النظام الرأسمالي العالمي ومتوالية تفتيت العالم سياسياً

لومــــــوند : نبيل ملحم
تسعى القوة القائدة للنظام الرأسمالي العالمي منذ تشكله وإلى يومنا هذا، إلى إطلاق صيرورتين متناقضتين هما صيرورة الربط والدمج لاقتصادات العالم كله بمركز هذا النظام وصيرورة تفتيت العالم سياسياً إلى مجموعة غير متناهية من الكيانات السياسية بحيث يتحول العالم إلى مجموعة من الخيوط السياسية الممسوكة بقبضة القوة القائدة لهذا النظام وهو الأمر الذي يوفر لها سهولة التحكم والسيطرة على كل مفاصل هذا النظام اقتصادياً وسياسياً. إن ازدياد عدد الكيانات السياسية [ أي الدول ] عشرات الأضعاف منذ أن ظهرت الرأسمالية حتى يومنا هذا، نجد تفسيره في صيرورة التفتيت هذه, كما أن مسيرة ومسار التفتيت السياسي القادم لبنى العالم المعاصر والذي بدأت بشائره تصل حتى إلى كيانات وبنى في مركز هذا النظام [ كحالة بريطانيا وأقصد هنا خروجها من الاتحاد الأوروبي والتي تعني عملياً فشلاً لتجربة الاتحاد الأوروبي, وكذلك تزايد النزعات الانفصالية في أكثر من دولة أوروبية كما في إسبانيا على سبيل المثال لا الحصر ] يجد تفسيره في عمل وفعل هذه الصيرورة....إن القوة القائدة داخل النظام الرأسمالي العالمي تسلك وتمارس نفس السياسة التي تعمل بها النظم الشمولية في التاريخ, فكما تعمل النظم الشمولية إلى تذرير المجتمع في أحشاء الدولة الشمولية إلى مجموعات غير متناهية في الصغر وتحولها إلى مجموعة من الخيوط الممسوكة بقبضة الحاكم المستبد كي يسهل عليه التحكم والسيطرة على هذه الخيوط من خلال الاستفراد بكل خيط على حدة. كذلك نجد الأمر في سلوك وممارسة القوة القائدة للنظام الرأسمالي العالمي. وبهذا المعنى يمكن القول أن النظام الرأسمالي العالمي وبعد أن شكلت الرأسماليات الأوروبية أسواقها ودولها القومية، وبعد أن تحولت الرأسمالية العالمية إلى مرحلة الإمبريالية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أصبح يميل نحو الشمولية. وإذا كان نشوء منظومة الشموليات السياسية الشرقية في النصف الأول من القرن العشرين وقيام القطبية الدولية والاستقطاب الدولي السياسي ونشوء الحرب الباردة والتي كان جوهرها الصراع من أجل السيطرة على العالم بين شموليات سياسية إيديولوجية وشموليات اقتصادية رأسمالية قد لجم بطريقة فاشلة إن لم نقل بأسوأ طريقة هذا الميل مؤقتاً داخل النظام الرأسمالي، إلا أنه مع انهيار الشموليات العبودية الشرقية وانتهاء الاستقطاب الدولي القديم بدأ ميل النظام العالمي نحو الشمولية الاقتصادية [ المرحلة التي أطلق عليها بالليبرالية المتوحشة ] يتزايد ويتعزز ويتحول إلى سلوك سائد ومسيطر داخل النظام الرأسمالي العالمي, وهو الأمر الذي جعل القوة القائدة داخل هذا النظام تزيد من شهوتها ورغبتها في الإمساك بكل أجزاء ومكونات هذا النظام وهي المرحلة التي عبر عنها بشكل سافر وفظ بوش الأب والابن - كاستمرار للمرحلة التي بدأت منذ مطلع ثمانينيات القرن العشرين مع الرئيس الأمريكي ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية تاتشر - في الحروب التي قادت إلى تفتيت دول النظم الشمولية إلى مجموعة كبيرة من الدول, ثم أتت بعدهم كل الإدارات الأمريكية لتسير على نفس طريق تفتيت البنى والكيانات السياسية في أطراف ومركز النظام الرأسمالي العالمي. واليوم يمكن القول إن أهم مظاهر التغير والتبدل في مستقبل البشرية سيكون التغير والتبدل في الخرائط السياسية للمجتمعات البشرية، حيث لن ينجو أي كيان [ دولة] في العالم من هذه الظاهرة إلا المجتمعات والدول القائدة والقوية داخل هذا النظام. كما يمكن القول أن البشرية إن لم تستطع تغيير هذا النظام فإنها ذاهبة إلى حروب بينية بربرية قد تصل إلى مستوى الحروب القبلية والأقوامية التي عاشتها البشرية في مرحلة ما قبل فجر التاريخ البشري. إن فهم حقيقة الاتجاهات (الصيرورات) الحاكمة للوجود البشري في ظل النظام الرأسمالي القائم ضروري جداً لاقتلاع الكثير من الأوهام التي تعشش في عقول الكثير من النخب السياسية والثقافية داخل عالمنا العربي وخارجه, فهناك الكثير من النخب السياسية والثقافية والفكرية الذين يعتقدون أن مصالح الدول الغربية الرأسمالية لا تتحقق في منطقتنا العربية وفي باقي بقاع العالم من دون توفر الاستقرار السياسي في هذه المنطقة أو تلك من العالم, وهنا نذكّر هؤلاء ببعض الحقائق القديمة والحديثة وهي:
الحقيقة الأولى : هي أن السلعة الرأسمالية لا يوجد قوة على وجه الخليقة يمكن أن تقف في وجه طريقها إلى المستهلك, فقلاع الصين القديمة لم تنهار يوماً عبر التاريخ إلا أمام السلع القادمة إليها من دول أوروبا الرأسمالية بعد أن عرف الواقع الأوروبي الرأسمالية والتوسع الرأسمالي بعد الثورة الصناعية الأولى.
الحقيقة الثانية: إن السلع الرأسمالية في سوريا غير المستقرة عبرت كل أنواع الحواجز المحيطة بالمدن السورية والمنتشرة على الطرقات عبر تجار الحروب من هنا وهناك رغم كل ما تشهده سوريا من تقاتل وتقاسم للجغرافيا والبشر بين النظام والفصائل العسكرية الإسلامية المعارضة بما في ذلك مناطق داعش. وهنا يمكن أن نقول إن عدم الاستقرار السياسي في كثير من الأحيان، إن لم نقل في أغلبها، يكون مربحاً وملائماً لتجار الحروب الرأسماليين المحليين والإقليميين والدوليين أكثر من حالة الاستقرار السياسي. وهناك من يعتقد كذلك أن ازدياد عدد الكيانات السياسية ( أي الدول ) في العالم يضر بمصالح الدول الرأسمالية الغربية, وهنا نقول: إن المصالح والسلعة الرأسمالية قادرة على أن تجد طريقها في حالتي تعدد الكيانات السياسية والأسواق، وحالة عدم الاستقرار السياسي إن كان داخل كل دولة أو بين الدول المتجاورة, بل يمكن أن نقول إن المصالح الرأسمالية الغربية لم تتحقق يوماً لولا توفر شرطين هما أولاً: شرط عدم الاستقرار السياسي في الخارج, أي خارج حدودها الجغرافية والبشرية والسياسية وثانياً: شرط الشرذمة السياسية لمجتمعات الأطراف, ولهذا نجد أن ظاهرة عدم الاستقرار السياسي والتشرذم السياسي المستمر في أطراف النظام الرأسمالي العالمي هي الظاهرة الثابتة منذ أن ولدت ووجدت الرأسمالية في الواقع الأوربي وحتى يومنا هذا, فمنذ أن ولدت الرأسمالية في الواقع الأوربي وحتى يومنا هذا، وتطور المجتمعات في العالم يحكمه صيرورتين متناقضتين في الاتجاه ولكن تسيران بشكلٍ متوازٍ لبعضهما البعض كخطين متوازيين ومتعاكسين في الاتجاه, والصيرورة الأولى: هي صيرورة التحلل والتفكك السياسي للدولة الإمبراطورية القديمة الموروثة من العصور ما قبل الرأسمالية إلى مجموعة من الدول القومية الجديدة, ثم تلا ذلك في العصر الإمبريالي للرأسمالية، تفكك وتحلل الدولة الوطنية في المجتمعات المتخلفة أو التي تقع في أطراف النظام الرأسمالي، وقد جاء تفتت وتشرذم المجتمع العربي في بداية القرن العشرين ( سايكس – بيكو ) في إطار هذه الصيرورة العالمية كما جاء حينها تشرذم أو لنقل تفكيك القارة الهندية إلى الهند, وباكستان, وبنغلادش، ثم كان تفتيت القارة الإفريقية ثم تفتيت القارة اللاتينية في هذا الإطار, ثم جاء تفكيك الاتحاد السوفييتي إلى (مجموعة من الدول المستقلة)، ويوغسلافيا إلى (البوسنة والهرسك, مقدونيا والجبل الأسود, كرواتيا , وصربيا)، وتشيكوسلوفاكيا إلى (تشيكيا, وسلوفاكيا), كما ويأتي تفكك السودان والصومال ومحاولة تفكيك العراق وسوريا وأوكرانيا واليمن وليبيا وغيرها من المجتمعات في بداية القرن الواحد والعشرين في نفس الإطار والاتجاه والصيرورة, أما الصيرورة الثانية: فهي صيرورة الربط والدمج لاقتصاديات العالم بالمراكز الرأسمالية العالمية الغربية حيث أصبحت المراكز الرأسمالية تُخضِع كل صيرورات التطور لصيرورة تطورها ومصالحها بشكل شبه مطلق إلى الحد الذي يمكننا من القول أن هذه المراكز أصبحت هي المحدد الأساسي لاتجاه حركة الأطراف بالمستوى الاقتصادي والسياسي (الكياني)، وبما يعني أن الصيرورة الأولى (التفكك) أصبحت نتاجاً وانعكاساً للصيرورة الثانية (الربط الاقتصادي), ومخطئ من يظن هنا أن عملية التفتيت هذه تتم وفق نظرية المؤامرة السياسية بمفهومها البوليسي الذي تروجه الأنظمة والحكومات وأبواقها في العادة، بل إن هذا يتم كنتاج طبيعي لقانون التطور اللامتكافئ الحاكم لوجود وتطور النظام الرأسمالي العالمي منذ ولادته والذي يقود إلى تهميشٍ في مكان ما وازدهارٍ في مكان آخر, فكل مكان يشكل ساحة اشتغال لهذا النظام والقانون – وهو هنا كل بقاع العالم- وهو الأمر الذي يولّد دائماً حالة تصادم وصراع بين المهمشين والمزدهرين، والذي يقود بدوره إلى تدخل من هنا وتدخل من هناك مما يؤدي في النهاية إلى توليد حالات التفتت السياسي وفق مصالح القوى القائدة وصاحبة المصلحة داخل النظام الرأسمالي العالمي. نقول هذا حتى لا نتفاجأ إذا ما استيقظنا يوماً على واقع عربي مقسم إلى كيانات سياسية عديدة على شكل دول أو فيدراليات أو ما هو قريب من ذلك من أشكال التقسيم السياسي للمجتمعات, فأمر كهذا لا يتعارض مع المصالح الغربية والأمريكية والإسرائيلية التي لا تزال هي الأقوى والأكثر قدرة على توجيه الصراعات وفق مصالحها, كما لا يتعارض مع الرأسماليات المحلية التي تتحكم برقاب بلدان أطراف النظام الرأسمالي العالمي. فالمتضرر الوحيد من هذا التفتيت السياسي هم شعوب العالم وهو الأمر الذي يعني إن مقاومة هذا التفتيت لا تكون إلا بشعار أخوة الشعوب وتضامنها في ظل حكومات ونظم ديمقراطية تعمل على خدمة شعوبها أولاً وأخيراً، فمستقبل البشرية ومصيرها يتحدد بشكل إيجابي بتحالف شعوب العالم، وبشكل سلبي بتحالف لصوص العالم من الحكومات.


النظام الرأسمالي العالمي ومتوالية تفتيت العالم سياسياً lemonde.in 5 of 5
لومــــــوند : نبيل ملحم تسعى القوة القائدة للنظام الرأسمالي العالمي منذ تشكله وإلى يومنا هذا، إلى إطلاق صيرورتين متناقضتين هما صيرورة ...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك