نظام الاستبداد المعمم في سوريا مقدماته ومراحله -1


لومــــــوند : نبيل ملحم
أولاً: صيرورة واحدة ومنعطف في تاريخ التطور البشري
يعد اكتشاف الرحّالة كريستوف كولومبوس ( 1451 – 1506 ) للعالم الجديد أو ما يسمى الأمريكيتين، واكتشاف طريق الهند عبر رأس الرجاء الصالح، من أكبر الاكتشافات في التاريخ البشري، فقد أدى هذا الاكتشاف إلى إحداث منعطف في اتجاه و حركة التطور البشري، فهذا الاكتشاف لم يثبت للعالم بشكل عياني كروية الأرض، وبوجود طريق جديد يمكن من خلاله الوصول إلى قارة الهند وقارة آسيا من جهة الغرب، وأن جهة الشرق ليست الطريق الوحيدة إليهما فحسب، بل الأهم هو كون هذا الاكتشاف إضافة إلى كونه أعطى للتطور الرأسمالي في المجتمع الأوروبي دفعاً كبيراً إلى الأمام من خلال توفيره الأسواق الجديدة اللازمة للتطور و التوسع الرأسمالي، وحيث أنه أتى وكأنه استجابة لسعيه للامتداد و التوسع و حاجاته المتزايدة إلى أسواق لتصريف السلع و الإنتاج الرأسمالي من جهة أولى كما حاجاته إلى أسواق لتأمين المواد الخام اللازمة لعملية الإنتاج الرأسمالي من جهة ثانية، أقول بالإضافة إلى هذا فإن هذا الاكتشاف ومع التقائه مع حاجات التطور الرأسمالي، كان إيذاناً بطي صفحة تطور المجتمعات البشرية المستقل، وبما يعني أنه كان إيذاناً بنقل التطور البشري من حالة الصيرورات المستقلة المنعزلة بعضها عن بعض إلى حالة التطور البشري ضمن صيرورة واحدة هي صيرورة التطور الرأسمالي العالمي، فقبل اكتشاف كولومبوس، وقبل نشوء الرأسمالية وصعودها في الواقع الأوروبي، ومن ثم توسعها مع هذا الاكتشاف على الصعيد العالمي، أقول قبل ذلك كانت المجتمعات البشرية تعيش حالة التطور ضمن صيرورات مستقلة و منعزلة بعضها عن بعض، فكل مجتمع كان يعيش و يشكل وحدة اجتماعية اقتصادية سياسية منعزلة و مستقلة نسبياً عن غيرها في تطورها و اتجاه تطورها و العوامل الفاعلة والمؤثرة في هذا التطور. طبعاً هذا لا يعني أنه قبل الرأسمالية وقبل اكتشاف كولومبوس لم يكن هناك تأثير وتأثر متبادل بين صيرورات تطور المجتمعات، ولكن لم يكن يصل هذا التأثر والتأثير إلى درجة خضوع صيرورة تطور مجتمع ما إلى صيرورة تطور مجتمع آخر إلا في حالة سيطرة مجتمع ما على مجتمع آخر بشكل مباشر، كحالة الاحتلال العسكري المباشر الذي كانت تقوم به الدول الإمبراطورية القديمة، عندما كانت تفرض سيطرتها على شعوب وبلدان أخرى. فمع اكتشاف كولومبوس وما أعطاه من دفع للتطور الرأسمالي في المجتمع الأوروبي من خلال ما وفَره للرأسمال الأوروبي من امتداد وتوسع على الصعيد العالمي، غدت البشرية تعيش وتتطور ضمن سياق تاريخي واحد وصيرورة واحدة للتطور هي صيرورة التطور الرأسمالي الأوروبي، وغدت كل صيرورات التطور تنضوي وتخضع لصيرورة واحدة هي صيرورة التطور الرأسمالي ذو الطابع العالمي، حيث نشأ لأول مرة في التاريخ شيء اسمه اقتصاد عالمي واحد موحد، والسوق العالمية، وفيما بعد النظام الرأسمالي العالمي. إن منطق التطور الرأسمالي و طبيعة علاقات الإنتاج الرأسمالية تختلف و تتميز عن منطق التطور ما قبل الرأسمالي الإقطاعي والعبودي، ونقطة اختلافه و تميزه الجوهرية تكمن في أن الرأسمالية و علاقات الإنتاج الرأسمالية تتصف و تتسم بكونها علاقات لا تحيا وتتطور إلا من خلال التوسع الدائم و المستمر أي التوسع في الإنتاج وبالتالي التوسع بالأسواق لتصريف هذا الإنتاج الأمر الذي يقتضي الامتداد والتوسع الدائم و المستمر وعدم الانغلاق والتقوقع والانعزال ضمن إطار جغرافي أو بشري محدد و ضيق، وهكذا فإن اكتشاف كولومبوس وفر الشروط الضرورية واللازمة التي يقتضيها منطق التطور الرأسمالي القائم على التوسع و الامتداد الكوني، وهكذا نشأ على الصعيد العالمي ما عرف فيما بعد بالنظام الرأسمالي العالمي الذي نشأ على مراحل و حيث كان له طبيعة تميزه في كل مرحلة من مراحل تطوره. حيث بدأ بالمرحلة التجارية (المركنتلية) مروراً بالمرحلة الصناعية وصولاً إلى مرحلة سيطر فيها رأس المال المالي والشركات الاحتكارية العابرة للقارات على كل مفاصل النظام ... الخ ومع نشوء هذا النظام ذو الطابع العالمي انضوت كل المجتمعات البشرية تحت لواء الرأسمالية وبدأت عملية تهديم كل البنى القديمة ما قبل الرأسمالية الموجودة في أصقاع العالم، فتحت وقع ودفع وتأثير البنى الرأسمالية الأكثر تقدماً وقوة وتفوقاً تم تهديم البنى القديمة ما قبل الرأسمالية وتحويلها إلى بنى رأسمالية تخدم صيرورة التطور الرأسمالي المتمركزة في الواقع الأوروبي، لقد عبر كارل ماركس في البيان الشيوعي 1848 عن صيرورة التطور الرأسمالي العالمي التي لا تزال سارية بخطواتها ومفاعيلها وتحتفظ بالكثير من جوانبها بمضامينها إلى هذا اليوم، كما تحتفظ كلماته في كونها أقوى وأبلغ تعبير مكتوب في الأدب السياسي رصد هذه الصيرورة، يقول في البيان: "... لا تستطيع البورجوازية أن توجد دون أن تثوّر باستمرار أدوات الإنتاج، إذن علاقات الإنتاج، أي مجموع العلاقات الاجتماعية. أما الإبقاء على نمط الإنتاج القديم دون تغيير فقد كان، على العكس، الشرط الأول لبقاء جميع الطبقات الصناعية السابقة. فهذا التثوير الدائم للإنتاج، وهذا القلق المتجددين جميعها تميّز الحقبة البورجوازية عن جميع الحقب التي تقدمتها. فكل العلاقات الاجتماعية التقليدية والباهتة تتفسخ ومعها تتفسخ مواكب تصوراتها وأفكارها العتيقة الوقورة، والعلاقات التي تحل محلها لا تلبث أن تهرم حتى قبل أن يصلب عودها. وكل ما كان مكيناً ومستقراً يتطاير هباءً منثوراً، وكل ما كان مقدساً يغدو مدنساً، وأخيراً يضطر الناس إلى فحص شروط حياتهم وعلاقاتهم المتبادلة بأعين صاحية. تكتسح البورجوازية، مدفوعة بحاجتها إلى أسواق أبداً جديدة، الأرض بأسرها. فلا بدّ لها من أن تعشّش في كل مكان، وأن تستغل في كل مكان، وأن تقيم العلاقات في كل مكان. أعطت البورجوازية، باستغلالها للسوق العالمية، طابعاً عالمياً لإنتاج جميع البلدان واستهلاكها. ورغم أسى الرجعيين العميق انتزعت البورجوازية من الصناعة قاعدتها القومية. فالصناعات القومية القديمة دمرت، ويلحق بها يومياً مزيد من الدمار، وحلّت محلها صناعات جديدة أصبح تبنيها، من جميع الأمم المتحضرة، مسألة حياة أو موت، ولم تعد هذه الصناعات تستخدم المواد الأولية المحلية، بل مواد أولية آتية من أكثر المناطق بعداً، وتستهلك منتوجاتها لا داخل البلد وحسب بل في جميع أنحاء العالم. وعلى أنقاض الحاجات القديمة التي كانت تلبيها المنتوجات الوطنية، تلد حاجات جديدة يتطلب إشباعها استيراد منتوجات البلدان والأقاليم النائية. وعلى أنقاض الانعزال القطري والقومي القديم، القائم على الاكتفاء الذاتي، تنمو تجارة عالمية وتبعية متبادلة بين جميع الأمم. وما هو صحيح بصدد الإنتاج المادي لا يقل صحة بخصوص الإنتاج الفكري. فالآثار الفكرية لأمة تصبح ملكاً مشتركاً لجميع الأمم. ويغدو قصر النظر والتقوقع القوميان مستحيلين أكثر فأكثر. ويلد، من مجموع الآداب القومية والقطرية، أدب عالمي. بالإتقان السريع لأدوات الإنتاج، وبالتحسين الدائم لوسائل المواصلات، تجرّ البورجوازية إلى تيار الحضارة حتى أشد الأمم همجية. أما رخص منتوجاتها فيظل المدفعية الثقيلة التي تشن بها هجوماً عنيفاً على جميع أسوار الصينية، وبها ترغم على الاستسلام أشد الهمج مراساً في عداء الأجانب. وتقود جميع الأمم، تحت طائلة الهلاك، إلى تبني نمط إنتاج البورجوازية، وترغمها، مهما أبت، على إدخال الحضارة المزعومة إليها أو قل ترغمها على أن تصبح بورجوازية، وباختصار، فهي تخلق عالماً على صورتها. لقد أخضعت البورجوازية الريف لسيطرة المدينة، وانشأت مدناً هائلة، وضخّمت تضخيماً مذهلاً سكان المدن قياساً على سكان الأرياف، وبذلك انتزعت جلّ السكان من بلاهة الحياة القروية. مثلما أخضعت الريف للمدينة والبلدان الهمجية وشبه الهمجية للبلدان المتحضرة، طوعت الشعوب الفلاحية للشعوب البورجوازية والشرق للغرب...". ما لم يقله كارل ماركس في البيان الشيوعي أن صيرورة التطور الرأسمالي لم توحد العالم من خلال إعطاء الإنتاج والتبادل والاستهلاك والثقافة طابعاً عالمياً فحسب بل حتى الأمراض والأوبئة ستغدو ذات طابع عالمي، فلم تعد الأمراض والأوبئة تضرب هذه المنطقة أو تلك أو هذا الشعب أو ذاك كل على حدة، فقد أصبح أي مرض أو وباء إذا ما ضرب منطقة أو شعباً في أي مكان من المعمورة فإنه بعد أيام قليلة أصبح قادراً على أن ينتشر ويتفشى ويعم في كل مكان وزاوية في العالم عابراً الحدود بين الدول والقارات والأعراق والطوائف والأقوام ...الخ. فالفيروس الذي يصيب البشر في مدينة ووهان في وسط وشرق الصين أصبح له القدرة على الانتقال والانتشار بسرعة أيام ليصيب كل البشر في كل أرجاء المعمورة، كما هو حال فيروس كورونا " كوفيد 19 " الذي يجتاح العالم منذ بداية عام 2020، وكل ذلك ناتج عن الترابط والارتباط بين شعوب العالم الذي حققته صيرورة التطور الرأسمالي في العالم بفعل ثورة المواصلات والاتصالات التي جعلت من الكون قرية صغيرة مرتبطة بعضها ببعض ومكشوفة بعضها على بعض. لقد تمت عملية تكييف وتطويع كل البنى ما قبل الرأسمالية في العالم أو التي لم تكن قد بلغت الرأسمالية مع التطور الرأسمالي الأوروبي، ومع هذا التكييف الذي هو انتقال إلى بنى رأسمالية فقدت كل المجتمعات والبنى في العالم لا انعزالها فحسب بل فقدت استقلالها كذلك، أي غدت مجتمعات تتطور وفق متطلبات وحاجات ومصالح التطور الرأسمالي الأوروبي لا وفق مقتضيات ومصالح وحاجات تطورها الخاص الذاتي والداخلي المستقل، ومع هذا الخضوع للبنى ما قبل الرأسمالية لصيرورة التطور الرأسمالي، ومع تهدم البنى القديمة عن طريق رسملتها تحت تأثير الرأسمال الأوروبي، تم الحكم التاريخي الصعب على قسم من المجتمعات البشرية - وهو القسم الأكبر على المستوى الكوني - بالخضوع والتبعية والارتباط بالرأسمال الأوروبي، أي حكم على هذه المجتمعات بالتأخر والتخلف، وقد وصل الأمر إلى الحد الذي حكم فيها على بعض الشعوب بالموت والفناء، كحال السكان الأصليين الذين كانوا يعيشون في العوالم الجديدة التي تم اكتشافها، فمنذ اكتشاف كولومبوس للقارة الأمريكية عام 1492 ، وبعدها اكتشاف الملاحة الهولنديون لقارة أستراليا عام 1606 ، وبعدها اكتشاف نيوزيلندا من خلال المستكشف الهولندي أبل تسمان عام 1642 ، وعلى مدار أربعة قرون وصولاً لعام 1890 تاريخ آخر المعارك التي خاضها الهنود الحمر وهم يقاومون المستوطنين البيض الذين احتلوا القارة الجديدة، حكم بالموت، على ما يقارب (130 ) مليوناً من الهنود الحمر وهم السكان الأصليون الذين كانوا يعيشون في الأمريكيتين، عبر مجزرة تعد من أكبر المجازر في تاريخ البشرية حتى يومنا هذا. فكل المجتمعات البشرية التي لم تكن قد انتقلت إلى الرأسمالية قبل التطور الرأسمالي الأوروبي، إن كان بسبب الركود الذي عاشته في ظل دولة استبدادية من طراز الدولة الاستبدادية المعممة التي عرفها المجتمع العربي في العصر الوسيط وما تلاه، أو تأخرت عن الرأسمالية بسبب قصر العمر الحضاري لهذه المجتمعات وبالتالي له علاقة بعمر تطورها التاريخي، أقول أغلبية الشعوب و المجتمعات التي لم تصل إلى الرأسمالية أو تأخرت عن إنجاب الرأسمالية فقد حكم عليها بالموت أو بالتأخر و التخلف في آن واحد. أي حكم على أغلبية المجتمعات التي تأخرت عن إنجاب الرأسمالية بأن تبقى متأخرة في تطورها أو لنقل تحول تأخرها عن إنجاب الرأسمالية إلى تخلف، أي تم تحويل بنى هذه المجتمعات إلى بنى رأسمالية تابعة و مرتبطة و خاضعة، وهذه البنى شكلت الوريث الطبيعي للبنى المتأخرة ما قبل رأسمالية، وبهذا انقسم العالم والنظام الرأسمالي العالمي إلى بنى متقدمة وهي البنى الرأسمالية الأوروبية ( بلدان المراكز ) التي تشكل عقل وقلب النظام الرأسمالي العالمي، و بنى متخلفة و تابعة و مرتبطة و خاضعة للبنى الأولى ( بلدان الأطراف )، وهي البنى التي تحولت إلى الرأسمالية بفعل التوسع الرأسمالي الأوروبي على الصعيد العالمي والذي كان على شكل توسع استعماري مباشر في أغلب الأحيان. وإذا كان صحيحاً أن كل هذا أدى إلى نقل هذه المجتمعات والبنى المتخلفة إلى تيار الحضارة الرأسمالية على أنقاض حضاراتها القديمة ما قبل الرأسمالية، حيث قضى على انعزالها، وانغلاقها، وهدم كل أسوارها العتيقة والعتيدة. أقول إذا كان هذا صحيحاً، فإنه صحيح كذلك بأنه بالوقت نفسه قضى على إمكانية أن تتطور هذه البنى بشكل مستقل وحر، أي قضى على إمكانية أن تتطور وفق متطلبات وحاجات مصالحها وحاجات شعوبها، فالبنى المتأخرة بمقدار ما كانت تدخل إلى تيار الحضارة الرأسمالية فإنها كانت تفقد حقها و قدرتها على تقرير مصيرها أي غدت مرتبطة و مرتهنة بالضرورة لمتطلبات و مصالح و حاجات لا شعوبها بل لمتطلبات و مصالح و حاجات الشعوب الأوروبية وتحديداً حاجات و مصالح طبقاتها السائدة الرأسمالية بكل ألوانها وأشكالها الأيديولوجية و السياسية التي اتخذتها عبر كل مراحل تطورها .
إن حقيقة تخلف وخضوع وتبعية بلدان الأطراف موضوعياً إلى بلدان المراكز الأوروبية الرأسمالية ينبغي أن لا يعمينا عن رؤية حقيقة ثانية لا تقل أهمية عن الحقيقة الأولى، حقيقة تقول أن خضوع صيرورات التطور في أطراف النظام الرأسمالي لصيرورة ومصلحة تطور المراكز لم يشكل قدراً كلي القدرة والجبروت في تحديد مستوى تطور الأطراف ومستوى تأخرها وتخلفها على نفس القدر والمستوى في كل البلدان والمجتمعات، بل كان متفاوتاً ومختلفاً من بلد إلى آخر من بلدان الأطراف، فعدا عن دور الخصائص التاريخية التي تميز كل مجتمع في تحديد مستوى التأخر والتخلف، فقد لعبت خيارات النخب الاجتماعية والسياسية والثقافية والطبقية التي قادت تلك المجتمعات بعد التحرر والاستقلال من الاستعمار في شكله العسكري المباشر دوراً حاسماً في تحديد مستوى التخلف والتأخر، وبما يعني تحديد مستوى وشروط التبعية والارتباط بالخارج، فخيارات النخب التي قادت مجتمعات الأطراف، لعبت دوراً حاسماً إما في تخفيف آثار الخضوع لصيرورة تطور المراكز، أو زادت من آثار الخضوع ومستوى التأخر والتخلف، فإذا كان الانعتاق وفك الارتباط الكلي عن صيرورة المراكز الرأسمالية ضرباً من المستحيل إن كان باتجاه إطار تاريخي جديد أو حتى ضمن الإطار التاريخي للرأسمالية ما دامت قلاع النظام الرأسمالي موجودة وصامدة، فإن مسألة تحسين شروط الارتباط والخضوع في إطار النظام الرأسمالي العالمي كان أمراً ممكناً ومتاحاً من خلال خيارات وطنية لعبتها الكثير من النخب التي تسنمت قيادة مجتمعاتها بعد الاستقلال، إن كان من خلال سياسات اقتصادية تنموية ورشيدة ومتمحورة على الذات أو من خلال بناء شكل تاريخي حديث من وجود الدولة والسلطة يقوم على علاقة صحيحة وصحية بين الدولة والمجتمع، وبما يعني تنظيم علاقة الدولة بالمجتمع بشكل حديث وديمقراطي يوفر المجال لمشاركة جميع أفراد المجتمع في عملية بناء ونهوض المجتمع اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وروحياً. إن مسألة حياة أو موت وهلاك أي بلد من بلدان الأطراف أو لنقل مسألة تقدمه وتحسين شروط وجوده، أي تخفيف مستوى الارتباط والخضوع داخل النظام الرأسمالي العالمي أو بقاؤه متأخراً ومتخلفاً داخل هذا النظام، أصبح متوقفاً على النخب السياسية والطبقية التي تسنمت قيادة بلدان الأطراف، فالمسألة كانت إما اللحاق أو الهلاك، فمن أخذ بشعار " اللحاق " التقني الاقتصادي، فقد كانت فرص نجاحه أوفر في ردم وتقليص هوة التأخر والتخلف بينه وبين المراكز الرأسمالية، ومن زاد على ذلك باللحاق التقني السياسي وأعني هنا بناء نظام سياسي حديث وديمقراطي، فقد كانت له فرصة أكبر في تضيق الهوة والمسافة التي تفصله عن الغرب الرأسمالي، وحيث كان الانقلاب على نوع كهذا من الخيارات في بعض المجتمعات، كما حدث في معظم المجتمعات العربية لجهة ومصلحة خيارات أخرى، إن كانت اقتصادية من خلال رأسمالية الدولة الفاسدة والمفسدة أو سياسية وإيديولوجية من خلال بناء دولة الاستبداد المعمم الشمولية الإيديولوجية أو الطبقية من خلال سيادة نوع شاذ من السيادة الطبقية، وأقصد هنا سيادة طبقة طفيلية فاسدة ومفسدة يصح أن نسميها بسيادة الطبقة العليا لدولة الاستبداد المعمم على المجتمع وطبقاته الاجتماعية، وحيث كل ذلك تم بناؤه تحت عناوين محاربة الرجعية والاستعمار والتحرر الاقتصادي وفك الارتباط عن النظام الرأسمالي العالمي، وحيث أن ذلك لم يقد إلى الفشل في تحقيق وإنجاز أي نصر وكسب في هذه العناوين فحسب بل قاد إلى مزيد من الارتباط والتبعية كما قاد في كثير من الحالات إلى دمار وانهيار المجتمعات التي دفعت باتجاه هذا الخيار، وحيث النموذج التاريخي الذي قاد هذا الخيار والانقلاب كان نموذج الدولة الشمولية الإيديولوجية المستوحى من النموذج السوفييتي الستاليني والذي كانت تتبناه الأحزاب الشيوعية التقليدية ومعها الأحزاب القومية البرجوازية الصغيرة المدعومة من العسكر في كثير من الأحيان. إن تبني ما كان يسمى بفصائل حركات التحرر الوطني في أغلب دول الأطراف للنموذج السوفييتي الستاليني في بناء الدولة والمجتمع أدى لأن تكون أغلب الأفكار التي أطلقتها تلك الحركة عن التحرر عبارة عن ضلال وتضليل إيديولوجي ستاليني مقيت، كما أن تبني هذا النموذج جعل من فصائل تلك الحركة عبارة عن مشاريع استبدادية قادمة وزاحفة إلى السلطة في تلك البلدان. لقد أطلقت تجربة القرن العشرين لشعوب الاطراف رصاصة الرحمة على أهم مقولتين في علم الاجتماع السياسي سادتا في اوساط ما كان يسمى سابقا فصائل حركات التحرر الوطني في العالم، والتي ضمت في صفوفها الحركة الشيوعية العالمية، ومعها الكثير من الحركات والاحزاب القومية، والقومية البرجوازية الصغيرة في العالم. المقولة الاولى: التي اطلقها وروج - لها بعد موت لينين - زعيم الدولة السوفييتية جوزف ستالين مؤسس المدرسة الستالينية داخل الحركة الشيوعية العالمية، والقائلة بإمكانية بناء الاشتراكية في بلد واحد، وبما يعني امكانية بلد من البلدان اذا ما وصل فيه الشيوعيين للسلطة تجاوز الرأسمالية والانتقال الى اطار تاريخي جديد ( الاشتراكية ) في محيط وعالم تسيطر وتسود فيه قلاع الرأسمالية العالمية، اما المقولة الثانية: فقد اطلقها وروج لها المفكر المصري والعالمي سمير امين والقائلة بإمكانية بلدان الاطراف اذا ما ثارت على الرأسمالية ان تشكل مركزا عالميا بديلا وقادرا على فك الارتباط والقطع مع النظام الرأسمالي العالمي وقلاعه المركزية، وبما يعني تخطي وتجاوز الرأسمالية الى اطار تاريخي جديد سماه ( ما بعد الرأسمالية ). لقد أثبتت تجربة الشعوب في القرن العشرين أن كسر الحلقات الضعيفة في سلسلة النظام الرأسمالي العالمي لمواجهة الرأسمالية هو شرط لازم في هذه المواجهة، ولكنه شرط غير كاف لنجاح هذه المواجهة بشكلها الناجز والمكتمل إن لم تأتها النجدة من خلال كسر حلقة مركزية على الأقل من قلاع المراكز الرأسمالية الأوروبية كما كان يعتقد كلاً من قائدي ثورة أكتوبر فلاديمير لينين و ليون تروتسكي قبل وبعد ثورة أكتوبر 1917،حيث كانا يقولان إما أن تأتي النجدة من أوروبا، وكان المرجح أن تأتي من ألمانيا وإلا فإن مصير الثورة الهلاك، يقول لينين "... كنا نعرف بكل وضوح بأن انتصار الثورة البروليتارية كان مستحيلاً دون دعم الثورة العالمية، ولقد فكرنا قبل الثورة وبعدها بأن على الثورة أن تندلع بسرعة كبيرة في البلاد الرأسمالية الأكثر تطوراً وإلا تعرضنا للهلاك ..." ) تروتسكي الأممية الثالثة بعد لينين ص101 ( ، ولهذا أطلق ليون تروتسكي بعد موت لينين شعار " اللحاق أو الهلاك " في مواجهة شعار ستالين " الاشتراكية في بلد واحد ". طبعاً هنا من المهم القول أن المخرج الذي وضعه لينين عندما لم تأت النجدة من أوروبا فإن الحل الذي وضعه كبديل وتعويض من خلال الاعتماد على " رأسمالية الدولة العمالية " لم يؤد إلى هلاك الثورة البلشفية فحسب بل إلى موتها والتمثيل بجثتها وجثة وسمعة الفكر الماركسي برمته، لأن هذا الخيار مهد الطريق لظهور الستالينية وفظائعها، وهو الأمر الذي أبعد رويداً رويداً الفقراء في داخل الدولة السوفييتية وخارجها من بقاع العالم عن فكرة الاشتراكية كخيار بديل عن الخيار الرأسمالي، وفي الوقت ذاته فإن ليون تروتسكي لم يضع أي حل أو مخرج في حال لم تأت النجدة من المراكز الأوروبية لتساعد الثورة البلشفية على اللحاق لبناء القاعدة الاقتصادية والتقنية لبناء الاشتراكية الحقيقية في الدولة السوفييتية، فقد اكتفى تروتسكي بفكرته المعروفة ورهانه على السيرورات الثورية الدائمة التي سيتواصل انطلاقها واندلاعها في حلقات النظام الرأسمالي وحيث اعتبر انتصارها وكأنه حالة قدرية محسومة من دون وضع أي احتمال لإمكانية فشلها كلها في كسر أي من الحلقات المركزية الأوروبية التي راهن عليها في كونها ستشكل النجدة للثورة البلشفية ولكل الثورات من بعدها، يكفي هنا للتدليل على مدى اعتماد ليون تروتسكي على ما يمكن تسميته " باليقين القدري " بأن النجدة قادمة لا محال من خلال ما قاله بعد عام من ثورة أكتوبر في حوار حول " الرقابة العمالية والتأميم " مع عالم الاجتماع الأمريكي إدوارد ألسوورث " Edward Alsworth " نشرته صحيفة الإندبندنت يوم 8 مارس 1918، ونشر مترجماً إلى اللغة العربية على موقع " التراث الاممي الثوري" الالكتروني، يقول تروتسكي " ومن جهة أخرى، هل تعتقدون أن الرقابة الرأسمالية ستستمر في سائر العالم ما عدا روسيا؟ أنتظر ثورة اجتماعية بعد الحرب في مجمل البلدان الأوروبية المتصارعة. ما دام الجنود في الخنادق، نادراً ما يفكرون في أمور غير مشكلهم الآني (قتل العدو قبل أن يقتلك). لكن حالما يعودون إلى بيوتهم، سيجدون أسرهم مهلكة وبيوتهم مدمرة، وصناعاتهم خراباً، والضرائب مضاعفة خمس مرات عما كانت، وسيتساءلون كيف حلت بهم هذه المصيبة؟ وسيكونون منفتحين على إدراك أن المسؤول عن الحرب هو الصراعات بين الرأسماليين والمجموعات الرأسمالية من أجل الاستحواذ على مساحات استعمارية للاستغلال، أي الإمبريالية والدبلوماسية السرية وسباق التسلح الذي يشجعه صناع الذخيرة. وفور ما يدركون أن الطبقة الرأسمالية مسؤولة عن هذه الكارثة الرهيبة التي حلت بالبشرية، سينتفضون ويتولون الرقابة. جلي أن روسيا عمالية لن تذهب بعيداً في أهدافها إذا بقي سائر العالم تحت نظام رأسمالي. لكن الأمر سيكون غير ذلك ". طبعاً حتى منتصف القرن العشرين كان انتظار أن يتم كسر أحد الحلقات المركزية الأوروبية في النظام الرأسمالي العالمي هو انتظار مبرر ومشروع وواقعي، ولكن بعد هذا التاريخ وبعد رجوع الجنود إلى بيوتهم بعد حربين عالميتين من دون قيامهم بثورة أو من دون قدرتهم على الانتصار بثورة أصبح هذا الانتظار غير مبرر وغدت مسألة الثورة الدائمة وفلسفتها بحاجة إلى تعديل وإعادة صياغة من جديد وبما يعني بناء استراتيجيات دفاعية بدل الاستراتيجيات الهجومية، فالحركة الشيوعية العالمية بكل تياراتها لم تلتقط أن طبيعة العصر لم تبق هي ذاتها بعد فشل كل السيرورات الثورية التي اجتاحت القارة الأوروبية على مدار قرن من الزمن بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، وبعد أن انقلبت السيرورات التي انتصرت فيها الثورات، كالثورة الروسية إلى سيرورات ثورة مضادة، بعد صعود الستالينية إلى سدة السلطة والدولة السوفييتية، وكذلك تسنمها قيادة الحركة الشيوعية العالمية والعمالية، وبعد أن استطاعت الرأسمالية التكيف وإجراء تغيرات بنيوية في الواقع الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية، حيث قاد ذلك إلى نزع فتيل الصراعات الطبقية الحادة، فالرأسمالية أدركت بعد مرور قرن من الزمن على مقولة فيكتور هيغو القائلة بأنه " لا توجد قوة على الأرض قادرة على أن توقف فكرة حان وقتها " وباعتقادي لم تكن هناك فكرة تنطبق عليها كلمات فيكتور هيغو أكثر من فكرة كارل ماركس المطابقة للواقع والداعية إلى التغيير في القارة الأوروبية التي شكلت مركز النظام الرأسمالي العالمي وحيث ظلت فكرة ماركس تحوم ككابوس وشبح في الفضاء الأوروبي حتى منتصف القرن العشرين، ولكن بدءاً من هذا التاريخ ولكي تتخلص الرأسمالية من شبح كارل ماركس قامت بإعادة هيكلة نظامها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بما يتجاوب ولو قليلاً مع فكرة وأفكار ماركس حول مسألة توزيع الثروة- هنا علينا أن نتذكر كما جاء في مقال آلان وودز في مقال بتاريخ 3 أكتوبر 2019 بعنوان راهنية أفكار كارل ماركس منشور في موقع التيار الماركسي الاممي " بأنه في بداية الستينيات من القرن العشرين أعلن هارولد ويلسون، رئيس الوزراء البريطاني العمالي آنذاك، أنه علينا أن نبحث عن حلول في مقبرة هايغيت " التي يرقد فيها كارل ماركس، ويقصد هنا البحث عن حلول مستمدة من فكر كارل ماركس، حيث قدمت الرأسمالية مجموعة من التنازلات للطبقات الفقيرة – إعادة توزيع الثروة من خلال ما أطلق عليه بدولة الضمان الاجتماعي– بهدف تخفيف شدة التوترات والصراعات الطبقية الحادة والتخلص من شبح كارل ماركس، وحيث أصبحت فكرته بعد هذا التغيير غير مطابقة للواقع وبما يعني من جهة إفقادها لقدرتها على التأثير والتغيير، أي جعلت من إمكانية مواجهتها أمراً ممكناً وسهلاً، ومن جهة أخرى جعلت أفكار ماركس غير مطابقة للواقع وينبغي تغييرها. لقد أثبتت تجربة القرن العشرين لشعوب وثورات بلدان الأطراف أن تحسين شروط الارتباط مع المراكز الرأسمالية هو أكثر فائدة لشعوب الأطراف من أي محاولة فاشلة لفك الارتباط، فتحسين شروط الارتباط والتخفيف من مستوى التأخر والتخلف من خلال تبني شعار اللحاق والتحديث التقني الاقتصادي والسياسي للمجتمع لا يعطي للمجتمع مزيداً من القوة الاقتصادية ومزيداً من المرونة والقوة السياسية فحسب بل يحد أكثر من قدرة المراكز الرأسمالية على تصدير أزماتها الاقتصادية والسياسية إلى بلدان الأطراف الناهضة، كما يحد من قدرة المراكز على اللعب في أحشاء مجتمعات الأطراف، فقدرة المراكز الرأسمالية على تصدير أزماتها إلى البلدان التي حسنت من شروط ارتباطها ووجودها داخل النظام الرأسمالي العالمي كانت أصعب من قدرتها على تصدير أزماتها إلى البلدان التي عملت على فك الارتباط والخروج من النظام الرأسمالي العالمي، كما أن قدرة المراكز على نهب شعوب المجتمعات التي حسنت من شروط وجودها داخل النظام الرأسمالي العالمي هو أصعب من قدرتها على نهب شعوب البلدان التي عملت على فك الارتباط والخروج من النظام الرأسمالي العالمي، وهنا يجدر بنا الإشارة إلى، أولاً: إن الأزمات الاقتصادية والسياسية التي أصبحت تعاني منها مجتمعات المراكز الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية، وبعكس النظريات القديمة التي سادت في أوساط اليسار العالمي، أصبحت أكثر تفجراً واستفحالاً بعد سقوط معسكر البلدان والنظم التي حاولت فك ارتباطها مع النظام الرأسمالي العالمي ومراكزه، ثانياً: إن سباق التسلح ونشوء المجمع الصناعي الحربي في كلا قطبي الحرب الباردة بين القطب الذي مثلته المراكز الرأسمالية والقطب الذي تمرد وعمل على فك ارتباطه مع النظام الرأسمالي، أقول أن المجمع الصناعي الحربي في المراكز الرأسمالية لعب دوراً كبيراً في حل أزمة فوائض رأس المال والإنتاج الرأسمالي في المراكز، وذلك من خلال تشغيل وتوظيف وامتصاص رؤوس الأموال في إنتاج الأسلحة وأدوات الدمار، كما شكلت الأموال والنفقات التي تهدر وتصرف على هذا المجمع في الجهة المقابلة، أي في البلدان التي عملت على فك ارتباطها مع النظام الرأسمالي العالمي وسعت لتحقيق التوازن العسكري الاستراتيجي مع القطب الرأسمالي استنزافاً مستمراً لثرواتها وعلى حساب لقمة عيش شعوبها، أما النسخة المعدلة القومية من هذه النظم كالتي عرفها الواقع العربي، فقد قامت بنهب شعوبها بالشراكة مع المراكز الرأسمالية، كما قامت بعسكرة الدولة والسلطة والمجتمع، كما وأخرجت المجتمع خارج مسرح التاريخ والفعل، وكل ذلك بحجة محاربة الإمبريالية العالمية والاستعمار. ثالثاً: لقد أخرجت النظم الشمولية بنسختها الشيوعية والقومية التي عرفها القرن العشرون والتي أعلنت فك ارتباطها مع النظام الرأسمالي العالمي أو التي وصلت إلى السلطة من هذا الباب، أقول أخرجت شعوب البلدان التي حكمتها من مسرح التاريخ من خلال إبعادها وحرمانها من حقها في ممارسة السياسة وتقرير مصيرها السياسي، وهو الأمر الذي دفع بهذه الشعوب في النهاية إلى الاحتماء بمن كان يعتبر عدوها التاريخي، أقصد هنا احتماء الشعوب بحكومات مراكز النظام الرأسمالي من أجل لا التخلص من نظمها السياسية فحسب بل حتى التخلص من نظمها الاجتماعية، مدفوعة برغبة منها إلى إقامة نظام سياسي واجتماعي يحاكي النموذج الرأسمالي الغربي. ما أريد قوله هنا بأنه يمكننا بقليل من التسامح سحب مفهوم المفكر الماركسي أنطونيو غرامشي حول " حرب المواقع " من الإطار الوطني إلى الإطار العالمي، والقول إن خوض حرب المواقع ضد المراكز الرأسمالية من الداخل، من خلال تحسين شروط الارتباط مع هذه المراكز وتخفيف مستوى التأخر والتخلف بالقدر الممكن، وبما يعني السعي لتحقيق لا كسب ثقافي على صعيد البناء الفوقي العالمي، وداخل حصون الهيمنة الإيديولوجية والثقافية العالمية فحسب بل تحقيق مكاسب اقتصادية ومادية لشعوب الأطراف الفقيرة، فنوع كهذا من المكاسب وفي شروط سياسية لا تستبعد أو تبعد فيه الشعوب عن مسرح التاريخ، هي أكثر جدوى وفائدة للشعوب من جرها لخوض حروب خاطفة، غالباً ما تستطيع أن تحقق من خلالها انتصارات في بعض الساحات الطرفية في المراحل الأولى من خلال وصول من يعتبرون أنفسهم ممثلي الشعب إلى السلطة، ولكن في النهائية تكون الهزيمة هي مصيرها المحقق بالمعنى الاقتصادي والسياسي والثقافي. لقد أثبتت التجربة وهم إسقاطها المراكز الرأسمالية التي تشكل عقل وقلب النظام الرأسمالي العالمي نتيجة زيادة أزماتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية من خلال حصارها بمجموعة من نظم وبلدان البؤس والفقر – والتي غالباً ما تتحول إلى بلدان قمع واستبداد سياسي - التي قررت فك ارتباطها مع هذه المراكز بهدف تشكيل بديل تاريخي عن الرأسمالية، فالنظام الرأسمالي لا يمكن إسقاطه إلا من داخله، وحين تتوفر الشروط الكافية واللازمة لسقوط قلاعه ومراكزه وكل حصونه لا الاقتصادية والسياسية فحسب بل وحصونه الثقافية في المقدمة. فإذا كان التاريخ سيعطي فرصة وامكانية للبشرية لبناء إطار تاريخي جديد يتجاوز الرأسمالية فلا أعتقد بأن إمكانية تجاوز الرأسمالية وبما يعني إسقاطها إلا من داخل قلاعها المركزية قبل أطرافها، أي أن يأخذ هذا التجاوز طابعاً عالمياً ينطلق من المراكز ويمتد نحو الأطراف، فسيرورة وصيرورة التجاوز مشابهة لصيرورة التطور الرأسمالي العالمي ولكن في مضمون نقيض وجديد.
أن تاريخ الرأسمالية العالمية والغربية تحديداً على مدى ما يقارب الخمسة قرون من وجودها وولادتها، كان تاريخ تثبيت اللحظة التي خرجت فيها إلى العالم، وبما يعني أن تاريخ الرأسمالية هو تاريخ عملها الدؤوب على تثبيت المسافة والهوة الحضارية - أو الحفاظ على مسافة التأخر ولكن في إطار الرأسمالية - بين المراكز التي خرجت منها والأطراف التي توسعت من خلالها في كل بقاع العالم القديم والجديد، بما في ذلك الحفاظ على نظرتها الثقافية إلى شعوب الأطراف، فمنذ ولادة الرأسمالية في الواقع الأوروبي، ومن ثم توسعها إلى خارج حدودها القومية في كل أرجاء المعمورة، وما أعقب ذلك من تشكل المراكز الرأسمالية، فإنه لا يوجد من وجهة نظري أزمة يمكن أن يواجهها النظام الرأسمالي العالمي وتحديداً في مراكزه أشد من أزمة إعاقة مراكزه من التوسع على حساب أطرافه وبما يعني إعاقة توسعه بالطريقة والكيفية التي تجعله يحافظ على نفس الهوة الحضارية بينه وبين أطرافه، فالأوكسجين الذي تتنفس منه المراكز الرأسمالية منذ ولادتها وحتى يومنا هذا لا يكمن في توسعها كما يعتقد الكثيرون بل في الهوة الحضارية التي تفصلها عن العالم الذي تتوسع فيه، وحيث لا يمكن تحقيق هذه الإعاقة بشكلها الفعال والصحيح من خلال الانفكاك عنه ومواجهته من خارجه بل من خلال البقاء في إطاره وداخله مع العمل على ردم الهوة الحضارية ما أمكن اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، إلى حين أن تنضج شروط الانتقال التاريخي في مراكزه، فكل بنية منتجة وحديثة في أطراف النظام، إن كانت اقتصادية أو سياسية أو ثقافية فإنها تعمق من أزمة مراكز النظام الرأسمالي العالمي كونها تخفف من كمية الأوكسجين الذي يتنفس منه، كما وتخفف من قدرتها على السيطرة والنهب واستغلالها لشعوب الأطراف. فالرأسمالية حسب النظرة المستعجلة لكارل ماركس لا تحفر قبرها بيدها من خلال خلقها لنقيضها الطبقي فحسب بل كذلك من خلال خلقها لعالم على صورتها كما قال ماركس ذاته في البيان الشيوعي، ولكن بما يعني لا تعميم الرسملة ونمط الإنتاج الرأسمالي على العالم كما اعتقد كارل ماركس بل من خلال العمل على تعميم وتعميق الرسملة، وبما يعني العمل على ردم الهوة الحضارية بمعناها الشامل )والتي تطول وتعني تحديث وتطوير البنى الاقتصادية والسياسية والثقافية( بين المراكز التي خرجت منها الرأسمالية والأطراف التي تأخرت عنها وتحولت إلى رئة تتنفس منها المراكز، فمعركة الأطراف مع المراكز من أجل ردم ما أمكن من الهوة الحضارية لا تقل صعوبة عن معركة الأطراف من أجل فك الارتباط عن المراكز مع فارق أن المعركة الأولى أكثر واقعية وفائدة ونجاعة لبلدان وشعوب الأطراف. إن عالمية العلم والمنجزات العلمية التي تأتت أساساً من عالمية الإنتاج الرأسمالي الذي يسعى دائما بحكم طبيعته كي يعشش في كل زاوية في هذا الكون كما وصفه كارل ماركس هي من تجعل إذا ما توفرت الإرادة السياسية لدى من يقودون مجتمعات الأطراف من إمكانية تحديث وتطوير بناها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية أمراً ممكناً مهما حاولت المراكز الرأسمالية حرمانها أو إعاقتها لهذا التحديث من خلال عملها الحثيث على إغلاق صيرورات التطور بألف طريقة وطريقة بهدف الحفاظ على مسافة التأخر التي تفصل بلدان الأطراف عنها أو زيادة هذه المسافة أن أمكن. في هذا السياق والإطار العالمي دخلت الرأسمالية إلى الواقع العربي من خلال التوسع الرأسمالي الأوروبي في جسد الإمبراطورية العثمانية التي كان ينضوي الواقع العربي تحت لوائها، وبهذه الطريقة تحولت بعض بنى التأخر التي كانت تعيش في ظل الدولة الاستبدادية العثمانية إلى بنى تخلف رأسمالية تابعة ومرتبطة بالمراكز الرأسمالية الأوروبية. طبعاً تم هذا في المرحلة الأولى من عملية التحول، ثم جاءت المرحلة الثانية من عملية التحول الرأسمالي بعد السيطرة الأوروبية الاستعمارية المباشرة على المجتمعات العربية، وفي السنوات التي تلت الاستقلال والتحرر كانت هناك مرحلة ثالثة من عملية الانتقال والتحول من بنى التأخر ما قبل الرأسمالي إلى بنى التخلف الرأسمالي، وكما سنجد في المقالات القادمة من هذه السلسلة فإن صيرورة هذا الانتقال الطبيعي من التحول وبسبب ثقل وبطء خطواته، فإنه سيتم قطع هذه الصيرورة الطبيعية لمصلحة صيرورة أخرى ومسار استثنائي آخر من التطور، سيسرع في عملية الانتقال والتحول الرأسمالي ولكن ستكون نتائجه مدمرة على كل الصعد كما سنرى في هذه السلسلة. فمع انتقال المجتمعات العربية إلى الرأسمالية التابعة والمتخلفة كان من الطبيعي أن يطرأ تغيراً في التركيب الطبقي للمجتمعات العربية أو تغييراً في مجمل بنى المجتمعات العربية الاقتصادية والسياسية والفكرية والطبقية، إذ إن انتقال المجتمع إلى الرأسمالية، كان يعني دخول علاقات إنتاج جديدة، وبالتالي تغيير في أشكال الملكية وتوزيعها، وتكديس الثروة، وبالتالي تغيير في مجمل البنى والعلاقات الاجتماعية القديمة. وباختصار تمت ولادة بنية تحتية اقتصادية اجتماعية جديدة (بنية رأسمالية) وبنية فوقية جديدة مناسبة لها ومتوافقة معها , أي تمت ولادة شكل تاريخي جديد من وجود الدولة, وهنا تمت لأول مرة في التاريخ العربي ولادة الدولة البرجوازية, وحيث المقصود بالشكل التاريخي لوجود الدولة البرجوازية التقليدية تلك الدولة التي عرفها المجتمع العربي في مرحلة الانتداب الاستعماري الغربي، ثم الدولة التي عرفها بعد الاستقلال مباشرة والتي استمرت بالوجود على مسرح الواقع العربي إلى بداية عقد الخمسينيات من القرن العشرين في بعض البلدان وإلى بداية الستينيات في بلدان أخرى، وهنا نميزها عن الشكل التاريخي لوجود الدولة البرجوازية الاستبدادية الحديثة التي أتت بعدها وعلى أنقاضها وجثتها. وحيث سأسلط الضوء في هذه السلسلة على الشكل التاريخي لوجود الدولة التي قادت الانتقال والتحول الرأسمالي بعد الاستقلال والتحرر، خصائص هذا الانتقال، خصائص الطبقات الاجتماعية، وبالمحصلة أهم الخصائص التاريخية التي تميز شكل وجود الدولة، من مثل علاقة كيان السلطة السياسية بكيان الدولة وأجهزتها المختلفة ولا سيما المؤسسة العسكرية، وعلاقة الدولة بملكية وسائل الإنتاج، وعلاقة كيان الدولة بكيان الطبقات الاجتماعية، كما علاقة الدولة بالمجتمع بشكل عام، ومن ثم دراسة الشكل التاريخي للدولة الاستبدادية التي انقلبت على الخيار الأول، وخصائص هذا الانقلاب وخصائص الطبقات الاجتماعية الجديدة، والمراحل التي مرت بها دولة الاستبداد المعمم، كما سأبين الأسباب والمقدمات التي سهلت انقلاب النموذج الشمولي على النموذج البرجوازي الديمقراطي، وحيث يأتي معرفة خصائص بنى التخلف الرأسمالي وخصائص البرجوازية التقليدية التي بنت دولة الاستقلال وأول دولة برجوازية ديمقراطية حديثة في مقدمة كل ذلك، حيث سنجد عدم نضوج ملامح وتكوين الطبقات الاجتماعية، وتساكن وتعايش الثنائيات الطبقية والاجتماعية والثقافية في البنى الرأسمالية الجديدة مع البنى الاقطاعية القديمة، كما سنجد أن الطابع الطفيلي الكمبرادوري الغالب والسائد في بنية البرجوازية الوليدة والصاعدة ترك أثراً هاماً على تكوين وملامح ونضوج المجتمع المدني الذي بدأ يعرفه الواقع العربي إلى جانب المجتمع الأهلي القديم، فما هي خصائص بنى التخلف الرأسمالي في الواقع العربي ؟؟؟؟ وما هي خصائص البرجوازية العربية بشكل عام والسورية بشكل خاص ؟؟؟


نظام الاستبداد المعمم في سوريا مقدماته ومراحله -1 lemonde.in 5 of 5
لومــــــوند : نبيل ملحم أولاً: صيرورة واحدة ومنعطف في تاريخ التطور البشري يعد اكتشاف الرحّالة كريستوف كولومبوس ( 1451 – 1506 ) لل...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك