الشعوب العربية تطرق أبواب التاريخ من جديد

لومــــوند : نبيل ملحم
مع انطلاق ثورة الياسمين في تونس 18 ديسمبر 2010 أطلق العنان لانطلاق الربيع العربي، حيث طرقت الشعوب العربية أبواب التاريخ محاولة دخوله واعتلاء مسرحه من باب الحرية، فقد شكل اقتحام الشعوب العربية في أغلب الساحات العربية للمجال السياسي العام بقوة إرادتها وتصميمها مطالبة بالحرية والديمقراطية دخولاً لمسرح التاريخ بعد أن غابت عنه لعقود وعقود من الزمن بعدما قامت نظم الاستبداد المعمم العربية بكل أشكالها وأنواعها بغلقه بوجه شعوبها، وها هي تعود بعد عقد من الزمن مع انطلاق ثورة الجياع في لبنان بتاريخ 17 أكتوبر 2019 وبعدها في العراق بتاريخ 25 أكتوبر لاقتحام مسرح التاريخ من جديد ولكن هذه المرة من باب الجوع والحرمان والتهميش والإحساس العميق بامتهان كرامتها الوطنية من أكثر من جهة إقليمية ودولية، وحيث يقف نظام الملالي في إيران على رأس النظم التي تمتهن كرامة الشعبين العراقي واللبناني. لقد فشلت الشعوب العربية في وثبتها الأولى نحو الحرية في أغلب الساحات العربية وذلك يعود لعدة أسباب منها عمل تيارات الإسلام السياسي الشيعي والسني على استغلال موجة الربيع في بعض الساحات العربية لصالحها كتيار الإسلام السياسي السني في سوريا ومصر وغيرها من الساحات، أو محاولة الدفاع عن مكتسبات ما حققته تيارات الإسلام السياسي الشيعي في ساحات أخرى في السنوات التي سبقت الربيع العربي كمحاولة حزب الله في لبنان الدفاع عن مكتسباته ورصيده ومشروعه السياسي في المنطقة بشكل عام وفي لبنان بشكل خاص، وعمل إيران وهي القطب الإقليمي الرئيسي في الصراع المذهبي في المنطقة الدفاع عن مكتسباتها الاستراتيجية التي أنجزتها خلال العقود السابقة للربيع العربي, يضاف إلى ذلك عمل الإمبريالية الجديدة التي تمثلها روسيا الاتحادية البوتينية التي تحاول أن تجد لها مكاناً وحصة في التقسيم الدولي للنفوذ والمصالح, وعمل الغرب وأمريكا وإسرائيل على تحويل الربيع العربي إلى شتاء قارس لا تجد فيه الشعوب العربية ناراً تتدفأ بها سوى نار الحروب الأهلية الطائفية , وعمل دول الخليج على قطع الطريق أمام الربيع العربي كي لا يصل إلى بلادهم وساحاتهم وأراضيهم, وعمل بعض الدول الإقليمية ( كتركيا وقطر ) بشكل أساسي على أسلمة الربيع العربي, نقول مع عمل كل هؤلاء, ومع استفحال القمع للشعوب الثائرة من قبل أنظمتها حيث وصلت في سوريا إلى حدود البربرية والوحشية البدائية، ومع حاجة الشعوب لشدة معاناتها للاستجارة بأي منقذ ومخلص, نقول مع كل ذلك تحول الصراع داخل بعض المجتمعات العربية ( كالعراق وسوريا واليمن وليبيا ) شيئاً فشيئاً من صراع بين شعوب تريد الحرية والتحرر من حكامها المستبدين الظالمين إلى صراع داخل النسج الوطنية, بين الشيعة والسنة في الساحات التي تتقابل وتتواجد فيها هذه الطوائف وبين هذه القبيلة أو تلك من القبائل في بعض المجتمعات التي تتقابل فيها القبائل أو بين العلمانيين والإسلاميين في الساحات التي لا تتواجد فيها القبائل والطوائف ( كما في مصر وتونس ), ومع تغذية هذه الصراعات من أكثر من جهة إقليمية ودولية وصلت بعض الشعوب العربية الى حافة انقطاع حاملها التاريخي الذي أدخلها إلى التاريخ البشري يوماً وجعلها تتطور في سياقه. إن الصراع الطائفي في أي مجتمع يقود إلى تفتت وموت الهوية الوطنية للمجتمع وولادة الهويات القاتلة ما قبل الوطنية، فهنا يتم إطلاق صراع الصيرورات الهابطة المدمرة للنسيج الوطني والمدمرة للحوامل التاريخية للمجتمع. فالوطن ليس مجموعة من الأجزاء والكتل البشرية والجغرافية المتساكنة مع بعض أو الموصولة بعضها ببعض بشكل اعتباطي وإنما هو نسيج مركب تاريخي اجتماعي اقتصادي سياسي ثقافي روحي متشابك ومتداخل بخيوط متعددة الألوان والأحجام. وهذا النسيج هو ما نسميه النسيج الوطني والذي يشكل الوطن الحقيقي لمجموعة بشرية تعيش على بقعة جغرافية محددة. فمع تشكل هذا النسيج ومن خلاله يتم صهر كل الخيوط التي تشكل نسيجاً لا يعرف أي شكل من أشكال الانقسامات البدائية الأولية العمودية بل يعرف شكلاً جديداً أرقى من الانقسام هو الانقسام الطبقي السياسي, فمع المجتمع الطبقي وعلاقاته الإنتاجية يولد الإطار التاريخي لوحدة المجتمع والصراع داخل المجتمع، أي نصل إلى المجتمع البشري الناضج الذي يستحق هذه الكلمة بكل ما تعنيه من معنى، فالانقسام هنا بين البشر غير قائم على أساس الدين أو العرق أو المنطقة او العشيرة أو القبيلة ...الخ وإنما قائم على أساس المصالح المادية والحاجات المادية للبشر وحيث الصراع الطبقي من أجل هذه المصالح يصبح محركاً لتطور المجتمع وتقدم التاريخ. فما يلغي وينفي صفة الوطن لمجموعة بشرية تقيم على أرض محددة ليس أن يحكمها حاكماً ونظاماً مستبداً فحسب بل أن يقوم هذا الحاكم بتقسيم وتفتيت المجتمع إلى مجموعة من المزارع الطائفية أو القبلية أو العرقية أو الإثنية أو الكل معاً وحيث الكل هنا قطاعات من مزرعته الكبرى. وعلى هذا الأساس يكون أخطر ما تتعرض له الأوطان ليس أن يدوس ويدنس هذا النسيج احتلال أجنبي ما, وليس أن يقوم هذا الاحتلال بنهب وسرقة الثروات الوطنية للمجتمع, فمهما طال الزمن تستطيع الشعوب طرد المحتل وبطرق متعددة وتستطيع تنظيف نسيجها الوطني من رجس أقدام المحتلين والتخلص من كل أعمالهم وأفعالهم في النهب والسلب, فالأوطان تبقى مهما طال أمد احتلالها، كما أن أخطر ما يتعرض له مجتمع من المجتمعات ليس أن يحكمه حاكم مستبد سياسياً فحسب بل إن أخطر ما تتعرض له الأوطان هو أن يحكمها حاكم يعمل على تمزيق وتفكيك نسيجها الوطني, أي عملية فك خيوط النسيج الوطني بعضها عن بعض وإعادة المجتمع إلى حالة الاجتماع البدائي الأولي, أي إعادة المجتمع إلى حالة التكوين البدائي حيث يصبح كل خيط من الخيوط المشكلة للمجتمع عبارة عن كيان خاص مستقل لا يربطه أي رابط بالخيوط الأخرى للجماعات البشرية التي تقيم على نفس الأرض، إن هذا التمزق والتفكيك لخيوط النسج الوطنية العربية كانت قد بدأت قبل الربيع العربي وتحديداً منذ أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين من خلال المشاريع الطائفية المذهبية الشيعية والسنية التي حملها ورعاها وجسدها على الأرض الإسلام السياسي الشيعي والسني، المدعوم من بعض دول الاستبداد المعمم في المنطقة العربية، إن كان منها صاحبة العصبيات الطائفية المغطاة برداء " الدولة القومية " كالنظام السوري وغيره أو صاحبة العصبيات القبلية كالنظام الليبي زمن القذافي وغيره أو صاحبة العصبيات العائلية الملكية كنظم الخليج العربي والتي دخلت جميعها على خط الاستقطاب الطائفي مع كل تشعباته وامتداداته الإقليمية والمحلية, وهو الأمر الذي قاد إلى ظهور أقطاب – على هيئة نظم - طائفية إقليمية متنافسة ومتصارعة. لقد تحول اتجاه الربيع العربي في موجته الأولى بسبب تدخل كل القوى الطائفية المشار إليها أعلاه في مجرى الأحداث منذ أن انطلق الربيع العربي من الساحة التونسية، وقد وصل الأمر في حال بعض الشعوب العربية إلى حافة الخروج من عتبة وإطار التاريخ البشري من حدة الصراعات والانقسامات العمودية الدموية. والآن وبعد عقد من الزمن وبعد أن شكل الربيع السوداني والجزائري حالة من الربط والاستمرار بين سيرورتين ثوريتين في الواقع العربي هما سيرورة الحرية وسيرورة الجوع تعود الشعوب العربية من البوابة اللبنانية والعراقية لتطرق أبواب التاريخ من جديد فاتحة الطريق أمام سيرورة ثورية جديدة من بوابة الجوع والفقر والتهميش والإحساس العميق بجرح كرامتها الوطنية التي امتهنت إن كان من قبل مجموعة الصوص الحاكمين أو من قبل الدول الإقليمية وعلى رأسهم نظام الملالي في إيران التي تشكل وتقيم حالة من الوصاية على بعض هؤلاء الحكام وعلى الشعوب الرازحة تحت نير سلطتهم. لقد أتى جوع الشعوب ليعيد بناء حبال الحامل التاريخي لكل شعوب المنطقة التي قطعتها الانقسامات الطائفية، فالجوع بما يخلقه من استقطابات واصطفافات جديدة وطنية الطابع والحامل داخل المجتمعات العربية سيشكل العامل الوحيد والفرصة الأخيرة المناسبة والكفيلة بنقل هذه المجتمعات من حالة الانقسام العمودي الطائفي المدمر إلى حالة الانقسام الأفقي المثمر لتطورها وبقائها داخل إطار التاريخ، أي هو العامل الوحيد الذي سينقلها من حالتها البدائية في ظل مزرعة أمراء الطوائف ولصوصها إلى حالة المجتمعات الناضجة التي تقرر مصيرها من خلال التعبيرات السياسية والطبقية العابرة للطوائف والمذاهب والقبائل ...الخ ومن المؤكد أن هناك أخطاراً ستواجه الشعوب الثائرة على عصابات النهب الطائفي أو عصابات النهب في نظم الاستبداد بمختلف أنواعها العسكرية أو الطائفية، فهناك خطر ركوب هذه الموجة من قبل قوى النظم القديمة وقواها الطائفية والطبقية في المنطقة في شروط عدم وجود ولو قوة سياسية واحدة في واقعنا العربي تعبر عن ضمير الشارع الثائر، حيث ستتكالب الآن قوى الانقسام العمودي في كل الساحات مدعومة ومسنودة بالقوى المسيطرة داخل النظام الرأسمالي العالمي ومرتكزاته الإقليمية، وحيث الشغل الشاغل للقوة المسيطرة والقائدة للنظام الرأسمالي العالمي ومنذ عقود يكمن في تكريس سيادة وسيطرة قوى الانقسام العمودي داخل كل الساحات في العالم، وحيث لا تجد لها مصلحة في إعادة شعوب المنطقة لحاملها التاريخي الذي يشكل أساس وجودها على مسرح التاريخ ومحرك تطورها والذي لم يكن يوماً في أي مجتمع طبيعي سوى المجتمع المنقسم أفقياً وطبقياً حيث أن الصراع الطبقي بين الفقراء والأغنياء هو الوحيد الذي يحرك التاريخ ويولد التطور كبديل تاريخي عن الانقسامات العمودية وحروبها المدمرة الطائفية أو القبلية أو الإثنية أو غيرها. إن الرهان الآن لكسب هذه المعركة يكمن في اتساع ثورة الجياع لتشمل أكثر من ساحة في المنطقة حيث انتقال شعلة ثورة الجياع إلى مصر السيسي وإيران نظام الملالي سيلعب دوراً حاسماً في تعديل ميزان القوى ورجحانه لصالح ثورة الجياع، ولا سيما أن أحد أهم مراكز الثورة المضادة لثورة الجياع تمثله سلطة نظام الملالي في إيران رأس أفعى الثورة المضادة، وحيث الثقل البشري للشعب المصري بعد تخلصه من نظام السيسي سيعطي دفعاً وسنداً لكل شعوب المنطقة فكل ساحة تشكل نجدة للساحة الأخرى وتقطع الطريق على إمكانية الاستفراد بها. إن المعركة ستكون شاقة وربما دموية ولكن لا خيار أمام الجياع فإما الموت جوعاً وذلاً أو الموت في ساحة الصراع من أجل حقوقهم وحاملهم التاريخي والذي بدونه سيبقون عبيداً لأمراء الطوائف المحلية ولأمراء النظام الإقليمي والعالمي الذين يتحكمون بمصير العالم كله. إنها فرصتنا الوحيدة وربما الأخيرة وحيث لا فرصة غيرها كما يتوهم الكثيرون فإما أن نعود لندخل إلى إطار التاريخ من جديد من هذا الباب وبما يعني إعادة بناء أوطاننا وقوانا السياسية والاجتماعية بهويات وطنية عابرة للطوائف والقبائل، وبناء نظمنا السياسية على أسس طبيعية وحديثة وديمقراطية تؤمن الحد المطلوب المعاصر من الحياة المعيشية الكريمة والحرة، كما تؤمن الحد المطلوب المعاصر من الحرية السياسية بعيداً عن قوى ونظم المحاصصة الطائفية ونظم الاستبداد الطائفية ولصوص وعصابات الطوائف والقبائل التي تنهب باسم الدين والطوائف والوطن وتستقوي على شعوبها وتترزق من خلال ارتباطها بالخارج الدولي والإقليمي كما هي حالة حزب الله في لبنان وغيره أو سنبقى خارج أسوار التاريخ نقتتل طائفياً وقبلياً وعرقياً وإثنياً حتى فناؤنا ؟؟؟


الشعوب العربية تطرق أبواب التاريخ من جديد lemonde.in 5 of 5
لومــــوند : نبيل ملحم مع انطلاق ثورة الياسمين في تونس 18 ديسمبر 2010 أطلق العنان لانطلاق الربيع العربي، حيث طرقت الشعوب العربية أبواب ا...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك