ولا يزال البحث جاريا عن وطن

لومـــــوند : نزيه دياب : بانكوك الهجرة الثانية
لم يكن يخطر ببال أحمد ( الجد) الذي أتم عامه الثامن أنه لن يعود الى ربوع بلاده الخضراء التي كان يمرح فيها أو يستلقي على الصخور البازلتية التي تحيط بقرى الزنغرية في محافظة صفد .. في الرابع من أيار عام 1948 شدت العشيرة الرحال متوجهين شمالا الى الجولان يتبعهم زخات غزيرة من الرصاص و بعد أن سرت شائعات بأن اليهود يقومون باغتصاب النساء وقتل الرجال فآثر الرجال النجاة بأعراضهم وأطفالهم وتركوا ورائهم كل شيء لم يحملوا معهم سوى متاع قليل وبقية من طعام كانوا يتهيئون لالتهامه ربما على الغداء ؟؟وصلت جحافل اللاجئين الى الجولان المحتل فاستقبلهم أهلها استقبالا حسنا وذلك للعلاقات التي كانت تسبق هذا الحدث حتى وصلت الى المصاهرة في بعض عائلاتها ؟ترك أحمد المدرسة التي كان يدرس بها ليتفرغ للعمل في البساتين والحقول ليعين والده على سد نفقة الاسرة الكبيرة واستمر في عمله الى أن بلغ سن الزواج و أقيمت الأفراح في بلد المهجر الجولان وكانت فرحته الكبيرة بولادة ابنه البكر زياد تحمل مفاجأة من نوع جديد فقد سرت الأخبار بتقدم اليهود على مشارف المنصورة ملتفين حول الحمة فهربت العائلات من جديد باتجاه الأردن تاركة أبقارها وأغنامها ترعى لوحدها بعد أن عملت بكد لتحصل على ما يسد حاجتها من الطعام غير آسفة اذا ما قورن الأمر بما كانت تملكه في بلدها فلسطينعلى أثر حرب النكسة عام 1967 تقدم اليهود مجددا داخل الجولان المحتل مما أرعب اللاجئين من كابوس حقيقي على غرار دير ياسين وكفر قاسم وأورثت الهزيمة المرة التي تلقتها الجيوش العربية احباطا لدى المهاجرين الذين قرروا الابتعاد عن محاور الصراع أرسل أحمد أسرته الى الأردن مجتازين الشريعة من الحمة وصولا الى درعا مع عائلات كثيرة نزحت للمرة الثالثة ربما والتحق هو وبعض من الرجال بما كان يسمى بالحرس الوطني وكان والده وأبناء عمومته مع الثوار تفرقت جميع تلك العائلات وبقي حتى انتهاء خدمته في الحرس الوطني بحث أبو زياد عن عائلته التي وصلت الى جوبر في مدينة دمشق والتي لم تكن تملك المال الكافي للايجار والذي كان يقدر ذالك الوقت بثلاثة عشرة ليرة سورية للبيت المشترك الذي أقام فيه هو وعديله النازح من الجولان ليكتب مصير التقاء شعبين على هم واحد وهو الهجرة ؟عمل أبو زياد بثلاث وظائف في اليوم الواحد ليستطيع اعالة اسرته المكونة من طفلين اثنين وبقي يعمل بكد حتى استطاع أخيرا بناء بيت كبير يضم أفراد أسرته التي كبرت وأصبحت عبارة عن أربعة عشرفردا استقرت عائلة الحاج أبو زياد كما يلقب بالحارة التي يقطن بها واستطاع أخيرا أن يشعر بالراحة بعدما كبر الأولاد وتزوج معظمهم ولم تكن فرحته لتوصف عندما تجتمع الأسرة كلها ويرى أحفاده يشعلون الأجواء بصراخهم المستمر وبلعبهم الذي لا ينتهي ..كان يحلو له اشعال حوض السمك بعدما زينه بالأضواء الملونة مما يثير انتباه ودهشة الأطفال فيتدافعون في ازدحام جنوني على لمس هذا الحوض فيقلبونه أرضا فيهرب الأطفال وسط ضحكة تعلوا من الحاج أبو زياد وهو يمسك بالاسماك الصغيرة يضعها في اناء صغير ريثما يصلح الأمر فيعود الأطفال مرة أخرى بعدما استأنسوا بضحك جدهم ثم لا يلبثوا أن يهربوا مجددا بعد رؤية عصاة الجدة التي تلاحقهم لأنهم أغرقوا الماء على السجاد الثمين في التاسع من آذار عام 2011 انطلقت الثورة السورية مما أعاد الى الأذهان جميع مراحل الهجرة بخاصة الأحداث التي حصلت في لبنان والعراق والكويت فقرر الفلسطينيون النأي بالنفس عن الأحداث التي تجري على الساحة السورية خوفا من الوقوع بالفخ الذي وقع فيه اخوانهم في الكويت والمصير الذي آل اليه المقيمون فيها ولكن الأطراف المتناحرة كانت تأبى هذا الوضع وتفرض كل جهة على هذا الشعب الوقوف معها والا تعرضت للانتقام فقرر جميع اللاجئين المراهنة على الحياد الى أن ازداد البطش بالجميع وخاصة بعد أن فتح الفلسطينيون بيوتهم للجرحى السوريين مما اعتبر آنذاك اصطفافا الى جانب الثورة السورية فدكت المدفعية والطيران بيوت الآمنين ففر الجميع الى البساتين المجاورة والتي لم تسلم من القصف الغير مسبوق ..؟ اظطر الحاج أبو زياد الى اللجوء الى مخيم آخر أكثر أمنا فتوجه الى دنون ومن بعدها الى خان الشيح وعند عودته الى منزله وجد حفرة عميقة هي كل ما تبقى من عرق وجهد وتعب طيلة أربعين عاما .. لم يضحك هذه المرة وربما للمرة الأولى التي تسقط فيها دمعة حارة وهو يسترجع سنوات العمل والتعب وكيف بنى هذا المنزل بحاجته وحاجة أطفاله الى أن أصبح منزلا كبيرا .. انحنى الى الأرض وقبض قبضة من تراب هي كل تبقى له وجعلها في باطن يده حتى ابتلت واعادها من جديد الى حيث تنتمي وينتمي عرقه.. لم يكن هناك من جدار يتكي عليه كان متعبا جدا ولأول مرة منذ نشأته يحس بالتعب في قدميه ويديه التي رسمت التجاعيد شكلا آخر .. حنى ظهره الى الأرض وكأنه كان يأمل أن تحتضنه كما احتضنت سنين شقاءه ..؟ ولكنه وقف منتصبا من جديد وكأنما كان يعلم أولاده الملتفين حوله الشموخ والاباء ..؟ اشتدت ضراوة المعارك من جديد على كل المحاور والقرى المحيطة بمدينة دمشق في سعي المعارضة للوصول الى قلب العاصمة دمشق فاتخذ الصراع شكلا آخر من اللانسانية وانعدام للأخلاق بين تجار الدم والخطف من أجل الفدية وكأن ما حصل لهذا الشعب لم يكن يكفي ليحملوه عبئا آخر على أعباءه الثقيلة أصلا ناهيك عن القنص لمجرد الصيد من أطراف بعينها وقذائف المورتر أو الهاون العشوائية ففر الفلسطينيون والسوريون على حد سواء ومن امتلك بعضا من المال وصل الى دول أخرى ومن لم يمتلك كان على العائلة أن تجري القرعة على نجاة أحد أبنائها ليبقى اسمهم موجودا كما حصل مع الحاج أبو زياد اذ قام بارسال أحد أبنائه الى دولة لم يكونوا قد سمعوا بها من قبل وبقي هو وزوجته وابنه الأصغر الذي لم يتزوج بعد في سورية لا يأمل في شيء الا أن يعطيه الله الحياة ليجتمع بأسرته من جديد ،وصل حفيده أحمد البالغ من العمر 8 سنوات الى بانكوك في هجرة أقل ما يقال عنها هجرة ثالثة تاركا ألعابه وكتبه ودفاتره التي كان يملأها بالرسومات وهو يمني النفس بالعودة الى منزله الذي لا يعرف أنه بقايا من أحجار احتضنت بعضها في مشهد لا يخلو من رعب السؤال .. هل كان ساكنيه فيه أم نجوا بحياتهم يذكرني عمر الطفل أحمد بعمر جده أيام الهجرة الأولى كما يعيد الى الأذهان المراحل القاسية التي مر بها جده في يوم من الأيام وهل هي لعنة الهجرة تعود كل فترة وهل سيشهد حفيد هذا الطفل قد لا يسميه أحمد رغبة بابعاد اللعنة.؟؟ أي كان اسمه نفس الارث وأن الأمر قد يتكرر بعدما يكبر ؟ الآن يجلس أحمد في الغرفة التي استأجرها والده للمبيت فيها ريثما تنظر المفوضية العليا للاجئين في توطينه وبانتظار ذلك الوقت كم عدد السنين التي سيفقدها وما هو المستقبل الذي ينتظره بعد أن خسر سنتين من سنوات دراسته وهو الطفل النابغة في المدرسة أم سيظطر الى ترك المدرسة وتكرار ما فعله جده ؟ السؤال برسم الدول التي تدعي أنها نصيرة الطفل وأقامت منظمات للطفولة لا تحصى وللمنظمات التي وسمت نفسها بالانسانية ..؟ هل ما يحدث لهذه العائلة ... للشعب الفلسطيني .. انساني؟
بانتظار الرصيد حين يصبح مجازا لديكم ولا أقصد الرصيد المادي بل الرصيد الانساني بانهاء هذا الوضع وهذه اللعنة التي توارثها الأحفاد وهم يخافون أن يورثوها لأحفادهم .

ولا يزال البحث جاريا عن وطن lemonde.in 5 of 5
لومـــــوند : نزيه دياب : بانكوك الهجرة الثانية لم يكن يخطر ببال أحمد ( الجد) الذي أتم عامه الثامن أنه لن يعود الى ربوع بلاده ...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك