الحداثة في السعودية بين الحاجة والموروث

لومـــــوند : محمود مهاوش
هنا العينية في هضبة نجد العربية ، الشيخ يشق عصا الطاعة ويتمرد على الجماعة ، يهدم قبة زيد بن الخطاب ويقطع أشجار البركة ،العوام يحتجون ويشكونه لحاكم الإحساء ،يأمر الحاكم بقتله فيهرب إلى الدرعية حيث أميرها ابن سعود .تحالف المحمدان واتحد سيف ابن سعود مع حجة ابن الوهاب لنشر الدعوة ،وتصحيح عقيدة المسلمين ونبذ الشرك والخرافات ومحاربة البدع والضلالات، فكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .تجاوزت الدعوة حدود الدرعية وصار لها نفوذ وأنصار في شتى الأمصار وانتشرت الدعوة باللسان والسنان حتى هددت عرش آل عثمان ،فأرسل محمد علي باشا جيشه لقتال من سماهم بالخوارج وهزم جيشه الدولة السعودية الأولى وقتل علماءها وحرم على أهل نجد دخول مكة والمدينة .وسرعان ما تشكلت الدولة السعودية الثانية ثم الثالثة في كيان سياسي استمد شرعيته من السلطة الدينية المتمثلة في الحركة الوهابية التي وجدت بيئتها الخصبة في الطبيعة البدوية القاسية لمجتمع الجزيرة .وعلى الرغم من أن الحركة الوهابية كانت في قالب ديني، إلا أنها كانت حركة إحياء عربي وردة فعل على التهميش الذي مارسه السلاطين العثمانيين حيث انتشر في زمنهم الجهل والأمية وتفشت المجاعات في البلاد ،في المقابل كانت مدن الأناضول تنعم بالرخاء والرفاه ،وفي الوقت الذي كانت ساحة الكعبة مرصوفة بالتراب كانت شوارع اسطنبول مرصوفة بالبلاط وقصور السلاطين العثمانين الذين لم يحج أحد منهم لبيت الله الحرام تزدان بأفخر أنواع الرخام .
نشأت الحركة الوهابية على خلاف منهجي حاد مع العثمانيين، وبدأت في التغيير من القاعدة وساعدتها الظروف والمتغيرات الدولية للاستمرار والبقاء فتوافقت مع مصالح الرأسمالية في إبعاد خطر الشيوعية عن منطقة الخليج الغنية بالنفط،ودعمت السعودية انتشار المذهب الوهابي المحافظ في العالم لمواجهة التمدد السوفيتي خلال الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي وكانت الوهابية حركة منافسة للتيارات القومية العربية اليسارية وسدا منيعا في وجه فكرة تصدير الثورة الإيرانية التي تبناها الخميني وكانت في خدمة مصالح الولايات المتحدة في طرد السوفييت من أفغانستان وساهمت كذلك بالتصدي لصدام حسين بعد غزو الكويت وفي تحقيق استقرار سياسي في منطقة استراتيجية نفطية مهمة للغرب لكنها بالمقابل فشلت في تجديد نفسها وفي مواكبة الحداثة ،وفشلت في الحد من الموروث القبلي والعصبية المتحكمة بالمصاهرة والزواج على أساسات قبلية وعرقية تقيد الحقوق الفردية في اختيار الشريك بأسس تتعارض مع مبادئ الدين في المساواة ، ولم تستطع أن تنجح في بناء مجتمع متسامح مع كل الأجناس والأعراق والألوان بعيدا عن الفخر بالأحساب والطعن بالإنساب والامتيازات الطبقية والثأر وغلاء المهور والتعصب الجاهلي المذموم والتعصب الوطني ضد الفئوية، وفشلت في إيجاد بديل لنظام الكفيل ،وفي تحقيق متنفس للشعب السعودي ينسجم مع طبيعة الحياة الجديدة  التي اتسمت بالرفاهية بعد اكتشاف النفط ،وفشلت في تغيير صورة الوهابية النمطية في أذهان الغرب التي ارتبطت بالإرهاب والتطرف ،وفشلت في معالجة اشكاليات الحداثة بما ينسجم مع الموروث الديني ومكانة المملكة الدينية وفشلت في تبني خطاب ديني وسطي يمكنها من خلاله أن تلعب دور الوسيط أو الحيادي مع التيارات والمذاهب الدينية المختلفة في العالم . وبالرغم من تشكل تيارات دينية داخل المملكة كالسرورية والجامية والسلفية العلمية والسلفية الحركية والعصرانيون إلا أن تلك الحركات كانت جامدة ولم تلعب دور سياسي ولا إصلاحي واقتصرت تلك الحركات على تصدر المشهد الديني فقط .
