السياق التاريخي لنشوء وترعرع البربرية في سوريا ( 14 )

لومـــــوند :نبيل ملحم
الرابع عشر : الدم السوري في بازار وميزان المصالح الدولية والإقليمية
كنت قد أشرت في أكثر من مقال سابق في هذه السلسلة إلى أن الذين يديرون البيت الأبيض الأمريكي، منذ أن انطلق قطار الربيع العربي، قد استخدموا جميع حكومات الدول الإقليمية والدولية كأدوات لتحقيق استراتيجيتهم، إن كانت المتعلقة بالمنطقة بشكل عام أو اتجاه الربيع العربي والسوري بشكل خاص، وبما يعني القول أنهم استخدموا النظام السوري وحلفاءه من الدول التي ساندته، وكذلك من سموا أنفسهم بأصدقاء الشعب السوري من الدول. فقد استخدموا الجميع كأدوات في التدمير، إن كان في تدمير الربيع العربي أو تدمير المنطقة بشكل عام، وحيث كان نصيب الربيع السوري وسوريا بشكل عام هو الأكبر من ناحيتي الكم والنوع. وإذ كنت قد أشرت إلى دور النظام السوري والدور الإيراني في أكثر إن لم أقل في أغلب وكل مقالاتي السابقة في هذه السلسلة، كما أشرت إلى الدور الروسي في مقال سابق على صفحات اللوموند تحت عنوان " حيثيات الدور الروسي في سوريا "، فإني في هذا المقال سأقوم بالكشف عن الدور الإقليمي، للدول التي ادعت صداقتها للشعب والثورة السورية، وبما يعني تسليط الضوء على دور هذه الدول في تدمير الثورة السورية والتآمر عليها، حيث تأتي قطر والسعودية وتركيا على رأس قائمة الدول الإقليمية التي تآمرت على الثورة السورية وهي الدول التي كانت عاهات المعارضة السورية تقول عنها بأنها تشكل النواة الصلبة الداعمة للثورة. ولكن قبل تسليط الضوء على دور هذه الدول، من المفيد إعادة تسليط الضوء على الدور الروسي بشيء من التفصيل الضروري، كون مقالي السابق ركز على الإطار العام لهذا الدور. لقد اندفع الروس للدفاع عن حليفهم النظام السوري يغذي اندفاعهم هذا نزعة تاريخية لإعادة أمجاد أجدادهم القياصرة القوميين والشيوعيين الستالينيين, كما يغذي اندفاعهم الطموحات الكلبية المحمومة لرأس المافيا الروسية بوتين والرامية إلى تنصيب نفسه قيصراً جديداً يتربع على عرش روسيا الاتحادية مدى الحياة إن أمكنه ذلك. وقد وجدت الإمبريالية الروسية الجديدة على الساحة الدولية والمتعطشة للتوسع خارج حدودها القومية فرصة لا تعوض للاستثمار في النظام السوري البربري الذي يحكم سوريا ويقاوم السقوط بكل السبل والوسائل, فاندفعت بكل ما تملك من قوة وإمكانات سياسية وعسكرية ودبلوماسية بعد أن تأكدت أن المجتمع الدولي وتحديداً الإدارة الأمريكية غير مستعجلة لإسقاط النظام أو لنقل لا تفكر. بشكل جدي بإسقاط النظام، كما كانت تقول وتدعي في بداية المواجهة بين النظام والثورة السورية. وقد وجد الروس في النظام السوري الأداة والمطية لتحقيق تراكم إمبريالي أولي عبر توسيع نفوذها وحصتها في منطقة الشرق الأوسط, لقد استغلت المافيا الإمبريالية الروسية حاجة النظام للدعم والحلفاء الأقوياء واستعداده لتسليم سوريا لأي عابر طريق أو قاطع طريق دولي مقابل دعمه في البقاء على رأس السلطة في سوريا، وبما يعني استعداده للتخلي عن السيادة الوطنية إن تطلب الأمر ذلك, فاندفعت في دعمه بكل الوسائل السياسية عبر حمايته في مجلس الأمن الدولي من خلال الفيتو أولاً، ثم العسكرية ثانياً، عبر تزويده بكل أنواع السلاح اللازم لخوض المعركة ضد الثورة السورية, وعبر الدخول المباشر بالمعركة ومعادلة الصراع من خلال توسيع وجودها العسكري في سوريا بدءاً من شهر أيلول 2015, ولتحقيق ذلك قامت بتوسيع وجودها العسكري في منطقة حوض المتوسط من خلال وجودها العسكري السابق في قاعدتها البحرية مقابل مدينة طرطوس الساحلية ثم بناء قاعدة عسكرية برية جوية في مطار حميميم قرب مدينة جبلة التابعة لمحافظة اللاذقية الساحلية, وبهذا الانتقال ضمنت روسيا لنفسها قاعدة برية جوية إضافة إلى قاعدتها البحرية يضاف إلى ذلك وهو الأهم ضمنت لنفسها قاعدة بشرية في الساحل السوري ونقصد هنا الطائفة العلوية التي جاء التدخل الروسي إلى جانب النظام ليمثل المخلص والمنقذ لطوطمها الأسدي بعد أن كانت قوات المعارضة المسلحة قد وصلت إلى الحدود الشرقية لسلسلة الجبال الساحلية، بعد سقوط كامل محافظة إدلب في يد الفصائل العسكرية الإسلامية المعارضة للنظام. لقد التقت رغبة النظام السوري البربري في البقاء في السلطة بأي ثمن مع رغبة وشهوة رأس المافيا الروسية بوتين في أن ينصب نفسه قيصراً جديداً على الشعب الروسي والشعوب المحيطة بروسيا الاتحادية لينتج تحالف البرابرة إن صح القول, إن أعمال القتل والتدمير التي قام بها النظام بمساعدة الخبراء والطائرات الحربية الروسية لا نجد لها تفسيراً في حقل وساحة المصالح السياسية والاقتصادية أو حتى ضرورات كسب المعركة العسكرية فحسب وإنما نجد تفسيره كذلك في حقل استعراض من يريد أن يثبت للآخرين قوته وجبروته, فبوتين وبعد خسارة أوكرانيا كان يريد أن يثبت للعالم الخارجي وللروس أنه الوريث والامتداد الشرعي لقوة القياصرة الروس القدماء إن كان القوميون أو الشيوعيون الستالينيون, كما أن النظام السوري كان يريد أن يثبت لقاعدته الاجتماعية الطائفية والسياسية والطبقية بأنه امتداد للنظام العبودي الذي أسسه والده حافظ الأسد. لقد أدرك الروس أن الأمريكان الذين كانوا يصلًون كي تنقذ روسيا النظام من خلال الفيتو الروسي في مجلس الأمن لا يريدون إسقاط النظام وأن جل همهم هو تأمين قوة تضاف إلى قوة النظام يقود تدخلها إلى جانب النظام إلى تدمير سوريا حجراً وبشراً كما تقود إلى هزيمة الثورة السورية والربيع العربي على أبواب دمشق ومن دون أن يكون الأمريكان في الواجهة, وهنا وضع الروس يدهم بيد الأمريكان فتكفلوا وتكلفوا بأن يكونوا هذه القوة الحامية للنظام والشريكة للنظام في تدمير سوريا والقضاء على الثورة مقابل أن يطلق الأمريكان يد رأس المافيا الروسية في الساحة السورية بأن يفعل ما يشاء وإظهار الدور الروسي المرسوم أمريكيا بدقه فائقة على المسرح الدولي بقيادة بوتين وبما يتناسب ويتوافق مع شهوته وهوسه كي يظهر أمام شعبه كقائد لقطب إمبريالي يحسب له حساب, قطب دولي له وظيفة ومكانة وحصة في التقسيم الدولي للعمل والمصالح والنفوذ. كما وجد الروس على الصعيد الإقليمي الموقف الإسرائيلي المؤيد لاستمرار حرب النظام ضد شعبه ما دام ذلك يقود إلى تدمير سوريا وتفتيت نسيجها الوطني والاجتماعي, وعليه تم التحالف الروسي الإسرائيلي بمباركة أمريكية لتوزيع الأدوار والنفوذ في المنطقة حيث تعطي إسرائيل لروسيا الحق في الوجود في المنطقة من خلال دور متميز في سوريا وكقوة تحمي كياناً طائفياً ( إن تم تقسيم سوريا ) أو استمرار النظام الطائفي مقابل أن تكون روسيا هي العراب ( والقواد الدولي ) والضامن لأمن دولة إسرائيل إن كان لجهة استمرار النظام السوري في عدم تعرضه لأمن إسرائيل مهما فعلت على الحدود أو حتى داخل السيادة السورية أو لجهة إقناع ( أو إتمام صفقة ) مع حلفاء النظام ونقصد هنا إيران وحزب الله اللبناني بتوجيه بندقيتهم مرة وإلى الأبد إلى صدور إخوانهم السنة بدل توجيهها نحو دولة إسرائيل أو التخلي عن المتاجرة الإيرانية بقضية وبضاعة العداء لدولة إسرائيل. لقد تكفلت الإمبريالية الروسية لدولة إسرائيل بأن تلعب الدور نفسه الذي لعبته من قبل الإمبريالية البريطانية تجاه مشروع قيام دولة إسرائيل ،ونقصد هنا وعد بلفور وكل ما تلاه، و الدور نفسه الذي لعبته الإمبريالية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية بعد أن حلت في المنطقة بدل الإمبريالية البريطانية والفرنسية تجاه دولة إسرائيل والقائم على تأمين شروط وجود وأمن دولة إسرائيل في المنطقة العربية. إن تخلي النظام السوري عن السيادة الوطنية للمافيا الإمبريالية الروسية قدم لهذه المافيا ما لم تحلم به يوماً من الأيام, فالكسب الروسي هنا يصل إلى الحالة المثالية والقصوى للمكاسب الاقتصادية والسياسية والعسكرية التقليدية التي تسعى إليها الدول الإمبريالية في العادة, فهنا نتحدث عن بقعة جغرافية بشرية تشكل قلب شرق المتوسط والعصب الرئيس في آسيا فمن خلال السيطرة على سوريا تستطيع الإمبريالية الروسية أن تضمن لجم إن لم نقل تغلبها على عدوها اللدود والجار العثماني, ونقصد هنا تغلبها ولجمها لطموحات العثمانية الجديدة التي صعدت مع صعود حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان, كما تضمن وضع إيران والطموحات الإيرانية في المنطقة تحت جناحها ورحمتها وإشرافها وسيطرتها, كما تضمن علاقة استراتيجية مع دولة إسرائيل الركيزة الأساسية التقليدية لأي دولة إمبريالية تسعى لأن يكون لها نفوذ ووجود ومصالح في المنطقة العربية. أي إن ما قدمه النظام للروس شكل الفرصة الذهبية للإمبريالية الروسية الجديدة كي تدخل إلى النادي الإمبريالي العالمي من الباب السوري كشريك له وظيفة ودور لا يتعارض مع دور ووظيفة ومصالح بقية الأعضاء في النادي الإمبريالي العالمي. وقد استغل الروس هذه الفرصة ولا سيما أن الموقف الأمريكي الذي تعامل مع الطموحات الروسية أو لنقل طموحات المافيا الروسية وزعيمها بوتين على قاعدة دفع الروس إلى تحقيق طموحاتهم ما دامت هذه الطموحات لا تتعارض مع المصالح الأمريكية في المنطقة العربية, حتى يمكن القول أن الأمريكان استطاعوا تجيير الطموحات الروسية الكلبية المحمومة عبر استراتيجية استدراج الروس للقيام بما يمكن تسميته بالأعمال الأكثر قذرة في التاريخ الحديث مقابل السماح لهم بالوصول إلى ما يطمحون إليه ما دامت طموحاتهم تلتقي مع الأهداف الأمريكية والإسرائيلية في سوريا أو المعدة لسوريا ما بعد الثورة. وذلك دون أن يتحمل الأمريكان وحتى الإسرائيليون مسؤولية مباشرة عن تلك الأعمال القذرة, أي عمل الأمريكان على استخدام الروس كأداة قذرة وواجهة يختبئون خلفها لتحقيق الطموحات الأمريكية والإسرائيلية المتمثلة بشكل أساسي في تحطيم سوريا بشراً وحجراً وبما يعني هزيمة الثورة السورية الديمقراطية وإجبار السوريين على البقاء تحت الكابوس العبودي إلى أبد الآبدين. فلا النظام كان قادراً على الصمود في مواجهة الثورة لولا الدعم السياسي الروسي الذي تلقاه منذ الأشهر الأولى للثورة حيث أنقذه الروس بالتعاون مع الصينيين في مجلس الأمن الدولي من خلال الفيتو المزدوج الشهير ضد مبادرة الجامعة العربية التي كانت في جوهرها تشكل حلاً يجنب سوريا المواجهة والدمار ولا كان النظام قادراً على تدمير سوريا لولا الدعم العسكري الروسي الذي وصل حد التدخل المباشر في معركة النظام ضد الشعب السوري عبر الطيران والمستشارين العسكريين, ولا كان ممكناً إعادة تأهيل النظام للعودة إلى المجتمع الدولي إلا عبر البوابة الروسية والدعم الروسي المكشوف والدعم الأمريكي من تحت الطاولة .
لم يكن الموقف الصيني أقل كلبية تجاه الثورة السورية من الموقف الإيراني والروسي " فشعار الشعب يريد إسقاط النظام " الذي أطلقته حناجر الثائرين العرب أواخر عام 2010 بدءاً من تونس مروراً بمصر وليبيا واليمن والبحرين وصولاً إلى سوريا لم ترتعد له فرائص الحكام العرب المستبدين فحسب بل ارتعدت منه فرائص كل النظم الاستبدادية في العالم قاطبةً, وحيث يقف على رأس هذه النظم نظام العبودية الشيوعية الماوية في الصين أو لنقل نظام العبودية الستالينية بنسختها الماوية الصينية, وهنا يمكن القول من دون تردد، إن أكثر نظام سياسي بعد النظم العربية في العالم أرعبه شعار الربيع العربي " الشعب يريد إسقاط النظام " كان النظام السياسي العبودي في الصين الشعبية, فدماء الشبان والشابات في ساحة " تيان آن من " وسط العاصمة الصينية بكين لم يجف بعد عن جنازير دبابات الحكومة الصينية, كما أن مناظر القتل والسحل التي كانت تقوم بها أجهزة القمع السورية تجاه شباب الثورة السورية كان يعيد للذاكرة الصينية, سواء كانت ذاكرة الحكومة أو ذاكرة الشعب الصيني والشباب الصيني, أقول كانت تعيد مناظر سحل الدبابات الصينية للشباب والشابات الصينيين في ساحة تيان آن من ( أو تيانانمن ) الذين نزلوا وتجمهروا في وسط العاصمة الصينية بكين بين 15 أبريل 1989 و4 يونيو 1989 مطالبين بالحرية والتحرر من العبودية التي يرزحون تحت وطأتها ونيرها منذ أكثر من نصف قرن من الزمن, ولهذا السبب لم تتخذ الحكومة الصينية كل الإجراءات اللازمة لمنع وصول هذه المشاهد إلى الصين عبر وسائل التواصل الاجتماعي ( فيس بوك وغيره ) فحسب بل سارعت إلى دعم النظام السوري المجرم في حربه ضد شعبه بكل الوسائل الممكنة, وعلى هذا الأساس فقد كان طبيعياً ومفهوماً ومفسراً أن تقف الصين العبودية في مجلس الأمن الدولي ضد أي قرار يقود إلى الإضرار ببقاء رأس النظام السوري في أعلى سدة السلطة, وضد كل قرار يقود إلى انتصار الثورة السورية, وكل قرار يقود إلى تجنب المجزرة والمذبحة السورية على يد النظام المجرم الاستبدادي, فالدرس والمجزرة السورية لم تكن عبرة للسوريين المطالبين بالحرية والتحرر فحسب بل كان المراد ( إقليميا ودولياً ) منها أن تكون عبرة لكل شعب من شعوب العالم تسوّل له نفسه الخروج إلى الشارع والمطالبة بالحرية والتحرر من الاستبداد والعبودية, وحيث النظام العبودي الصيني هو من أكثر النظم السياسية في العالم المستفيد من توجيه هذه الرسالة والدرس والعبرة إلى الشعب الصيني. إن من يعتقد أن الموقف الصيني المساند للنظام قد جاء في سياق الصراع والممانعة والمنافسة العالمية مع القطب الإمبريالي الأمريكي يكون مخطئاً جداً جداً فالمصالح الاقتصادية والسياسية الصينية متحررة من الإيديولوجيا والاستقطابات الدولية ذات الطابع السياسي والإيديولوجي منذ أمد طويل, كما أن المصالح الاقتصادية الصينية في المنطقة العربية لا تمر من خلال العلاقة مع النظام السوري, فلا يوجد أي رابط يمنع تحققها إن رحل النظام السوري عن سدة السلطة أم ظل جاسماً على كرسي السلطة، فثقل المصالح الاقتصادية الصينية في المنطقة العربية موجود ولكن خارج الساحة والدور السوري, فهو موجود من خلال حكومات لا تربطها علاقة مميزة ووثيقة مع النظام السوري ونقصد هنا دول الخليج ذات الثقل المالي ومصر ذات الثقل البشري والقارة الافريقية الغنية بالثروات، وجنوب شرق آسيا البعيدة عن الساحة السورية, كما أن المصالح الاقتصادية في المنطقة لا تمر عبر إيران حليفة النظام السوري كما يعتقد ويتوهم البعض. هكذا شكلت إيران مع ميليشياتها الطائفية الشيعية اللبنانية والعراقية والأفغانية مع روسيا والصين حلفاً متماسكاً ومتراصاً سياسياً وعسكرياً داعماً للنظام السوري بهدف هزيمة وسحق الثورة السورية وسحق إرادة السوريين المطالبين بالحرية والتحرر من نير الاستبداد. مقابل هذا الحلف تشكل الحلف " الداعم " للثورة والمعارضة السورية المكون بشكل رئيس من أمريكا وتركيا والسعودية وقطر. والسؤال الذي يطرح نفسه هو. هل حقاً كان هؤلاء الحلفاء يريدون ويرغبون من احتضانهم للثورة والمعارضة السورية إلى نصرة ثورة السوريين وتمكينهم من إزاحة كابوس الاستبداد عن صدورهم وبما يعني نقلهم أو مساعدتهم على الانتقال إلى مجتمع الحرية والتحرر ؟؟؟ أم كان لهم أهداف أخرى غير التي أمل السوريون بها ؟؟؟ هذا ما سنراه في الأسطر التالية، وسأبدأ في البداية في حسابات الحقل فيما بينهم ثم سأنتقل إلى حسابات البيدر:
أولاً : موقف قائد الأوركسترا الأمريكي: كما قلت في مقال سابق لقد رأى الأمريكان بعد أن أدركوا أن الصراع بين السوريين والنظام قد وصل إلى مرحلة اللاعودة إلى ما قبل 18 آذار من عام 2011، إن تعنت النظام وهمجيته وبربريته التي ظهرت تجاه الثورة من يومها الأول والدعم الإيراني والروسي والصيني للنظام هو أفضل طريقة وفرصة لتحقيق هدفين استراتيجيين مترابطين في المنطقة كنت قد أشرت إليهما سابقاً، وأعود للتذكير بهما باختصار فقط لربط السياقات فيما بينها. الهدف الأول : ترك النظام والحلف الداعم له بتدمير سوريا فوق رؤوس أصحابها وسكانها فبذلك يتحقق حلم أمريكي إسرائيلي لطالما حلموا به, فتدمير سوريا كشعب وليس كنظام هو أفضل طريقة لإخراج سوريا لا من مسرح التاريخ الحديث فحسب بل إخراجها من مسرح التاريخ والديموغرافيا الذي عرفت به سوريا التاريخية، كما يخرجها من أي عمل يشاكس ويقاوم مخططات دولة إسرائيل في البقاء والأمن والتوسع على حساب لا الحقوق الفلسطينية فحسب بل حتى على حساب حقوق الشعوب العربية قاطبة. وقد رأى الأمريكان بأنه لكي يتم هذا التدمير لا بد من وجود قوة من طبيعة النظام نفسه تقوم بمواجهة هذا النظام، فبذلك يتم من خلال هذه المواجهة تحقيق حلم التدمير. وكان لا بد لإيجاد هذه القوة من العمل على إفراغ الثورة السورية والمقاومة السورية من مضمونها ومحتواها التحرري الديمقراطي, فكان لا بد من أسلمة الثورة السورية من خلال إحلال فصائل عسكرية إسلامية جهادية بديلة عن الجيش الحر الذي كان قد بدأ يتشكل مع بداية الانتفاضة والثورة السورية من خلال الضباط وصف الضباط المنشقين عن النظام والذين رفضوا إطلاق الرصاص على صدور الثوار المتظاهرين في المدن والقرى والبلدات السورية, أي كان لا بد من تحويل الصراع من حقله وميدانه الديمقراطي التحرري إلى ميدانه وحقله الديني الطائفي, حيث تنشأ حرب وصراع شيعي سني على الأرض السورية، يشارك فيها كل فصائل الإسلام السياسي الشيعي والسني في الساحات العربية التي يوجد في نسجها الوطنية شيعة وسنة, وقد كان لا بد لتحقيق كل ذلك من إطلاق يد الوكيل السعودي والقطري والتركي في المنطقة كي يقوموا بهذه المهمة والوظيفة وبما يلزم ويتطلب من هؤلاء الوكلاء من دعم مالي وعسكري وسياسي لقوى الإسلام السياسي السني الجهادي إن كان في سوريا أو خارج سوريا. الهدف الثاني: كان استخدام الثورة السورية " وحلفائها " الإقليميين الرئيسيين قطر والسعودية وتركيا كأدوات للضغط على إيران من أجل إجبارها على التخلي عن برنامجها النووي وبما يكفل المصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة وحيث يتجنب الأمريكان والإسرائيليون ضرورة الخيار والعمل العسكري ضد إيران من أجل تحطيم برنامجها النووي وهو ما كانت تعمل عليه الإدارات الأمريكية المتعاقبة مع إسرائيل منذ سنوات.
ثانياً : موقف هاملت السعودي الذي استيقظ متأخراً على مدى النفوذ الإيراني في المنطقة: لقد " احتضنت " المملكة العربية السعودية الثورة والمعارضة السورية لهدفين مترابطين ومتلازمين, الهدف الأول: فقد أراد حكام المملكة العربية السعودية من " احتضان " الثورة والمعارضة السورية تفريغ الربيع العربي والسوري من محتواه التحرري الديمقراطي قبل أن تصل رياح هذا الربيع إلى الفضاء والأراضي السعودية وبما يعني العمل على وأد الربيع السوري على أبواب دمشق من خلال تحويل الصراع بين النظام والثورة من ميدانه الديمقراطي التحرري إلى ميدانه الطائفي الإقليمي وتحديداً تحويله إلى صراع شيعي سني تكون المملكة في هذا الصراع القطب الداعم والمساند للسنة في سوريا وعموم المنطقة العربية في مواجهة إيران الداعمة للإسلام السياسي الشيعي وعموم الشيعة في المنطقة العربية وهو الأمر الذي يسهل على المملكة وصولها إلى هدفها الثاني : بعد أن استيقظ هاملت السعودي متأخراً على حجم ومدى النفوذ الإيراني في المنطقة ومخاطر هذا النفوذ لا على شعوب المنطقة وإنما على عروش ومصالح حكام الخليج في المنطقة وعلى رأسهم حكام ومصالح المملكة العربية السعودية لهذا أسرعت على العمل لاستخدام الثورة والشعب والمعارضة السورية كدرع وأداة في مواجهة المطامع والنفوذ الإيراني الذي انكشف ولم يبق عليه غطاء أو ستر بعد انطلاق الربيع السوري, مواجهة تتعدى الساحة السورية لتطول الساحات العربية الأخرى التي لإيران فيها نفوذ وقوة وحلفاء كاليمن والعراق ولبنان والبحرين ..الخ، مواجهة تبدو فيها المملكة العربية السعودية وكأنها الطرف الراعي والمدافع عن حقوق السنة العرب لا في سوريا فحسب بل على مستوى العالم العربي والإسلامي, كما يوفر لها قيادة هذا الصراع والتحكم فيه كما تقتضي مصالحها الآنية والاستراتيجية. ومن أجل تحقيق الهدفين المشار إليهما أعلاه وضعت المملكة العربية السعودية في البداية يدها باليد القطرية والتركية والأمريكية.
ثالثاً : موقف تركيا الأردوغانية المتأرجح بين طموحاتها العثمانية وقيود سلاسل التبعية للموقف الأمريكي وسلاسل التاريخ الحديث:
لقد رأت تركيا أكثر من أي دولة في الإقليم أو في العالم في الربيع العربي فرصة ثمينة لا تعوض ولا تفوت من أجل تحقيق أحلام قادتها الجدد بقيادة رجب طيب أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية الإسلامي والطامح لان يكون سلطان العثمانيين الجديد وصاحب القرار الأكبر واليد الطولى في المنطقة العربية التي خسرها أجداده العثمانيين في الحرب العالمية الأولى. فتركيا الأردوغانية عملت منذ الأيام الأولى لانطلاقة قطار ثورات الربيع العربي من الأراضي التونسية على أسلمة هذه الثورات من خلال شركائها وأصدقائها العرب من الإسلام السياسي الإخواني, وقد جاء هذا السعي على الأقل في المرحلة الأولى من الربيع العربي متوافقاً ومتطابقاً ومنسجماً مع المسعى السعودي والأمريكي وكما سنرى لاحقاً مع المسعى القطري, حيث لكل طرف من هذه الأطراف كان له أهدافه وأحلامه ومراميه الخاصة من هذه الأسلمة للربيع العربي بشكل عام والسوري بشكل خاص حتى يمكن القول أن الذي شجع الأتراك ودفعهم بقوة على خطوة الأسلمة لا طموحاتهم أو طموح قادتهم الإسلاميين فحسب بل كون هذه الأسلمة لقيت قبولاً وتشجيعاً أمريكياً كون هذه الأسلمة تشكل للأمريكان الطريقة الوحيدة كخطوة أولى مرحلية ومؤقتة لاستيعاب واحتواء ثورات الشعوب العربية المطالبة بالحرية والتحرر من نير الاستبداد والاستعباد, واستيعاب كل التداعيات التي قد تنتج عن هذا التحرر على الستاتيك والمصالح الأمريكية التي كانت قائمة في المنطقة العربية قبل الربيع العربي . لقد تعهد الوكيل التركي وكما سنرى لاحقاً الوكيل القطري, تعهدا للأمريكان في بداية الربيع العربي بترويض الإسلام السياسي العربي الإخواني والجهادي وتقديمه بهيئة جديدة مروضة لا تتعارض مع كل المخططات والمصالح الأمريكية وحتى من تحت الطاولة لا تتعارض مع المصالح الإسرائيلية في المنطقة العربية، وقد قدموا دليلاً على ذلك بالضمانات التي قدمها الإخوان المسلمون في مصر إلى الأمريكان والإسرائيليين حول التزامهم باتفاقية كامب ديفيد التي وقعها الرئيس المصري الأسبق أنور السادات مع دولة إسرائيل أواخر السبعينيات من القرن العشرين, كما قدموا وروجوا للشعوب العربية أن الأسلمة لا تتعارض حتى مع طموحات الشعوب العربية الطامحة للحرية والتحرر من نير الاستبداد والاستعباد الذي وضع على رقاب الشعوب العربية منذ عقود وعقود من الزمن, ولهذا كان منطقياً وطبيعياً تقديم هذه الأسلمة للشعوب العربية في البداية على أنها نوع من العمل على بناء نموذج ديمقراطي إسلامي في المنطقة مشتق ومستوحى من النموذج الديمقراطي التركي الإسلامي وهو ما عرف وروج له في بداية الربيع العربي تحت اسم النموذج التركي , حيث شكل هذا الطرح ( النموذج ) في بداية الربيع العربي قبولاً واسعاً لدى النخب السياسية والثقافية العربية والعالمية ذات الأصول العلمانية واليسارية والليبرالية حيث لم تكن بعد قد تكشفت المرامي والأهداف النهائية التي يطمح إليها العراب التركي العثماني الجديد من جهة والأهداف والمرامي التي يطمح لها شريكه العربي الإخواني ( نقصد هنا الإخوان المسلمين في العالم العربي ) الذي لم يكن ينظر كما تبين من التجربة المصرية والليبية والسورية إلى مسالة الديمقراطية إلا بوصفها وسيلة مواصلات تنقله من المعارضة إلى سدة السلطة السياسية دون الإيمان الحقيقي بالديمقراطية بوصفها نمط حياة ووجود يحكم علاقة الدولة والسلطة السياسية بالمجتمع, وبما يعني بناء الدولة الديمقراطية التعددية التداولية والابتعاد عن أدلجة الدولة ( أي بناء الدولة الإيديولوجية ) أو لنقل الابتعاد عن أخونة الدولة والمجتمع, وهو الأمر الذي كشفته تجربة الإخوان المسلمين في السلطة في كل من مصر وليبيا بعد سقوط نظامي حسني مبارك ومعمر القذافي, حين انقلب الإخوان المسلمون في مصر بداية في التراجع عن قرارهم ووعودهم في أنهم لن يقدموا مرشحاً لهم في الانتخابات الرئاسية وثانياً عندما انقلبوا على كل وعودهم وعهودهم التي قطعوها لشركائهم من القوى السياسية المصرية قبل الانتخابات التي رشحوا فيها الإخواني محمد مرسي لرئاسة الجمهورية وبوصفه مرشحاً يعبر عن كل المصريين ثم جاء عملهم على أخونة الدولة والمجتمع المصري فشكلوا بذلك الثورة المضادة الأولى لثورة 25 يناير وهو الأمر الذي ألّب الشارع المصري ضدهم فكان أن قفزت الثورة المضادة الثانية إلى السلطة من خلال العسكر الذي مثلهم نظام عبد الفتاح السيسي الحالي الذي قفز إلى السلطة على ظهر الاحتجاجات التي قامت ضد حكم محمد مرسي الإخواني بتاريخ 3 تموز 2013 وكذلك حين رفض الإخوان المسلمون في ليبيا الخضوع لأي شرعية انتخابية من خلال تفجير الصراع السياسي إلى حد الوصول إلى حرب أهلية لا تزال جولاتها الدموية مستمرة حتى تاريخ كتابة هذه السطور. وحين أصر الإخوان المسلمون في سوريا على أن يكون لهم حصة الأسد في قيادة أي جسم سياسي يمثل المعارضة والثورة السورية.
لقد استغلت القيادة التركية الأردوغانية الحدود المشتركة الكبيرة مع سوريا والأزمة الإنسانية غير المسبوقة للسوريين إن كان في تاريخهم الحديث أو القديم والناتجة عن أعمال القتل والتدمير والبربرية التي مارسها النظام ضد السوريين من اليوم الأول للثورة, حيث شكلت تركيا الحضن الآمن لمعاناتهم وأزمتهم الإنسانية غير العادية, كما شكلت تركيا الحضن الآمن للمعارضة السورية بكل أطيافها وألوانها والحضن الآمن للناشطين السياسيين الملاحقين من قبل أجهزة القتل والاعتقال التابعة للنظام. أقول : استغلت تركيا كل ذلك لتشكل الحاضن الإقليمي والحليف رقم واحد بالنسبة للسوريين جميعاً, شعباً منكوباً ومعارضة ملاحقة مطاردة تبحث عن ملاذ آمن للوقوف على أقدامها الضعيفة أساساً. إن استغلال تركيا لكل ذلك سهل عليها القيام باللعب بأحشاء الثورة السورية منذ الأيام الأولى لانطلاقتها حيث قامت:
أولاً : بالعمل الحثيث على جعل الإسلام السياسي الإخواني هو القائد والسيد للمعارضة والثورة السورية, فالدخول إلى أي جسم سياسي للمعارضة السورية أو لنقل إن تشكيل أي جسم سياسي يعبر عن المعارضة السورية ويمثل الثورة كان لا بد أن يكون الإخوان المسلمون في سوريا على رأس هذا الجسم السياسي, كما كان لا بد لدخول أي قوة أخرى علمانية يسارية أو ليبيرالية في هذا الجسم أن يمر عبر الفلتر الإخواني والتركي والقطري, وبما يعني القبول الصريح أو الضمني بواقع قيادة الإخوان المسلمين للثورة والذي لم يكن يعني في النهاية سوى أسلمة الثورة السورية .
ثانياً : عملت تركيا وبما يخدم الهدف الأول على إفشال تجربة قيام جيش حر وطني بديل عن جيش النظام وحيث يشكل الأداة والذراع العسكرية الوطنية للثورة السورية الساعية إلى التحرر من نير العبودية والاستبداد ونير دولة الحزب القائد والدولة الشمولية الإيديولوجية، فقامت تركيا بمساعدة ومباركة الولايات المتحدة الأمريكية وعبر سفيرها السابق في سوريا روبرت فورد وعبر قطر والسعودية وعبر الإسلام السياسي الإخواني في سوريا وعبر تواطؤ عرابي الإسلام السياسي في سوريا من الأحزاب والشخصيات ذات الأصول اليسارية والعلمانية. أقول : قامت وتعاونت كل هذه الأطراف المحلية السورية والإقليمية والدولية بالعمل على إنشاء فصائل عسكرية إسلامية بديلة عن الجيش الحر, حيث أصبح الجيش الحر الذي أعلن عن تشكيله في بداية الانتفاضة والثورة السورية عبارة عن واجهة إعلامية يتم خلفها وتحتها بناء جيش من الفصائل العسكرية الإسلامية التي لا علاقة لها بالحرية والتحرر والديمقراطية لا من قريب ولا من بعيد. لقد عملت تركيا ومعها قطر على فتح ملحمة كتب على واجهتها الخارجية أنها ملحمة لبيع لحم الجمل في حين كانت تبيع لحم العجول في الداخل وفي بعض الحالات وفي مراحل متقدمة كانت تبيع لحم الحمير من جبهة النصرة المرتبطة بتنظيم القاعدة ولحم الخنازير من الدواعش قبل أن ينشقوا عن النصرة وتنظيم القاعدة .
رابعاً : الموقف القطري صاحب الثروة العملاقة والمصاب بعقدة المساحة الجغرافية والكتلة البشرية الصغيرة :
وهنا أقول إذا كان كيس المال السعودي هو الذي تكفل بتمويل الإسلام السياسي القاعدي الجهادي في زمن الحرب الباردة وبما يخدم متطلبات ومصالح الغرب وحلفاؤه في العالم في تلك الحرب، فإنه بعد هجوم تنظيم القاعدة في 11 أيلول 2001 على برجي التجارة في نيويورك وبعد القفزة التي حققتها قطر في ثروتها من خلال اكتشاف الغاز المسال في بداية التسعينيات من القرن الماضي، فإن كيس المال القطري هو الذي تكفل وبتوكيل أمريكي بإعادة ترويض وتدجين الإسلام السياسي الجهادي ورعاية الإسلام السياسي الإخواني بعد أن خرج من قمقمة بعد انتهاء الحرب الباردة حيث الترويض هنا لا يعني العقلنة والترشيد، وإنما يعني إعادة الإسلام السياسي القاعدي إلى قمقمه أو إخراجه من هذا القمقم حسب متطلبات المصالح الأمريكية في كل لحظة وبما يعني جعله إسلاماً مستعداً بالطرق المباشرة وغير المباشرة للانخراط في حروب حسب الطلب الأمريكي ولكن بشكل مستور ومخفي تحت العباءة القطرية أو الانخراط في تسويات مع المصالح الأمريكية في المنطقة ( وحتى الإسرائيلية ) مقابل السماح له بالوصول إلى السلطة في لحظة محددة, وقد شكلت التجربة الإخوانية المصرية بقيادة محمد مرسي نموذجاً للإسلام السياسي الإخواني المدجن والمروض أمريكياً وقطرياً والمستعد لقبول كل الشروط الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة مقابل السماح له - ولو بشكل مؤقت وتكتيكي- بالوصول إلى السلطة في مصر وحيث كان على رأس هذه الشروط - كما ذكرت في السطور السابقة - القبول أو لنقل الالتزام باتفاقية كامب ديفيد الموقعة بين مصر أيام حكم السادات وإسرائيل. من هنا يمكن القول أن الدعم القطري للإسلام السياسي السوري أتى في سياق العمل القطري على أسلمة الربيع العربي بشكل عام والسوري بشكل خاص في إطار تقديم أكبر خدمة للأمريكان في سعيهم لاحتواء الربيع العربي الذي شكلت انطلاقته ومن ثم تمدده من ساحة إلى ساحة مفاجأة وخطراً يهدد لا وجود الحكومات العربية بما فيها الخليجية فحسب بل خطراً يهدد المصالح الأمريكية في المنطقة على المدى البعيد كما يهدد مصالح كل الحكومات التي ليست لها مصلحة بيقظة وحرية الشعوب العربية أو لنقل ليست لها مصلحة في أن تصبح الشعوب العربية مالكة وماسكة لحقها في تقرير مصيرها السياسي والاقتصادي ...الخ. لقد شكلت قطر وكيلاً عمومياً لكل طرف إقليمي أو دولي أو محلي سوري ونقصد هنا الإسلام السياسي السوري له مصلحة بتفريغ الربيع السوري من محتواه التحرري الديمقراطي إلى محتوى آخر مضاد لأهدافه الحقيقية التحررية, حتى يمكن القول إن قطر شكلت بؤرة الثورة المضادة للربيع العربي أو لنقل المصنع الأساسي لتصدير وتصنيع الثورة المضادة في كل الساحات التي تفجر فيها الربيع العربي. وإذا كانت تركيا الأردوغانية قد استغلت كونها شكلت حاضنة إنسانية وسياسية للسوريين في الوصول إلى أهدافها, فإن قطر استغلت بدورها كبر كيس مالها المملوء دائما بالذهب الأسود، كما استغلت آلتها الإعلامية الضخمة ونقصد هنا قناة الجزيرة التلفزيونية التي تبث من قطر في الوصول إلى أهدافها ومسعاها إن كان في تعويم الإسلام السياسي الإخواني والجهادي إلى المشاهد السوري والعربي والعالمي أو في تسويق هؤلاء بوصفهم ثواراً وأصحاب قضية وحقاً ومظلومية حيث تم اللعب بالمظلومية السورية العامة وتحويلها إلى مظلومية دينية طائفية مبتذلة. إن الدعم المالي القطري للأطراف السورية المعارضة الممثلة للإسلام السياسي الإخواني والجهادي وتعويم هذه الأطراف سياسياً إن كان على صعيد شخصيات محددة أو شعارات محددة من خلال محطة الجزيرة الفضائية وضع الإسلام السياسي السوري لا في واجهة المعارضة السورية فحسب بل في واجهة الثورة السورية, حتى أصبح المشاهد والمتابع السوري والعربي والعالمي ينظر إلى وجه الثورة السورية من خلال فضائية الجزيرة القطرية.
لقد استغلت قطر إمكاناتها المادية والإعلامية الضخمة وحاجة السوريين الثائرين إلى وسيلة إعلامية تنقل للعالم معاناتهم غير المسبوقة في التاريخ الحديث وقضيتهم التي حاول إعلام النظام أن يطمسها ويخفيها تحت جبل من الأكاذيب والأضاليل, نقول استطاعت قطر من خلال فضائية الجزيرة أن تدخل إلى قلب الساحة السورية وإلى قلوب السوريين بوصفها المحطة الرئيسية والوحيدة في البداية التي تقوم بكشف وتعرية أكاذيب النظام وبوصفها المحطة التي تنقل مجريات الحراك الثوري السوري مباشرة ومن قلب الحدث, كلنا يتذكر كيف كان السوريين ينتظرون تقرير مراسل الجزيرة ماجد عبد الهادي بقلق وتوتر ولهفة وعاطفة من ينتظر كي يطلق عليه القاضي حكم البراءة في قضية وشبهة ظالمة, لقد كانت الجزيرة وعبر مراسليها والناشطين الثوريين على الأرض الوسيلة الإعلامية الوحيدة التي رد من خلالها السوريين على أكاذيب النظام الذي اتهمهم بوطنيتهم حين صورهم إعلام النظام بوصفهم مجموعة من عملاء الخارج وحين طعن بكرامتهم حين صور المتظاهرين على أنهم مجموعة من المرتشين المأجورين لصالح الخارج وحين صور أن من في الشوارع السورية هم عبارة عن ناس يحتفلون ويبتهلون بنزول المطر وأن الحديث عن متظاهرين هو محض أكاذيب المحطات الفضائية المغرضة ...الخ من الأكاذيب. لقد استطاعت الجزيرة الغوص إلى قلب الحدث والثورة السورية وإلى عمق وقلب الموجة الثورية التي اجتاحت سوريا وهو الأمر الذي أعطاها الإمكانيات بأن تلعب دوراً مهماً في صياغة وقيادة وتوجيه الرأي العام السوري إلى درجة استطاعت فيه من خلال غوصها إلى قلب وعمق الموجة الثورية أن تعطي هذه الموجة شيئاً فشيئاً اللون الذي تريده وفيما بعد استطاعت النفاذ إلى العمق وتغيير محتوى هذه الموجة, هنا بدأ اللعب في أحشاء وعواطف وآلام ومعاناة السوريين, وهنا بدأ اللعب في وجه الثورة السورية، وهنا بدأ العمل على وضع وجه وقناع جديد للثورة السورية لا يتناسب مع أهدافها التي خرج السوريون من أجلها.
لقد استطاعت الجزيرة شيئاَ فشيئاً أن تدخل السم في عسل الخبر الضروري عن الثورة السورية, وهنا قامت بإخفاء الوجه المضيء والتحرري للحراك الثوري لصالح إبراز الوجوه والملامح الدالة على أن ما يحصل في سوريا هو تحرك إسلامي بالدرجة الأولى والأخيرة أو لنقل أنها ثورة لرفع الحيف والمظلومية عن الطائفة السنية التي يضطهدها نظام طائفي علوي, وهنا يجب علينا أن لا ننسى أن أول صرخة طائفية لم تخرج من الحراك الثوري السوري والجوامع السورية وإنما خرجت من جهة النظام أولاً ثم تم الرد عليها بخطاب طائفي معاكس من على شاشة محطة الجزيرة الفضائية على لسان الشيخ يوسف القرضاوي رئيس هيئة علماء المسلمين في العالم الذي كانت الجزيرة تبث خطبته الموجه للسوريين في كل يوم جمعة وهو يرتدي اللباس الأبيض مصورة إياه وكأنه ملاك السوريين المنتظر, كما علينا أن لا ننسى ونعلم كم كانت مفاعيل خطابات الشيخ القرضاوي شديدة التأثير في لحظة كان فيها الشعب السوري يغرق بدمائه – وبلون طائفي محدد - التي كانت تسيل في الشوارع والساحات بعد إن أفلت النظام قطعان شبيحته الطائفية على المتظاهرين السلميين.
وهنا علينا أن نقول بأنه لا يمكن فهم كل أبعاد سياسة قطر الخارجية إن كان اتجاه الربيع العربي بشكل عام أو السوري بشكل خاص أو حتى دورها في المنطقة والعالم من دون إدراك طموحات العائلة الحاكمة في قطر, فدولة قطر لا تلعب دور مروض للإسلام السياسي الإخواني والجهادي بوصفها لاعب سرك سياسي وإنما هي تبحث لنفسها من خلال ذلك عن دور تلعبه على الصعيد العربي والإسلامي من خلال علاقتها بقوى الإسلام السياسي, أي أن دولة قطر تستثمر نفوذ ودور وحجم الإسلام السياسي – والذي لعبت قطر دوراً كبيراً في تنميته - في بعض الساحات العربية والإسلامية لتحويله إلى رصيد لسياستها ودورها الخارجي إن كان داخل العالم العربي والإسلامي أو حتى دورها في الساحة الدولية. إن العائلة الحاكمة في دولة قطر تصطدم دوماً طموحات سياستها الخارجية التي ترغب أن تقوم بها أو تحسب لها بحقيقة حجمها البشري ( عدد السكان ) والجغرافي ( المساحة الجغرافية) على الخريطة العربية والدولية, وهو الأمر الذي يمكن أن نسميه بعقدة حكام قطر البشرية والجغرافية إن صح القول, فالعائلة الحاكمة تدرك جيداً بأنها مهما امتلكت من الأموال والثروات الباطنية ( وتحديداً من الغاز ) والنفوذ في أوساط الإسلام السياسي أو نفوذ لدى الحكومات الغربية نتيجة قيامها بهذا الدور أو ذاك خدمة لهذه الحكومات إلا أنها بالرغم من كل ذلك لا تستطيع قطر أن تتخطى وتتجاوز عقدة نقصها المتمثلة في كونها دولة ( وإمارة ) صغيرة في المساحة الجغرافية وفي عدد السكان, وهو الأمر الذي يدفعها باعتقادي دوماً إلى تشجيع الصراعات الأهلية داخل المجتمعات العربية بعكس ما توحي سياستها الخارجية بكونها أم المصالحات في بعض النزاعات الأهلية هنا وهناك (دورها الظاهر في الساحة الفلسطينية كما دورها الظاهر في الساحة اللبنانية أو دورها الظاهر في الساحة السودانية بوصفها راعية للمصالحات بين الأطراف المتصارعة ), فحكام قطر لديهم هوس للإمساك بملفات الانقسامات العمودية ( صراعات الهوية ) في أكثر من ساحة في المنطقة العربية, فالإمساك بهذه الملفات ربما يعطيهم فرصة قوية لاختراق هذه الساحات بطريقة ناعمة, كما يعطيهم فرصة للتأثير في المستقبل على هذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع وقت الضرورة, كما يعطي للأطراف الدولية ( ونقصد هنا أمريكا أكثر من غيرها ) فرصة على إدارة ومراقبة أكثر من ساحة وأكثر من أزمة وصراع وبطريقة غير مباشرة من خلال وكيلها القطري في المنطقة, إن حقيقة الدور القطري الذي ظهر أكثر من أي وقت مضى بعد الربيع العربي يقود إلى تفتيت وحدة الكيانات القطرية التي تأسست من خلال سايكس بيكو, فتفتيت الكيانات العربية القطرية إلى مجموعة من الكيانات الطائفية أو الإثنية يجعل من قطر ومعها إسرائيل ربما من أكبر وأقوى الكيانات في المنطقة, أي أن تفتيت كل دول المنطقة إلى مجموعة من الدويلات الطائفية كفيل بأن يخلص حكام قطر وحكام إسرائيل من عقدة كونهما كيانات صغيرة جغرافياً وبشرياً, كما هو كفيل بأن يجعل من قطر أحد أقوى الكيانات في المنطقة كونها تمتلك ثروات باطنية ضخمة من الغاز.
على هذا الأساس أتى الدعم القطري للإسلام السياسي إن كان في سوريا وفي غيرها من الساحات العربية التي يتكون نسيجها الوطني من أكثر من تلوين طائفي ليصب في النهاية في خدمة الصراع الطائفي الذي يقود إلى تقسيم النسج الوطنية إلى كيانات طائفية على شكل دول أو على شكل محاصصات طائفية في السلطة, كما دعمت قطر الإسلام السياسي في بعض الساحات العربية في وجه التيارات العلمانية كما في مصر وليبيا وفلسطين وتونس حيث قاد هذا إلى صراع داخل هذه المجتمعات بين التيار الإسلامي والتيار العلماني على هوية الدولة والمجتمع ما بعد التخلص من الاستبداد وهو الأمر الذي قاد إلى انقسامات حادة على أساس الهوية في بعض الساحات العربية تهدد وحدة وتماسك هذه المجتمعات.
لقد لاحظت قطر كما غيرها من الدول والجهات التي أرادت تغيير ميدان وحقل الصراع في سوريا بأن هناك قوى وجهات طائفية دينية تحارب تحت علم الثورة وتحت راية مشروع التغيير الديمقراطي ولكن لا من أجل انتصار مشروع التغيير الديمقراطي وإنما من أجل انتصار مشروع التغيير الطائفي في السلطة, وقد استغلت هذه الجهات الخارجية والداخلية كون النظام السوري اعتمد في وجوده وفي مقاومته ومحاربته للثورة على العصبية الطائفية وهو الأمر الذي كان يولد ويخلق الشروط والمناخ المناسب والخصب لولادة ردات فعل طائفية معاكسة وهو الأمر الذي شجعته قطر وغيرها ممن عملوا ليل نهار لإحداث انزياح في ميدان ومحتوى الصراع الدائر على الأرض السورية بعد انطلاق الثورة. لقد تم دعم أصحاب المشروع الطائفي الديني بكل الإمكانات والسبل وهو الأمر الذي قاد لأن يحل شيئاً فشيئاً أصحاب المشروع الطائفي مكان أصحاب المشروع الديمقراطي للثورة السورية. وبهذا غلفت الثورة السورية شيئاً فشيئاً بغلاف وقشرة طائفية دينية سميكة وهو الأمر الذي أخمد إشعاع ونور الثورة السورية لا في نظر السوريين فحسب بل في نظر العالم أجمع, وبهذا توفرت كل الشروط اللازمة لحجب الثورة الديمقراطية عن الواجهة وتقدم وظهور وولادة الثورة المضادة التي كان عمادها مجموعة من الفصائل العسكرية الإسلامية التي ولدت بدعم سياسي تركي ومولت من كيس المال القطري والسعودي, وبهذا استطاعت قطر ومعها السعودية وتركيا ومن خلفهم أمريكا سرقة وخطف الثورة السورية كل منهم إلى الميدان الذي يريده ويبتغيه. وهنا نصل إلى حسابات البيدر لكل من قطر والسعودية وتركيا.
لقد كان الهدف القطري من أسلمة الربيع العربي والثورة السورية كما لاحظنا وضع أكثر من ساحة عربية تحت الوصاية القطرية أو لنقل تحت نفوذ السياسة الخارجية لحكام قطر كون قطر هي صاحبة الوصاية والرعاية لمشروع الإسلام السياسي في المنطقة العربية وبما يعني العمل على تأهيل هذا الإسلام ليكون مستعداً ومطواعاً في أي لحظة للانخراط ( عن وعي أو عن جهل وجاهلية ) في المشاريع الأمريكية المعدة للمنطقة العربية حتى ولو اقتضى الأمر وضعه في خدمة مشاريع تقسيم المنطقة على أساس طائفي أو قومي أو عرقي . وهنا كان المشروع القطري يلتقي مع مشروع الحلف الشيعي الداعم للنظام والذي رأى من اليوم الأول للثورة السورية أن الانخراط في مشروع تقسيم المنطقة على أساس طائفي (وبالاتفاق مع إسرائيل ) هو الفرصة الوحيدة له للانتصار أو للاحتفاظ بالنفوذ الإيراني الشيعي في المنطقة . وبهذا المعنى فإن قطر كانت تعمل وتدفع باتجاه يخدم أهداف وقضية حلف النظام أكثر مما كانت تخدم قضية وهدف المعارضة والثورة السورية , بل يمكن القول أن العمل القطري كان يصب في الخانة التي تقضي على كل أهداف الثورة السورية , أي يصب في خانة الثورة المضادة للثورة وبكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى .
أما بالنسبة للمملكة العربية السعودية فعلى الرغم من كونها دفعت كغيرها من " حلفاء " المعارضة والثورة السورية نحو الأسلمة إلا أن غاياتها وأهدافها من الأسلمة لم تكن مماثلة لأهداف شركائها في الحلف , فالسعودية رأت في الأسلمة وسيلة أولية ومرحلية لتفريغ الربيع العربي من محتواه التحرري, أي لم تدفع نحو الأسلمة حباً بالإسلام السياسي والإخوان المسلمين وغيرهم من الحركات الإسلامية وإنما لاستخدامهم بشكل مرحلي كأداة رخيصة في مواجهة أو مساومة إيران على نفوذها وحصتها في المنطقة, وهنا كانت تكمن نقطة الخلاف السعودية وحليفتها دولة الإمارات العربية مع قطر وتركيا والتي كشفها وعبر عنها فيما بعد رئيس الوزراء القطري الأسبق حمد بن جاسم آل ثاني في قوله في لقاء صحفي على القناة التلفزيونية القطرية الرسمية بتاريخ 27 تشرين الأول 2017 " بأننا تهاوشنا مع حلفائنا السعوديين والإماراتيين على الصيدة السورية الأمر الذي قاد إلى إفلاتها " وبما يعني الخلاف على الدور النهائي للإسلام السياسي الإخواني ومشتقاته في مستقبل النظام البديل عن النظام الأسدي، وهو الأمر الذي بدأ فيه التهاوش شكله المكشوف ( وفي الوقت نفسه مخفي عن عامة السوريين الذين كانوا يجهلون حقيقة الصراع بين الجهات التي تحرك الأحداث ) يوم تم اعتقال قائد المجلس العسكري في درعا العقيد أحمد النعمة في مايو 2014 ( كلنا يتذكر قبل هذا التاريخ أن مراسلة قناة العربية ريما مكتبي كانت قد دخلت إلى الأراضي السورية وأجرت معه في غرفة عملياته ريبورتاج مطول أواخر شهر آذار عام 2013 ) من قبل جبهة النصرة المدعومة قطرياً وذلك للضغط على الإمارات العربية والسعودية لإدخال قطر كعضو أصيل – بدل أن تكون عضواً مراقباً - في غرفة " المور " المسؤولة عن دعم وتسليح فصائل الجبهة الجنوبية في محافظتي درعا والقنيطرة حيث كان ممنوعاً على قطر ومعها تركيا القيام بسيطرة الفصائل الإسلامية على تلك الجبهة ثم امتد هذا التهاوش على شكل تصفيات قامت بها جبهة النصرة على فصائل الجبهة الشمالية حين قامت في أكتوبر 2014 بشن هجوم عنيف على الفصائل المدعومة إماراتياً وتمكنت خلال أسابيع من القضاء على جبهة ثوار سوريا ( بقيادة جمال معروف ) وحركة حزم، وتوالى استئصال الفصائل والمجموعات حتى انتهى العام 2014 بخريطة نفوذ عنوانها قطري متحالف مع تركيا في الشمال، وفي غوطة دمشق الشرقية تم التعبير عن هذا التهاوش بالصراع الدامي الذي تفجر بين جيش الإسلام المدعوم سعودياً وبين فيلق الرحمن المدعوم قطرياً. كما أن هذا التهاوش كانت ميادينه تدور خارج الساحة السورية حيث قامت السعودية ومعها الإمارات العربية بدعم انقلاب عبد الفتاح السيسي – صاحب الثورة المضادة الثانية لثورة 25 يناير - في مصر على الرئيس الإخواني محمد مرسي – صاحب الثورة المضادة الأولى على ثورة 25 يناير - المدعوم من قبل قطر وتركيا. كما كان هذا التهاوش في ليبيا حين عملت قطر وتركيا كل ما يلزم لإسقاط حكومة الدكتور محمود جبريل المدعومة من قبل السعودية والإمارات لصالح الإخوان المسلمين في ليبيا. وبالعودة إلى التهاوش في سوريا يمكن القول أن هذا تجلى بشكل صارخ بعد أن انتقل ملف المعارضة السورية إلى السعودية وعملها على قصقصة جناح الإسلام السياسي التابع لقطر وتركيا ما أمكن من قيادة المعارضة السورية لصالح شخصيات تابعة لها. إن أسلمة الثورة السورية لم تكن تعني بالنسبة للمملكة العربية السعودية تقوية تيار الإسلام السياسي وتمكينه على الأرض وإنما كانت تعني استثمار التجييش الديني والطائفي والمشاركة في هذا التجييش في المنطقة ( كلنا يتذكر المحطة الفضائية التي كان العرعور ينفث سمومه الطائفية والدينية من أراضي المملكة السعودية ) حيث تكون السعودية هي وليس غيرها على رأس قيادة الشارع السني في المنطقة العربية والإسلامية وبما يعني تجيير هذا الشارع لمصلحة صراعها مع إيران أو لنقل لمواجهة المشروع الإيراني ومن أجل تحجيم الدور الإيراني والنفوذ الإيراني في المنطقة, أي إن الأسلمة كانت تعني في النهاية بالنسبة للسعودية وضع الشارع السني العربي والإسلامي إن أمكن في مواجهة الشارع الشيعي المؤيد والمناصر للمشروع الإيراني في المنطقة, فالمملكة العربية السعودية وجدت نفسها فجأة بعد الربيع العربي وبشكل خاص السوري، أنها لا تملك أي وسيلة وقوة ذات معنى لمواجهة ووقف تقدم زحف المشروع الإيراني في المنطقة العربية والذي هو على حسابها أولاً وأخيراً إلا من خلال استنهاض وتحشيد الشارع السني في المنطقة العربية ضد إيران, ولم يكن ممكناً استنهاض هذا الشارع ووضعه في خدمة المملكة العربية السعودية إلا من خلال تسعير الصراع الطائفي الديني السني - الشيعي في المنطقة ومن بوابة المظلومية السنية الدامية والساخنة في سوريا أي من خلال إعطاء الصراع القائم بين الشعب السوري الثائر والنظام الاستبدادي المجرم طابعاً طائفياً دينياً, ولهذا كانت أسلمة الثورة السورية هي كلمة السر في رهان السعودية على كسب وجر الشارع السني السوري والعربي إلى صفها في حربها مع إيران ومشروعها الطائفي الذي كان يهدد المنطقة العربية شعوباً وحكاماً. بهذا المعنى لم تكن السعودية معنية لا من قريب ولا من بعيد لانتصار المعارضة والثورة السورية بوصفها ثورة تسعى إلى تجسيد مشروع ديمقراطي تحرري جوهره بناء دولة تعددية ديمقراطية حقيقية, في الوقت الذي كان فيه كل هم السعودية من دعمها للسوريين ومن ذرف الدموع على السوريين في المحافل الدولية والعربية هو استثمار الدم السوري والمعاناة والمحنة السورية من أجل مواجهة المشروع والنفوذ الإيراني في المنطقة العربية من اليمن شرقاً إلى جنوب لبنان غرباً, حتى يمكن القول إن السعودية لم يكن يعنيها إسقاط النظام السوري بوصفة نظام استبداد واستعباد وإنما كان همها إسقاط رأس النظام السوري بوصفه نظاماً حليفاً لإيران وشريكاً لإيران في المنطقة, أي إن هدفها كان يتمثل في نزع الطابع الطائفي عن النظام من خلال إسقاط رأس النظام مع الإبقاء على النظام كما هو بوصفه نظام استبداد واستعباد, أي بناء نظام على هيئة ومضمون النظام القديم وفي أسوأ الأحوال أن لا يكون معادياً للسعودية. ولهذا لم تكن السعودية تمانع وتعارض المشروع الروسي في سوريا إذا كان هذا المشروع يهدف إلى تغيير الطابع الطائفي للنظام حتى ولو أخذت واحتلت روسيا سوريا ووضعتها تحت وصايتها وضمن نطاق نفوذها العالمي, ولهذا كان حوار ونقاش السعوديين مع الروس يتمحور منذ بداية الثورة السورية وحتى يومنا هذا حول نقطة واحدة وحيدة تتمثل بعقد صفقة تأخذ فيها روسيا ما تريد في سوريا وفي المنطقة مقابل إعادة بناء النظام في سوريا بعد نزع الطابع الطائفي عنه. كلنا يتذكر العروض السعودية لروسيا بأنها مستعدة لإعادة كل نفوذها السابق في المنطقة في زمن الحرب الباردة مقابل إزاحة الأسد، طبعاً من دون أن تدرك المملكة أن كلمة السر في هذا لم يكن باليد الروسية وإنما في إسرائيل التي كانت تريد إطالة أمد الصراع في سوريا إلى أطول فترة ممكنة مع الإبقاء في النهاية على الأسد كونه يشكل حارس أمنها الأمين.
لقد شكلت الأسلمة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموماً أفضل طريقة ووسيلة لقطع الطريق أمام الشعوب العربية لإمكانية بناء نظم ديمقراطية تعددية تداولية تخلق الشروط الضرورية لتحرير طاقات الشعوب العربية وبما يعني ويقود إلى وصولها ودخولها من باب الحرية إلى وعي مصالحها وعلاقتها بنظمها الداخلية كما علاقتها ومكانتها ودورها داخل النظام الرأسمالي العالمي, وبما يقود إلى اكتشافها وتحديدها للأصدقاء والأعداء من باب مصالحها كشعوب فقيرة تطمح إلى التحرر والارتقاء الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي والروحي ...الخ الأمر الذي يعني أن هذا سيقودها إلى التمرد بوجه كل أشكال الارتباط والارتهان السياسي لسياسات الخارج, وبما يعني في النهاية امتلاكها لحقها في تقرير مصيرها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي بعيداً عن أي وصاية داخلية أو خارجية تحد من قدرتها على الانطلاق في سلم التطور والحضارة
فالحكومات الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن يعنيها الربيع العربي والحرية والتحرر, إن كل ما كان يعنيها بعد انطلاق الربيع العربي هو استيعاب واحتواء الجماهير العربية الناهضة والثائرة والصارخة بأعلى صوتها الشعب يريد إسقاط النظام. وقد وجدت هذه الحكومات أن أسلمة الربيع العربي هي أفضل طريقة لاحتواء هذه الجماهير الثائرة, وذلك من خلال عقد صفقة مع النخب السياسية الإسلامية الإخوانية بشكل خاص وبمساعدة العراب القطري والتركي حيث يتم كمرحلة أولى استغلال الإسلام السياسي في الشارع العربي وعلاقة هذا التيار المميزة مع المراكز الرأسمالية العالمية كمدخل لإعادة الشعوب الناهضة إلى الحظيرة وبيت الطاعة العالمي من جديد, وكمدخل لوضع هذا الإسلام في مواجهة وصراع مع الإسلام السياسي الشيعي في المنطقة في مرحلة ثانية كما أن الأسلمة كانت ضرورية للأمريكان لتمرير مشروع تقسيم المنطقة على أساس طائفي وعرقي, وهذا ما حصل بعد أن وجد الأمريكان منذ عام 2003 ( سقوط بغداد ) استعداداً كاملاً وقوياً لدى الحلف الشيعي في المنطقة لتقديم كل الخدمات والتنازلات في مقابل الحفاظ على النفوذ والمكاسب التي حققها المشروع الإيراني في المنطقة منذ قيام وانتصار الثورة المضادة الخمينية. إن الأمريكان يعلمون أكثر من غيرهم أن مشروع تفتيت المنطقة العربية على أساس طائفي وعرقي لا يمكن أن يحدث ويتحقق على أرض الواقع إلا بوجود قوتين من ذات الطبيعة الثقافية ولكن متعاكستين في الاتجاه والمصالح. وإذا كان الأمريكان يعرفون ويدركون جيداً كما غيرهم أن الإسلام السياسي الشيعي منذ سقوط بغداد وصل في المنطقة إلى الحد الذي يجعله مستعداً للانخراط في أي صراع دموي في المنطقة في سبيل الحفاظ على المكتسبات التي حققها في العراق ولبنان وسوريا وفي غيرها من الساحات العربية. إن علم الأمريكان بهذه الحقيقة هو الذي شجعهم على توليد الحلف والطرف المقابل والمعاكس الذي يجب عليه خوض هذا الصراع الدموي. وهنا نقول مخطئ من يظن أن سياسة باراك أوباما تختلف عن سياسة بوش الأب وبوش الابن, فإذا كان بوش الابن قد حقق وأنجز المرحلة الأولى من مشروع الصراع الطائفي في المنطقة العربية فإن باراك أوباما هو الذي حقق المرحلة الثانية من هذا المشروع, والفرق بينهما يكمن فقط في كون بوش الابن اعتمد على العنف والتدخل العسكري المباشر في حين اعتمد أوباما على الديبلوماسية والسياسة والادوات المحلية لتحقيق الهدف نفسه. لقد كانت أسلمة الثورة السورية هي الفرصة لإيجاد الطرف المقابل السني للإسلام السياسي الشيعي والمستعد لخوض صراع دموي بكل الاندفاع الذي تغذيه المظلمة السنية هذه المرة إن كان في سوريا بعد المجازر الدموية التي بدأ يرتكبها النظام السوري المجرم والبربري من الأيام الأولى لانطلاق الثورة السورية أو في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين وتسنم فصائل الإسلام السياسي الشيعي دفة ومقاليد الحكم في العراق وما تبع ذلك من تهميش وممارسات طائفية بحق أهل السنة .
وبالعودة إلى الدور التركي وحسابات البيدر أقول: إذا كانت الأسلمة قد أتت كتلبية لطموحات تركيا الأردوغانية العثمانية الجديدة وبسعي حثيث منها فإن هذه الأسلمة ومعها تركيا تحولت إلى أداة بيد الغير, أي أن تركيا حكومة ودولة تحولوا مع هذه الأسلمة إلى أداة لتحقيق مشاريع الغير الأمريكي والسعودي وحتى القطري فلم تدرك تركيا الأردوغانية أن الأسلمة والنموذج التركي الأردوغاني الذي طبلت وزمرت له في سياق مشروعها وطموحاتها العثمانية الجديدة مرفوضة وتشكل خطراً لا على مصالح الشعوب العربية فحسب بل خطراً حتى على المصالح الغربية كذلك, أي لم يدركوا أن إعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية يعني خروج تركيا إلى خارج حدودها القومية وبما يعني قيام دولة تركية قوية وعلى الحدود الأوروبية تضع تحت جناحها ونفوذها كل الشعوب العربية في المنطقة, وهو الأمر الذي لم يكن بالإمكان قبوله لا من بعيد ولا من قريب من قبل القوى الفاعلة في المنطقة إن كانت إسرائيل بالدرجة الأولى أو من قبل القوى الدولية والتي ستكون هذه الإمبراطورية العثمانية الجديدة على حدودها ونقصد هنا القوى الغربية قاطبة بدءاً بالدول الغربيةً الأوروبية بما فيها روسيا الاتحادية وصولاً إلى أمريكا وهو الأمر الذي كنت قد أشرت إليه بشكل موسع سابقاً على صفحات اللوموند بمقال تحت عنوان " أمريكا وترقيص المطامع العثمانية والفارسية على جثة شعوب المنطقة " . ولهذا فبدل أن تجني تركيا من أسلمة الثورة السورية الثمار المرجوة تحولت هذه الأسلمة إلى وبال على تركيا حكومة ودولة وشعباً, فالأسلمة التي عملت عليها تركيا تحولت إلى ورقة بيد الأمريكي وضد الأتراك فبحجة محاربة تنظيم داعش الذي نشأ على الأرض السورية كأحد تفريخات أسلمة الثورة السورية وهو التنظيم الذي سيطر عندما كان في ذروة قوته على كامل الشمال السوري، بدءاً من مطار منغ شمال مدينة حلب وشرق مدينة عفرين، وصولاً إلى مدينة ( أبوكمال ) في أقصى الشرق السوري على الحدود مع العراق، مروراً بمدينة منبج والرقة وكل المدن والبلدات الواقعة على مجرى وضفتي نهر الفرات أضافة إلى انتشاره ووجوده في القسم الأكبر من البادية السورية وفي الكثير من المدن والبلدات التي خرجت من تحت سيطرة النظام، أي ما يقارب من ناحية المساحة الجغرافية ثلث مساحة سوريا، أقول : استطاعت الولايات المتحدة ومن خلال تحالف دولي أن تشكل كياناً سياسياً وعسكرياً كردياً وإقامة إدارة ذاتية – روج آفا - في المناطق التي سيطر عليها كيان معاد لتركيا ويمسك بكل المساحة الجغرافية والبشرية شمال شرق سوريا وبمساحة جغرافية بلغت 50000 كيلومتر مربع وهو ما أصبح يطلق عليه شرق نهر الفرات أي المنطقة التي تسيطر عليها ما يسمى قوات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية الكردية التي دعمتها الولايات المتحدة في حربها على داعش في تلك المنطقة وهو الأمر الذي شكل كابوساً يقض مضاجع الدولة التركية المصابة بعقدة المكون الكردي تاريخياً. فقيام كيان كردي في شمال شرق سوريا وعلى الحدود التركية وبجوار وتلامس مع الملايين من الأكراد في تركيا المحرومين من حقوقهم القومية, يجعل من إمكانية اللعب في أحشاء الدولة التركية أمراً سهلاً وقابلاً للاشتعال والتحقيق في أي لحظة تريدها القوى الدولية صاحبة المصلحة. لقد أدركت تركيا بقيادة أردوغان متأخرة حجم الخديعة التي وقعت بها من جراء انجرارها الغبي خلف شريكها التقليدي الأمريكي أو لنقل نتيجة تبعية موقفها للموقف الأمريكي في كل ما يتعلق بسياستها تجاه سوريا وتحديداً في السنوات الأولى للثورة قبل أن تكتشف متأخرة مدى الخذلان من سيدها الأمريكي وهو الأمر الذي جعلها تنقل خطوطها الحمر التي وضعتها في بداية الثورة السورية وتحذيرها للنظام السوري من مغبة حصار وتدمير مدينة حمص كما فعل من قبل حافظ الأسد في مدينة حماة وغيرها من التحذيرات والخطوط الحمر الكثيرة التي سحبت شيئاً فشيئاً كون القيادة الأردوغانية كانت أولا ً: لا تتجرأ نتيجة تقيدها بسلاسل التبعية للقرار الأمريكي على اتخاذ أي موقف مستقل من دون ضوء أخضر أمريكي لاجتياح سوريا وثانياً : على الرغم من إدراك أردوغان أن الجيش التركي كان قادراً من الناحية العسكرية في السنوات الأولى للثورة على اجتياح سوريا من شمالها إلى جنوبها خلال يوم واحد في شروط كان يترنح فيها النظام تحت وقع ثورة عارمة بوجهه ومرحبة بأي مساعده خارجية تنقذ رقبتها من تحت سكين نظام مجرم إلا أن السيد أردوغان لم يتجرأ على إعطاء هكذا أمر للجيش التركي كونه لم يكن متأكد حينها وربما حتى الآن من ضمان سيطرته الكاملة على الدولة العميقة التركية المكونة أساساً من العسكر حماة العلمانية الأتاتوركية فالعسكر في تركيا ربما لا يمانعون تحول وانبعاث الدولة التركية إلى امبراطورية ولكن من المؤكد بأنه كان لديهم هواجس يعرفها ويخمنها السيد أردوغان من مضمونها الديني العثماني الذي كان جدهم أتاتورك هو من وضع آخر مسمار في نعشها عام 1923، هنا نلاحظ كيف أن التاريخ الحديث لتركيا كان أكثر الماكرين ضد الأسلمة التي سعى إليها أردوغان يضاف إلى ذلك ثالثاً : موقف حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة التركية والذي يشكل الامتداد السياسي والثقافي للأتاتوركية العلمانية والذي كان لديه بدوره تخوفات من الطموحات الإسلامية الأردوغانية في سوريا، كلنا يتذكر موقف رئيس هذا الحزب كمال كيليتشدار أوغلو الذي هدد أردوغان في ذروة اندفاعه وتهديداته للنظام السوري، بالذهاب إلى دمشق ومقابلة بشار الأسد، وإذا ما أضفنا دخول المركب الطائفي إلى بنية هذا الحزب أقصد الدور الذي أصبح يلعبه العلويون الأتراك في هذا الحزب – من الجدير الإشارة إلى أن رئيس هذا الحزب ينتمي للطائفة العلوية في تركيا - ولا سيما بعد استنهاض الاستقطاب الطائفي في عموم المنطقة والذي وصل صداه إلى الداخل التركي نتيجة الأسلمة التي وقفت على رأسها تركيا الأردوغانية، كلنا يتذكر كذلك الاعتصام في ساحة تقسيم في مدينة اسطنبول بتاريخ 28 مايو 2013 والذي انخرطت فيه أو دخلت على خطه القوى اليسارية العبودية ومعها القوى الطائفية الموالية للنظام السوري. أقول: عندما ندرك ونفهم كل هذه القيود التي وقفت بوجه الجمل ألاردوغاني الهائج عندها يمكن أن نفهم كيف سحبت كل خطوط أردوغان الحمراء حتى وصلت الخطوط الحمر إلى داخل الحدود القومية لا بل مع الانقلاب العسكري في 15 يوليو 2016 وصلت الخطوط الحمر إلى ذقن ورأس أردوغان ذاته وقبلها كان الخذلان الأمريكي لتركيا في التمنع من الوقوف معها في حادثة إسقاط طائرة السوخوي الروسية بتاريخ 24 نوفمبر 2015 ، أقول : هنا انسحبت كل الخطوط الحمر إلى الحد الذي أصبحت فيه أقصى طموحات القيادة التركية يتمثل في منع قيام كيان كردي في شمال سوريا, أو لنقل نيل بعض من قطعة الجبنة السورية بحجة الخوف من قيام كيان كردي مستقل على حدودها الجنوبية بعد أن كان طموحها ابتلاع كامل قطعة الجبن السورية. هكذا وجدنا القيادة التركية بعد أن استدارت نحو موسكو نتيجة مرارة الخذلان الأمريكي بدأت تسابق الزمن في بيع الثورة السورية بالمفرق منطقة إثر أخرى حيث أقذر ما في هذا البيع للمناطق الذي كان يتم تحت الطاولة بين أردوغان هو أنه لم يكن يعلم به سكان المناطق التي يتم بيعها ، حيث كان يبدو وكأنه نتاج ميزان القوى العسكري للصراع وهو الأمر الذي كان يجسد على أرض الواقع بعمليات عسكرية مدمرة يقوم بها النظام وحلفاؤه تكون نتيجتها خروج من بقي حياً في هذه المناطق إلى محافظة إدلب أو بقاء من لم يرد الخروج مستسلماً لخصمه وعدوه الذي سيطر على أرضه وكسر إرادته. فبعد أن تخطت قوات سوريا الديمقراطية الكردية غرب الفرات ووصلت إلى مدينة منبج أصيبت القيادة التركية بحالة هلع وأصبحت مستعدة لفعل أي شيء مقابل قطع الطريق أمام قوات سوريا الديمقراطية الكردية لمنعها من وصل مناطق الإدارة الذاتية الواقعة شرق الفرات بالمناطق الواقعة غرب الفرات وتحديداً خطر الوصول إلى مدينة عفرين الكردية التابعة للإدارة الذاتية والواقعة في أقصى الشمال الغربي من سوريا، فكانت أول المناطق التي قامت تركيا ببيعها للنظام وحلفائه تسليم مدينة حلب التي سقطت بيد النظام بتاريخ 22 كانون الأول 2016 مقابل عملية درع الفرات التي سيطرت فيها تركيا بمساندة الفصائل السورية التابعة لها بتاريخ 29 مارس 2017 على المنطقة الممتدة من مدينة جرابلس الواقعة على ضفة نهر الفرات الغربية وصولاً لمدينة اعزاز غرباً عند تخوم مدينة عفرين ذات الغالبية الكردية وبعمق في الشمال السوري وصل إلى ما يقارب الثلاثين كلم عند حدود مدينة الباب شمال شرق حلب . ثم كانت عملية بيع الغوطة الشرقية والريف الشمالي لمدينة حمص والتي بدأت بالحملة العسكرية التي قام بها النظام وحلفاؤه بتاريخ 18 شباط 2018 وانتهت ببدء تسليم الغوطة لقوات النظام بتاريخ 23 آذار 2018 مقابل تسليم مدينة عفرين لتركيا من خلال ما عرف بمعركة غصن الزيتون التي انطلقت بتاريخ 22 كانون الثاني 2018. في المقابل كانت السعودية والإمارات المسيطرتان على غرفة الموك التي تمول الجبهة الجنوبية تستعدان لتسليم الجبهة الجنوبية في درعا والقنيطرة للنظام . ففي معركة بدأها النظام بتاريخ 1 تموز 2018 كانت درعا ومعها القنيطرة خلال شهر واحد تحت قبضة النظام بتاريخ 2 آب 2018 حيث تمت عملية التسليم تحت غطاء ما عرف برجال المصالحات التي قادها بعض قادة وقوادي الجبهة الجنوبية. والآن وبعد أن بيعت أغلب مناطق سوريا في البازار الإقليمي حيث لم يبق سوى المنطقة الشمالية الشرقية ذات الغالبية السكانية الكردية ومحافظة إدلب وقسم من ريف محافظة حماة الشمالي والغربي وهي المنطقة التي يقيم على أراضيها حوالي أربعة ملايين سوري وهم السكان الأصليون بعد أن أضيف إليهم السوريون الذين هجروا من بقية المحافظات إلى إدلب نتيجة الخوف من الدمار والموت الذي كان يلحقه قصف النظام لمدنهم وبلداتهم أو بفعل تهجير سكان المدن والبلدات التي أعاد النظام سيطرته عليها بعد أن تم بيعها منطقة إثر أخرى. والسؤال الذي يطرح نفسه هذه الأيام هل سيقوم السيد أردوغان بعد أن أصبح يقف على أبواب اللئام من روس وأمريكان وغيرهم كثر بما فيهم النظام السوري وإيران ببيع محافظة إدلب التي سيطرت عليها مؤخراً جبهة النصرة بدراية وتنسيق مع الطرف التركي الذي سعى لجعل ظهر المحافظة مكشوفاً بعد أن ألبسها قناع النصرة، فهنا أصبحت محافظة إدلب تستوفي كل الشروط اللازمة أو لنقل الذرائع اللازمة للطرف الروسي كي يقوم بالهجوم مع حلفائه مقابل حصول تركيا على الشريط الحدودي الممتد على طول الحدود الشمالية لسوريا بطول يصل إلى 850 كم وبعمق لا يقل عن 35 كلم حسب الطموحات التركية ؟؟؟؟ إن الأيام القادمة هي التي ستكشف موقع وحجم الحصة التركية فعدد الأطراف الداخلة في البازار السوري عديدة إقليمياً ودولياً وهو الأمر الذي يجعل من إمكانية التنبؤ المسبق أمراً صعباً للغاية فعلينا الانتظار بعض الوقت لنرى نتيجة لقاء العشاق الألداء في سوتشي في 14 من هذا الشهر وربما علينا الانتظار أكثر فلا أحد منا يستطيع التنبؤ بالجلسة الأخيرة التي سيغلق فيها بازار الدم السوري معلناً النتائج والحصص النهائية ولا سيما بعد تطور وانفجار الصراع بين حلفاء الأمس بعد مقتل الصحفي الإخواني السعودي جمال خاشقجي وبعد إعلان الرئيس الأمريكي ترامب نيته سحب القوات الأمريكية من منطقة شرق الفرات السورية وهو الأمر الذي أعاد خلط التحالفات بين صفوف كل الدول التي انخرطت في الصراع السوري. لقد تطور التهاوش والخلافات داخل دول معسكر وصفوف " حلفاء " الثورة والمعارضة السورية بشكل دراماتيكي إلى الحد الذي جعل هذه الخلافات تخرج إلى العلن على شكل حرب ضروس بعد المصيدة - المعدة مسبقاً كما أعتقد - التي وقعت فيها المملكة العربية السعودية وولي عهدها محمد بن سلمان في سفارتها في اسطنبول التركية وقيامها بقتل الخاشقجي بطريقة وحشية وبربرية ودون أن تدري أن الجريمة كانت تسجل بالصوت والصورة. وهنا انتقل الصراع بين حلفاء الأمس لا إلى مستواه العلني فحسب بل تحول إلى نوع من الصراع يمكن تسميته بصراع المجاكرة حول كل المواقف المشتعلة في المنطقة من اليمن شرقاً وصولاً إلى ليبيا غرباً. فقد تحولت محطة الجزيرة القطرية في نقلها لما يحدث باليمن إلى ما يشبه ما تنقله محطة المسيرة الحوثية أو حليفتهم إيران كما أصبح اللعب والصراع على المكشوف بين من تدعمهم السعودية والإمارات العربية في شرق ليبيا وعلى رأسهم خليفة حفتر وقواته وبين من تدعمهم قطر وتركيا في غرب ليبيا وعلى رأسهم فايز السراج في طرابلس مع المجموعات الإسلامية في غرب ليبيا. وقد كان الأهم في هذه المجاكرة كان الموقف الجديد لبعض دول الخليج من النظام السوري ولا سيما موقف البحرين والإمارات العربية التي أعادت فتح سفارتها في دمشق، كما عملت السعودية ومعها الإمارات لحشد موقف عربي رسمي داخل الجامعة العربية يقطع الطريق على تركيا لإقامة منطقة آمنة في شمال سوريا كحصة لها من قطعة الجبنة السورية وقد عبر عن هذا الموقف العربي الجديد منذ أيام أحمد أبو الغيط أمين عام الجامعة العربية عندما دعا أنقرة إلى العودة إلى اتفاق أضنة الذي وقعته الحكومة التركية سابقاً مع نظام الأسد الأب في 20 أكتوبر 1998 وأن ما على أنقرة سوى إعادة التفاهم مع الأسد الابن لإعادة إحياء هذا الاتفاق. بالمقابل كانت قطر وتركيا تعيد مد الجسور مع إيران وحتى مع النظام من خلال خيوط ضيقة وصغيرة من التواصل مع نظام الأسد كما صرح مؤخراً وزير الخارجية التركي. بالنتيجة يمكن القول أن النظام السوري ومعه حلفاءه من الإيرانيين والروس كانوا هم الرابحون من هذا التهاوش ومن هذه الخلافات التي بدأت تعصف بحلفاء الأمس الذين هم ذاتهم كانوا قد أطلقوا على أنفسهم ومعهم المعارضة السورية ذاتها بأنهم حلفاء الثورة والمعارضة السورية. مع كل هذا أصبح أهم " حليف " إقليمي للمعارضة والثورة السورية أقصد هنا تركيا في وضعية الدفاع بعد أن كانت في وضعية الهجوم وموقع من يضع الخطوط الحمر للنظام على الخارطة السورية. ومع هذا الانكشاف تبين أن المعارضة والثورة السورية لم يكن لهما في الواقع حليف حقيقي، أي لم يكن لهما أي حليف داعم لانتصارهما بوصفهما معارضة وثورة ديمقراطية هدفها إسقاط النظام الاستبدادي المجرم وبناء بديل ديمقراطي تعددي علماني, فالكل كان يعمل عملياً على سن سكاكينه ويتحين الفرصة للانقضاض لذبح الثورة السورية من الوريد إلى الوريد، أو يتحين الفرصة ليأخذ نصيبه من الدم السوري على هيئة حصة من قطعة الجبنة السورية. ومع هذه الحقيقة وانكشافها منذ سنوات بدأت تباعاً تدرك المعارضة السورية أو لنقل البعض ممن انخرط في مؤسساتها وهياكلها السياسية إن كانوا أفراداً أو ممثلي جماعات وتيارات وحتى من كان في قيادتها المستنقع الذي وقعوا فيه. أقول : هنا بدأت الاستقالات تتوالى إن كان من الائتلاف المعارض أو غيره، وقد تتوج ذلك الانكشاف بخروج وظهور أحد أبرز وجوه هذه المعارضة النافقة في باريس بعد خروجه من سوريا العام الفائت وأقصد هنا رياض الترك ليقوم أولاً من خلال لقاء صحفي بالسعي ما أمكن لإخراج ذاته كالشعرة من عجينة المعارضة الفاسدة التي اشترك بعجنها من خلال تباكيه في هذا اللقاء الصحفي من خذلان الإسلاميين له وللثورة كما خذلان الدول الإقليمية والدولية للمعارضة – وكأنه بعد أكثر من نصف قرن من عمله في السياسة لا يزال يعتقد ويظن أن الدول هي عبارة عن جمعيات خيرية وظيفتها أن تكون بنت عم الإخوان المسلمين والإسلاميين – والفضيحة في هذا الظهور لم يكن في هذا التباكي واللقاء فحسب بل في الإصرار على البقاء في المستنقع ذاته الذي جرى إليه حزبه والكثير من النخب السياسية والثقافية السورية وهو الأمر الذي انكشف في ثاني ظهور له في باريس في خطابه أمام أحد تنسيقيات الثورة في باريس التي أرادت تكريمه حيث يقول: " ...لقد قلنا منذ ثمانينيات القرن الماضي ، لكي يكون لتيار الإسلام السياسي السوري الذي يقبل بشروط اللعبة الديمقراطية مكانه الطبيعي ضمن الحركة الوطنية السورية، ليس لأن للإسلاميين حيثيات اجتماعية وسياسية وثقافية حقيقية في مجتمعاتنا، ولكن لأن إلغاءهم والتخويف بهم ومنهم، كان ولا يزال دين الاستبداد وديدنه، ولأن أساس أي عملية ديمقراطية هو عدم إقصاء أي قوة سياسية تمتلك مشروعية سياسية وشعبية، وترتضي بشروط العملية الديمقراطية .." . ففي هذا الخطاب لم تكن الفضيحة في الكشف عن شهوة التحالف مع الإخوان المسلمين والإسلاميين منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي فهذه الشهوة معروفة للجميع كما لم تكن الفضيحة في هذا الخلط البهيمي المطعم بنكهة طائفية بين إرادة الإسلام السياسي السني وإرادة عموم أهل السنة أن كان في سوريا أو غيرها كما لم تكن الفضيحة في الحديث عن ضرورة هذا التحالف رغم كل الجرائم التي ارتكبها الإسلام السياسي بحق الثورة السورية وفي وقت لا نجد فيه أن هذا الإسلام السياسي وجد أذناً صاغية منذ الثمانينيات حتى الآن لكل دعوات رياض الترك لهم للعمل على مبدأ الشراكة الوطنية والقبول بشروط العملية الديمقراطية أن الفضيحة الكبرى في هذا الخطاب تكمن في الجملة ما قبل الأخيرة من الكلام المقتبس والتي تحمل الوعد المبطن والخبيث بالويل والسبور وعظائم الأمور لكل من تسول له نفسه أن يخاف من الإسلاميين أو يخوف الناس بهم. من المؤكد أن رياض الترك قال ذلك وهو في حالة خفّض فيها حد الخجل قليلاً وإلا لكان لو رفعه ولو قليلاً لقال كل من يخاف أو يخوف الناس من داعش ومعها النصرة والكثير من على شاكلتهما فإن دينه وديدنه هو الاستبداد. أو كما كان يقول رياض فإن من يخاف من الإسلاميين أو يخوف الناس منهم هو عميل لنظام الاستبداد – ولا داعي لذكر كل سوابق رياض الترك الكثيرة في هذا السياق وأكتفي هنا بالإشارة إلى اتهامه لحزب العمل الشيوعي في سوريا في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات بأنه صنيعة المخابرات السورية فقط كون حزب العمل الشيوعي كان له رؤية مختلفة عن رؤية رياض الترك عن دور الإخوان المسلمين في الصراع الذي دار بينهم وبين النظام أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي – أعود فأقول : بأن رياض الترك في هذا القول كشف اللثام عن الجهة السورية داخل المعارضة التي ضبطت - ومنذ زمن ما قبل الثورة- إيقاع أسلمة الثورة مع الإيقاع الخارجي الإقليمي والدولي الذي سعى إلى هذه الأسلمة، كما كشف عمن كان يشكل الفلتر الذي تعبر من خلاله أي شخصية إلى مؤسسات المعارضة وحيث الموقف الإيجابي من دور الإخوان والإسلاميين وحجم هذا الدور في الثورة هو الحاسم لعبور الطاقة لدى " أبو طاقة المعارضة السورية قدس الله سره وبرهانه " وهو الأمر الذي سأعرج عليه بشكل مفصل في مقال قادم تحت عنوان المعارضة السورية وإغلاق رباعي الموت على السوريين. وأخيراً أختتم بالقول : بأن بعض الشهوات السياسية المعندة تشبه إلى حد كبير الشهوة والرغبة الجنسية المعندة التي تسيطر على صاحبها وتسعى نحو تحققها حتى ولو على هيئة فضيحة لا تعرف الخجل.


السياق التاريخي لنشوء وترعرع البربرية في سوريا ( 14 ) lemonde.in 5 of 5
لومـــــوند :نبيل ملحم الرابع عشر : الدم السوري في بازار وميزان المصالح الدولية والإقليمية كنت قد أشرت في أكثر من مقال سابق في هذه الس...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك