الجيش المصري والمعونة الامريكية
لومـــــوند : عبد الحليم قنديل
بدون استباق لحركة الحوادث، وبدون الدخول في نشر محظور قانونا عن قضية الفريق سامي عنان، وهو رجل عسكري يحقق معه ويحاكم عسكريا، وفي مخالفات وجرائم منسوبة، ظهر بعضها في بيان حازم صدر عن القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية، وربما تضاف اتهامات أخرى أخطر للرجل، الذي قالت الإدارة الأمريكية أنها «تعرفه جيدا»، وأعلن زعماء في الكونغرس الأمريكي الحرب على مصر من أجله، وبما يوحى بأن قصته أبعد من مجرد ترشح خائب في انتخابات رئاسية محسومة، وأن الجيش، لا الرئيس المصري، هو الهدف المفضل لإطلاق النيران، فقد بدا نبأ القبض على عنان مثيرا لجزع أمراء حرب متعددة الأطراف للنيل من الجيش المصري. والجيش المصري حالة فريدة، فهو الأوفر شعبية بامتياز بين صفوف أهله قياسا إلى كل جيوش الدنيا، والأكثر احتراما وانضباطا وفاعلية بين هيئات الدولة المصرية، والأوثق ارتباطا بتاريخ مصر القديمة والحديثة، وهو مدرسة الوطنية المصرية الحديثة الأولى، فقد كان التجنيد الإلزامي نقطة التكريس لمبدأ المواطنة المتساوية، وكان الافتتاح الأول للنهوض يبدأ دائما من مدرسة الجيش، وعلى طريقة ما فعله محمد علي باشا، وابنه إبراهيم باشا المؤسس الأول للجيش المصري الحديث، وكان لقب إبراهيم باشا «ساري عسكر عربستان»، أي أمير عام الجيوش العربية، وكان نهوض الجيش عنوانا أولا لنهوض مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وكانت حركته تعبيرا غريزيا عن قانون مصر، التي تعربت بغرائز الأمن قبل تعريب لسانها مع الفتح الاسلامي، فقد دارت معارك مصر الوجودية كلها إلى ما يعرف الآن بالمشرق العربي، من «مجدو» تحتمس إلى «قادش» رمسيس، ومن «عين جالوت» قطز إلى «حطين» صلاح الدين، وإلى معارك جيش إبراهيم باشا في المشرق، التي كادت تحطم الدولة العثمانية المتخلفة المريضة، لولا أن تحالف الاستعمار الأوروبي وقتها ضد مصر، أرغمها على الانكماش داخل حدودها الجغرافية، وترك مجالها الحيوي العربي الذي لا تنهض بدونه، وإضعاف الجيش تمهيدا لإضعاف مصر، وصولا إلى فرض الاحتلال البريطاني عليها على مدى جاوز السبعين سنة.إلى أن كان نهوض جديد، انطلق هذه المرة أيضا من صفوف الجيش أولا، ومن تحرك تنظيم «الضباط الأحرار» بقيادة جمال عبد الناصر، وبثورة هي الأعظم بإطلاق، سرعان ما تكشفت للأعداء حقيقتها، وعمق إدراكها لقانون مصر، ولدوائر حركتها الغريزية، وطموحها في تحرير وتوحيد شعوب الأمة العربية، وهو ما كان سببا مبكرا في محاولات إضعاف الجيش، وفرض أمريكا وبريطانيا لحظر توريد السلاح، خوفا على سلامة كيان الاغتصاب الإسرائيلي، ثم كان خروج مصر من الحصار المفروض، بتنويع مصادر السلاح وتأميم قناة السويس، والانطلاق إلى بناء مصر كمثال عربى ملهم، وقاعدة لحركات التحرير الوطني في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وتصنيع مصر، وخلق مجتمع جديد من قلب المجتمع القديم، وكان لابد لقوى الاستعمار العالمي من توجيه ضربة جديدة لمصر، والسعى لتحطيم جيشها وإزهاق روحها، وهو ما جرت المبادرة إليه بعد تخطيط طويل في عدوان 1967، والعمل لإحباط نهوض عبد الناصر على طريقة ما جرى مع نهوض محمد علي، لكن مصر عبد الناصر بدت قادرة على امتصاص الضربة الماحقة، والتصحيح الذاتي للأخطاء والخطايا الداخلية، وإعادة بناء الجيش من نقطة الصفر، وفي قلب معارك ضارية في حرب الاستنزاف، وصولا إلى نصر أكتوبر 1973، وتحقيق إنجاز السلاح المغدور بخذلان السياسة، ودفع مصر إلى هزيمة حضارية بعد النصر العسكري الباهر، ودوس «الذين هبروا» فوق دماء «الذين عبروا»، وتدمير إنجازات الجيش باتفاقات فض الاشتباك، وصولا إلى ما يسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، ومحاولات تدجين الجيش وإضعافه، وفرض تسليح المعونة الأمريكية كمورد شبه وحيد، إلى أن ثار الشعب في 25 يناير 2011 و30 يونيو2013، وكان الجيش سندا لثورة الشعب في الحالتين، وهو ما يفسر سعي الاستعمار الأمريكي لإضعاف الجيش، واحتواء قراره بعد فشل خطط الوصاية على حركته، وعلى طريقة الضغط بخفض المعونة العسكرية في أيام باراك أوباما كما في أيام دونالد ترامب. مع ثورة 25 يناير، كانت أمريكا منغمسة في شؤون الداخل المصري، وكانت لا تزال تمارس دورها في الوصاية على قرار القاهرة، وكان سفراؤها يمارسون دور المندوب السامي البريطاني القديم، وكانت واشنطن تعلم وتوافق على فكرة انتقال السلطة من مبارك إلى المجلس العسكري، فلم يكن يعنيها أن يسقط مبارك، وكل ما يعني الإدارة الأمريكية، أن تظل مصر في قبضة المصالح الأمريكية، وأن تطور صيغة جديدة لبقاء مصر رهينة للتبعية الأمريكية، إلى أن جاء زلزال مصري جديد، وتدفقت عشرات ملايين الشعب في شوارع وميادين 30 يونيو 2013، ولم تكن واشنطن تريد دورا للجيش المصري هذه المرة، فقد كانت رتبت أمورها في مصر بطريقة مختلفة، وقررت الاعتماد على تبعية جماعات اليمين الديني التي تكره الجيش بالخلقة، وضغطت أمريكا بكل ما تبقى لها من قوة في مصر وقتها، وقد كانت ـ ولا تزال ـ خرائط القوة الأمريكية في مصر متسعة، من جماعات البيزنس التي تضاعفت ثرواتها في ظلال المعونة الأمريكية، وإلى جماعات التمويل الأجنبي، التي مدت جسورها إلى جماعات اليمين الديني، وجرت حروب التضاغطات تباعا، لكن الجيش تحدى أمريكا هذه المرة، وقرر تنفيذ حكم الشعب بالخلاص من تحكم جماعات اليمين الديني، وهو ما دفع أمريكا إلى الضغط بغلظة وشراسة متزايدة على الجيش، وكان مفهوما أن تلجأ واشنطن إلى سلاح خفض وتجميد المعونة العسكرية، وقد بدأت هذه المعونة بالتواقت مع عقد المعاهدة المشؤومة مع إسرائيل، والتي جعلت أمريكا ضامنا لإسرائيل ورقيبا على السلوك المصري.وكانت شروط المعونة قاطعة في مغزاها وأهدافها، فأمريكا هي التي تحدد نوع السلاح المورد إلى مصر، وعلى نحو يجعل تسليح الجيش أضعف بمراحل وأشواط بعيدة عن التسليح الإسرائيلي، وحين جاء الوقت لعقاب مصر، كانت الوسيلة المثلى، بعد حروب الميديا وحروب المخابرات والضغوط الاقتصادية، أن تضغط واشنطن بورقة التسليح والصيانة، وأن تجمد وتخفض المعونة العسكرية للجيش، وعلى نحو كلي لنحو عام ونصف العام في عهد أوباما، وهولاما تتكرر وتتداعى نذره إلى الآن، لكن سلوك القيادة المصرية اختلف تماما هذه المرة، فلم تعد تبالي بالضغوط الأمريكية، ولا بالأوامر الهاتفية الملحة من واشنطن، وقررت القيادة المصرية تحويل ما تصورته واشنطن نقمة، إلى نعمة، وقررت كسر الاحتكار الأمريكي لتوريد السلاح إلى مصر، ووفرت موارد هائلة لتنويع مصادر السلاح، وتعظيم قوة الجيش على نحو طفري، والعودة إلى إحياء كثيف لصناعة السلاح ذاتيا، وغلق صنابير التحكم الأمريكي في التسليح المصري، وإكساب القرار الوطني لاستقلالية متزايدة، تسمح بإحياء المشروع النووي الذي حظرته أمريكا لأربعين سنة، وتفكك بالتدريج قيودا ثقيلة فرضتها الملاحق الأمنية لما يسمى معاهدة السلام، وتطبق تكتيكا وطنيا ذكيا لإنهاء عار مناطق نزع السلاح المصري في سيناء، وكان محظورا بمقتضى المعاهدة وملاحقها الأمنية، أي تواجد لمطارات حربية أو موانئ حربية بحرية مصرية في سيناء كلها، وأي تواجد للجيش في شرق سيناء بعرض 33 كيلومترا، وأي تواجد لغير أربع كتائب حرس حدود في وسط سيناء بعرض 109 كيلومترات، فيما كان التواجد بفرقة مشاة ميكانيكية واحدة من الجيش محصورا في منطقة ممتدة من خط قناة السويس إلى 59 كيلومترا داخل سيناء، وغرب خط المضايق الاستراتيجي، وقد صارت خرائط نزع سلاح سيناء في خبر كان الآن، وانتشرت قوات الجيش المصري بكامل هيئتها وأسلحتها في سيناء كلها، وعاد الجيش إلى حافة الحدود المصرية التاريخية مع فلسطين المحتلة، وهو ما يحدث لأول مرة منذ ما قبل هزيمة 1967، ويبدو كانقلاب استراتيجي هائل، فلن يعود جندي مصري واحد إلى الخلف مجددا، ولم يعد بوسع إسرائيل ولا أمريكا، سوى التسليم بأمر واقع جديد، فرضته سياسة مصرية ذكية، تخوض حرب تحرير ثانية شاملة لسيناء، وتصل ما انقطع مع حرب أكتوبر 1973، ورفضت وترفض أي مشاركة أمريكية أو بريطانية عرضت مرارا في حرب مصر ضد جماعات الإرهاب الحليفة ميدانيا وموضوعيا لإسرائيل. وقد لا يكون سرا، أن أمريكا حاولت مرارا، طوال فترة احتلالها السياسي لمصر، التي اتصلت على مدى قرابة أربعة عقود بعد معاهدة السلام وسريان مبدأ المعونة، حاولت فيها واشنطن أن تتخلص من كثافة القوة البشرية للجيش، وأن تلغى مبدأ التجنيد الوطني العام، بدعوى أن «حرب أكتوبر هي آخر الحروب» كما قال السادات يوما، ونصحت واشنطن، وضغطت لتفكيك الجيش المصري الضخم، والاكتفاء بجيش صغير من المتطوعين الموظفين، يخصص حصرا لمواجهة الإرهاب والجريمة المنظمة، وفي وثائق أمريكية نشرت من سنوات على موقع «ويكيليكس»، بينها تقارير سرية من سفارة واشنطن في القاهرة، أشارت بضيق ظاهر إلى رفض وزير الدفاع الأسبق المشير حسين طنطاوي للرغبات الأمريكية، ووصفته التقارير إياها بأنه «عسكري مصري تقليدي»، بينما جرت الإشارة بعين الرضا إلى الفريق سامي عنان رئيس الأركان وقتها، ووصف سلوكه بالديناميكية والمرونة، وهي المحبة الكامنة التي ظهرت إلى العلن في أعقاب ثورة 25 يناير، فقد نشرت «واشنطن بوست» وقتها تقريرا بعنوان «سامي عنان رجل واشنطن المفضل في مصر»، وهو المعنى ذاته الذي ذهبت إليه الإدارة الأمريكية الحالية في تعليقها الأول على نبأ احتجاز عنان، فقد قالت إنها «تعرفه جيدا»، وهو ما قد يعني ضمنا، أن ضربة جديدة وجهت لأمريكا في مصر، وليس كل ما يعرف يقال في حينه.