ومع صعود الملك سلمان وابنه في فترة واكبت ثورات الربيع العربي وصعود الإسلام السياسي وارتفاع أصوات الليبراليين داخل المجتمع السعودي المتعطش للإصلاح كان الإصلاح ضرورة حتمية نابعة من صميم المجتمع وليس نتيجة ضغوط أجنبية كتلك الضغوط التي أجبرت السعودية على إلغاء الرق والعبودية عام 1963 بل جاءت لتعبر عن حاجة المجتمع للتطوير والتغيير بما يتناسب مع متطلبات العصر الحديث و لتواكب التطورات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بما يتناسب مع الثقافة والموروث العربي السعودي ،ولكن طريق الحداثة وهو طريق طويل يرتكز على الذات الإنسانية والعقل والحرية ويصطدم بإشكاليات أهمها أن الحداثة باب مفتوح ليس له قالب نهائي ولا شكل محدد ولا مضمون مقرر وهو طريق له رؤى متعددة وأفكار متجددة لا نستطيع من خلاله معرفة مصير الموروث القبلي ولا المؤسسة الدينية ولا حتى تحديد ملامح الدولة السعودية الرابعة تلك الدولة التي لا تقوم على السيف ولا يوجهها الدين ولا تعترف بما اشترطه المؤرخ ابن خلدون في حكم العرب عندما قال : (لا يستقيم حكم العرب إلا بالسيف أو الدين ) ولا يمكنها في الوقت الراهن أن تؤدي للديمقراطية بالرغم من الحاجة الملحة لها لأن ذلك سيرفع صوت المحافظين الذين يشكلون الغالبية في وجه الحداثة وسيفتح المجال لعقول تعيش في عصر البسوس وداحس والغبراء أن تقيم وتنتقد عصر الحداثة . إن تلك الإصلاحات تقصر في الوضع الراهن على الحد من سلطة الشرطة الدينية وإزالة القيود المفروضة على المرأة وتحقيق حياة طبيعية كتلك الحياة خارج المملكة تشمل الترفيه والوعي والإنتاج لكن المسارعة في فتح بوابات الترفيه على حساب فتح بوابات الوعي والإنتاج سيؤدي لغياب ثقة المشجعين والمتحمسين لها .
ليست مصادفة أن يقود حفيد مؤسس الحركة الوهابية تركي آل الشيخ هيئة الترفيه وأن يتبدل دور العائلة من قيادة السلطة الروحية للسيف إلى قيادة سلطة الكيف .وبالرغم من أن للترفيه جذور تاريخية ارتبطت بمجتمع الجزيرة لقرون طويلةوتلك العودة لتجاربه التاريخية ليست مصادفة أيضامع ملك جديد شغوف بالتاريخ وعاشق لتجاربه لماذا لا فهو مؤرخ العائلة وأرشيفها ومؤسس مركز الملك سلمان لدراسات تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها،ولما لا فالتجربة التاريخية في إخضاع الجزيرة العربية بالترفيه والغناء والموسيقا كانت ناجحة فقد شجع الأمويين الغناء والترفيه في بيئة الحجاز حتى أصبح للغناء مدارس (المدينة مكة الطائف ) وفي كتاب الأغاني و شعر عمر بن أبي ربيعة وجميل بثينة الكثير من الأخبار حتى أن عمر بن أبي ربيعة كان قد كتب قصيدة غزل في فاطمة بنت عبدالملك من مروان وتغزل بنساء عند الكعبة في مواسم الحج والعمرة فالأمويين كان من مصلحتهم أن ينشغل أبناء الحجاز في اللهو والمجون وأن يلعبوا ويرتعوا خير من أن يهددوا أمن الدولة وكان الفقهاء أكثر تسامحا مع تلك الحياة ويعزز ذلك تشابه الأرستقراطية التي عاشها العرب في تلك الحقب مع الأرستقراطية الحالية في السعودية وأي دارس لتلك المرحلة يدرك أن التسامح مع الغناء والترفيه كان تجربة ناجحة في بيئة الحجاز أبعدها عن المشهد السياسي في دمشق الأموية وبغداد العباسية لقرون وهذا يعني أن الإصلاحات الاجتماعية والثقافية نابعة من الداخل ومن أعلى الهرم للقاعدة وتسعى لو بشكل بطيء لمعالجة قضايا حساسة ترتبط بالسياق الثقافي والاجتماعي للمجتمع السعودي ويكمن هدفها في الانتقال من مرحلة حكم الدين والسيف إلى مرحلة جديدة يرسمها محمد بن سلمان هي مرحلة فسخ عقد التحالف بين جد آل سعود و جد آل الشيخ وهي مرحلة انتهاء أحقية حكم الرجل الأكبر في آل سعود .
الحداثة في السعودية بين الحاجة والموروث lemonde.in 5 of 5
لومـــــوند : محمود مهاوش هنا العينية في هضبة نجد العربية ، الشيخ يشق عصا الطاعة ويتمرد على الجماعة ، يهدم قبة زيد بن الخطاب ويقطع أش...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك