى رأسمالية فحسب فحيثما يتم تركيز وتوظيف الرساميل وتركيز الثروة أو السلطة في جهة واحدة وعلى حساب جهة أخرى من المجتمع تولد هذه الثنائيات، لهذا نجد ثنائية المدينة –الريف حيث يتم ازدهار وتطوير المدينة و تركيز الثروة فيها في الوقت الذي يتم نسيان وترك الريف يغرق في ظلمات شروط العلاقات الإقطاعية حيث الفقر والأمية والاستغلال في أبشع أشكاله وألوانه أو في شروط عدم التنمية والتهميش التي استمرت كقاعدة عامة حتى بعد التخلص من الإقطاع، كما نجد الثنائية التي تنتج عن الاهتمام والتركيز على منطقة على حساب منطقة أخرى أو مناطق أخرى داخل المجتمع حيث يخلق ويولد ذلك ثنائية مناطق نامية مزدهرة – مناطق مهملة ومهمشة وفقيرة وهي الثنائية التي يمكن أن نسميها المناطقية أو الجهوية، وهناك ثنائية تولد من خلال تمفصل الاقتصادي مع الاجتماعي الديني والمذهبي أو القومي حيث نجد ثنائية من نوع مناطق ذات لون ديني أو مذهبي أو قومي مزدهرة ونامية ومناطق أخرى من لون ديني أو مذهبي أو قومي مختلفة عن الأولى حيث يولد ذلك طوائف نامية وطوائف مهمشة أو ثنائية مجتمعات دينية نامية ومجتمعات دينية مهمشة أو ثنائية قومية سائدة وقومية مسودة و مضطهدة، وفي مراحل لاحقة من تفتت الهويات الوطنية المترافقة مع الانزياح الذي حدث في حقل الاستقطاب والصراع السياسي داخل المجتمعات العربية ولدت ثنائية الإسلام السياسي والعسكر. فطوال تاريخ سوريا الحديث والمعاصر نجد أن كلمة شامي أو حوراني أو ديري أو رقاوي أو حلبي أو ساحلي ...الخ لا تحمل وتدل في الوعي السوري على أماكن مختلفة من الجغرافيا السورية بل للأسف كانت ولا تزال هذه الكلمات محملة بحمولة ثقافية أو طبقية أو حضارية أو طائفية أو هذه وتلك من الصفات إن لم يكن أكثر. إن ما ينبغي أن نشير إليه و نؤكد عليه هنا:
1-هو أنه إذا كانت هذه الثنائيات هي نتاج قانون التطور اللامتكافئ وهو القانون الحاكم للوجود و التطور الرأسمالي منذ ولادة و نشأة الرأسمالية وحتى يومنا هذا فإن ما نود الإشارة إليه هنا هو أن هذا القانون يأخذ شكل تحققه الخاص في البنى الرأسمالية المتخلفة حيث يبلغ فعله فعل النار في الهشيم أي أنه يتحقق بشكل موسع و شامل و بشكل دائم و مستمر، أي أن هذه الثنائيات تصبح عملية بنيوية ملازمة لبنى التخلف الرأسمالي، حيث نجد أن بنية التخلف تتخلص من بعض الثنائيات في سياق تطورها ولكن لتولد بدلاً عنها ثنائيات جديدة، أي أن عملية توالد الثنائيات هي عملية ملازمة لكل مراحل التطور الرأسمالي في بنية التخلف، أي أن لكل مرحلة من مراحل التطور الرأسمالي ثنائيات خاصة بها أو الناتجة عنها، فالثنائيات التي عرفها الواقع العربي في مرحلة البرجوازية التقليدية هي غيرها التي سنجدها في بنية التخلف الرأسمالي في مرحلة الدولة الاستبدادية المعممة البرجوازية حيث سيطرة وهيمنة الطبقة العليا للدولة الاستبدادية البرجوازية.
2- إن عدم التكافؤ في التطور لا يكون في البنى الرأسمالية المتخلفة مقتصراً على عدم التكافؤ بين القطاعات الاقتصادية المختلفة المشكلة للبنية الاقتصادية للمجتمع، فعدم التكافؤ هنا يطال بنى اجتماعية و مناطقية و دينية و طائفية و قومية أي هنا يتم تمفصل الاقتصادي بالاجتماعي بالمعنى الواسع لكلمة اجتماعي وعدم التكافؤ هنا متحرك و متبدل و متغير أو متنقل حيث نجد انقلاب الأدوار أو تبادل الأدوار بين طرفي الثنائيات حسب كل مرحلة من مراحل التطور الرأسمالي و هذا ما سنبينه فيما سيتقدم من هذا البحث .
3- إن عدم التكافؤ والثنائيات الناتجة عنه لا تنشأ فقط كنتاج و انعكاس لاختلاف البنية الاقتصادية بين جهة و أخرى في سياق التطور الطبيعي للمجتمع، إذ نجد الثنائيات تنشأ و تقوم هنا حتى عندما تكون البنية الاقتصادية واحدة، أي يتم توليد عدم التكافؤ ومعه الثنائيات بشكل واعي أو لنقل من خلال التدخل الواعي لتوليد عدم التكافؤ من خلال عملية تدخل سلطة سياسية تستحوذ على الدولة والثروة، وهو الأمر الذي يتيح لها توليد استقطاب وصراع طبقي و سياسي واجتماعي ولا سيما عندما يحدث تدخل سلطة ما انزياحاً في مركز ثقل الطبقة المسيطرة المالكة للثروة أو المهيمنة لمصلحة جهة قومية أو دينية أو طائفية أو قبلية أو جهوية أو حتى عائلية، ويزداد الأمر سوءاً عندما تمفصل كل ذلك مع الصراع على الصعيد الإقليمي و العالمي حيث يتم هنا ارتكاز واتكاء بعض الأطراف والقوى الطبقية والسياسية على البنى القديمة كزاد إيديولوجي و فكري وثقافي أو كزاد سياسي في مواجهة الخصوم الطبقيين أو السياسيين. إن أخطر ما تقود إليه هذه الثنائيات إذا ما وجدت في نسيج مجتمع من المجتمعات هو أن وجودها لا يضعف من وحدة وتماسك المجتمع ويضعف من تبلور وتشكل هويته الوطنية فحسب بل في كونها تشكل قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في وجه المجتمع في أي لحظة، وفي أغلب الحالات في اللحظات التي يراد فيها طمس الصراع الحقيقي الطبقي والسياسي بغطاء طائفي أو مناطقي أو قومي أو جهوي ...الخ لهذا يصح أن نسميها بالثنائيات القاتلة للمجتمع، يكفي هنا أن نشير إلى أخطر هذه الثنائيات وهي الثنائية الناتجة عن الانتقال والانزياح في مركز ثقل الثروة والسلطة من جهة إلى جهة أخرى والقائم على دوافع وأسس طائفية والناتج عن تدخل قوى سلطة خارجية أو داخلية تخرج عملية تطور المجتمع من حالة التطور الطبيعي، يكفي هنا كمثال عن تدخل السلطة الخارجية في هذا المجال الإشارة إلى الضغوط الغربية التي مورست على سلطة الباب العالي العثماني والتي قادت في القرن التاسع عشر إلى ظهور ثنائية البرجوازية السنية والبرجوازية المسيحية في الواقع السوري وحيث كان ظهور هذه الثنائية إضافة إلى أسباب أخرى أحد الأسباب التي وقفت خلف الصراع الذي ارتدى القناع الطائفي بين المسلمين والمسيحيين في دمشق عام 1860. يقول نشوان الأتاسي في كتابه تطور المجتمع السوري (1831 – 2011 ) ، مبيناً الجذر الاقتصادي الطبقي المسبب لما يسميه بالفتنة الطائفية الكبرى 1860، يقول " وإلى جانب طبقة الملّاكين- البيروقراطيين، كانت الطبقة الوحيدة التي ارتقت مصالحها في سوريا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر هي الطبقة التجارية المسيحية نتيجة الحماية التي حصلت عليها من القوى الأوروبية عبر القناصل، إلى جانب التعليم الذي قدمته لها البعثات التبشيرية. وقد توسعت الامتيازات الأجنبية في النهاية لتسمح للقناصل الأجانب بمنح المسيحيين الحماية التجارية التي شملت امتيازات خاصة، كدفع ضرائب أقل من الضرائب التي يدفعها المسلمون على نشاطات الاستيراد والتصدير. وقد بدأ المسيحيون، بعد عام 1860 يتمتعون بعهد جديد من الأمان والازدهار الناجم عن الضغوط الأوروبية على الدولة العثمانية لضمان حمايتهم. ونتيجة لذلك فإن البرجوازية المسيحية لم تكتف بتعميق انغماسها في تجارة الاستيراد والتصدير، بل إن هؤلاء البورجوازيين المتمتعين بالحماية الأوروبية، جعلوا من أنفسهم أيضاً ملّاكاً للأراضي ومرابين وأصحاباً للمصارف التي تقرض الحرفيين والملّاك المسلمين...ص24 "، ثم يتابع ويقول في الكتاب نفسه " يعزو بعض المؤرّخين أسباب أزمة عام 1860، إلى الانتفاضة الاجتماعية والسياسية لجبل لبنان خلال السنتين السابقتين، لكن يمكن العودة بجذورها إلى أيام الاحتلال المصري لسورية ومشاريع إبراهيم باشا للمركزة والتحديث وفتح الأبواب أمام النفوذ السياسي والاقتصادي الأوروبي الذي منح الأقليات مساواة أكبر بالمسلمين، كما حدّ من مصادر القوة العسكرية المحلية، والأهم، إضعافه لقاعدة القوة السياسية المستقلة ل" العلماء ". ومع عودة السلطة المركزية العثمانية عام 1841، منح العلماء ( وهم علماء الدين المسلمون، ومنهم الاشراف، وهم من سلالة الرسول محمد ) والأعيان العلمانيون ( من المهم التأكيد ان مصطلح العلمانيين هنا لا علاقة له بمفهوم العلمانية secutarism وإنما تم استخدامه في وصف الأعيان غير المنحدرين من المؤسسة الدينية، أي ممن ليسوا من العلماء الدارسين ولا من الأشراف ) حصة أكبر من الإدارة، أملاً في أن يتقربوا من الدولة ويدعموا مشروعها الإصلاحي الجديد، وكان هذا ما فعلوه جزئياً، فقد استخدموا مواقعهم في " المجلس " لدعم الإصلاحات التي تمكنهم من الدفاع عن مصالحهم الشخصية، لكنهم حاولوا الوقوف في وجه مجموعة الإصلاحات الأخرى التي منحت الأقليات مساواة أكبر من المقاعد في " المجلس "، لكن محاولاتهم لم تثمر بسبب إصرار السلطة العثمانية على إصلاحاتها " التنظيمات "، وأيضاً بسبب منح القناصل الأوروبيين قدراً أكبر من الحماية للأقليات جعلتهم يشعرون بالمزيد من الأمان، وكنتيجة لتلك الحماية، عقدوا روابط أوثق مع هؤلاء القناصل، ومع التجار الأوروبيين أيضاً. ومن هنا بدأت التأثيرات الاقتصادية لحماية القناصل وللروابط مع التجار الأوروبيين بالبروز. شعر مسلمو دمشق، بكلّ " طبقاتهم "، باستياء كبير من هذه التطورات، و" ربما " كان الانفجار العنيف في تموز 1860 قد تمّ على يد بعض " العلماء " المستائين من " التنظيمات ". لكن من المؤكد أن معظم جموع " الرعاع " الذين قاموا بأعمال العنف تلك الأيام كانوا من الحرفيين المسلمين العاطلين عن العمل، خصوصاً من عمال النسيج، بسبب حلول السلع الأوروبية الصنع محل منتجاتهم الحرفية، فصبّوا جام غضبهم على المجتمع المحلي المسيحي الذي ارتبط مؤخراً، في الذهنية الشعبية، بالمصالح الأوروبية. ص27 – 28 ". في هذا السياق من المهم الإشارة الى ما جاء في كتاب "دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر " للمؤرخة الأمريكية ليندا شيلشر, ففي الفصل الذي تتحدث فيه عن التغلغل الأوروبي في الاقتصاد السوري والمرتكز والمتحيز على ما أطلقت عليه في كتابها " بالحمايات " وحيث المقصود الحماية الأوروبية لكل من الأقلية المسيحية واليهودية، أقول نجد أدق التفاصيل لنشوء ثنائية برجوازية مسلمة وبرجوازية مسيحية التي مهدت للانفجار العنيف في تموز 1860، كما نجد في هذا الكتاب أدق تفاصيل الجذر الاقتصادي والطبقي للصراع الذي عرفته مدينة دمشق في القرن التاسع عشر والناتج عن الصراع بين طرفي ثنائية ثانية عرفها المجتمع الدمشقي وهي الثنائية التي شكل طرفي قطبيها أصحاب الثروة القاطنين داخل أسوار مدينة دمشق وهم من أسمتهم بالعصبة المتحلقة حول أسرة آل العظم / وأصحاب الثروة القاطنين في حي الميدان الكائن خارج أسوار دمشق القديمة وهم من أسمتهم بعصبة حي الميدان، فمن خلال فهم هذا الصراع يمكننا معرفة الأسباب غير المباشرة للثورة التي عرفتها دمشق عام 1831 ضد العثمانيين، كما معرفة الأسباب التي أدت إلى نجاة المسيحيين القاطنين في حي الميدان والذين التجؤوا إليه أيام مجزرة عام 1860. تقول ليندا شيلشر في كتابها " على الرغم من علائم الموت المحتم الذي كان يتهدد صناعة النسيج المحلي، فمما مدعاة للاهتمام أن أحد الرحالة النمساويين صادف منطقة مزدهرة لإنتاج الألاجة ( نوع من القمش الدمشقي ) في الميدان ...ولعل أهالي الميدان - وقد حالفهم النجاح في تصدير الحبوب – كان بمقدورهم دفع ثمن خيط الغزل القطني الإنكليزي الأساسي لبقاء إنتاج الألاجة في ذلك الحين. وإذا كان الأمر كذلك فإن نجاحهم هذا كان على نقيض من انحدار إنتاج الألاجة وما كان يعانيه عمال النسيج في المدينة الداخلية من عسر ص96 " ثم تتابع فتقول " أما في دمشق التي طالما كانت تجارة الحبوب فيها حكراً على الباشا - فإن الدعم الذي توفر لتجار معينين وخاصة أعيان عصبة الميدان خلال عهد التنظيمات، كان موازياً لازدهار تجارة تصدير الحبوب. ولعل أسر أغوات الميدان قد أفلحت أخيراً في تصدير الحبوب التي كان من اليسير عليهم الوصول إليها دون تدخل من الباشا، بفضل الإصلاحات التي جرت في عهد التنظيمات. إن الأرباح المباشرة التي تحققت من تجارة الجبوب تظل أكثر التفسيرات منطقية للثراء الواسع الذي كانت قد راكمته بحلول الستينيات أسر من الميدان مثل آل النوري والمهايني والعابد والصباغ. كذلك فمن المحتمل أن أهالي الميدان قد تعاونوا في التجارة مع المسحيين المحليين، إذ كانت لهؤلاء صلات وثيقة بتجار الشحن وكانوا في غالبيتهم من الفرنسيين وبإمكانهم الحصول على حماية القناصل الأوروبيين من تدخل العثمانيين ص 100- 101 " ثم تتابع لتقول " وفي الاتجاه ذاته، لعل عصبة آل العظم تنبهت إلى مشاعر اليأس وروح الانتقام التي كانت تملأ أنصارها، فحرضتهم على معاقبة أولئك الذين بدا أنهم يستفيدون بينما هم في انحدار. إن من شأن الفتنة أن تبين مدى إحساسهم بالإحباط في معالجة التغييرات الثقافية والاقتصادية التي كانت تفسد عليهم عالمهم، والتي يبدو أن الحكومة العثمانية كانت تعمل على تعزيزها فعلاً. ولربما أرادت عصبة الميدان – من جانبها – أن تزعزع الثقة بكفاءة عصبة آل العظم السياسية، بإثارة انتفاضة مدينية من شأنها إحراج السلطات. فقد كان أهالي الميدان يعون مبلغ مشاعر الإحباط والاستياء لدى قسم كبير من الطبقة العاملة الدمشقية وسهولة إثارة حركة من نوع ما. على كل حال، كانت إثارة الفتن الطريقة التي غالياً ما اتبعها أهالي الميدان لبلوغ مآربهم السياسية. ص123 " لهذا كان منطقياً أن نجد " أن عدداً كبيراً من تجار الميدان المسلمين كانوا نشطين في حماية المسحيين ومساعدتهم اثناء أعمال الشغب ص124" التي حدثت في تموز 1860. أن الأمر ذاته سيتكرر بعد حوالي أكثر من قرن من الزمن عندما ستقف سلطة داخلية هذه المرة وراء هذا الانزياح في مركز ثقل الثروة والسلطة ، بدءاً خطوة من 8 آذار 1963، ثم بعد ذلك ما حدث بداية من عام 1970 عندما عمل النظام الأسدي مستخدماً قوة السلطة على إحداث هذا الانزياح في مركز ثقل الثروة والسلطة داخل المجتمع السوري لمصلحة العصبية الطائفية التي بدأ الارتكاز عليها في حكمه وحيث قاد ذلك إلى انفجار صراع داخل المجتمع ما زالت نيرانه تحرق الأخضر واليابس من الوجود السوري حتى يومنا هذا ونحن نكاد نختم العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. إن نقل مركز ثقل الثروة والسلطة في مجتمع من المجتمعات خارج سياق التطور الطبيعي، أي الناتج عن تدخل فوقي تمارسه سلطة داخلية أو خارجية لا يمكن أن يحدث ويتم من دون ممارسة حد عالي من العنف السياسي والاقتصادي، كما لا يمكن أن يحدث هذا من دون مقاومة وردة فعل وعنف مضاد اقتصادي وسياسي، وحيث يأخذ العنف منحىً دموياً على شكل جرح مفتوح نازف في الحالات التي ينتقل فيها مركز ثقل الثروة والسلطة إلى جهة تحمل هوية ما قبل وطنية.
نظام الاستبداد المعمم في سوريا مقدماته ومراحله - 3 lemonde.in 5 of 5
لومـــــوند : نبيل ملحم ثالثاً: خصائص البنى الرأسمالية العربية التقليدية ما قبل صعود الاستبداد. أعلم أن كثيرين لن يجدوا جديداً في حد...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك