السياق التاريخي لنشوء وترعرع البربرية في سوريا ( 22 )

لومـــــوند : نبيل ملحم :
الثاني والعشرون: الانحطاط السياسي والأخلاقي لليسار العبودي المخاطي اللزج.
يندرج هذا المقال في إطار تحديد مسؤولية و دور هذا النوع من اليسار في رباعي الموت السوري بوصفه شريكاً للنظام الأسدي، إن كان لجهة كونه شريكاً سياسياً تابعاً للنظام على مدى نصف قرن من الزمن، أو كونه غطى سياسياً كل أنواع القمع والقتل والتهجير الذي أصاب السوريين بدءاً من عام 1970 وصولاً إلى يومنا هذا. كما يندرج هذا المقال في إطار آخر متداخل كنت قد أشرت إليه في مقال سابق وعنوانه العريض " موت اليسار السوري "، وحيث يندرج تحت اسم اليسار العبودي المخاطي اللزج كل الشخصيات والأحزاب الشيوعية أو القومية التي أيدت قتل النظام السوري لشعبه تحت أي ذريعة أو حجة كانت، وهي ذاتها الشخصيات والأحزاب التي قامت مؤخراً بالتباكي على مقتل المجرم قائد فيلق " القدس " في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني وهو المسؤول عن قتل آلاف الإيرانيين والعراقيين والسوريين واليمنيين واللبنانيين وغيرهم في أكثر من ساحة. وسوف أبدأ هذا المقال بتقديم نموذج عن الخطاب السياسي لهذا النوع من اليسار والذي يكشف أصل ومدى الانحطاط الأخلاقي والسياسي الذي وصل إليه. ففي نهاية أعمال المؤتمر الثالث عشر للحزب الشيوعي السوري الموحد وجه المشاركون في المؤتمر رسالة لرأس النظام السوري المجرم هذا نصها " أعضاء المؤتمر العام الثالث عشر للحزب الشيوعي السوري الموحد، المنعقد في دمشق بتاريخ 30 / 11 / 2019 يتوجهون إلى سيادتكم بمناسبة انتهاء أعمال مؤتمرهم، بالتحية والتقدير لمواقفكم الوطنية الخالصة، ولصمودكم على رأس الدولة، وفي قيادة الجيش العربي السوري الباسل، في مواجهة أشرس غزو إرهابي عرفته البشرية، مدعوم من تحالف دولي معاد لسورية وشعبها بقيادة الإمبريالية الأمريكية، ومشاركة فاعلة من الكيان الصهيوني. لقد كان صمودكم نموذجاً يحتذى ومثالاً للقيادة المخلصة لمصالح الوطن العليا، وقاد إلى النجاحات التي أحرزها جيشنا الوطني الباسل، واستعادته لمعظم الأرض السورية من سيطرة الإرهابيين. إن شعبنا بقيادتكم مفعم بالتفاؤل باستمرار الصمود، واستعادة كل شبر من الأرض السورية والتوجه نحو حل سياسي يحقق سيادة البلاد ووحدتها أرضاً وشعباً، وبناء المستقبل السوري على قاعدة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة ". وبعد ما يقارب الشهر بتاريخ 3 / 1 / 2020 صرح الناطق الإعلامي للحزب الشيوعي السوري الموحد بما يلي: أقدمت الإدارة الأمريكية بزعامة ترامب على اغتيال اللواء قاسم سليماني ( قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني ) وابو مهدي المهندس ( نائب رئيس الحشد الشعبي العراقي ) فجر يوم الجمعة 3 / 1 / 2020 بغارة جوية قرب مطار بغداد. إن هذا العمل الإجرامي الذي يعبر عن حقد الإدارة الأمريكية على كل من يقف في مواجهة مخططاتها الساعية إلى فرض هيمنتها على المنطقة وتطويعها خدمة لمصالحها ومصالح الصهيونية، سيرفع إلى حد كبير مستوى التوتر في المنطقة، ويهدد أمن شعوبها، ويضع العالم بأسره على فوهة البركان، ولن يزيد محور المقاومة إلا تصميماً على استمرار مواجهة بقايا الإرهابيين في سورية والعراق، وعلى طرد القوات الأمريكية من الأراضي السورية، ومواصلة مواجهة الحلف الأمريكي الصهيوني ومخططاته في المنطقة، إن الحزب الشيوعي السوري الموحد إذ يدين هذه الجريمة التي أدت إلى سقوط صديق وفي لشعبنا، وإذ يقدر عالياً كل من أسهم في تقديم الدعم والمساندة لبلادنا في مواجهتها للغزو الإرهابي المدعوم من التحالف الدولي المعادي لسورية بزعامة الإمبريالية الأمريكية ومن ضمنهم الشهيدان سليماني والمهندس، فإنه يتقدم بأحر العزاء لدولة إيران وللشعب العراقي الشقيق. إن الحزب الشيوعي السوري الموحد يدعو الجماهير في البلدان العربية إلى الاستمرار في مواجهة المخطط الأمريكي الصهيوني الرامي إلى تصعيد الأوضاع في المنطقة وتهديد السلم العالمي. الخزي والعار للإمبريالية الأمريكية ". في الواقع هنا نحن أمام نموذج مثالي مختصر ومكثف، إن كان من ناحية نوعية ومضمون الخطاب السياسي لهذا النوع من اليسار، أو لجهة المستوى العالي والصريح في الانحطاط الأخلاقي والسياسي لهذا اليسار، والذي يستحق بجدارة أن نسميه باليسار العبودي المخاطي اللزج، وهو اليسار الذي عرفته الساحة السورية منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي والذي دخل مع النظام الأسدي في تحالف عبر إطار ما سمي " بالجبهة الوطنية التقدمية " وحيث لا يزال حتى يومنا هذا يعيش حالة من التكاثر والانشطار والثبات داخل هذه الجبهة، وبما يعني الانشطار التنظيمي عن المدرسة البكداشية الأم مع الثبات السياسي داخل الجبهة محافظاً على العقلية البكداشية نفسها في النهج السياسي والفكري والأخلاقي وتحت مسميات لم يعد العداد قادراً على إحصائها، حيث نجد حزب خالد بكداش بقيادة الورثة من الزوجة إلى الابن، كما نجد فصيل يوسف فيصل، وفصيل حنين النمر، وفصيل قدري جميل...الخ يضاف إليهم الذين ينتمون إلى المدرسة نفسها وإن كانوا لم يدخلوا جبهة النظام. فهذا النوع من اليسار إذا ما دققنا في خطابه الممجوج المكرر على مدار نصف قرن من الزمن نجد أنه يتحسس كل شيء إلا العبودية السياسية والقتل والظلم الطبقي, فنجده يتحسس للمؤامرة الإمبريالية والصهيونية، ويتحسس للرجعية العربية، ويتحسس لخطر الإسلام السياسي السني تحديداً, وبالرغم من طول قرون استشعاره اتجاه هذه القضايا إلا أننا نجد أنه لا يتحسس للعبودية السياسية كما لا يتحسس للدم الإنساني والظلم الطبقي, فهو لا يرى حالة العبودية التي يعيشها السوريون في ظل النظام الأسدي، كما لا يرى مشكلة في قتل النظام الأسدي للسوريين وتهجيرهم وهدم سوريا فوق رؤوس ساكنيها بحجة أن النظام يواجه مخططات الصهيونية العالمية والإمبريالية الأمريكية، كما نجد أنه يرى في الإسلام السياسي السني قوى إرهابية ينبغي محاربتها بكل الطرق، في حين يرى في ميليشيات الإسلام السياسي الشيعي التي يقودها منذ زمن بعيد في المنطقة قاسم سليماني أحد قادة الحرس الثوري الإيراني بأنها جزء من محور الممانعة والمقاومة للمشروع الصهيوني الأمريكي في المنطقة. إن هذا النوع من اليسار الذي يتحسس - لفظياً فقط - كل القضايا باستثناء قضية العبودية السياسية والقتل هو ما دعاني أن أطلق عليه صفة العبودي، كما أن حالة الخلط والازدواجية التي يعيشها في هويته بين الغطاء الإيديولوجي الذي يدعي أنه يرتديه ( هويته الإيديولوجية ) والذي يجعله ينتمي ولو شكلياً لليسار وبين اصطفافه السياسي ( هويته السياسية ) إلى جانب النظم المستبدة والظالمة والقاتلة المجرمة والذي يجعله ينتمي فعلياً لليمين، إن هذه الثنائية والاختلاط في هويته تجعله يشبه أي مادة في الطبيعة لا تنتمي للحالة السائلة بشكل كامل ولا تنتمي للحالة الصلبة بشكل كامل، الأمر الذي يضعها بين الحالتين، فلا هي سائلة ولا هي صلبة أي حالة المادة المخاطية اللزجة التي تحمل كلتا الصفتين دون أن تنتمي لأي منهما بشكل كامل، إن حالة المخاطية واللزوجة في هوية هذا النوع من اليسار هو ما دفعني أن أطلق عليه صفة المخاطي اللزج، كما أن ما دفعني أن أطلق عليه هذه الصفة هي حالة التخنيث الثقافي والسياسي التي يعيشها هذا النوع من اليسار. فرغم كوني لست مختصاً وضليعاً في علم الاحياء والبيولوجيا ولكن أعتقد بأن حالة التخنيث البيولوجي ( حالة لا ذكر ولا أنثى ) والتي هي حالة نادرة في علم الأحياء النباتي والحيواني والبشري تنتج عن حالة من التوازن داخل الجنين بين المورثات والجينات الذكرية والأنثوية الأمر الذي يعطي مولوداً مخنثاً أو لنقل خنثوياً، وما نجده من تخنيث في عالم الأحياء نجد ما يقابله من تخنيث في عالم السياسة والثقافة, حيث نجد ظاهرة التخنيث السياسي أو لنقل نجد حالة اليسار المخنث, ولكن ما يثير الاستغراب وما يجب أن نلفت الانتباه إليه هنا هو أولاً: إن هذه الظاهرة في سوريا منتشرة وموجودة بشكل واسع بعكس حالة الندرة التي نجدها في عالم البيولوجيا البشرية، وثانياً: إن هذه الظاهرة نشأت في الحالة السورية ولا سيما في أوساط نوع من اليسار السوري نتيجة حالة من التزاوج والتساكن داخل عقل وثقافة الكثير من هذه النخب اليسارية بين ثقافة الثورة التي قرؤوها من مكتبة المدرسة الستالينية السوفييتية، مع ثقافة النظام الذي يعيشون تحت ظله, فثقافة نظم الاستبداد المعمم العربي والتي ارتكزت في أساسها على خطاب معاداة الرجعية العربية ومناهضة الإمبريالية العالمية ومعاداة الرأسمالية العالمية وتمجيد الدولة وقطاع الدولة والخلط بين كيان الدولة وكيان السلطة، وضرورة أن يكون هناك حزب قائد للدولة والمجتمع ....الخ، أقول : إن هذا التزاوج والتساكن والخلط في الجينات الثقافية لما هو موجود في ثقافة وفكر الثورات المكتوب في كتب التاريخ ( ولا سيما ما كان يقدمه لهم دار التقدم في موسكو ) وبين ثقافة نظم الاستبداد المسروقة أصلا من الكتب نفسها، خلق حالة من التوازن الثقافي في عقول وثقافة قطاع من النخب قاد إلى تشكلها السياسي بوصفها مخنثات ثقافية وسياسية، وهو الأمر الذي أنتج في الحالة السورية حالة اليسار المخنث، حيث نجد له رجلاً في خندق المعارضة – لفظياً - ورجلاً في خندق النظام عملياً. ولكل ما سبق أطلقت عليه لقب اليسار العبودي المخاطي اللزج. إن أهم ما يميز ويحدد هذا النوع من اليسار هو كونه نشأ وترعرع من خلال الرضاعة من صدر النظام العبودي الستاليني، وهو النظام الذي شكل أحد أهم الظواهر السياسية والاجتماعية التي عرفها القرن العشرون، كونه استطاع أن يجد لذاته امتداداً عالمياً، إن كان على هيئة نظم سياسية حاكمة موالية وتابعة له أو على هيئة أحزاب سياسية موالية وتابعة وغير حاكمة، وهي أحزاب سياسية يطلق عليها في الأدب السياسي اسم الأحزاب الشيوعية التقليدية التي تندرج في أغلبيتها ضمن خانة اليسار العبودي المخاطي اللزج، وحيث يستحيل معرفة أصل وأساس انحطاطها السياسي والأخلاقي من دون الرجوع إلى خلفيتها الثقافية والفكرية والسياسية أو لنقل من دون معرفة المورثات الثقافية والفكرية والسياسية التي رضعتها واكتسبتها من صدر الستالينية المدرسة الأم لنوع كهذا من اليسار. طبعاً لا يمكن لمقال أن يحيط بكل أسباب وتجليات الانحطاط السياسي والأخلاقي لهذا النوع من اليسار، فأمر كهذا يحتاج إلى مساحة مجلدات للإحاطة به، وهو الأمر الذي يدفعني في هذا المقال على التركيز فقط على أهم الأسباب الكامنة خلف هذا الانحطاط السياسي والأخلاقي، مع الإشارة إلى أهم تجليات هذا الانحطاط على أرض الواقع السوري، وحيث يأتي في مقدمة هذه الأسباب من وجهة نظري:
أولاً: الوطنية الستالينية المستنبتة من العداء للخارج:
تشهد الساحة السياسية والفكرية على مستوى العالم سجالاً قديماً حديثاً بين نوعين من الوطنية, فنجد الوطنية المستنبتة من قضية العداء للخارج, والتي تستخدم وتقوم عادة للتغطية على فقدان الشرعية السياسية لجهة سياسية داخل مجتمع من المجتمعات, أو لسلطة سياسية ونظام سياسي حاكم وفاقد للشرعية، أو لتمويه وتبرير توسيع النفوذ والمجال الحيوي الاقتصادي والسياسي والعسكري إلى خارج الحدود الوطنية لنظام سياسي اجتماعي يبحث عن مزيد من القوة من أجل تسهيل عملية إنتاج وإعادة إنتاج ذاته على كل الصعد، أو بهدف تحقيق الهدفين السابقين في الآن ذاته، ففي بداية القرن العشرين قامت الأحزاب الاشتراكية - الديمقراطية ( الأممية الاشتراكية الثانية ) في أثناء الحرب العالمية الأولى وخوفاً من فقدان الشرعية في تمثيل الطبقة العاملة الأوربية بسبب خيانتها للثورات العمالية في ذلك التاريخ قامت الأحزاب الاشتراكية - الديمقراطية بتقديم وتقديس المسألة الوطنية على كل المسائل والقضايا التي تواجهها المجتمعات الأوربية، للتغطية على خيانتها للثورة الاشتراكية التي كانت ناضجة شروطها الموضوعية في أكثر من مجتمع أوروبي إن لم نقل في كل المجتمعات الأوروبية على الإطلاق، وذلك من خلال الوقوف إلى جانب حكوماتها الرأسمالية الإمبريالية في حروبها اللصوصية ( الحرب العالمية الأولى )، حيث وجدت في تقديس الوطنية والدعوة للحرب على العدو الخارجي غطاءً وعصا نجاة لشرعيتها الحزبية السياسية التي بدأت تتآكل داخل أوساط الطبقة العاملة الأوروبية في ذلك الوقت. ثم جاء ستالين بعدها وكي يغطي ويعطي شرعية لنظامه السياسي العبودي البربري وغطاء لثورته المضادة إن كان على الحزب الشيوعي البلشفي أو على المجتمع السوفييتي والدولة السوفييتية الوليدة، فوجد في رفع مسألة وقضية معاداة وخطر الخارج الإمبريالي إلى مستوى القداسة عصا نجاة لشرعية حكمه المفقودة إن كان داخل الحزب البلشفي أو داخل المجتمع السوفييتي طيلة فترة حكمه البوليسي الحديدي, ثم جاءت النظم الاستبدادية القومية العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي والتي وصلت إلى السلطة عبر الانقلابات العسكرية وتبنت نموذجاً لبناء السلطة والدولة والمجتمع مشتق ومستوحى من النموذج الستاليني السوفييتي فوجدت في الحروب الخارجية أو لنقل في البحث عن عدو خارجي إقليمي أجنبي أو حتى شقيق عربي وسيلة وحبل خلاص وعصا نجاة لنيل أو لنقل انتزاع الشرعية السياسية المفقودة في قيادتها للدولة والمجتمع، وحتى شرعية لتأميم الاقتصاد والإيديولوجيا والسياسة والبشر والحجر والتاريخ والوطن لصالح سلطتها المستبدة. إن الوطنية القائمة على قضية العداء للخارج أو المستنبتة من هذا العداء هي الوطنية التي عرفها التاريخ القديم والحديث للبشرية والمنبثقة في جوهرها من قضيتين اثنتين لا ثالث لهما, فهي الوطنية الهادفة إما لتبرير احتلال وغزو بلاد الغير أو الوطنية الهادفة لإعطاء وإكساب سلطة سياسية ونظام سياسي لشرعية مفقودة . وفي الحالتين السابقتين فإن هذا النوع من الوطنية هي رخصة لقتل واغتصاب الغير الداخلي أو الخارجي.
أما النوع الثاني من الوطنية فهي الوطنية المستنبتة من قضية تمثيل المصالح العامة للمجتمع, وهي الوطنية التي ولدت مع ولادة الدولة الحديثة الوطنية في المجتمعات الحديثة والمعاصرة, حيث السلطة تأخذ شرعيتها من المجتمع بشكل مباشر عبر الانتخابات العامة الحرة, وحيث الدولة وكيان الدولة مستقل ومنفصل عن كيان السلطة السياسية ( بالمعنى النسبي ), وحيث الدولة هنا تمثل المصالح العامة للمجتمع ككل. والوطنية هنا تعني صيرورة البناء الداخلي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي والروحي للمجتمع, أي تعني زيادة منعة المجتمع وقوته في مواجهة الأخطار الداخلية والخارجية التي يتعرض لها المجتمع في سياق وجوده وتطوره. فالوطنية هنا تعني بناء الإنسان الفرد المواطن صاحب الحقوق, كما تعني بناء بنية اقتصادية قوية للمجتمع, كما تعني بناء نظام سياسي اجتماعي متماسك بشكل حر وطوعي، وحيث للدولة وظيفة عامة في الشروط العادية والطبيعية لسيطرة الطبقة السائدة، تتمثل وتتجلى في زيادة وحدة وتماسك المجتمع في كل لحظة من لحظات تطوره ووجوده الطبيعي. بهذا المعنى فإن الوطنية المستنبتة من الداخل هي وطنية بناء داخلي بالدرجة الأولى وحيث تأتي وطنيتها في مواجهة الأخطار الخارجية كتحصيل حاصل، وحيث قرار الحرب والسلم هنا لا يكون ممسوكاً بيد جهة وحيدة ومحددة داخل المجتمع وإنما يكون ممسوكاً بيد ممثلي المجتمع المنتخبين في برلمان منتخب من الشعب بشكل مباشر وحر. وعلى هذا الأساس من التمييز بين الوطنية القائمة على معاداة الخارج والوطنية المستنبتة من تقوية العناصر والركائز الاقتصادية والاجتماعية التي يقوم عليها المجتمع نقول: إن وطنية أي جهة أو سلطة غير منتخبة من قبل المجتمع يكون تمثيلها للمصالح العامة تمثيلاً وهمياً ومنقوصاً أو ادعاءً قد يكون كاذباً إلى أن تصبح جهة منتخبة. وبهذا المعنى تكون الدولة الوطنية هي فقط الدولة التي تمثل كل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي والثقافي بالمعنى الواسع لهذا التمثيل داخل مجتمع من المجتمعات, وبهذا المعنى تكون الدولة الإيديولوجية ( الشيوعية أو القومية أو الإسلامية ) التي لا تمثل سوى طيف سياسي أو إيديولوجي أو حتى اجتماعي وحيد هي دولة منقوصة الهوية الوطنية أو لنقل تكون وطنيتها منقوصة إن لم نقل مزيفة وباطلة . وعلى هذا الأساس تصبح قضية معاداة الخارج الإمبريالي ليست شرطاً كافياً للانتماء إلى الوطنية والموقف الوطني, وإلا ببساطة يمكن أن ننسب صفة الوطنية إلى تنظيم القاعدة الإرهابي بقيادة بن لادن ومن بعده الداعشي أبو بكر البغدادي أو غيرهم ممن دخلوا في حالة صراع مع الأمريكان في بعض اللحظات أو ننسب نفس الصفة لأي قاطع طريق طائفي كحزب الله اللبناني أو نظام الملالي في إيران اللذين استخدما قضية فلسطين والقدس كتجارة رائجة لتسويق المشروع الفارسي المذهبي في المنطقة، أو ننسب نفس الصفة لنظام الإجرام الأسدي الذي جاء إلى السلطة واستمر فيها على مدار نصف قرن على أساس عقد خارجي كانت إسرائيل أهم أطرافه. ما أريد قوله أن الوطنية لا تتحدد من خلال الدخول في معركة مع الخارج, فأي جهة أو قوة أو سلطة تدخل في صراع مع الخارج دون أن تستمد وجودها وشرعيتها وتأخذ تفويضاً من الإرادة الحرة لغالبية أبناء المجتمع ليست بالضرورة أن يكون صراعها صراعاً مع أعداء الخارج وطنياً وحقيقياً، فأي جهة أو سلطة داخل مجتمع من المجتمعات تخوض معركة مع أعداء الخارج دون تفويض معنوي وسياسي مباشر وحقيقي هي معارك مشكوك في وطنيتها, فقد تكون هذه المعارك قائمة لنيل شرعية سلطة أو مشروع سياسي فاقد للشرعية أساساً كمشروع المقاومة والممانعة لنظام الملالي الإيراني ومعهم شريكهم النظام السوري عن طريق الأداة اللبنانية حزب الله أو غيرها وحيث أن هذا المشروع هو حصان طروادة لتمرير ومرور مشروع إيران الفارسي المذهبي في المنطقة العربية. إن خاصية توليد الوطنية المستنبتة من العداء للخارج وضرورة وجود أو خلق أو اختلاق هذا العدو هي خاصية تميزت بها كل نظم الاستثناء التي عرفها العصر الحديث بدءاً بالنظام الستاليني وصولاً إلى النظام السوري, وقد بنت كل نظم الاستبداد المعمم التي عرفها الواقع العربي شرعيتها السياسية المفقودة على أساس هذه الوطنية الفارغة من أي محتوى وطني حقيقي.
ثانياً: الوطنية الستالينية المستنبتة من السلطة السياسية ورأسها الزعيم القائد في الدولة المشخصة:
لقد حولت نظم الاستبداد المعمم الوطنية المستنبتة من العداء للخارج إلى إيديولوجيا قائمة بذاتها بديلة عن الإيديولوجيا الشيوعية في الحالة السوفييتية الستالينية أو بديلة عن الإيديولوجيا القومية لدى مشتقاتها القومية العربية الأسدية أو الصدامية أو القذافية ...الخ, فالعدو الخارجي بالنسبة لنوع كهذا من النظم كان حاجة ضرورية لا من أجل نيل شرعية مفقودة فحسب بل من أجل تعبئة طاقات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والروحية لوضعها بيد رأس النظام المستبد وحيث الغاية المعلن عنها أو الظاهر منها محاربة العدو الخارجي أما المستبطن والمخفي والهدف الحقيقي منها فكان تقوية النظام والسلطة والضرب بيد من حديد على يد كل معارض يقف في وجه النظام. فهذه النظم لم تكتف في أن تحتل وتحتكر الدولة ومعها السلطة كل مجالات البناء الاجتماعي الاقتصادي والسياسي والإيديولوجي وبما يعني أن الدولة والسلطة لا تصبح هي القوة الوحيدة داخل المجتمع المسيطرة والمحددة داخل هذه المجالات فحسب بل سعت هذه النظم إلى احتلال ما يمكن تسميته الوطن والوطنية, فالنظام السوري كغيره لم يعمل إلى دمج كيان الدولة بكيان السلطة فحسب بل عمل إلى دمج كيان الوطن ومفهوم الوطن بكيان السلطة ورأس السلطة بالتحديد وهو ما تم التعبير عنه بشعار ومقولة " سوريا الأسد "، وهي مقولة تعبر لا عن حالة التحول إلى الدولة المشخصة فحسب بل يمكن القول أنها حالة التحول إلى حالة الوطن المشخص، إن هذه الإيديولوجيا لم تكن بدعة أسدية كما يعتقد البعض، فالمدرسة الستالينية التي ينتمي إليها اليسار العبودي المخاطي اللزج هي من أسست لظاهرة الدولة المشخصة في العصر الحديث حتى قبل ظهور الأسدية على مسرح الواقع السوري، فكل ما فعلته الأسدية عندما جاءت هي أنها أضافت لهذه الإيديولوجيا خصائصها التاريخية وخصائص الوضع السوري، فهذه الإيديولوجيا الستالينية الأصل كانت تقوم وتقتضي وضع الدولة والوطن في كنف السلطة السياسية, كما تقتضي توحيد كل الجهود والرايات تحت راية خيمة السلطة السياسية وقائد هذه السلطة الذي " نذر " حياته من أجل الدفاع عن الدولة والوطن، وبما يعني أن قرار السلم والحرب في الزمان والمكان المناسبين يتحدد من خلال السلطة وفي خيمة السلطة وفي أحضانها التي أصبحت الكنف الذي تعيش فيه الدولة بكل أجهزتها ومؤسساتها والكنف الذي يعيش فيه حتى الوطن, وهنا أصبحنا أمام حالة تجسيد ليست لاحتكار الدولة والسلطة للممارسة السياسة والمجال العام السياسي فحسب بل هنا نكون أمام حالة احتكار تقوم بها السلطة للدولة وللوطن وللمجتمع, أي نكون أمام عملية تأميم شامل, أو لنقل أمام عملية اجتياح واحتلال تقوم به السلطة للدولة والوطن والمجتمع بشكل عام, وهنا نكون أمام مفهوم جديد للوطن ومفهوم جديد لحدود الوطن, أي أمام مفهوم جديد لمن هم خارج حدود الوطن ومن هم داخل حدود الوطن, فحدود الكيان الوطني وحدود كيان الدولة حسب إيديولوجيا نوع كهذا من النظم ومعهم اليسار العبودي المخاطي اللزج الستاليني يتطابقان مع الحدود السياسية التي يرسمها النظام, فحضن الوطن يصبح هو ذاته الحضن السياسي للنظام, وسقف الوطن يصبح هو ذاته السقف السياسي للنظام, وهو الأمر الذي يعني أن كل من يقع سياسياً خارج الحدود السياسية للنظام يصبح لا خارج حدود الوطن وخارج سقف الوطن وخارج حضن الوطن فحسب بل يصبح من أعداء الوطن – بلغة ستالين يصبح من أعداء الثورة - الذين يجب القضاء عليهم وتصفيتهم والتخلص منهم بكل الطرق والسبل, أي أن الخروج من خيمة السلطة يصبح خروجاً إلى ساحة الأعداء المتربصين بالدولة والوطن، الأمر الذي يعني بالضرورة ضرورة القضاء عليهم بأي شكل وطريقة. إن كون قوة المجتمع والوطن والدولة تتجمع وتتمركز في نقطة واحدة هي يد السلطة وتحديداً يد قائد هذه السلطة, وكون ممارسة السياسة تتجمع وتتمركز في نقطة واحدة هي كذلك يد السلطة ورأس هذه السلطة الأمر الذي يعني أن أي اعتداء على هذه النقطة والتي هي رأس النظام يصبح اعتداءً على الوطن والدولة, كما يعني أن مطلب تغيير السلطة ورأس السلطة كالذي نادت به الثورة السورية يعني حسب إيديولوجيا النظام ومعه اليسار العبودي المخاطي اللزج الخيانة الوطنية ويعني الاعتداء على الدولة والوطن, فهذا المطلب يصبح نوعاً من أفعال العدو الخارجي الذي يتربص بالوطن في كل الزوايا. فسقف الوطن هنا هو الحبل " الشباق " الذي يربط في أعناق القوى السياسية التي تقبل صاغرة بالجلوس في حظيرة النظام، كحظيرة " الجبهة الوطنية التقدمية " التي يرعاها النظام السوري, أما القوى التي لا تقبل الدخول في هذه الحظيرة ولا تقبل أن يربط هذا الحبل حول عنقها فهي من أعداء الوطن وخارجة عن سقف الوطن وحضن الوطن وهي امتداد لأعداء الوطن المتربصين بالوطن خارج الحدود من إمبريالية ورجعية وصهيونية ...الخ من الأكاذيب السياسية التي يختلقها النظام بحق كل من يقف في وجهه إن كانوا أفراداً أو أحزاباً سياسية أو جماعات بشرية حتى لو كان الشعب بكامله أو أغلبيته. لقد بنت الأحزاب الشيوعية التقليدية الستالينية في واقعنا العربي منذ الخمسينيات وحتى يومنا هذا سياساتها وتحالفاتها مع هذه النظم الاستبدادية - والتي لم يبق منها على قيد الحياة إلا النظام السوري - على هذا الأساس من الفهم للوطنية إن كان منها المستنبتة من العداء للخارج أو المستنبتة من السلطة السياسية وزعيمها الأب القائد, فتحالفت مع هذه النظم على أساس أنها نظم معادية للإمبريالية العالمية وعلى أساس كونها نظماً مستهدفة من الإمبريالية، الأمر الذي يعني ضرورة الدفاع والذود عنها في مواجهة كل المخططات والمؤامرات التي تحيكها الإمبريالية العالمية والرجعيات العربية. وعلى هذا الأساس من الفهم التافه للوطنية كان طبيعياً ومنطقياً أن تخون أحزاب اليسار العبودي المخاطي اللزج المنتشرة في كل أصقاع العالم وفي سوريا الثورة السورية وتقف في خندق النظام, كون الثورة تشكل تحركاً يستهدف إسقاط نظام وطني ممانع, وبوصف الثورة أداة من الأدوات الإمبريالية العالمية والرجعية العربية التي تستهدف الوطن والدولة السورية, وعلى هذا الأساس وقفت مدافعة عن هذا النظام وبررت كل جرائمه البربرية بوصفها دفاعاً عن النفس في وجه المؤامرة الخارجية, وعلى هذا الأساس يمكن أن نفهم أحد الأسباب التي تفسر الانحطاط السياسي والأخلاقي لقطاعات واسعة من اليسار السوري والعربي وحتى العالمي المتشبع بالفهم الستالتيني للوطنية, فهذا النوع من اليسار وقف مدافعاً عن نظام مجرم بربري يستخدم قضية العداء للخارج كورقة توت تخفي تحتها مشروع العصيان بالسلطة وتوليد وتكوين سلالة عائلية حاكمة في سوريا، كما تخفي تحتها مشروع إيران الفارسي المذهبي الذي مزق النسج الاجتماعية لشعوب المنطقة.
ثالثاً: اليسار العبودي المخاطي اللزج وتبني الخيار والنموذج الشمولي:
يكمن أصل الانحطاط السياسي والأخلاقي لليسار العبودي المخاطي اللزج في كونه تبنى أسوأ نموذج لوجود الدولة، وأعني أن هذا اليسار اختار تاريخياً نموذج دولة الاستبداد المعمم المستوحى في العصر الحديث من النموذج الأصل الستاليني السوفييتي، وهو أسوأ نموذج لعلاقة الدولة بالمجتمع، وعلاقة السلطة السياسية بالدولة، وعلاقة الدولة بالمجتمع المدني، وعلاقة الدولة بالمجتمع الأهلي، وعلاقة الدولة بمجالات البناء الاجتماعي بدءاً بالمجال السياسي وصولاً للمجال الإيديولوجي مروراً بالمجال الاقتصادي وملكية الدولة لهذا المجال. أي يكمن أصل الانحطاط السياسي والأخلاقي لهذا النوع من اليسار في اختياره لنموذج الدولة الشمولية الإيديولوجية، بوصفه النموذج الذي سيقود التحولات التاريخية الكبرى، إن كان في التحول نحو النظام الاشتراكي والعدالة الاجتماعية أو في قيادة عملية الاستقلال الوطني والتحرر من الاستعمار إن كان بشكله القديم أو الحديث. ولكي نفهم مقدار الانحطاط السياسي والأخلاقي الذي يعيشه هذا النوع من اليسار نتيجة تبنيه لهذا الخيار والنموذج في بناء الدولة يكفي معاينة هذا النموذج الشمولي، حيث نجد بأنه بالرغم من كل الأقنعة واللبوس الحداثوية التي ارتدتها النظم الإيديولوجية الشمولية التي عرفها القرن العشرون بدءاً بنسختها الشيوعية الستالينية وصولاً لمشتقاتها القومية التي عرفتها الكثير من الساحات في مختلف بقاع العالم، فإنها لم تكن في الجوهر والعمق سوى نظم عبودية بربرية فاشية بدائية تمتلك وجهين، وجهاً ناعماً، ووجهاً خشناً، وجهاً بربرياً فاشياً ناعماً، نلمسه ونجده فقط في علاقة الدولة الشمولية العبودية بالمجتمع في الحالات العادية الطبيعية من علاقة الدولة والسلطة بالمجتمع أو لنقل نجده في الحالات التي لا يكون هناك صدام وصراع معلن ومكشوف بين السلطة السياسية للدولة والمجتمع, وهنا يتمثل ويتجسد فعلها البربري الفاشي في كونها تقوم بتذرير المجتمع في أحشائها أي في أجهزتها ومؤسساتها المختلفة الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية ( العسكرية والمدنية ) حيث يشكل ما يسمى القطاع العام أو قطاع الدولة وهي التسمية الأكثر دقة، المصيدة التي يقع فيها المجتمع, حيث تلتهم منها الدولة الشمولية المجتمع في أحشائها الواسعة الشاسعة. وهنا من الجدير التنويه إلى أن الاقتصاد السياسي لنظامي العبودية والقنانة في التاريخ تحدد كما بين ذلك كارل ماركس في كتابه رأس المال، من خلال ربط المنتجين قسراً بوسائل الإنتاج، فأهم ما ميز وضع العبيد والأقنان في المجتمعات القديمة هو ربط العبد والفلاح " القن " قسراً بالأرض، كونها وسيلة الإنتاج الأساسية في تلك المرحلة، وهو الأمر الذي تم إعادة إنتاجه بشكل حديث في العصور الحديثة على يد النظام العبودي الستاليني، عندما تم عبر ما سمي رأسمالية الدولة " الاشتراكية " ، ربط المجتمع كل المجتمع بأجهزة ومؤسسات الدولة الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية والثقافية والروحية والاجتماعية بوصفها الوسائل الوحيدة للإنتاج ووجود المجتمع، وحيث اقتضى ذلك تحريف مضمون مقولة كارل ماركس القائلة بأن الوصول إلى الاشتراكية يتطلب ضرورة قيام سلطة المنتجين على وسائل الإنتاج، حيث تم استبدال سلطة المنتجين بسلطة الدولة والحزب والسلطة السياسية على وسائل الإنتاج، وهو الأمر الذي أنتج نظماً في العصور الحديثة مشابهة لنظم الاستبداد المعمم والعبوديات الشرقية القديمة التي يطلق عليها في علم الاجتماع اسم أنماط الإنتاج الآسيوية أو العبوديات الشرقية، وحيث الفارق بين النظم الآسيوية القديمة والحديثة هو في كون الأراضي هي وسيلة الإنتاج الأساسية المملوكة من قبل الدولة في النظم الآسيوية القديمة، في حين يشكل ما يسمى قطاع الدولة – مؤسسات الدولة بمختلف المجالات والقطاعات - وسيلة الإنتاج الأساسية في نظم العبوديات الحديثة الستالينية الأصل. بهذا المعنى فإن وصفي للنظام الستاليني وكل اشتقاقاته العالمية بصفة العبودية لا تتأتى من كونها نظماً تقوم على ممارسة العبودية السياسية، من خلال احتكارها للمجال السياسي العام فحسب، بل من كونها نظماً تقوم أساساً على ربط المنتجين قسراً بوسائل الإنتاج المملوكة من قبل الدولة والسلطة والحزب القائد، وحيث النموذج المشابه والمكافئ للنماذج المخبرية الفيزيائية في حالتها المثالية، نجده الآن في كوريا الشمالية. لهذا فقد كان أكثر ما يخشاه ستالين في حياته هو انكشاف زيف ادعائه أنه يقيم نظام الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، ولهذا أمر عام 1938 بشطب مصطلح نمط الإنتاج الآسيوي بصفة قطعية ونهائية من الأدب السياسي والفكري في الاتحاد السوفييتي، حيث يذكر wittogell " " في كتابه الاستبداد الشرقي 1957 بأنه تم حذف المصطلح ربما بسبب التشابه المزعج للسوفييت بين صفات النمط وحقيقة النظام الستاليني.
وهناك الوجه الخشن أو الوجه البربري الفاشي الخشن الذي نلمسه ونجده في علاقة الدولة الشمولية بالمجتمع في الحالات التي يبدأ فيها الصراع والصدام بين السلطة السياسية للدولة الشمولية والمجتمع، ولا سيما في المرحلة التي تحاول فيها سلطة الدولة تجميع وتركيز قوة وطاقات المجتمع كلها في قبضة الدولة وسلطة الدولة وهي المرحلة التي يمكن تسميتها بمرحلة التراكم الأولي التي تقوم بها الدولة الشمولية, فهنا تكشر الدولة الشمولية عن أنيابها البربرية والفاشية الحقيقية، فتقوم بتدمير وسحق كل من يقف في طريق وجودها وخططها ومشاريعها في توليد التراكم اللازم لقوة الدولة, كما نجد بأنه في بعض الحالات تقوم في سحق وتدمير كل من يقف في طريق مشروعها في بناء قوة وعصبية طائفية أو قبلية أو قومية تشكل ركيزة وقوة تعتمد وترتكز عليها الدولة والسلطة الشمولية إضافة إلى ركيزتها الطبقية السياسية.
إن ما يميز النظم الشمولية ذات الأصول " الشيوعية " الستالينية أو القومية عن النظم الشمولية النازية والفاشية، هو في كون النظم الشمولية من النوع الأول تمتلك وجهين، وجهاً فاشياً ناعماً، ووجهاً فاشياً خشناً, وحيث يظهر وجهها الخشن غالباً في مرحلتي صعودها وانحطاطها، في حين نجد وجهها الناعم في فترة ازدهارها فقط، في حين أن النظم الشمولية من النوع الثاني لا تملك سوى وجه واحد، هو وجهها الخشن, وهذا طبيعي ومنطقي كون هذا النوع من النظم لا يقوم ويعرف في الواقع إلا في لحظة التأزم الطبقي الاجتماعي السياسي الحاد داخل المجتمع الرأسمالي, وحيث أن هذه النظم لا يمكنها أن تعيش وتعمر سوى مرحلة واحدة، هي مرحلة صعودها وتوحشها وموتها، فهي نظم لا يسمح لها عالمياً من قبل - الشعوب والحكومات - أن تأخذ كامل فرصتها في الحياة كونها معادية للبشرية جمعاء. لقد اختبأت النظم الشمولية ذات الأصول الشيوعية والقومية فترات طويلة من زمن عمرها المديد الطويل خلف وجهها البربري الفاشي الناعم, وقد استطاعت من خلال قناعها هذا أن تقدم نفسها للبشرية على أنها نظم العدالة الاجتماعية والاشتراكية, كما استطاعت أن تميز نفسها وتبدو وكأنها شيئاً مختلفاً وبشكل نوعي عن النازية والفاشية ذات الوجه الواحد الخشن المعادي لكل البشرية والذي ذاقت منه البشرية كلها الويلات، لقد طرحت النظم الشمولية ذات الأصول الشيوعية والقومية نفسها بوصفها نظماً صديقة ومدافعة عن الشعوب كلها, لهذا استطاعت هذه النظم أن تولد وتخلق ( على الصعيد العالمي ) طبقة من النخب السياسية والثقافية والإيديولوجية " الشيوعية " و " القومية " المدافعة عنها والمبررة لأعمالها وسلوكها ووجودها حتى في الحالات التي تكشف عن وجهها الفاشي البربري. وهنا تم تبرير أعمالها البربرية والفاشية بحجة أنها أعمال تندرج في إطار الدفاع عن النفس في مواجهة المؤامرات الخارجية التي تستهدف إسقاط النظام الاشتراكي المعادي للرأسمالية والإمبريالية العالمية, وفي هذا التبرير تكمن بذرة السقوط والانحطاط السياسي والأخلاقي الذي يميز اليسار العبودي الذي أشرنا إليه, أي هنا يأتي أصل الانحطاط السياسي والأخلاقي الذي يميز أغلب النخب السياسية والثقافية " الشيوعية " و" القومية " التي آمنت يوماً ما بأن هذه النظم هي نظم العدالة الاجتماعية والاشتراكية المنشودة. ومن هنا يأتي أصل موقف اليسار العبودي من الثورة السورية, فهو ذاته اليسار الذي غطى تاريخياً كل الأعمال البربرية والوحشية لرفيقهم وقدوتهم ستالين السوفييتي الذي ظل ينافس - حتى ظهور مجازر النظام الأسدي – الزعيم النازي أدولف هتلر والقائد المغولي هولاكو على لقب أخطر جزار في التاريخ البشري، إذ تجمع معظم الكتابات أن ستالين تسبب في مقتل أكثر من 20 مليون إنسان، بين عامي 1924 – 1953 ، ففي فترة توليه السلطة قام بتصفية خصومه السياسيين، بل شمل القمع والتصفية، كل من كانت تحوم حوله الشكوك، فبعد أن أبعد تروتسكي إلى خارج الاتحاد السوفييتي وصل ستالين للسلطة المطلقة في 1928، بعد أن انقلب على الثنائي كامنييف وزينوفيف، إذ أصبح القائد الأوحد بعدما كانت الحكومة ثلاثية الأقطاب، وقد عمل على إبادة أعضاء اللجنة المركزية البلشفية، نيكولاي بوخارين ، كامنييف ، زينوفيف ، اليكسي ريكوف ، ميخائل تومسكي، إذ جرى تجريدهم من مناصبهم ثم طردوا من الحزب وأدينوا في محاكمات صورية بثتها الإذاعة السوفياتية على الهواء وأعدموا جميعاً رمياً بالرصاص بتهمة الخيانة، حتى عائلاتهم لم تسلم من التنكيل ، فتم إعدام أبنائهم وأرسلت زوجاتهم إلى معتقلات الجولاك ( عبيد الخدمة المجانية ) الرهيبة. حتى ليون تروتسكي لم ينج من المجزرة فقد لحقت به شرطة ستالين السرية إلى منفاه في المكسيك فاغتالوه هناك عام 1940، وأعقبها بإبادة كل من يعتنق فكراً مغايراً لفكر ستالين، بتهم شتى أولها الخيانة، ولم يتبق من الحزب البلشفي غير ستالين ووزير خارجيته مولوتوف بعد أن أباد ستالين جميع أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي البلشفي الذين قادوا الثورة، كما قام بتصفية كل كوادر وأعضاء الحزب الذين قامت الثورة على أكتافهم، ولم يقتصر الأمر على السياسيين ، فالكثير من الضباط الكبار لاقوا نفس المصير، ثم امتد القمع ليشمل ملايين المواطنين العاديين في مدن وقرى كاملة أجبر سكانها على الرحيل إلى أماكن نائية وفقيرة وباردة وموحشة، هذا التهجير القسري طال ستة ملايين إنسان من قوميات وفئات متباينة، أما أعظم المحن التي عرفتها الشعوب السوفياتية فقد تمثلت في الجولاك " Gulag " ، أي معسكرات العمل الإجباري، فملايين الناس دخلوا تلك المعسكرات والملايين منهم لم يغادروها أبداً، فالعمل في المعتقل كان قسرياً، طوال أيام السنة، لأكثر من 12 ساعة يومياً، كقطع الخشب والتعدين والحفر والبناء والنقل ...الخ، وفي المساء كانوا يحشرون في أكواخ وثكنات قذرة، ينامون على رفوف خشبية ومعظمهم جائع يرتجف من البرد، كانت تقدم لهم الثياب الخفيفة التي لا تقي البرد لكي يجبروا على تدفئة أنفسهم بالعمل، وكان الطعام رديئاً ضئيلاً لا يغني عن جوع، ولا تقدم لهم سوى قطعة صغيرة من الصابون كل شهر ولا يسمح لهم بالاغتسال إلا نادراً، فالكثير من المعتقلين السياسيين والناس الأبرياء كانوا يتعرضون للابتزاز، وأحياناً الاغتصاب والقتل، من قبل المعتقلين ذوي السوابق الإجرامية، كما شكلت النساء قرابة عشرة بالمئة من مجموع نزلاء معتقلات الجولاك، وقد كن يتعرض لشتى صنوف المهانة، حيث يجبرن على التجرد من ملابسهن والاستحمام أمام الحرس، كن يرخين شعورهن على وجوهن من شدة الخجل، وكان يجري اغتصابهن بشكل دوري، أحياناً بشكل جماعي حتى الموت. لقد تقصدت في الإسهاب ولو قليلاً في نقل عدة جوانب وصور من جرائم ستالين لعدة أسباب، أهمها للقول أن هذه الجرائم كان يعلم بها كل قادة الحركة الشيوعية الذين عاصروا مرحلة حكم ستالين للدولة السوفييتية، كما أن هذه الجرائم كانت تسرب إلى الرأي العام العالمي من الذين وقفوا ضد ستالين، إلا أنه كانت تتم تغطية هذه الجرائم وتكذيبها من قبل ستالين والقادة الشيوعيين بالعالم، من خلال القول أن هذه المعلومات هي جزء من الأضاليل والأكاذيب التي ينشرها عملاء الإمبريالية العالمية، التي تستهدف النيل من الدولة الاشتراكية الأم في العالم، ولكن بعد وفاة ستالين 1953، بدأت جرائمه تتكشف للعالم وبشكل موسع، فمنذ أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات بدأ الغطاء يرفع عن فظائع وجرائم ستالين، وبدأ العالم وشيوعيو العالم يتعرفون على الحقائق، ولم يبق الأمر كما كان يقول ستالين لأتباعه أنها مجرد دعاية إمبريالية مغرضة تستهدف النيل من الدولة السوفييتية الاشتراكية العتيدة، إن ازدياد الكشف عن جرائم ستالين تباعاً قاد لأن يستفرغ الكثير من شيوعيي العالم بعضاً من الحليب الستاليني الذي رضعوه، كما قاد إلى ولادة تيارات يسارية شيوعية جديدة، منها من وقف على مسافة قريبة من الستالينية ولم يقطع معها، ومنها من وقف على مسافة بعيدة ولم يقطع بالكامل معها كذلك، ومنها من وقف موقفاً معادياً للستالينية وقطع معها بشكل كامل، ولكن بنفس الوقت بقيت بعض الأحزاب الشيوعية التي دخلت المورثات الستالينية إلى عمق تكوينها السياسي والثقافي والأخلاقي فلم تستطع أن تستفرغ أياً من حليب الستالينية، وهذه الأحزاب هي في أغلبيتها الأحزاب ذاتها المدرجة في خانة اليسار العبودي المخاطي اللزج، إن هذه الأحزاب ومعها بعض الأحزاب والشخصيات التي لم تستطع القطع بالكامل مع الستالينية والتي بقيت ترى في رفيقها ستالين " العظيم " قدوة ومثالاً، كان طبيعياً، أولاً: أن تدخل في التحالف مع النظام الأسدي داخل الجبهة الوطنية التقدمية منذ بداية السبعينيات، دون أن ترى مشكلة في كون هذا النظام قام بتصفية رفاقه في حزب البعث العربي الاشتراكي، إن كان من خلال زجهم في السجون حتى الموت أو في تهجيرهم إلى خارج أوطانهم مدى حياتهم أو في ملاحقتهم وقتلهم اغتيالاً في بلاد الشتات، فمن لم ير مشكلة في قتل ستالين لرفاقه من المؤكد بأنه لن يرى مشكلة في قتل حافظ الأسد لرفاقه. وثانياً: لقد كان طبيعياً كذلك أن لا يرى هذا النوع من اليسار مشكلة في توسع المعتقلات والسجون الأسدية، كما لا يرى ولا يسمع ما كان يحدث على مدار نصف قرن من الزمن والمستمر في حدوثه حتى يومنا هذا داخل المعتقلات الأسدية، من جوع واغتصاب وقتل وتعذيب ومرض وموت لآلاف الشباب والرجال والنساء والأطفال السوريين الذين دخلوا المعتقلات، فمن لم ير مشكلة في معسكرات الاعتقال الجماعية الستالينية من الطبيعي أن لا يرى مشكلة في مثيلتها الأسدية. وثالثاً: لقد كان طبيعياً أن لا يرى هذا النوع من اليسار مشكلة في قيام النظام بتهجير الآلاف وملايين السوريين من بيوتهم وقراهم ومدنهم كونه لم ير مشكلة بكل ما قام به ستالين من قتل وتهجير في دولته العتيدة. وهنا أقول واهم من يعتقد أن من لم تهزه يوماً جرائم ستالين يمكن أن تهزه جرائم النظام الأسدي. فالقاعدة التي علينا إدراكها وتسجيلها في علم الاجتماع السياسي تقول: إن التيارات السياسية، كما كل الجماعات البشرية والشعوب التي لا يمكنها نقد ماضيها وتجاوزه تعاني دائماً من أزمة أخلاقية، تتراكب وتتواجد مع كل أزمة سياسية تواجهها في مسار حياتها.
رابعاً: اليسار العبودي المخاطي اللزج والارتزاق السياسي.
لقد شكلت دولة الاستقلال الحديثة البرجوازية الديمقراطية في الحالة السورية منارة الشرق في خمسينيات القرن العشرين, وبالرغم من ذلك فقد دفع اليسار السوري بكل أشكاله وألوانه الشيوعية والقومية البرجوازية الصغيرة منذ بداية الستينيات باتجاه بناء نموذج بديل للدولة يحاكي ويماثل دول العبوديات في المركز السوفييتي وامتداداته في دول أوروبا الشرقية، فكانت ولادة النموذج الاستبدادي العبودي بصيغته العامة، والذي خرجت من رحمه عبر صيرورة من التحولات الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية، نظام الاستبداد المعمم العبودي الأسدي في الواقع السوري, وحيث تم ذلك على الأرض وبشكله المكتمل وصيغته النهائية في إطار تحالف مجموعة من الأحزاب الشيوعية والقومية وبقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي الذي أصبح يقوده رأس النظام حافظ الأسد, وهي الصيغة التي عرفت بصيغة الجبهة الوطنية التقدمية ( في الساحة العراقية والسورية ) وهي الصيغة التي ظلت قائمة في واقعنا السوري حتى قيام وانطلاق الثورة، واستمرت حتى يومنا هذا، والتي باعتقادي ستستمر حتى تسقط وتندثر مع سقوط واندثار النظام الملتصقة به. لقد كان طبيعياً ومنطقياً عند مجيء الربيع العربي بثورات الحرية والكرامة، أن يخشى ويخاف هذا اليسار المتحالف مع النظام منذ عقود على مصالحه من الحرية والتحرر، بقدر خشية وخوف نظام الاستبداد المعمم الأسدي على مصالحه , فخلال عقود وعقود من الزمن راكمت قيادات هذا اليسار والكثير من نخبه الحزبية والسياسية والثقافية من المكتسبات والفتات الذي جمعته في جيوبها وبطونها الدنيئة من بقايا موائد وفضلات نظم الاستبداد المعمم التي عرفها العالم والواقع العربي في أكثر من ساحة، فخلال هذه العقود وفي الوقت الذي كانت نظم الاستبداد تزج في سجونها ومعتقلاتها النخب السياسية والثقافية المعارضة والتي كانت تشكل القشرة السياسية الحقيقية المتحركة والمقاتلة داخل المجتمع ضد الاستبداد، تكونت طبقة من النخب السياسية والثقافية " الشيوعية " و " القومية " جلها من الأحزاب المتحالفة مع النظم الاستبدادية أو من النخب التي تعيش على أطراف الأحزاب وفي الصالونات أو التي كان لها تاريخ سياسي في الماضي ثم فكت ارتباطها التنظيمي والسياسي مع أحزابها الأم والتي في الأغلب تكون من الأحزاب المعارضة للنظام, نقول تكونت طبقة من النخب عاشت بكنف نظم الاستبداد وترزقت من كيس نقودها بألف طريقة وطريقة، بدءاً من تشكيل اسم وسمعة في عالم الثقافة، إن كان في عالم الصحافة أو عالم الكتابة والتأليف أو عالم الأدب الشعري أو القصصي أو الروائي أو عالم النقد الأدبي وصولاً إلى الترزق المباشر من خلال تسنم موقع ووظيفة داخل المجال العام الثقافي أو العلمي للمجتمع, طبقة تحولت وظيفتها السياسية الرئيسية شيئاً فشيئاً من وظيفة خدمة الفئات والطبقات الفقيرة التي ادعت أنها تمثلها وتدافع عنها، إلى وظيفة الدفاع - وبشراسة الكلاب الجائعة – عن رزقها وصاحب رزقها من المستبدين حتى عندما تحول صاحب هذا الرزق إلى مجرم يقتل ويفتك بشعبه. لقد وصل العته والانحطاط السياسي والأخلاقي عند هذا النوع من اليسار إلى الحد الذي جعلهم لا يفرقون بين الدولة السوفييتية " الشيوعية " التي سقطت وأصبحت في متحف التاريخ، وبين روسيا الاتحادية، دولة بوتين والمافيا الروسية، التي أصبحت دولة رأسمالية، وعضو كلبي في النادي الإمبريالي العالمي.
خامساً: التشبع بالماركسية الطبقوية الاقتصادوية الستالينية المقيتة.
إن المقولة الماركسية الكلاسيكية القائلة بأن البشرية انتقلت في البداية من مجتمع المشاعة البدائي الخالي من الطبقات إلى المجتمع الطبقي العبودي، نتيجة الانقسام والتمايز الطبقي بين الذين أصبحوا يملكون الثروة وبين الذين لا يملكون الثروة، أقول أن هذه المقولة برغم صحتها كقاعدة وأساس محدد في نهاية المطاف بني عليه في التاريخ المجتمع الطبقي في كل مراحله التاريخية، إلا أن هذه المقولة تحتاج إلى أن نضيف إليها قولاً أخر يجعلها أكثر شمولاً وعمومية، وتغطي كافة الجوانب والمؤثرات والمحددات ( دون أن نلغي المحدد الأساسي ) والتي دفعت عبر التاريخ البشرية للانتقال في البداية من مجتمع المشاعة البدائية الخالي من الطبقات إلى مجتمع الطبقات الاجتماعية، كما دفعت وفتحت أبواب التاريخ لدخول واستمرار إنتاج وإعادة إنتاج المجتمع الطبقي إلى يومنا هذا، إذ يمكن القول كقاعدة عامة وشاملة، أن البشرية انتقلت من المشاعة إلى المجتمع الطبقي - ثم استمر إنتاج المجتمع الطبقي - نتيجة التمايز بين الذين أصبحوا يملكون مصادر القوة والإكراه والقهر الاقتصادي ( مالكي الثروة ) أو السياسي ( مالكي القوة والعنف حتى بمستواه الجسدي أو العددي ) أو الروحي والثقافي ( مالكي القوة الروحية الثقافية، إن كان على هيئة إيديولوجيا دينية أو وضعية ). وحيث أن امتلاك أي من وسائل القوة وأدواتها تلك كانت تقود إلى انقسام المجتمع على أساس ملكية الثروة، إما بطريقة مباشرة كما في حال امتلاك وسائل القوة الاقتصادية أو بطريقة غير مباشرة كما في حال امتلاك وسائل القوة السياسية أو الروحية والثقافية، وحيث هذا الامتلاك يقود بالضرورة إلى حالة امتلاك لوسائل القوة الاقتصادية، وبما يعني امتلاك الثروة وانقسام المجتمع بين من يملكون والذين لا يملكون، فمن يملكون الثروة كمصدر للقوة والقهر والإكراه الاقتصادي كان سهلاً عليهم امتلاك وسائل القوة والإكراه السياسي والروحي والثقافي، والعكس صحيح، أي أن من يملكون مصادر الإكراه والقهر والقوة السياسية أو الروحية والثقافية كان من السهل عليهم أن يمتلكوا وسائل القوة والإكراه والقهر الاقتصادي، أي كان من السهل عليهم امتلاك الثروة. أقول كل ذلك كي أشير إلى أن الستالينية ومعها ومن بعدها اليسار العبودي المخاطي اللزج الذي سعى عبر كل تاريخه السياسي للقول أن الرأسمالية والإمبريالية والرجعية والصهيونية هي العدو الوحيد للبشرية، وذلك بهدف التغطية على حقيقة كون العبودية السياسية هي من أخطر أعداء البشرية إن لم تكن عدوها الأقدم والأخطر عبر التاريخ البشري، فالنظام الستاليني العبودي استخدم فزاعة خطر الرأسمالية وخطر الإمبريالية العالمية كي يخفي مسألة خطر عبودية نظامه السياسي وكي يبني تحت غلاف هذه المقولة أعتى النظم الطبقية في التاريخ وهو نظام الطبقة - الدولة الشبيه لنظم العبوديات الشرقية في العصور القديمة والوسيطة، أي نظام سيادة الطبقة العليا للدولة الاستبدادية وحكمها وتسلطها على الطبقة السفلى للدولة، فمن خلال السطو على السلطة السياسية والدولة وبما يعني امتلاك وسائل القوة والقهر والإكراه السياسي والإيديولوجي استطاع ستالين من خلال حثالة البروليتاريا التي لا تمتلك بالأساس قرشاً من الثروة، كما استطاعت بعض النظم القومية المشابهة في العالم العربي وغيره من خلال حثالة كل وجود طبقي أو اجتماعي بناء نظم طبقية، فاقت في عتيها وظلمها أشد النظم الطبقية التي عرفها التاريخ. أن هذا النوع من اليسار الذي لا يخرج – بضم الياء - من فمه علكة الاقتصاد والثروة، والطبقات المالكة للثروة، والإمبريالية المالكة للثروة، والرجعيات المالكة للثروة، ...الخ من هذا الخطاب الممجوج، نجده على أرض الواقع بأنه حليف أو جزء عضوي من نظم سياسية اجتماعية وصلت إلى السلطة بحجة محاربة مالكي الثروة، ولكنها أقامت على أرض الواقع من خلال حثالات اجتماعية وطبقية، نظماً وطبقات اجتماعية جديدة، وضعت يدها على ثروة وحياة وكرامة وأنفاس المجتمع، ومارست من الظلم والاضطهاد ما لم تمارسه النظم والطبقات التي حكمت وكانت بالأساس تملك الثروة. لهذا نجد أن هذا النوع من اليسار يذكرنا بوزير الثقافة كوبلز في زمن حكم النازية الهتلرية في ألمانيا، عندما كان يقول كلما سمعت كلمة ثقافة أتحسس مسدسي, ولسان حال اليسار الاستعبادي يقول كلما سمعت كلمة حرية أو ديمقراطية أتحسس مسدسي, وبالرغم من كون هذا النوع من اليسار يضم في صفوفه طيفاً واسعاً من التيارات إلا أن ما يوحد هذه التيارات هو كونها لا ترى أن العبودية السياسية هي العدو الأول للبشرية, وهي الخطر الأكبر على البشرية في هذا العصر. فالمجتمع العبودي هو أول المجتمعات التي لاقت منه البشرية الويلات وهو أول مجتمع تأسس وقام على أساس قانون الغابة, أي القانون الذي بموجبه يقوم القوي بالسيطرة والتحكم بالضعيف, بدءاً بالفرد القوي عضلياً الذي يسيطر على الأضعف, ثم القوي عائلياً والذي عدد أفراد أسرته وعائلته أكثر عدداً والذي يسيطر على العائلة الأقل عدداً, ثم القوم والجماعات البشرية الأقوى التي تسيطر على الجماعات الأضعف ...الخ وهكذا تم بناء وقيام المجتمع العبودي الذي كان فيه أسرى الحرب أول العبيد في التاريخ, أنه المجتمع الذي شكل الحلقة الأولى في سلسلة المجتمعات الطبقية التي عرفتها البشرية فيما بعد, كما كان الخطوة والبوابة التي أدخلت البشرية إلى المجتمعات الطبقية. ما أود قوله أن عذابات ومعاناة البشرية من العبودية هي سابقة على كل أشكال وأنواع الاضطهاد والاستغلال أو لنقل هي التي أسست لكل أنواع الاضطهاد والاستغلال التي تعرفها البشرية، إن كان التي عرفتها في العصور القديمة أو التي عرفتها في العصور الحديثة وفي الزمن المعاصر الذي نعيشه هذه الأيام, فحتى الاضطهاد والاستغلال الطبقي لم يكن له أن يكون ويتبلور قبل نشوء وقيام وتبلور المجتمع العبودي, فالمجتمع العبودي هو المجتمع الذي قطع مع مجتمع المشاعة البدائي التشاركي, وهو المجتمع الذي أعلن فجر التاريخ والمجتمع الطبقي، وعلى هذا الأساس كانت العبودية هي العدو الأول والأخطر على البشرية على مر العصور والأزمان, وعلى هذا الأساس كان عمل البشرية للتحرر من العبودية هو أسمى هدف في حياة البشرية، وهو الأساس للتحرر من كل أشكال الاضطهاد والاستغلال بدءاً بالتحرر من الاستغلال الطبقي وصولاً للتحرر من كل أشكال الاضطهاد، وعلى هذا الأساس يمكن القول ،نه في شروط الاستبداد السياسي والعبودية السياسية يكون العمل كما في الحالة السورية في ظل نظام عبودي مجرم بربري من أجل التحرر من أي شكل من أشكال الاضطهاد والاستغلال دون العمل على التحرر من الاستبداد السياسي هو عمل لا فائدة منه ولا طائلة منه, أنه كمن يضع الحصان خلف العربة بدل أن يكون الحصان في مقدمة العربة كي يجرها ويتم تحريك التاريخ والواقع نحو الأمام. لقد كانت قيمة وحرية الإنسان أعلى قيمة في فلسفة التاريخ عموماً وفي فلسفة كارل ماركس خصوصاً، ومن مفارقات التاريخ الحديث المفجعة أن أكثرية الذين ادعوا أنهم من أنصار كارل ماركس كانوا أكثر من قلل من قيمة الإنسان وأكثر من جرده حريته وأكثر من احتقر كرامته الانسانية.
السياق التاريخي لنشوء وترعرع البربرية في سوريا ( 22 ) lemonde.in 5 of 5
لومـــــوند : نبيل ملحم : الثاني والعشرون: الانحطاط السياسي والأخلاقي لليسار العبودي المخاطي اللزج. يندرج هذا المقال في إطار تحديد مسؤول...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك