الأسلمة وخسارة الثورة لقوتها الناعمة وتآكل تفوقها الأخلاقي (2)

لومــــوند : نبيل ملحم
لا أريد التحدث في هذا المقال عن التآكل الأخلاقي الذي لحق بسمعة الثورة نتيجة تحول المعارضة الرسمية التي كرستها القوى الإقليمية والدولية إلى ألعوبة بيد هذه القوى ، كما لا أريد أن أتحدث عن التآكل الأخلاقي الذي لحق بالثورة وسمعتها الأخلاقية والناتج عن تحول الفصائل الإسلامية المعارضة في سوريا التي سرقت الثورة وتصدرت المشهد إلى أدوات مرتزقة للدول الداعمة لها بالمال والسلاح كما الناتج عن تشظيها إلى عدد غير معلوم في العدد والعدة وعدم قدرتها على تشكيل هيئة أركان موحدة تقود الصراع ضد النظام بقلب رجل واحد ، والناتج كذلك عن اقتتالها لبعضها البعض في حروب من التصفية لا تقل في دمويتها وعنفها عن حروبها مع النظام كما الناتج عن فشلها في أدارة المناطق التي سيطرت عليها بعد تحريرها من قبضة النظام ، كما لن أتحدث عن انحطاطها الأخلاقي الناتج عن جمعها للثروة والمال نتيجة سرقتها لمال المساعدات التي كانت تأتيها من الدول الداعمة لها في وقت كان حصار النظام للمناطق الخارجة عن سيطرته يقود يوميا إلى موت الكثير من البشر جوعا ، كما لن أتحدث عما فعلته هذه الفصائل من نهب وسلب لمدينة عفرين ، فالحديث عن كل ذلك لا يستوعبه مقال بل يحتاج الى فصل أو أكثر في كتاب تاريخ الثورة السورية . كما لا أريد ان أبدأ مقالي بشرح ما قاله يوما الزعيم الهندي غاندي " بأننا سوف نكسب معركتنا لا بمقدار ما نقتل من خصومنا و لكن بمقدار ما نقتل في نفوسنا الرغبة في القتل " فنوع كهذا من القول والوعظ الأخلاقي المجرد قد يبدو في الحالة السورية أقرب إلى الترف الأخلاقي الوعظي ، كما لا أريد أن أبدأ هذا المقال بشرح ما قاله يوما المفكر إدوارد سعيد " لن تنتصر الضحية قبل أن تحرز التفوق الأخلاقي على الجلاد " ، بل سأبدأ بما استنطقه الواقع السوري العياني من مقولات ووقائع تشرح بذاتها هاذين القولين ، سأبدأ بالقول أن كثيرين هم السوريون الذين اصطفوا إلى جانب الثورة وانخرطوا في مجراها وحراكها الثوري كان لا نتيجة أن الثورة وأهدافها تتفق مع طموحاتهم السياسية أو مع مبادئهم الفكرية والثقافية الديمقراطية التي يؤمنون بها فحسب , ولا نتيجة لطموحات وأطماع مادية اقتصادية أو نتيجة كونهم متضررين اقتصادياً أو طبقياً واقتصادياً من نظام اللصوصية والفساد ,فحسب بل كان ( وهنا الاستثناء في الحالة السورية ) نتيجة موقفهم الأخلاقي والإنساني الرافض لمستوى العنف الذي مارسه النظام بحق السوريين المتظاهرين السلميين الذين خرجوا للمطالبة بالحرية أسوة بإخوانهم وأشقائهم في بقية الساحات العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين , أي نتيجة تعاطفهم الإنساني والأخلاقي الرافض للعنف والقتل والسحل الذي مارسه النظام ليل نهار بحق السوريين كباراً وصغاراً شيوخاً وأطفالاً ونساءً ورجالاً من اليوم الأول لنزولهم للشوارع ومطالبتهم بالحرية حتى يمكن القول إن ذروة تعاطف وانجذاب الشارع السوري والعربي والعالمي مع الثورة السورية في أشهرها الأولى أتى رداً على المجازر الفظيعة التي ارتكبها النظام بحق السوريين السلميين من الأيام الأولى لانطلاق ثورتهم وعندما لم يكن يملك أي من السوريين طلقة أو رصاصة واحدة , كما أتى رداً على ما كانت تستثيره أشكال وأعمال القتل والسحل وتكسير العظام بالعصي في الساحات والشوارع السورية , كما أتى رداً على ما كانت تستثيره أعمال التمثيل بالجثث ( حتى جثث الأطفال منها ) ومناظر المقابر الجماعية التي ارتكبها النظام في درعا والتي كانت أولى المدن التي يستبيحها الجيش وقطعان الشبيحة , كما رداً على ما كانت تستثيره عملية إطلاق النار على المتظاهرين السلميين من قبل حثالة المجتمع السوري من قطعان الشبيحة والوحدات الخاصة من الجيش الطائفي المرتبط عضوياً بالنظام ورأس النظام وعائلة النظام وغيرهم من الملحقين بالنظام من زبانيته من الطائفة العلوية بشكل خاص وزبانيته من الطوائف الأخرى من بقية الطوائف بشكل عام . لقد مارس النظام ومن اليوم الأول من انطلاق الثورة حداً عالياً من البربرية وحداً عالياً من الانحطاط الأخلاقي وحداً عالياً من امتهان الكرامة الإنسانية للسوريين , وهو الأمر الذي جعل العامل الأخلاقي وعامل الكرامة البشرية الإنسانية الصاعق الأساسي الذي فجر كل التناقضات الكامنة والمختبئة في أحشاء المجتمع السوري , لقد شكلت ردة الفعل الأخلاقية على أعمال النظام المنحطة والمجردة من أي قيمة أخلاقية وإنسانية ووطنية وحتى بشرية عاملاً أساسيا في تشكل الاستقطاب السياسي داخل المجتمع السوري , حتى يمكن القول إن الموقف الأخلاقي والإحساس بالكرامة شكلا الأساس للاصطفاف السياسي داخل المجتمع السوري , إلى الحد الذي جعل السوريين يسمون ثورتهم بثورة الكرامة ، كما تجلى وجعل المتظاهرين السلميين في الشوارع والساحات يطلقون شعارهم الشهير " إللي ما بيشارك ما في ناموس " أي الذي لا يشارك في المظاهرات وفي الثورة هو فرد عديم الأخلاق والكرامة الإنسانية , وقد كان دافع السوريين إلى رفع هذا الشعار هو مستوى الانكشاف الأخلاقي للنظام ومستوى تمادي النظام في أعماله الإجرامية بحق السوريين العزل , كما كان الشعار يعبر أن هناك مشكلة وأزمة عند قسم من السوريين المصابين بمحنة أخلاقية كشفتها وعرتها الثورة السورية , فعلى مدار سنوات وسنوات من حكم النظام القائم على شراء الذمم السياسية والكرامات الشخصية أو لنقل النظام الذي اعتمد بشكل أساسي على الاستثمار في حقل الكرامة الإنسانية استطاع وبعد هزيمته للمجتمع في أكثر من مواجهة مكشوفة أو مستورة أن يحقق نكبة أخلاقية عميقة الجذور لدى قسم غير قليل من السوريين , حتى إني أتجرأ وأقول إن كل سوري وقف موقفاً داعماً أو مؤيداً لأعمال القتل التي مارسها النظام بحق السوريين هو إنسان يعاني من محنة وأزمة أخلاقية قبل معاناته من محنة وأزمة سياسية . ولكن مع عسكرة الثورة ومع الإسلمة لهذه العسكرة , أي مع عملية بناء فصائل عسكرية إسلامية كبديل عن مشروع بناء جيش حر وطني ومع بدء المواجهة مع الفصائل والميليشيات الإسلامية الشيعية التي وضعها النظام في مواجهة الثورة بدأت أعمال القتل والعنف تأخذ طابعاً ومنحى طائفياً عاماً فلم يعد القتل العشوائي خاصية يتصف بها النظام بمفرده ولم يعد عرض الجثث على شاشات الفضائيات والتمثيل بالجثث وأكل القلوب والأكباد خاصية تميز قوات وشبيحة وميليشيات النظام وحده , كما لم تعد أعمال الخطف والقتل والسبي على الهوية الطائفية وعدم التمييز بين الصغير والكبير وبين رجل وامرأة خاصية تميز أعمال وأفعال النظام بل أصبحت أعمال القتل والعنف المنفلت من عقاله خاصية تشترك فيها قوات وميليشيات النظام كما قوات وميليشيات المعارضة الإسلامية على حد سواء . وهنا أي عندما أصبحت لحى القرون الوسطى هي الناطقة باسم الشعب والثورة السورية وعندما غطى عرابو الإسلام السياسي سياسياً هذه اللحى انكشف ظهر الشعب والثورة السورية , وبدأت الثورة تفقد شيئاً فشيئاً قوتها الناعمة الأخلاقية وبدأ يتآكل تفوقها الأخلاقي على النظام , وبدأت تخسر الحلفاء والأصدقاء الحقيقيين ولا أقصد هنا ما سمي بمجموعة أصدقاء سوريا من قادة الدول بل المتعاطفين معها والمنجذبين إلى قضية الثورة السورية العادلة من شعوب العالم بوصفها ثورة حرية وكرامة إنسانية , وهنا أعطيت الذريعة للحكومات والدول وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية التي ساهمت وأشرفت على هذه الأسلمة للثورة للطعن وخيانة وعودها التي قدمتها في البداية للمعارضة والثورة السورية بحجة أن الثورة قد تأسلمت . وهنا من المهم القول إذا كان خيار العسكرة هو خيار وممر إجباري انساقت إليه الثورة السورية لمواجهة بربرية وبطش النظام , وإذا كانت العسكرة في أحسن صورها وفي قمة انضباطها وكائن من تكن قيادتها السياسية والإيديولوجية فإنها تعني العنف في مواجهة العنف , أي إذا كانت العسكرة بكل حالاتها وأشكالها تفقد الثورة أي ثورة شيئاً من قوتها وتفوقها الأخلاقي بالمقارنة مع الحراك السلمي المدني للثورة , نقول إذا كانت العسكرة في أحسن صورها وحالاتها تقود إلى خسارة الثورة بعض من تفوقها الأخلاقي إلا أن هذه الخسارة تتضاعف عشرات ومئات وآلاف وملايين المرات عندما تصبح هذه العسكرة بقيادة لحى القرون الوسطى أي عندما تصبح بقيادة فصائل عسكرية إسلامية بلون ديني محدد أو لنقل عندما تصبح هذه العسكرة تمارس من قبل ميليشيات عسكرية ذات طابع ديني طائفي في مواجهة ميليشيات من نفس البنية والطبيعة ( أي في مواجهة ميليشيات دينية طائفية أخرى ) . ما أريد قوله إن العسكرة لم تكن هي من أفقد الثورة السورية تفوقها الأخلاقي , وإنما الطابع الإسلامي لهذه العسكرة أو لنقل سيطرة وقيادة الإسلام السياسي الجهادي التكفيري أو نصف التكفيري في أحسن الأحوال هو وراء خسارة الثورة لتفوقها الأخلاقي , او لنقل تآكل تفوقها الأخلاقي ، فلو مورس العنف والعسكرة من قبل جيش حر وطني يؤمن بثقافة المواطنة لكانت الثورة السورية استطاعت أن تتجنب خسارتها لتفوقها الأخلاقي , كما كانت تجنبت خسارتها للأصدقاء والحلفاء والمتعاطفين والمنجذبين إلى تيار الثورة إن كانوا من السوريين أو الأشقاء العرب أو الأصدقاء في بقية مجتمعات العالم وهنا من المهم التفريق بين العنف والقتل كضرورة للدفاع عن النفس وبين العنف وممارسة القتل المحمل بوعي وإرادة إبادة الآخر وتصفيته ماديا كما المحمل برغبة عاطفية وحاجة نفسية للقتل وعندما لا يكون هناك ضرورة تستدعي ذلك القتل كضرورة الدفاع عن النفس . إن الفرق بين ممارسة القتل كضرورة للدفاع عن النفس وبين العنف والقتل الذي يمارس مع انتفاء هذه الضرورة , أي القتل المباشر الشفاف غير المغلف بأي غلاف أو ستر وأقصد هنا أن الضحية معروفة ومعلومة الهوية وتقف عارية عزلاء وجهاً لوجه أمام قاتلها , فهنا القتل ينزلق إلى حدود التوحش حيث القاتل يمتلك الرغبة والمتعة والوعي بكامل عملية القتل , أقول إن الفرق بين نوعي القتل هو ذاته الفرق بين العنف الذي تمارسه ثورة من الثورات وبين العنف الذي يمارس في الحروب التي تنحى منحىً طائفياً بربرياً . فحتى الحروب العادية هناك قواعد أخلاقية ونظم وقوانين وأعراف تقنن حالات القتل بين الأطراف المتحاربة من مثل تحريم قتل أسرى الحرب أو من مثل تحريم قصف المناطق المأهولة بالسكان المدنيين العزل من أي سلاح ...الخ . وهنا أقول إن جوهر الانحطاط الأخلاقي لعنف النظام السوري تمثل منذ البداية في قتله وتصفيته لكل المعارضين بوعي إبادتهم وتصفيتهم دون أن تكون هناك ضرورة وحاجة للدفاع عن النفس التي تبرر وتستدعي كل ذلك القتل أي إن قوات النظام كانت تمتلك تعليمات بممارسة القتل بوعي الإبادة والتصفية لأي شخص أو جماعة أو مظاهرة سلمية معارضة في الشارع , ولهذا السبب تمت تصفية وقتل كل الواقعين في قبضة النظام من المعارضين السوريين , إن كانوا على شكل معتقلين سياسيين , وهنا أشير إلى قتل وتصفية أجهزة النظام الأمنية للمعتقلين الذين تم اعتقالهم كونهم شاركوا في المظاهرات السلمية بداية الثورة وهم بعشرات الآلاف , أو الذين قتلهم النظام على شكل أسرى وقعوا في قبضة قوات النظام في المعارك الميدانية أو قصفه على المناطق المأهولة بالسكان بالبراميل المتفجرة وبالطائرات وصواريخ السكود وحتى بالسلاح الكيميائي . وهنا أقول كذلك إن جوهر الانزياح الذي حصل في مسار الثورة السورية , وأحد الدلائل المؤشرة التي كانت تنبئ بطغيان الحرب على الثورة أو لنقل التهام الحرب للثورة أو التهام القوى المضادة للثورة لثورة السوريين كان في التحول في أشكال وأساليب ومبررات القتل والعنف عند الفصائل العسكرية المعارضة للنظام . فإذا كان العنف والقتل الذي مارسه النظام بحق المعتقلين السياسيين والمدنيين العزل الذين هدم النظام بيوتهم على رؤوسهم بالبراميل المتفجرة والصواريخ والطائرات والدبابات شكل السبب المركزي الذي أجج الثورة السورية ضد النظام , كما شكل السبب الذي جعل صوت الثورة السورية يسمع في كل أصقاع العالم في البداية , فإن الانزياح الذي حصل في مسار الثورة والذي تمثل باختطاف الثورة من قبل فصائل عسكرية إسلامية تكفيرية ونصف تكفيرية , وممارسة هذه الفصائل للعنف والقتل المنفلت من عقاله وبما يعني ممارسة العنف والقتل ( على طريقة النظام ) بوعي الإبادة والتصفية ودون أن يكون هناك ضرورة وحاجة للدفاع عن النفس وهي تواجه النظام كان السبب المركزي والرئيسي في جعل العالم يغلق آذانه لصوت الثورة السورية المظلوم . إن القول إن عنف وإجرام قوات النظام يفوق إجرام وعنف قوات المعارضة ملايين الأضعاف هو قول صحيح مئة بالمئة , ولكن هذا القول لا يفيد عملياً في القضية الأخلاقية التي نناقشها , كما لا يبرر أفعال وأعمال قوات المعارضة الإسلامية ولا بأي شكل من الأشكال لا من الناحية البراغماتية العملية السياسية ولا من الناحية المبدئية وذلك يعود لسببين بسيطين هما أولاً : فمن الناحية المبدئية تعد أعمال العنف والقتل البربرية والإجرامية هي على تناقض كلي وجذري مع مبادئ وقيم وأخلاق مع من يدعي أنه يمثل قوات ثورة حرية وكرامة وديمقراطية ...الخ 
وثانياً : ومن الناحية البراغماتية السياسية فإن النظام عندما يمارس أعمال العنف والقتل البربري ليس لديه ولا يملك بالأساس أي رصيد أخلاقي كي يخسره حتى ولو فاقت أعماله البربرية ملايين المرات الأفعال البربرية لقوات المعارضة التي تدعي أنها تمثل ثورة , فهو بالأساس نظام مكشوف ومفضوح أخلاقياً وسياسياً أو لنقل هو بالأساس نظام فاقد للشرعية الأخلاقية والسياسية حيث وجوده وانحطاطه السياسي والأخلاقي يشكل المبرر الوحيد لقيام الثورة, في حين أن قوات المعارضة وثورة الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية تنطلق في الأساس في وجودها ومبرر وجودها من كونها تعبر عن القوى الجديدة داخل المجتمع التي تتمتع بالتفوق السياسي والأخلاقي على النظام حيث تشكل بديلاً سياسياً أخلاقياً للنظام القديم , ومن هنا نجد أن قوات المعارضة تفقد الكثير من رصيدها السياسي والأخلاقي عندما تمارس العنف والأعمال البربرية إلى الحد الذي يفقدها مبرر وجودها بوصفها بديلاً ثورياً عن النظام القائم , حتى يمكن القول إن عملاً إجرامياً وحيداً تقوم به قوات المعارضة يفقدها من رصيدها الأخلاقي ما يفوق آلاف المرات ما يخسره النظام عندما تقترف قواته آلاف الأعمال الإجرامية والبربرية , ويعود السبب ببساطة كون النظام لا يمتلك بالأساس أي رصيد أخلاقي كي يخسر منه شيئاً . في حين أن مبرر وجود الثورة هو رصيدها الأخلاقي . كما أن القول إن أعمال العنف والقتل البربري الذي مارسته المعارضة العسكرية الإسلامية إنما هي أعمال فردية هو قول كاذب يذكرنا بأكاذيب النظام ورأس النظام تحديداً حين كان يبرر ويعتبر أن أعمال القتل البربري الذي كانت تمارسه ميليشياته وعصاباته الطائفية بأنها أعمال فردية لا أكثر ولا أقل . كما أن القول إن أعمال العنف والقتل البربري الذي مارسته الفصائل العسكرية الإسلامية أتى كرد فعل طبيعي على تغول وحجم العنف البربري الذي كان يمارسه النظام هو قول لا يعكس كل الحقيقة فحسب بل يخفي قصداً ( وخصوصاً من قبل عرابي الإسلام السياسي وممن دافعوا وتورطوا في أسلمة الثورة السورية ) السبب الرئيسي لهذا التحول الذي جرى في مسار الثورة وفي ممارستها الخاطئة للعنف . وهنا أقول إذا كان صحيحاً أن العنف والقتل البربري الذي مارسه النظام بحق السوريين كان أحد الأسباب في انجرار فصائل المعارضة للعنف المضاد المماثل وحيث الأعمال البربرية تولد الأعمال البربرية المضادة , إلا أنه لتكتمل الصورة والحقيقة يجب أن نضيف أن هناك سبباً آخراً جوهرياً هو وراء ممارسة فصائل المعارضة الإسلامية للقتل والعنف البربري وهذا السبب يكمن في الطبيعة والبنية الثقافية والعقلية والعقائدية والسياسية لقوات المعارضة الإسلامية التكفيرية ونصف التكفيرية , فكما يكمن ويرجع سبب تغول وبربرية ميليشيات النظام كونها ميليشيات طائفية تدافع عن نظام يرتكز على عصبية طائفية ويمثل عصبية طائفية كما يمثل أداة عضوية من مشروع ديني مذهبي بقيادة الرجعية الدينية في إيران , أي كما دافعت الميليشيات والقطعان الطائفية الشيعية والعلوية عن النظام لا بوصفه يمثل مصالحها المادية فحسب بل كونه يمثل مشروعاً طائفياً ويمثل عصبية طائفية وأحد رموز المشروع الإيراني الديني الشيعي في سوريا وفي المنطقة العربية كذلك نجد تفسير مدى التغول والبربرية التي مارستها قوات المعارضة الإسلامية السنية في كونها تمثل مشروعاً دينياً مذهبياً سنياً مناهضاً للمشروع الديني المذهبي الشيعي , أي يكمن السبب في التحول من الثورة إلى الحرب أو لنقل نتيجة الانتقال في ميدان الصراع من حقله وميدانه التحرري الذي بدأته الثورة إلى حقله وميدانه الطائفي والديني , وهو تحول كان من أحد أسبابه هو أن النظام وحلفاءه وبمساعدة قوى دولية وإقليمية تدعي صداقتها للثورة السورية عملت منذ البداية على خلق الثورة المضادة للثورة السورية والتي وقفت على رأسها جبهة النصرة ذائعة وسيئة الصيت - وقبل ذلك النصرة وداعش - قبل أن يحدث الانشقاق والفراق والطلاق بينهما . إن ميليشيات النظام كما المعارضة على حد سواء لم تمارس القتل وهي تحت سيطرة وعيها بمصالحها المادية الاقتصادية أو السياسية وإنما مارست القتل وهي تحت سيطرة وعي بانتمائها الطائفي الديني أي وهي تحت سيطرة غرائزها البدائية الطائفية . فالذي يمارس القتل وهو تحت تأثير وعي بانتمائه الاجتماعي الطبقي أو السياسي يمارس القتل بوصفه أداة ووسيلة للدفاع عن النفس في حين أن الذي يمارس القتل وهو تحت تأثير انتمائه الطائفي أو القبلي فإنه يمارس القتل بوصفه متعة ورغبة بدائية غرائزية ثأرية , ولهذا كان القتل هنا يتم لدى طرفي الصراع في أجواء احتفالية كرنفالية حيث الرقص فوق الجثث أو أخذ الصور التذكارية معها أو الاحتفال بمناظر عرض الجثث والتفاخر بأعدادها أو مناظر جرف الجثث ودفنها من خلال الجرافات في مقابر جماعية أو من خلال الاحتفال بذبح أحد الضحايا بالسكين أو القضاء عليه من خلال ضربه بالحجارة حتى الموت أو من خلال انتزاع حنجرته من رقبته أو من خلال اللعب في أحشائه وأكل كبده ...الخ من الأشكال البدائية في طريقة وأدوات القتل للنفس البشرية التي يخجل الإنسان المتحضر منها ويمتنع عن فعلها حتى مع الحيوانات المتوحشة التي تعيش في الغابات . إن ممارسة القتل في أجواء كرنفالية احتفالية وفي أجواء مشهدية سينمائية لا يدلل على كون فعل القتل محمل بوعي وبرغبة بالقتل فحسب بل تدلل إن القاتل استحوذت في داخله شهوة القتل على كل المساحة الإنسانية التي في داخله والتي تميزه عن الحيوانات البرية الكاسرة أي إن القاتل هنا وقبل أن يقوم بعملية وفعلة القتل قتل جوهره الإنساني وتحول إلى كائن بربري غير متحضر لا يفرقه شيئاً عن الحيوانات الكاسرة ربما سوى أنه يمشي على قائمتين . ولهذا عندما نصف أو نقول إن طرفي الصراع مارس البربرية فإننا لا نقول ذلك نتيجة حجم الدمار الناتج عن الصراع فحسب بل نقول ذلك كون الأطراف المتصارعة انزلقت إلى المستوى الحيواني غير الإنساني في احتقارها للنفس والذات البشرية والإنسانية . إن القتل والعنف الذي يمارس بين طرفين متصارعين في لحظة تاريخية محددة يحمل في أحشائه الشيفرة الوراثية الإيديولوجية والثقافية والروحية ( لطرفي الصراع ) الدافعة للعنف والقتل عند الأطراف المتصارعة والتي لا تحدد مدى وحجم القتل والعنف في تلك اللحظة فحسب بل تحدد حتى أشكال وأدوات وطرق ممارسة العنف والقتل . فمع تحول الصراع في سوريا إلى صراع بين ميليشيات طائفية سنية وشيعية يصبح من الطبيعي أن يتم استحضار كل المعارك التي حصلت في التاريخ بين الشيعة والسنة أو لنقل استحضار كل المعارك التي انقسم فيها المجتمع الإسلامي إلى شيعة وسنة , فهنا تحضر معركة كربلاء ومقتل الحسين وتحضر معركة الجمل وصفين وحتى يتم استحضار عملية مقتل الخليفة عمر بن الخطاب والخليفة عثمان وقميص عثمان الشهير وتحضر عملية مقتل الخليفة علي بن أبي طالب ...الخ من المعارك والمشاعر والرغبة للثأر المرافقة لها . وهنا لا بد من القول أن المشكلة كل المشكلة في الثورة السورية بشكل خاص وفي الصراع السوري بشكل عام , لم تكن في البندقية , وإنما بنوع اليد التي أمسكت بالبندقية ( من كلا الطرفين ) وبثقافة العقل التي كانت خلف هذه البندقية ( من كلا الطرفين ) وبلون العين التي كانت تصوب على الأهداف وتطلق عليها النار , فالتاريخ عرف الكثير من الحالات التي استخدمت فيها البندقية كوسيلة للتغيير دون أن تنزلق وتنحط أخلاقيا إلى مستوى أخلاق الخصم الذي تحاربه وتدعو إلى الثورة عليه . وهنا يمكن القول لو تمت مواجهة عنف النظام وبربريته من خلال جيش حر وطني ثوري ( وكما حلم وصدق السوريون في بداية الثورة والمواجهة العسكرية ) جيش يمارس العنف بوعي وثقافة الحرية والديمقراطية والمواطنة , لما تورطت ودخلت المعارضة في نفق الأعمال البربرية , وهنا أقول إذا كان لا بد من وجود هذه المظاهر نتيجة مستوى العنف البربري الذي يمارسه النظام فإن هذه الأعمال في هذه الشروط فقط يمكن أن تنحصر في الحالات الفردية والمستوى الفردي ولم يكن لها أن تتحول إلى نهج عام كما النهج الذي سارت عليه واعتمدته الفصائل العسكرية الإسلامية جميعها النصرة ومشتقاتها من جيش الإسلام إلى حركة أحرار الشام إلى فصيل نور الدين الزنكي ...الخ من القائمة الطويلة التي لا تعد ولا تحصى من التفريخات العسكرية الإسلامية التي نشأت وترعرعت على حساب الثورة السورية والدم السوري وأخلاق ومبادئ الثورة السورية الأم . وأخيراً من المهم القول إذا كان الدافع الأخلاقي يكمن وراء انخراط الكثيرين في صفوف الثورة أو الدافع للتضامن والتعاطف مع الثورة إلا أن هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أن معارضة النظام كانت تعطي أوتوماتيكياً رخصة لأي كان بأنه يملك تفوقاً أخلاقياً على النظام بالرغم من كون الوقوف إلى جانب النظام كان يعطي لصاحبه رخصة بانعدام الأخلاق . أقول ذلك دون تردد لا لكون النظام هو الطرف الذي بدأ بممارسة الأعمال البربرية حين لم يكن في سوريا قطعة سلاح واحدة خارج يد الدولة , ولا لكون الأعمال البربرية التي قام بها النظام هي أضعاف مضاعفة ملايين المرات كماً ونوعاً قياساً بالأعمال البربرية التي قامت بها قوات المعارضة الإسلامية , وإنما أقول ذلك كون النظام هو من عمل على خلق كل الشروط لظهور الطرف المقابل وبما يعني كونه الطرف المسؤول عن المسار الذي جرت فيه الأحداث في سوريا بما في ذلك عسكرة الثورة ومن ثم أسلمتها وبما يعني رعايته وتحالفه الذاتي والموضوعي المستور أو المكشوف مع الكثير من قادة فصائل الإسلام السياسي الجهادي والتي كانت في سجونه قبل اندلاع الثورة ثم أطلق سراحهم بعد اندلاع الثورة بهدف جر الثورة إلى العسكرة والأسلمة وإلى ممارسة الإرهاب كي يكون لديه ذريعة لممارسة البربرية والتوحش بحق الشعب السوري وثورته , وحيث يأتي على رأس هذه الفصائل الإرهابية التي صنعها النظام بالتعاون ( غير المكتوب ) مع دول إقليمية ودولية جبهة النصرة أولا ثم داعش التي تحالف معها النظام على المكشوف بعد أن أعطاها وسلمها الجغرافيا والمال السوري والعراقي , وأقصد بعد أن أعطاها الشمال السوري والعراقي ( بالتعاون مع حليفه نوري المالكي في العراق ) مع كل حقول النفط والغاز اللازمة لمد داعش والإرهاب الداعشي بالمال اللازم لا لممارسة الإرهاب على الأراضي السورية فحسب بل لتعميمه ليشمل مداه ونطاقه كل أصقاع المعمورة . وهو الأمر الذي قاد بعد العمليات الارهابية التي شهدتها بعض الدول الأوروبية كبلجيكا وفرنسا واسبانيا وبريطانيا وصولاً إلى امريكا إلى جعل صوت الثورة السورية يضيع في ضجة الإرهاب هذا لا من عقول الحكومات الغربية بل أقصد يضيع من عقول كل الشعوب التي تقطن هذه المعمورة وهو الأمر الذي يفسر انعدام أي تحرك جدي لدى المجتمع المدني في كل العالم للتضامن مع السوريين الذين ظلوا يذبحون ليل نهار على يد نظام مجرم وسفاح وعلى مدى سبع سنوات ومفتوحة للمزيد من السنين . فإذا كان القول بأن كل حكومات العالم ساقطة اخلاقياً امام المذبحة السورية فإن تعميم ذلك على الشعوب ليس صحيحاً فشعوب العالم القريبة منا والبعيدة لم تعد ترى فينا سوى صورة أصحاب اللحى التي تصدرت المشهد وسوى صور ضحايا التفجيرات التي عرفتها بعض الساحات الأوروبية وصورة أن من يذبح في سوريا هم طرفان وليس طرف واحد وحيث لم يعد معياراً كمية الذبح عن هذا الطرف او ذاك هو المقرر بل أصبح المعيار هو أن لا وجود لطرف لا يذبح على الساحة السورية .
الأسلمة وخسارة الثورة لقوتها الناعمة وتآكل تفوقها الأخلاقي (2) lemonde.in 5 of 5
لومــــوند : نبيل ملحم لا أريد التحدث في هذا المقال عن التآكل الأخلاقي الذي لحق بسمعة الثورة نتيجة تحول المعارضة الرسمية التي كرستها ال...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك