السياق التاريخي لنشوء وترعرع البربرية في سوريا ( 20 )

لومـــــوند : نبيل ملحم
العشرون: لغما إعلان دمشق 2005 اللذان انفجرا في وجه الثورة :
بدءاً من عام 2003 تاريخ الغزو الأمريكي للعراق، ودخول الغول الإيراني إلى الساحة العراقية من أوسع الأبواب بغطاء من الأحزاب الطائفية الحاكمة حتى هذه اللحظة بدأت بعض النخب السورية المعارضة الإعداد لبيان إعلان دمشق رغبة منها في استنساخ النموذج العراقي. وفي البداية أود تسجيل مقولة في علم الاجتماع السياسي تقول: إن أي نظام سياسي شمولي يسود في السلطة داخل مجتمع من المجتمعات، فإنه في رحلة وسياق تاريخه وعمره السياسي الذي يطول في العادة لعقود من الزمن، فإنه لا يحرق ذاته السياسية فحسب بل يحرق حتى العمامة الإيديولوجية الوضعية أو الدينية التي يضعها فوق رأسه، فالعباءة الإيديولوجية التي يتغطى بها النظام الشمولي أياً تكن تتسخ وتتلطخ بأوساخ وأوحال النظام الذي يرتديها، حيث تصبح رمزاً للعسف الذي يمارسه النظام، وهو الأمر الذي يدفع من يمارس عليهم العسف للارتماء والاحتماء بأقرب إيديولوجيا تجذبهم، وحيث يبقى رهان أي ايديولوجيا يتم حرقها على طائر الفينيق الخاص بها الكفيل بنهضتها ويقظتها من رمادها مرة أخرى، وحيث ذلك مشروط بتوفر شروط موضوعية أخرى جديدة مطابقة لنشأتها الأولى أو تستوفي شروط انبعاثها وإحيائها. ففي أغلب الحالات لا يمكن اكتمال وعي الضرورة التاريخية عند الشعوب إلا بعد اكتمال دورة أو أكثر من دورة في مطحنة التاريخ، فالتاريخ دائماً يعلمنا ولكن ليس بالمجان. فالنظم السياسية الشمولية التي تتغطى بما هو مقدس - كفكرة الوطن أو العدالة الاجتماعية أو الدين أو القومية ...الخ - فإنها عندما تبدأ بالاحتراق خلال تاريخها في السلطة فإنها تحرق معها بالآن ذاته الغطاء الثقافي الإيديولوجي الذي تغطت به. فوفق هذه المقولة يكمن تفسير كيف أن البديل السياسي للنظم التي حكمت باسم الشيوعية والاشتراكية ( حالة النظم التي حكمت أوروبا الشرقية ) لا يمكن أن يكون شيوعياً واشتراكياً حيث يكون حسب منطق هذه المقولة البديل المرجح هو البديل الليبرالي، كما نجد أن بديل النظم السياسية الشمولية التي ارتكزت على عصبية طائفية أو قبلية وتغطت بالوطنية والقومية والتقدم والاشتراكية والممانعة ومحاربة الإمبريالية ( حالة العراق في زمن نظام صدام حسين وحالة سوريا الأسدية ) لا يمكن أن يكون بديلاً وطنياً حقيقياً حيث المرجح أن يأتي البديل على هيئة إسلام سياسي - شيعي أو سني - الذي يكرس تفتيت الهوية الوطنية ممهوراً بختم الليبرالية ونظام المحاصصة الطائفية مع العدمية الوطنية، كما نجد أن النظم السياسية الشمولية التي تغطت وحكمت باسم الدين ( الحالة السودانية زمن نظام البشير وحالة العصابات الطائفية الحاكمة في العراق منذ 2003 ) فإن بديلها السياسي المرجح غالباً ما يكون تحررياً وديمقراطياً ومعادياً لحكم رجال الدين. ووفق منطق هذه المقولة يمكن أن نفسر كذلك كيف أن أغلب الحركات التي وقفت في وجه السلطة في العصرين الأموي والعباسي من العصور الوسطى قامت بالخروج على المقدس الديني الإيديولوجي الذي تغطت به السلطة والدولة لصالح بناء مقدس ديني جديد خاص بها في شروط لم يكن وعي البشرية حينها ناضجاً لصياغة بديل إيديولوجي وضعي غير ديني ولهذا كان التكفير المتبادل بين المتصارعين هو المنطق السائد، وقد وصل هذا الخروج عن مقدس السلطة الإيديولوجي إلى حد الدوس على هذا المقدس كما فعل القرامطة الذين تمردوا على السلطة والدولة في العصر العباسي، فمن المعروف أن القرامطة هاجموا مكة المكرمة في القرن الرابع الهجري في موسم الحج وحسب الكثير من المصادر التاريخية قاموا بقتل زهاء ثلاثين ألفاً من أهل مكة ومن الحجاج وسبوا النساء والذراري وخلعوا باب الكعبة وسلبوا كسوتها واقتلعوا الحجر الأسود من مكانه وحملوه إلى بلادهم في البحرين حيث أبقوه عندهم نحو اثنين وعشرين سنة قبل أن يعيدوه إلى مكة بعد وساطة الدولة الفاطمية. بعد هذا التقديم يمكن الإشارة إلى ظاهرة في الحالة السورية تبدو للوهلة الأولى وكأنها من العجائب المفروض إضافتها إلى عجائب الدنيا السبع، حيث نجد نظاماً يعتمد ويرتكز في السر وعلى أرض الواقع على العصبية الطائفية كأحد الركائز التي يستقوي بها على الشعب للبقاء في السلطة، وبنفس الوقت نجده في الخطاب المعلن الرسمي إن كان أمام الداخل السوري أو الخارج العالمي فإنه يغطي ذلك بخطاب الحرص على الوحدة الوطنية محاولاً من خلال هذا الخطاب الادعاء أنه يمثل كل السوريين. في المقابل نجد معارضة هي في الواقع وفي النوايا السياسية تمثل كل السوريين في حين نجدها في الخطاب والممارسة السياسية إن كان أمام شعبها أو الخارج فإنها لا تلهج إلا بالدين والطائفية والحلول الطائفية وتنظيم المؤتمرات ذات الصفة الطائفية أو القومية، كمؤتمر المعارضين العلويين أو المعارضين الدروز أو المجلس الإسلامي الأعلى السني الإخواني ... أو المجلس الوطني التركماني أو الكردي أو الاشوري ...الخ أو مؤتمر للأقليات المعارضة ...وأخيراً وربما ليس أخراً مؤتمر المسيحيين العرب، فمن مفارقات الحالة السورية أن النظام بنى عصبيته الطائفية أمام أنظار السوريين وتحت شعار محاربة الطائفية وتجريم كل من يتحدث عن الطائفية والطوائف، فالنظام من خلال هذا التجريم لم يكن يريد ويهدف إلى مكافحة شر انتشار واستشراء الوباء الطائفي في الجسد السوري بل بالعكس كان الهدف منه تصعيد ردة الفعل الطائفية إلى حدودها القصوى بعملية مطابقة ومشابهة عندما يتم تصعيد الرغبة الجنسية من خلال مزيد من كبتها ومنعها من التحقق، فبهذا التصعيد كانت تتم عملية حرق الوطنية السورية بجمر التصعيد تحت الرماد والصمت الذي يفرضه النظام. في المقابل فإن المعارضة السورية التي كانت تدعي أنها تشكل البديل غير الطائفي للنظام – وهنا لا أتحدث عن الإسلاميين بل عن المعارضة التي تصدرت المشهد بكل تلاوينها - كانت لا تفوت فرصة تسمح لها بالحديث عن المعضلة الطائفية ومعضلة النظام السوري بشكل عام إلا وكانت تصب الزيت على نار ما هو مصعد طائفياً دافعة لما هو مصعد كي تجعله ينفلت من عقاله من خلال الدعوة لبناء عصبية طائفية مقابلة أو دعم عصبية طائفية مقابلة لعصبية النظام من خلال عقل معارض مريض وغبي توهم بأنه يمكن من خلال الدين والطائفية المضادة تشكيل رافعة لبناء الهوية الوطنية التي دمرها النظام. فبعض القوى السياسية السورية المعارضة التي انتمت لتيار اليسار " التحرري " المعارض منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي بدل أن تسد الثقب الأسود الطائفي الذي بدأ النظام بفتحه في النسيج الاجتماعي السوري عملت على زيادة عدد الثقوب من خلال رهانها على الحصان الإسلامي الإخواني . صحيح أن منسوب الوعي الطائفي داخل الطوائف موضوعياً يخضع لمبدأ الأواني المستطرقة – والفعل ورد الفعل - فإذا ارتفع في جهة ارتفع في كل الجهات المقابلة والعكس صحيح، إلا أنه من الناحية الذاتية أو لنقل من ناحية الذات السياسية الواعية التي تظهر في المجتمع على شكل حزب سياسي أو على شكل مجموعة من الأحزاب والقوى فإن العمل على تخفيض منسوب الوعي والشحن الطائفي داخل عموم المجتمع يقتضي تبني استراتيجية ومشروع وطني يستهدف كل الرموز الطائفية داخل المجتمع كي يتم تخفيض منسوب الوعي الطائفي عند الجميع وحيث أي انتقائية تفرغ هذا الشعار من محتواه وفائدته إن لم نقل يأتي بنتائج عكسية، وهو الأمر الذي برع أطراف الصراع الطائفي في سورية في إتقانه من ناحية الانتقائية عندما كان يشير النظام إلى الإخوان بوصفهم الرمز الطائفي الوحيد داخل المجتمع السوري، وحين كان الإخوان ومن تحالف معهم يشيرون فقط للنظام بوصفه الرمز الطائفي الوحيد على الساحة السورية. لقد أفصح ما هو مصعد طائفياً عن نفسه في أكثر من محطة وبشكل سافر ومكشوف من أي غطاء إن كان في زمن الثورة أو قبلها إن كان بشكل مواقف سياسية أو من خلال معارك عسكرية، حيث لم تكن غزوة عائشة أم المؤمنين بتاريخ 4 / 8 / 2013 مع كل مدلولاتها الطائفية على بعض القرى العلوية في محافظة اللاذقية والتي قامت بها مجموعة من الفصائل الإسلامية شاركت فيها جبهة النصرة بغطاء سياسي من مؤسسات المعارضة التي كانت تقول عن هذه الفصائل بأنها فصائل ثورية. أقول : لم تكن هذه الغزوة لا الأولى ولا الأخيرة فهناك غزوات سبقتها في النصوص وفي ميدان المعارك كغزوة مجزرة مدرسة المدفعية في حلب في 16 يونيو 1979، كما هناك غزوات لحقت بها في النصوص والميدان، وهو الأمر الذي سيجده القارئ في مقالي القادم كوني سأقسم هذا المقال إلى قسمين لتخفيف مساحة كل مقال. لقد قام النظام السوري بحرق الوطنية السورية على مدار خمسة عقود من الزمن لا من خلال جعل الطائفية تستشري في الجسد السوري فحسب بل من خلال المتاجرة بالوطنية والممانعة، وهو النظام الذي استعار نوعاً من الوطنية المجرمة من دكاكين ومستودعات نظم العبوديات الستالينية، حيث الوطنية تستخدم كخيمة للسلطة يتم بداخلها ذبح المجتمع بحجة دفاع مزعوم عن المجتمع بوجه المخاطر الخارجية الإمبريالية، وأمام هذا النوع من الوطنية المغشوشة والمجرمة تشكلت رويداً رويداً عند العامة والنخب حالة من الصد النفسي تجاه المسألة الوطنية تحولت إلى صد عقلي وثقافي تجاه كل ما اسمه وطن ووطنية، وقد كانت هذه العملية مشابهة لحالة إنسان يصاب بحالة من الصد النفسي يجعله يكره صنفاً من الطعام بعد أن يتناول أو يرى وجبة مغشوشة منه. إن الوطنية المغشوشة في مضمونها وشكلها ومنطقها التي استخدمها النظام وقدمها إلى السوريين كإيديولوجيا مشتقة من إيديولوجيته " القومية الاشتراكية " دفعت السوريين بشكل عام إلى كره الوطنية من أساسها حتى في شكلها الحقيقي غير المزيف، وهو الأمر الذي أصبح يمكن لمسه داخل المجتمع السوري نخباً وعامة منذ زمن ما قبل زمن الثورة، فالوطنية المغشوشة الفاسدة المجرمة لا تقوم على نوع من العلاقة الحرة بين افراد المجتمع بل تقوم على نوع من العلاقة القسرية بين الفرد والسلطة، وتحديداً رأس وممثل السلطة وحيث الوطنية هنا تقزم وتضيق لتصبح بمساحة سقف رأس السلطة والنظام، وهنا تتحول الوطنية إلى حبل يشبه الشباق الذي يحيط برقاب النعاج حين يتم حلبها، حبل يشد على اعناق كل افراد المجتمع حيث يتم تحويلهم إلى ما يشبه القطيع الذي تأخذه السلطة إلى حيث تشاء، وهو الأمر الذي يقود في لحظة انقطاع هذا الحبل في لحظة ثورة وتمرد المجتمع على السلطة إلى عودة وهروب المجتمع الذي يعيش في ظل هكذا ظروف إلى هويات قديمة تحتمي بها كالهوية القومية أو الطائفية أو القبلية أو الاثنية، وهو الأمر الذي يفسر تفكك الهوية الوطنية السوفييتية القسرية الستالينية السابقة، وكذلك الهوية الوطنية القسرية في يوغسلافيا سابقاً، باتجاه الهويات القومية القديمة، كما يفسر تفتت الوطنيات القطرية القسرية الفاسدة المجرمة المغشوشة نحو الهويات الطائفية أو القبلية في كثير من المجتمعات العربية التي وقعت بقبضة نظم الاستبداد المعمم. لقد بلغت ردت الفعل في الحالة السورية على وطنية النظام المغشوشة الحد الذي وصل صداه إلى الأدب السياسي السوري المعارض حيث أصبحنا نقرأ ونسمع الكثير من النخب تدعو صراحة إلى حذف مفهوم الوطنية والمهام الوطنية من قاموسنا السياسي إلى حد اعتبار الحديث عن الوطنية السورية مسألة من الماضي البعيد الذي لا ينبغي العودة إليه كونه حسب اعتقادهم كان سبباً في البلاء الذي نعيشه، وهنا أقول : صحيح أن الوطنية المغشوشة كانت سبب كل البلاء الذي نعيشه منذ عقود إلا أن البلاء تفاقم أكثر عندما قادت ردة الفعل إلى نسف فكرة الوطنية من أساسها حتى في مضمونها وشكلها الصحيح الذي تم اختباره في فترة السلطة الوطنية التي حكمت المجتمع السوري بعد الاستقلال، حيث مضمونها يقوم على الوطنية الديمقراطية وحيث لا وطنية من دون ديمقراطية. فمع نسف فكرة الوطنية من أساسها نشأ تيار وظاهرة الديمقراطية المغشوشة " الهبل الديمقراطي " ، فإذا كانت الوطنية المغشوشة قد قامت على فكرة التضاد بين " الوطني " والديمقراطي وبما يعني إحلال " الوطني " وإعدام الديمقراطي فإن الديمقراطية المغشوشة تقوم على نفس الفكرة ولكن بعد قلب طرفيها وبما يعني القول بضرورة إحلال الديمقراطي وإعدام الوطني أي وضع حالة من التضاد بين ما هو وطني وما هو ديمقراطي، وقد وصل الأمر عند أصحاب ومؤسسي الهبل الديمقراطي حداً جعلهم في حالة يتحسسون مسدساتهم عندما يسمعون بكل ما هو وطني أو طبقي. لقد كانت حجتهم في هذا التحسس قائماً على اعتبار أن مركزية القضية الديمقراطية ومفتاحيتها تبيح لهم لا تأجيل أي شأن وطني أو طبقي بل غض الطرف عن أي فعل غير وطني يقومون به إلى ما بعد تحقيق ما هو مفتاحي، متناسين قاعدة ومقولة تقول بأنه لا يمكن لقوة سياسية أو مجموعة قوى أن تبيع وطنها اليوم وتكون وطنية في الغد. لقد بان ذلك في الحالة العراقية عندما استخدمت المعارضة العراقية التي واجهت نظام صدام حسين الاستبدادي حجة مفتاحية القضية الديمقراطية فكانت مبررات المعارضة العراقية بيعها الوطن العراقي لكل قاطع طريق إقليمي – إيران تحديداً – ودولي – تحديداً أمريكا – بحجة ثقل كاهل الاستبداد واستحالة إزاحته من دون التخلي أو غض الطرف عن ما هو وطني، وهو الأمر الذي أنتج في الحالة العراقية هذا النظام اللصوصي العميل المجرم الذي حل مكان نظام صدام حسين الكريه، وهو السبب الذي جعل الساحة العراقية تخلو الآن ومنذ سنوات من أي تعبير سياسي يشكل ضمير المجتمع العراقي الثائر الباحث عن كرامته الوطنية المهدورة وعن لقمة عيشه المنهوبة، وهو السبب الذي حدا بالمتظاهرين الثائرين منذ بداية تشرين الأول 2019 ضد هذا النظام اللصوصي إلى القيام بحرق مقرات كل الأحزاب السياسية العراقية من دون استثناء بما فيها مقر الحزب الشيوعي العراقي في مدينة الناصرية جنوب العراق كون كل هذه الأحزاب لعبت يوماً دور القواد لقوى الخارج – إيران وأمريكا - على الوطن العراقي. كما بان ذلك في الحالة السورية عندما استخدمت المعارضة نفس منطق نظيرتها العراقية، في الحالة السورية حلت تركيا الأردوغانية مكان إيران الملالي والإسلام السياسي السني بدل الشيعي مع تثبيت الدور الأمريكي، وهو الأمر الذي أنتج معارضة فاسدة مرتزقة مالياً وسياسياً باعت ما فوقها وما تحتها بكمشة وعود من قوى الخارج وحفنة من الدولارات، وأصبحت تمثل الوجه الأخر للنظام الذي باع بدوره الوطن والمجتمع بالجملة والمفرق كي يبقى على كرسي السلطة والحكم إلى الأبد. وهنا أقول : لقد أقفلوا عقولهم من جرفهم تيار الهبل الديمقراطي عند فكرة الديمقراطية مع غض الطرف عن نوع الحامل التاريخي للديمقراطية ونوع ثقافته حيث جعلوا منها إيديولوجيا صالحة لكل شيء حتى في علاج القمل والجرب. حيث سنجد في هذا المقال أن الديمقراطية المغشوشة التي ظهرت على شكل هبل ديمقراطي قد بنت مداميكها وعمارتها على أخطر ظاهرتين سياسيتين ظهرتا في النصف الثاني من القرن العشرين وبلغتا قمة التمادي في الربع الأخير منه، وهما.
أولاً: ظاهرة الأمركة وتبني مرجعية الثقافة السياسية الأمريكية، ولا سيما بعد سقوط المرجعية الثقافية والفكرية للنخب اليسارية، وكي لا يشط الخيال بنا في تفسير معنى الأمركة، أقول أنها ببساطة شديدة هي ما قاله الرئيس المصري السابق أنور السادات ومن بعده رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات ومن ثم المعارضة العراقية لنظام صدام حسين ومعها المعارضة والسورية للنظام الأسدي ولو بطريقة مختلفة وملتوية من أن 99% من أوراق حل قضايا المنطقة هو بيد أمريكا، إن كان حل قضية الصراع العربي الإسرائيلي ( السادات )، أو حل قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ( ياسر عرفات )، والأمر ذاته فيما يتعلق بحل قضية المسألة الديمقراطية في المنطقة ( المعارضة العراقية ومن بعدها السورية )، طبعاً في مقابل هذه الثقافة كان هناك - وما يزال ولو بشكل مضحك وهزلي - ثقافة أشد خطراً وفتكاً، ألا وهي ثقافة الممانعة والتصدي للمشاريع الإمبريالية المستمدة من المدرسة السوفييتية الستالينية، وهي الثقافة التي أنتجت ما أطلقت عليه في مقال سابق بالهبل " الثوري " الذي اتصف به اليسار العبودي المخاطي اللزج.
وثانياً: ظاهرة الأسلمة وتبني الثقافة السياسية للصحوة الإسلامية التي عرفتها شعوب المنطقة في العقود الماضية، وأعني هنا التحالف الذيلي مع الإسلام السياسي باعتباره أحد أهم روافع وحوامل البرنامج الديمقراطي. بالعودة إلى لغمي إعلان دمشق أقول: كما توضع الألغام العسكرية المضادة للأوزان الخفيفة أو الثقيلة، مخفية تحت الأرض، ومغطاة بعناية بالتربة العادية الطبيعية والأعشاب الجميلة أحياناً، بنفس الطريقة وضع في صلب إعلان دمشق 16 / 10 / 2005 لقوى التغيير الوطني الديمقراطي المعارضة في سوريا، لغمان مخفيان من العيار الثقيل، حيث نجد أن البعض ممن وقعوا وشاركوا في وضع هذين اللغمين وناما عليهما، وهم قلة قليلة، كما نجد البعض ممن تحسسوا هذين اللغمين في حينه ولكنهم وقعوا على هذا الإعلان على مضض ربما رغبة منهم في مسايرة التيار الجارف حينها، وربما جبناً وخوفاً من الوقوف في المواجهة، وربما ناتجاً عن خوفهم من أن يخرجوا من مولد أمريكي كان مرتقباً في سوريا في تلك اللحظة فعملوا وفق مبدأ المثل المصري " أن لا يطلعوا من المولد من دون حمص "، كما نجد البعض ممن وقعوا، وهم كثر، أولئك الذين أحلوا نواياهم الطيبة، حيث أعمت أبصارهم الزركشة التي غطت اللغمين، الأمر الذي جعلهم لا يرون ما هو مخفي ومستور، كما تحسسهما آخرون ما دفعهم على عدم التوقيع على الإعلان، وهناك من لم يتحسسهما حتى الآن بالرغم من وصول شظايا انفجارهما إلى وجهه. لقد لعب هذان اللغمان الدور الحاسم في تشقق صفوف المعارضة قبل الثورة وفي زمنها وسياقها، وحيث أن هذان اللغمان انفجرا في وجه الثورة السورية، وكانا سبب كل التشوهات التي نجدها الآن إن كان في وجه الثورة أو في تغيير مسارها إلى عكس الجهة المرجوة، فما هما هذان اللغمان اللذان استبطنا مخفيان في أحشاء الاعلان المذكور؟؟؟ وما هي القرائن التي تجعلنا نهتدي إليهما ؟؟؟
قبل الكشف عن الطريقة والقرائن الدالة عليهما، أقول : إن هذين اللغمين كانا لغم الأمركة الذي وضع بشكل سطحي وشبه مكشوف ولغم الأسلمة الذي وضع عميقاً ومخفياً في باطن الإعلان، فما هي القرائن ؟؟؟
يمكننا أن نجد قرينة الأمركة في النص والسياق الذي كتب فيه الإعلان، أما قرينة النص فهي تقول بشكل واضح في العبارة التالية في النص " ...ويرى الموقعون على هذا الإعلان أن عملية التغيير قد بدأت بما هي فعل ضرورة لا تقبل التأجيل نظراً لحاجة البلاد إليها ، وهي ليست موجهة ضد أحد ، بل تتطلب جهود الجميع ......" أما عن قول الموقعين أن عملية التغيير قد بدأت وهم في تاريخ 16 / 10 / 2005 إذا ما أزحنا التربة التي وضعت فوق عبارة " أن عملية التغيير قد بدأت " من خلال القول بما هي فعل ضرورة وهو كلام نظري على شاكلة الحتمية التاريخية ، فكلنا يعلم بأن لا تغيير حصل في سوريا في ذلك التاريخ وبما يعني أن فعل الضرورة لم يكن قد بدأ تحققه العياني في ذلك التاريخ !!! إذاً ما المقصود بالتغيير المشار إليه الذي بدأ ؟؟؟ هنا علينا العودة إلى قرائن السياق التي تفسر التغيير المقصود، أما قرينة السياق فنجد أن أكثر من أجاد في رصد هذا السياق بشكل مكتوب ومتسلسل كان الباحث السوري محمد سيد رصاص في مقاله في مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي- مينا - بتاريخ 30 / 11 / 2018 ونجد أنها تبدأ بخطاب لورانس العرب الجديد أقصد جورج بوش الابن. يقول في هذا المقال " بعد أشهر من الغزو الأمريكي للعراق ألقى الرئيس بوش يوم 6 تشرين الثاني/ نوفمبر خطاباً أعلن فيه " استراتيجية تسعى لنشر الديمقراطية، معتبراً أن إقامة عراق حر في قلب الشرق الأوسط سيكون حدثاً مفصلياً في الثورة الديمقراطية العالمية، وأن الديمقراطية العراقية سوف تنجح، وهذا النجاح سوف ينشر الأخبار من دمشق إلى طهران أن الحرية يمكن أن تكون مستقبل كل دولة، ثم يضيف الرئيس الأمريكي إشارة دالة على مدى كون دمشق هي التالية في جدول الأعمال الأمريكي، من خلال توحيده لنظامي البعث في بغداد ودمشق الطغاة في العراق وسوريا وعدوا باستعادة الكرامة الوطنية والعودة إلى أمجاد الماضي، ولكنهم خلفوا وراءهم تركة من التعذيب والبؤس والخراب " ..." قبيل أربعين يوماً من بدء غزو العراق رسم وزير الخارجية الأمريكي كولن باول “خريطة طريق” الغازي الجديد للمنطقة: النجاح في العراق قد يعيد ترتيب هذه المنطقة جذرياً بطريقة إيجابية تخدم أكثر المصالح الأمريكية "..." بالتوازي، فمن الممكن القول بأن الموضوع الرئيس الذي شغل أوساط المعارضة السورية في صيف 2003، كان (الموضوع الأمريكي) وليس (موضوع النظام) كما كان في السابق. افتتح الدكتور برهان غليون النقاش المكتوب مبكراً في يوم 26 أيار/ مايو 2003: " الوضع الهش والقلق للمعارضة التي لا تستند لا إلى وظيفة بنيوية في النظام ولا إلى قاعدة اجتماعية ثابتة هو الذي يفسر ضعف المعارضة، ويفسر المأزق الذي تجد نفسها فيه وتناقض اختياراتها أو الإحراجات التي تجد نفسها حبيستها في الاختيار بين الاستبداد والاستعمار، فهي إما أن تقبل بأن تظل هامشية ومهمشة لا وزن ولا مكان ولا قيمة لها أو أن تتعامل مع قوى أصلية وفاعلة أو ماسكة داخلية أو خارجية "، مع الإشارة إلى أن الدكتور غليون، في تلخيصه الدقيق لوضع كثيرين من المعارضين السوريين الذين كانوا يراهنون على “التيار الإصلاحي في العهد الجديد للرئيس بشار الأسد” في مرحلة 2000- 2002 ثم انتقل كثيرون منهم للمراهنة على (العامل الأمريكي)، يحاول في هذا المقال حشر المعارضين السوريين بين خياري (الاستبداد) و(الاستعمار)، من دون القبول بوجود خيار ثالث، وبالتأكيد فإن هذا لا ينبع عنده من “العلمية الصارمة” وإنما من غايات سياسية كان يضمرها آنذاك، قبل أن يصدر حكماً قاطعاً في 2 تشرين أول/ أكتوبر 2003، وفي موقع “أخبار الشرق” أيضاً، بأن" النظام السوري، مثله مثل جميع الأنظمة الشمولية التي عرفتها الكرة الأرضية خلال القرن العشرين، قد فقد جميع شروط بقائه التاريخية وفي مقدمها متغيرات الاستقطاب الدولي، وهو اليوم في طريق مسدود دائماً "، وقد كان غليون في تلك المرحلة يمارس نفوذاً متعاظماً على رياض الترك الذي قال قبيل أيام، من جولة خارجية في القارتين الأوروبية والأمريكية استغرقت شهرين، بأنه عبر احتلال الولايات المتحدة للعراق “ أزاحوا نظاماً كريهاً ونقل الأمريكيون المجتمع العراقي من الناقص إلى الصفر ”، وقد عاد الترك من تلك الرحلة ليقول “ بأن هناك رياحاً غربية ستهب على دمشق وعلينا أن نلاقيها ببرنامج سياسي مناسب ” (في حديث شفوي مع كاتب هذه السطور- وما زلنا هنا مع الباحث محمد سيد رصاص -، حمص، 7 كانون الأول/ ديسمبر 2003، وقد كان واضحاً، عبر التفاصيل المروية عن الرحلة، مدى تأثر الترك بالدكتور غليون، الذي كان الوسيط والمدخل إلى الدوائر الفرنسية المتعددة).
خلال أيام من عودة الترك لاحظ كثيرون مدى الانقلاب الكبير الحاصل عنده بالقياس إلى ما كان عليه عندما غادر مطار دمشق قبل شهرين، ولو أن تلك “ الكلمة القنبلة ” التي أطلقها قبل مغادرته بأيام حول (الصفر الاستعماري) كانت تشي بتحولات كبيرة عنده، إلا أن كثيرين لم يتوقعوا أن تقود آراؤه حول (الأمريكيين) و(العراق) إلى تحولات أيديولوجية عنده، الأمر الذي حصل في نهاية شهر كانون الأول/ ديسمبر 2003 عندما وافق على “ مشروع موضوعات ” للمؤتمر المقبل للحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) كانت تقول بتغيير اسم الحزب وبالتخلي عن الماركسية، وهما أمران كان الأستاذ الترك يرفضهما في الصيف السابق..." إذ بدأت تأثيرات تلك المجابهة في الانعكاس على بعض أوساط المعارضة السورية التي شرع بعض كتابها في طرح تفوح منه رائحة التدويل لقضية المعارضات العربية، مثل الدكتور برهان غليون في مقال بعنوان: “ أي منهج لمواجهة أزمة الشرق الأوسط؟ ”، في يوم 5 كانون الأول/ ديسمبر 2004، يقول: " ليس من الممكن في العالم العربي فصل العوامل الداخلية وسياسات النخب المحلية عن استراتيجيات الدول الكبرى، وليس هناك أي أمل في التغيير في هذه المنطقة من دون التقاء مصالح القوى الخارجية المهيمنة على النظم والنخب الحاكمة المحلية ومصالح الجمهور الواسع الذي يحتاج إلى التغيير ويتطلع إليه بفارغ الصبر"... في هذه “الأجواء التغييرية” بدأت قصة “إعلان دمشق”... وقد كتبت في خمسة أشهر ثلاث مسودات، وجرت مناقشة واسعة للموضوع قبل نضجه في لقاءات لندن في تموز/ يوليو 2005 التي جمعت رياض الترك والمراقب العام لـ(جماعة الإخوان المسلمين) علي صدر الدين البيانوني... الذي أعلنت وثيقته التأسيسية في يوم الأحد 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2005...." ( المصدر السابق ) وقد جاءت عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في 14 شباط 2005 وما أعقبها من عملية ضغط دولي على النظام السوري ‘ن كان لجهة توجيه التهمة إليه في عملية الاغتيال أو لجهة إجباره على سحب جيشه من لبنان ورفع الوصاية السورية عن الساحة اللبنانية ولهذا كان طبيعياً أن يأتي الإعلان في توقيته " قبل خمسة أيام من تقرير " ميليس " القاضي المكلف في التحقيق بجريمة اغتيال رفيق الحريري الذي توقع كثيرون أنه سيحدث تأثيرات زلزالية في دمشق) " ( المصدر السابق ) واضح من السطور السابقة أن عبارة " أن عملية التغيير قد بدأت " التي جاءت في الإعلان كان المقصود بها عملية التغيير التي بدأت خارج سوريا مع إعادة ترتيب المنطقة من جديد وفق المنظور الأمريكي والمصالح الأمريكية كما عبر عن ذلك بداية وزير الخارجية الأمريكي كولن باول قبل أربعين يوماً من الغزو الأمريكي للعراق ثم كونداليزا رايس فيما بعد عندما بشرت بالشرق الأوسط الجديد، وواضح أن بعض الموقعين كانوا يريدون الركوب في القطار الأمريكي على أمل أن يمر القطار الديمقراطي الأمريكي من سوريا وهو الأمر الذي عبر عنه بشكل واضح السيد رياض الترك في رؤيته للرياح الجديدة التي تهب على دمشق ورغبته في ملاقاتها ،"... وهو -أي هذا النهج الذي سيطر على زمام المعارضة السورية منذ عام 2004- ما بان بوضوح في يوم 23 كانون الأول/ ديسمبر 2007 تصريح لـ ” وكالة قدس برس” لما أعلن رياض الترك شكره لـ” الرئيس جورج بوش على تضامنه مع شعبنا وأدعو أن يكون جوهر تدخله مساعدة الحركات الديمقراطية لتصبح قوة داخلية للتغيير الديمقراطي” (منشور في24 كانون الأول/ ديسمبر 2007 في موقع “إعلان دمشق... " (المصدر السابق ). كما يتضح جلياً في ما قاله الدكتور برهان غليون في مقاله المشار إليه أعلاه بعنوان، أي منهج لمواجهة أزمة الشرق الأوسط؟”، في يوم 5 كانون الأول/ ديسمبر 2004 . وكي لا يعتقد أحد أن السياق الذي أشير إليه ينتمي إلى الفقه السياسي الخاص بكاتب هذه السطور في تفسير ما جاء في إعلان دمشق يكفي هنا الإشارة إلى شهادة الدكتور برهان غليون في كتابه " عطب الذات ...سورية ...ثورة لم تكتمل " التي تؤكد هذا السياق وتفسر أن ما تم كشفه من لغم الأمركة في الإعلان كان صحيحاً . يقول الدكتور غليون بعد مضي حوالي العقدين من مرور هذا السياق " تحت ضغوط متقاطعة مني، ومن مثقفين وناشطين كثر، وفي مناخ بدا فيه النظام السوري في أزمة علاقات دولية وداخلية مستعصية، بعد إعلان الرئيس بوش الابن عن مشروع تصدير الديمقراطية للشرق الأوسط، في سياق شرعنة الحرب على العراق عام 2003، استجاب الطرفان المعارضان لضغوطنا وقبلا بالعمل من أجل تشكيل تجمع واحد موسع، أطلق عليه اسم تجمع ( إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي ) بما في ذلك الإخوان المسلمين ". في الواقع يمكن القول بأنه مع وصول الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن إلى سدة الإدارة الأمريكية ظهر في العالم العربي ما يمكن تسميته بلورانس العرب الجديد لبعض الحكام والمعارضات العربية، فخديعة لورانس الجديد لم تطل عقول بعض النظم العربية ولا سيما الخليجية فحسب - هنا يكفي الإشارة كيف أن الأمريكان أعطوا إشارة لنظام صدام حسين باحتلال الكويت ثم كيف انقلبوا عليه وأقنعوا نظم الخليج بضرورة التخلص منه، وحيث كانت النتيجة النهائية لجهودهم أن تم تسليم العراق لإيران ووكلائها العراقيين على طبق من فضة مع زيادة في كشف ظهورهم للغول الإيراني، مع مزيد من ارتهانهم وحاجتهم للحماية الأمريكية اللصيقة والمباشرة – بل طالت الخديعة عقول بعض المعارضات العربية، وما أود الإشارة إليه في هذا المقال هو خديعة لورانس العرب الجديد عقول بعض المعارضات العربية ولا سيما العراقية والسورية واللبنانية، حيث كانت حينها ولا تزال مهمة تشكيل الشرق الأوسط الجديد من خلال الفوضى الخلاقة التي نراها في أنصع صورها الآن أمام عيوننا مطروحة على جدول أعمال الإدارات الأمريكية المتعاقبة للتنفيذ منذ ذلك الحين، وإذا لم يكن مفاجئاً أن تقع نظم الخليج بفخ خديعة لورانس العرب الجديد فإن المفاجأة كانت في وقوع النخب المعارضة السورية وغيرها ولا سيما ذات الأصول اليسارية بهذا الفخ، وإذا كان سقوط مرجعيتهم التاريخية في موسكو وما تبعه من تغيرات في بنية وعقل وثقافة هذه النخب كما أشرت إليه في مقالاتي السابقة هو ما يفسر سهولة وقوعها إلا أن ذلك لا يبرر هذا الوقوع. أن لورانس الجديد سيقوم بخديعة القوى السياسية الساعية للتخلص من الاستبداد بوعدها بالمساعدة بالانتقال إلى الديمقراطية، فكما قام لورانس العرب القديم بخديعة الشريف حسين واعداً إياه بالمساعدة بالاستقلال عندما ثار مطالباً بالاستقلال عام 1916 معلناً الثورة العربية الكبرى على المحتلين العثمانيين ليفاجئ الجميع بأنه في نفس اللحظة كان يتم إعداد وتوقيع اتفاقية " سايكس بيكو " التي تم التصديق عليها من قبل الحكومات التي توافقت عليها بين 9 و 16 مايو 1916، ولهذا فإن الجيش الذي قاده الشريف حسين وأولاده وبعد أن قطع 1000 ميل من مكة ليصل إلى دمشق بتاريخ 30 أيلول 1918 بعد أن حررها من العثمانيين، كان عليه أن يخرج من دمشق بالقوة لتحل مكانه القوات الفرنسية بتاريخ 24 يوليو 1920 بقيادة الجنرال غورو حيث تم احتلال دمشق وبيروت والقدس وبغداد من قبل كل من فرنسا وبريطانيا وفي جعبتها وعد بلفور الجاهز للتطبيق وقسمة سايكس بيكو والانتداب والاحتلال الغربي بديلاً عن الاحتلال العثماني. سيكرر التاريخ ذاته بعد حوالي القرن من الزمن بشكل مهزلة كعادة التاريخ عندما يكرر ذاته مع عدة فوارق.
الفارق الأول : هو عدم درايتنا أن كان هناك غلام عربي استخدمه لورانس الجديد كموضوع لرغبته الجنسية كما فعل سابقا لورانس القديم مع غلامه سليم أحمد.
الفارق الثاني : إن ملف ووثائق لورانس القديم لن يرفع عنه الغطاء الكامل إلا بحلول عام 2020 في الذكرى 85 لوفاته حيث سنتمكن من معرفة ملابسات وفاته وربما بعص أسراره السياسية المخبأة، في حين إن وثائق وحقائق لورانس العرب الجديد فقد كشف عنها لا أفعاله وأقواله المعروفة بفعل حداثة الوصول للمعلومة في هذا العصر فحسب بل أفعال نسختين محدثتين عنه هما نسخة باراك أوباما والنسخة الفضائحية الترامبية وهما النسختان اللتان كشفتا الغطاء عن كل سياسات الولايات المتحدة اتجاه المنطقة منذ بوش الابن حتى الآن.
الفارق الثالث : كما استغل لورانس القديم حاجة العرب للاستقلال عن العثمانيين والتحرر من نيرهم الاستعماري سيتكرر المشهد بعد قرن مع لورانس الجديد الذي استغل هذه المرة حاجة الشعوب وثقة المعارضات للتحرر من نير نظم مستبدة مجرمة حيث ستكون النتيجة كما في المرة الأولى القديمة وقوع سوريا والعراق وغيرها من مجتمعات المنطقة تحت نير مصفوفة من الاحتلالات الخارجية، مضافاً إليها هذه المرة أذرعها الدينية الطائفية الانكشارية الحامية لهذه الاحتلالات.
الفارق الرابع: لم يكن الشريف حسين قائد الثورة العربية الكبرى يدعي بأنه يمتلك وعياً بالتحولات الكبرى في التاريخ ولم تكن شروط تلك المرحلة تتيح له الاطلاع على وعي الفاعلين والمتحكمين وصناع السيرورات الكبرى في التاريخ وذلك بعكس فطاحل المعارضة السورية الذين لطالما تبجحوا كونهم من صناع وعي التاريخ والتحولات الكبرى في التاريخ وأنهم جزء من هذه السيرورات التاريخية.
الفارق الخامس : إن لورانس القديم غامر بحياته في أكثر من محطة وهو في طريقه لتمرير خديعته إلا أن لورانس الجديد فأقصى المخاطر التي تعرض لها كانت تعرضه لضربة حذاء رماها صحفي عراقي بوجهه وكادت أن تشوه واجهته لو أصابته.
الفارق السادس : إن الخديعة السياسية الجديدة التي وقعت بها بعض النخب العربية ولا سيما منها العراقية والسورية وكونها أتت في سياق تغيرات تاريخية في بنية فكرها السياسي والثقافي فقد تساوق مع هذا التغيير انزياح خطير مطابق في بناها الأخلاقية لا من خلال اعتبارها الخيانة وجهة نظر ينبغي علينا قبولها بل من خلال الانغماس في عالم الارتزاق المالي من القوى الدولية والإقليمية صاحبة المصلحة في اختراق مجتمعاتنا العربية، ولا داعي أن أشغل مساحة هذا المقال للإشارة إلى مئات الملايين من الدولارات التي ضخها لورانس العرب الجديد وقبله الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى النخب العربية التي أقلعت غالبيتها عن العمل السياسي في صفوف الأحزاب السياسية نتيجة الضريبة الباهظة للعمل السياسي الحزبي في ظل نظم الاستبداد المجرمة وحيث وجد البعض بديلاً عن ذلك من خلال منظمات حقوق الإنسان المحمية نسبياً ومراكز الدراسات التي ولدت كالفطر في المنطقة إلى الحد الذي جعل مفهوم المجتمع المدني عند هذه النخب يضيق في المساحة والمحتوى إلى حد تقزيمه وتفريغه من أي محتوى نافع وجدي ليصبح مطابقاً ومقتصراً على منظمات حقوق الإنسان وحيث كانت هذه المنظمات الأوعية التي تم من خلالها اختراق جسم النخب السياسية المعارضة وبنفس الوقت أداة لتفتيت بناها السياسية الحزبية، وإذا كانت مؤشرات الارتزاق المالي والانهيار والانحطاط الأخلاقي تدلل عليها فضائح النخب السورية المعارضة في زمن الثورة وبشكل فاضح، إلا أنه ينبغي علينا معرفة أن هذا الارتزاق والانحطاط كان قد بدأ منذ زمن ما قبل الثورة والفرق بين الزمنين هو في الكمية ومساحة الانتشار، يكفي هنا أن نأخذ شهادة عن ذلك إلى ما كان سائداً داخل النخب المعارضة العراقية مع انتظار شهادة أحد " فرسان " المعارضة السورية كي يقدم لنا شهادة مماثلة لها صفة العموم بعيداً عن الشخصنة يقول سعدي يوسف: " عندما بدأت الإدارة الأمريكية في الإعداد الجدي لاحتلال العراق، بعد 1991، عمدت أول ما عمدت إلى شراء المثقفين اليساريين بخاصة، ولم تجد الإدارة أي صعوبة هنا بسبب ما ذكرته من هشاشة، بل إن عملية الشراء لم تكلفها كثيراً من المال: مئة وخمسون دولاراً فقط في الشهر للمثقف الواحد وهناك قصص تروى عن إضرابات تطالب بهذا المبلغ التافه إذا تأخر سداده " ( المصدر السابق مقال الباحث محمد سير رصاص ).
في الواقع علينا الاعتراف أن الاتجاه نحو الأمركة وثقافتها السياسية لم تكن ناتجة عن خديعة لورانس العرب الأمريكي الجديد فحسب بل كانت كما أسلفت وقلت في أكثر من مكان في مقالاتي السابقة نتاج تغيرات ثقافية وسياسية في بنية عقل وثقافة النخب السورية المعارضة حيث وصل تعلق هذه النخب بالسيد الأمريكي إلى حد الوله. فبالرغم من الإشارات التي أرسلها أكثر من مسؤول أمريكي للنخب السورية بأنه لا نية للإدارة الأمريكية بإسقاط النظام إلا أن النخب السورية ولشدة ولهها وتعلقها بسيدها كانت عاجزة عن فهم تلك الإشارات "... في كل حال، كانت هناك إشارة أمريكية رسمية معاكسة أطلقت في بيروت قبل ثلاثة أيام من قيام “إعلان دمشق”: قالت (جولييت وور)، مديرة الشؤون العامة في السفارة الأمريكية في بيروت الكلمات الآتية، في أول رسم أمريكي رسمي لسياسة واشنطن تجاه “تغيير السلوك” بدلاً من “تغيير النظام” وهو ما أوضحَته كوندوليزا رايس في شباط/ فبراير 2006: “الولايات المتحدة لا تسعى إلى تغيير النظام في سوريا، بل إلى تغيير تصرفاته” (جريدة “السفير” عدد الجمعة 14 تشرين الأول/ أكتوبر 2005)، محددة تلك التصرفات في ثلاثة أمكنة على التوالي: العراق، فلسطين (علاقاته مع ”حماس” و ”الجهاد”) ولبنان.." "... مع هذا كله، لم يحصل في دمشق عند الذين راهنوا على المشروع الأمريكي أي مراجعة بعد انتهاء المد الهجومي لواشنطن في المنطقة، على الرغم من تقديم أحد المحافظين الجدد الأمريكيين في نهاية عام 2006 للتوضيحات الآتية حول ما رآه في أهداف السياسة الأمريكية تجاه المعارضة السورية: “بدت سوريا هي التالية في أجندات الإدارة لإصلاح الشرق الأوسط الكبير، على الرغم من أنه بات واضحاً أن الأمر كله كان جهداً من قبل واشنطن لإيقاع المعارضة السورية في شرك لم يكن يهدف إلى أكثر من الضغط على الحكومة السورية لكي تتصرف وفق ما كانت الولايات المتحدة تريده”، وفقاً لكلام جوشوا لانديس في مجلة “تايم” العدد 19 كانون الأول/ ديسمبر 2006 (النسخة الإلكترونية ...."( المصدر السابق ) .
لم تكن المشكلة داخل المعارضة السورية في أنها بنت استراتيجيتها في مواجهة النظام على وهم دعم الدبابة الأمريكية فحسب بل المشكلة في تداعيات ذلك على وحدة صفوف المعارضة، وهو الأمر الذي تجلى بشكل واضح في شق صفوف المعارضة قبل الثورة بدءاً من عام 2007 فمنذ ذلك الزمن تشكلت نواتي ما سيعرف مستقبلاً بمعارضة هيئة التنسيق ومعارضة المجلس الوطني وهما الجسمان السياسيان اللذان برزا إلى الوجود بشكل واضح في زمن الثورة، فقد "... بان استمرار الأستاذ الترك ومن معه في “إعلان دمشق” على مواقفه السابقة خلال مجرى عام 2007 حين رفض خلال أربعة أشهر من التحضير لـ ”المجلس الوطني لإعلان دمشق” (الذي انعقد في1 كانون الأول/ ديسمبر 2007) إيراد إشارة بالعتب، لا نقول التنديد بجرائم المحتل الأمريكي والصهيوني، على الرغم من توسل بعض الموقعين على الإعلان (“الاتحاد الاشتراكي” و ”حزب العمل الشيوعي”) من دون طائل، ما أحرجهم أخيراً فأخرجهم منه زرافات ووحداناً في انتخابات قيادة ذلك المجلس، وذلك بعد أن طالبوا خلال التحضيرات بتضمين مشروع وثيقة المجلس موقفاً مضاداً من “المشروع الأمريكي للمنطقة”، وهو -أي هذا النهج الذي سيطر على زمام المعارضة السورية منذ عام 2004- ما بان بوضوح في يوم 23 كانون الأول/ ديسمبر 2007 (تصريح لـ ”وكالة قدس برس”) لما أعلن رياض الترك شكره لـ ”الرئيس جورج بوش على تضامنه مع شعبنا وأدعو أن يكون جوهر تدخله مساعدة الحركات الديمقراطية لتصبح قوة داخلية للتغيير الديمقراطي” (منشور في24 كانون الأول/ ديسمبر 2007 في موقع “إعلان دمشق...”) المصدر السابق ) . إن الإصرار على عدم إدانة المشروع الأمريكي في المنطقة والذي بدأت فصوله بالتكشف بدءاً من 2003 تاريخ سقوط بغداد بيد الغزو الأمريكي يدل أن الأمركة في عقل وثقافة بعض النخب السورية المعارضة لم تكن قائمة على أساس تكتيك ما يسمى بتقاطع المصالح وهو تكتيك مشروع في بعض اللحظات ولا سيما في شروط وقوع بعض الشعوب العربية تحت قبضة نوع استثنائي من نظم الاستبداد المجرمة، وحيث ترجمته على أرض الواقع تكون من خلال توظيف الضغوط الخارجية على نظام معين لضرورات وحاجات مشروع التغيير الديمقراطي وإسقاط هذا النظام، بل يدل أن المسألة تتجاوز وتتعدى ذلك وتصل إلى حد الانخراط أو الرغبة في الانخراط في المشروع الأمريكي الجديد المعد للمنطقة وبما يعني استعداد هذه النخب لتكون إحدى حوامله السياسية والحزبية وبما يعني إخضاع ضرورات التغيير الديمقراطي لحاجات التوظيف الخارجي الدولي والإقليمي - كما فعلت القوى السياسية العراقية بدءاً من آل الحكيم وحزب الدعوة وصولاً للحزب الشيوعي العراقي الذين أتوا إلى السلطة على ظهر الدبابة الأمريكية وانتقلوا في استراتيجيتهم من تكتيك تقاطع المصالح المشروع مع الأمريكان من أجل إسقاط نظام صدام حسين البغيض إلى استراتيجية الانخراط في المشروع الأمريكي في العراق والذي أعاد العراق إلى مرحلة ما قبل الدولة والوطن من خلال تحويل العراق إلى مزرعة للطوائف وللأحزاب الطائفية وما تبعه من دخول الغول الإيراني إلى الساحة العراقية الذي أكل الأخضر واليابس فيها وهو ما يعبر عنه ثوار العراق هذه الأيام بلهجتهم العراقية بالقول " ماكو وطن " -، يكفي هنا للتدليل على مدى تمادي القوى العراقية التي أتت على ظهر الدبابة الأمريكية في انخراطها مع المشروع الأمريكي في العراق الإشارة إلى أن حميد مجيد موسى سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي لم يمانع أن يكون في مجلس الحكم الانتقالي الذي شكله الحاكم الأمريكي للعراق بول بريمر في 12 يوليو 2003 بوصفه ممثلاً عن الشيعة في العراق بدلاً أن يكون ممثلاً للحزب الشيوعي العراقي، فالنخب السورية المعارضة التي أصيبت بداء الأمركة لم تر في المشروع الأمريكي سوى كونه قادماً إلى المنطقة وهو يحمل رسالة سامية تقوم على نشر الديمقراطية في عموم المنطقة كما بشر بذلك جورج بوش الابن، ولهذا كان اندفاع هذه النخب لاستجلاب ومساعدة هذا المشروع مع الإصرار على عدم الإشارة إلى أي من المخاطر التي يحملها في طياته، ولهذا غيرت هذه النخب ثوبها الإيديولوجي والثقافي، ولهذا كان التبشير والتهليل له من خلال ما تم تكثيفه في نظرية الصفر الاستعماري، ولهذا وهو الأهم كان سهلاً على هؤلاء في زمن الثورة أن يقوموا بتسليم القرار الوطني للثورة إلى الخارج الدولي والإقليمي اللذين ترأستهم أمريكا تحت مسمى أصدقاء الشعب والثورة السورية. طبعاً كان كل ذلك قبل أن يكتشف السيد رياض الترك بعد مرور أكثر من عقد من الزمن وبعد مرور حوال السبع سنوات على الثورة والمجزرة السورية والفشل السياسي في قيادة الثورة أن كل هذا الأمل بسيده الأمريكي لم يكن سوى حلم جميل تحول إلى كابوس على أرض الواقع أو لغم انفجر في وجهه ووجه الثورة كما قال في أول حديث له بعد خروجه متسللاً من سوريا في مقابلة مع الصحفي علي الأتاسي المنشورة في صحيفة القدس العربي بتاريخ 2 سبتمبر 2018 ، في سياق تعداده لأسباب الفشل " الخطأ الثالث كان الحلم والتمني لدى بعض القوى السياسية في أن تنال دعماً غربياً في مواجهة النظام وهذا لم يتحقق وكان في النهاية معاكساً لمصالح الثورة " . أخيراً علينا القول أن السيد رياض الترك كان الأشجع بين النخب السياسية السورية المعارضة التي أصيبت بداء الأمركة، لا كونه الشخص الوحيد الذي عبر عن مواقفه في أكثر من مناسبة ومحطة سياسية بشكل مسموع للجميع بشكل مكتوب أو مقروء أو مسموع فحسب بل في كونه اعترف أخيراً بالدور الأمريكي التخريبي اتجاه الثورة وقضية السوريين، في الوقت الذي نجد أكثر من سانشو ممن مشوا في ظل حماره لم يجرؤوا على رفع صوتهم إلا في الغرف المغلقة كما يصرون اليوم وهم في الخفاء على وهمهم الأمريكي ويبررون كل ما قامت به أمريكا إن كان في المنطقة بشكل عام أو اتجاه ثورة السوريين بشكل خاص من خلال القول أن الأمريكان لم يكن باستطاعتهم التدخل الإيجابي في سوريا لصالح الثورة كونهم لم يجدوا في سوريا إلا مجاميع بشرية من الإسلام السياسي والعسكري وجمهور غير قليل من الأكثرية العربية السنية الذين انضموا إلى داعش وأخواتها أو شكلوا حواضن لداعش وأخواتها على قاعدة الأخوة في الله والإسلام على حد زعمهم، الأمر الذي يعني تبرئة اليد الأمريكية من دم يوسف السوري و حيث يأتي على رأس هؤلاء السانشوات مؤسس تيار الليبرالية الجديدة الأمريكية في سوريا .
السياق التاريخي لنشوء وترعرع البربرية في سوريا ( 20 ) lemonde.in 5 of 5
لومـــــوند : نبيل ملحم العشرون: لغما إعلان دمشق 2005 اللذان انفجرا في وجه الثورة : بدءاً من عام 2003 تاريخ الغزو الأمريكي للعراق، ودخول...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك