السياق التاريخي لنشوء وترعرع البربرية في سوريا ( 19 )


لومـــــوند : نبيل ملحم 
التاسع عشر: كسر الإطار الوطني للصراع والانزلاق نحو الانكشارية المعممة:
سأتحدث في هذا المقال عن نار نظم الاستبداد وجمر المعارضات التي أحرقت العراق وسوريا، حيث سأبدأ بسوريا بالقول : لم تكن مأساة السوريين في كونهم واجهوا عبر ثورتهم نظاماً مجرماً كانت نظريته الأساسية طيلة ما يقارب الخمسة عقود من حكمه، قبل الثورة وفي مواجهة الثورة تقوم على فكرة " البقاء في السلطة بأي ثمن " وهي ما تجلى بشكل صارخ عبر عنه شعار النظام " الأسد أو نحرق البلد " أي البقاء والعصيان في السلطة بأي ثمن حتى ولو أدى ذلك إلى إحراق وتدمير البلد فوق رؤوس أبنائها، مع الاستعداد لبيع البلد بالجملة والمفرق لكل قاطع طريق إقليمي أو دولي، مقابل دعم مشروع النظام في العصيان بكرسي السلطة إلى الأبد، بل أضيف إلى هذه المأساة وجود معارضة سورية تصدرت المشهد السياسي منذ زمن ما قبل الثورة، ثم عادت وتصدرت المشهد السياسي والعسكري في زمن الثورة، وهي المعارضة التي قامت بمواجهة النظام بنظرية معاكسة قبل الثورة وفي زمن الثورة، نظرية تقوم على فكرة " الخلاص بأي ثمن " أي الخلاص من النظام حتى ولو كان هذا الثمن لا تسليم رأس الثورة للإسلاميين فحسب، بل حتى تسليم قرار الثورة للخارج الإقليمي والدولي وبما يعني دعوة الخارج لاحتلال سوريا. وفي تقابل وتصادم نظرية النظام القائمة على البقاء بأي ثمن مع نظرية المعارضة القائمة على نظرية الخلاص بأي ثمن، تم كسر الإطار الوطني للصراع السوري مدفوعاً من النظام والمعارضة على حد سواء. وإذا كانت استراتيجية ونظرية النظام في القمع والإجرام والاستعانة بالخارج قد أصبحت أمراً مكشوفاً ومعروفاً للقاصي والداني، منذ زمن ما قبل الثورة ولا سيما أننا نتحدث عن نظام مكشوف ومعروف في حدود إجرامه منذ الصراع الذي دار في الثمانينيات، إن كان بينه وبين الإخوان المسلمين أو بينه وبين المجتمع السوري وقواه السياسية, كما أن النظام معروف في كونه جزءاً عضوياً من المشروع الإيراني الطائفي في المنطقة، وهو المشروع والحلف الذي توسع وتعمق في زمن الثورة بشكل مكشوف ومعلن, وحيث أن الحصيلة كانت تخلي النظام عن سيادته وكامل السيادة الوطنية السورية لصالح الاحتلال الإيراني ثم الروسي الذي حل على الأرض السورية بشكل مباشر بدءاً من أيلول 2015 وذلك بعد أن عجز الحلف الإيراني الطائفي عن حمايته من السقوط. في الواقع إن ما هو غير معروف على نطاق واسع بين السوريين هو استراتيجية المعارضة ورهاناتها الاستراتيجية القائمة على طلب التدخل الدولي كوسيلة وأداة لإسقاط النظام، وهو الأمر الذي سهل على النظام عملية كسر الإطار الوطني للصراع كون هذا الكسر يأتي في صالحه, وبعكس ما يعتقد الكثير من السوريين، أن الإسلاميين هم وحدهم من يتحملون عملية كسر الإطار الوطني للصراع من جانب المعارضة، فإنني في هذا المقال سأكشف عن الدور الذي لعبه الكثيرون من الرموز المحسوبين تاريخياً على اليسار " التحرري " المعارض، وهو دور لا يزال مخفياً على الكثير من السوريين، بسبب كون غالبية النخب السورية المعارضة تبتعد عن ذكره أو الإشارة إليه بشكل مباشر. فنجد مثلاً أن الدكتور برهان غليون الذي يعد من الوجوه البارزة والعارفة بالخفايا والحقائق داخل صفوف المعارضة، وبالرغم من الشهادات المهمة التي كشفها وقدمها في كتابه الأخير " عطب الذات.. سورية.. ثورة لم تكتمل " إلا أنه أبقى ما بين السطور والكلمات من الحقائق يزيد عن الحقائق التي جاءت في كتابه على أهميتها، فلم يستطع أو يرد الغوص إلى الأعماق التي تخبئ جذور شجرة أزمة المعارضة، حيث هناك نجد العقل السياسي للمعارضة ورهاناتها قبل الثورة وفي زمنها، وهذا الابتعاد نجده كذلك عند الغالبية الساحقة ممن كتبوا وتفلسفوا، الذين طالت ألسنتهم كل شيء إلا الاقتراب من معاينة الأسباب الحقيقية لأزمة المعارضة، وهذا يعود بتقديري إما بسبب كونهم كانوا جزءاً من عقل المعارضة المأزوم الضدي والذي لم يرتق يوماً إلى مصاف العقل النقيض لعقل النظام، أو بسبب كونهم لم يهدموا حاجز الخوف من الطواطم والمستحاثات السياسية التي أنتجت هذه الأزمة وتمتلك " جيشاً من الشرطة العسكرية " المستعدة لإقامة محاكم التفتيش لكل من يتجرأ ويتناول سيرتها بالنقد، فبعض هؤلاء لديهم ما يماثل " بيريا و ياغودا " وجيش من العسس، ولا يردعهم رادع الآن سوى كونهم أصبحوا عراة مكشوفين، هذا إذا ما أضفنا أن لأنصار هؤلاء منطق مشابه لمنطق أنصار النظام حيث لسان حالهم يقول: إن قادتهم نظيفون ولكن من يحيط بهم هم العرصات. فالكل وجد في الأسلمة والإسلاميين مشجباً يعلق عليه أوساخه، كما وجد في تعليق الفشل على مشجب العامل الخارجي تحت مقولة الثورة اليتيمة هروباً من تحمل المسؤولية والقول أنها ثورة غدرت من أبنائها قبل أن يغدر بها الخارج، كما تفعل في العادة الأنظمة العربية عندما تبرر فشلها وتعمل على تغطية أوساخها من خلال الحديث عن المؤامرة الخارجية. ومن مهازل القدر أن الإسلاميين الذين عملوا تاريخياً من الناحية العملية وبإسناد من فكرهم الديني على فكرة كسر الإطار الوطني للصراع، وهم من الناحية العملية والثقافية الدينية من مشى في هذا الخيار زمن الثورة حتى شوطه الأخير، إلا أنه من الناحية السياسية والثقافية والسياسية وكما يقال من ناحية " التنظير " فإن القوى المحسوبة على قوى اليسار داخل المعارضة هي أكثر من قام بالتنظير السياسي والثقافي المكشوف لعملية ضرورة كسر الإطار الوطني للصراع، ولهذا كان طبيعياً ومنطقياً في زمن الثورة أن يشكل هؤلاء حمّالي المجلس الوطني ومن ثم الائتلاف التي عبرت على ظهورهم وبغطاء منهم عملية أسلمة الثورة ومعها التنظيمات والفصائل الإسلامية المرتبطة بأجندات الخارج والتي شكلت الأدوات العسكرية لكسر الإطار الوطني للصراع في سوريا. أنقل هنا مقتطفاً من مقال للباحث السوري المعارض محمد سيد رصاص نشر في مرصد الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الإعلامي – مينا – بتاريخ 30 / 11 / 2018 ، حيث ينقل لنا في هذا المقال اعترافات رموز الاستقواء بالخارج بضرورة هذا الاستقواء، وبما يؤكد أن الاستقواء بالخارج سار باتجاهين في الحالة السورية أي من جانب النظام والمعارضة. يقول ".. منذ عام 2002، وقبيل أشهر من غزو العراق وعشية انعقاد مؤتمر لندن للمعارضة العراقية في الشهر الأخير من ذلك العام، بدأت تظهر أطروحة أن المرجعية الوحيدة في تقويم سياسات المعارضات والسلطات “هي الديمقراطية” (أصلان عبد الكريم، وهو قيادي سابق في حزب العمل الشيوعي في سوريا، في نشرة “الرأي” الناطقة باسم الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي، العدد 14، تشرين الثاني/ نوفمبر 2002، ص19). أدى هذا إلى طروحات حول “أولوية الديمقراطية ومفتاحيتها” في القضايا كلها؛ الوطنية والاقتصادية- الاجتماعية، وأنها جميعاً مؤجلة إلى ما بعد تحقيق الديمقراطية أو مشروطة بها، مع سكوت أو تصريح بالقبول بأي حامل يأتي بالديمقراطية، انطلاقاً من أطروحة تقول إن “الدكتاتوريات قد قضت على العوامل الداخلية للتغيير”، وهو ما تلاقى مع طروحات كان يقول بها بعض أيديولوجيي (المحافظين الجدد)، مثل ويليام كريستول، حول “صناعة الديمقراطية” في “الدول الفاشلة”. ثم بدأ بعض المثقفين، الساسة العرب (جاد الكريم الجباعي، وهو قيادي سوري في حزب العمال الثوري العربي، في مقاله: “تهافت الدفاع عن العراق”، موقع “أخبار الشرق” لندن، يصدر عن جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، تحديث يوم 24 كانون الأول/ ديسمبر 2002) في طرح طروحات قالت بأن هناك ثنائية متضادة، في الواقع العربي المعاصر، متمثلة في أن “النظام الاستبدادي العربي وضع الشعوب العربية بين خيارين: إما قبول الاستبداد أو الاستقواء بالخارج، ثم يضيف: الاستبداد كالاستعمار، كلاهما إهانة للكرامة الإنسانية، بل إن الاستبداد أخطر من الاستعمار، لأنه يستقدم الاستعمار، أو ينتج القابلية للاستعمار والقابلية للاستقواء بالخارج على الداخل”. في مرحلة ما بعد غزو العراق (19 آذار/ مارس- 9 نيسان/ أبريل 2003) ظهرت أطروحة (الصفر الاستعماري) وأن الأمريكيين قد نقلوا العراق “من الناقص إلى الصفر” (رياض الترك: مقابلة مع جريدة “النهار”، 28 أيلول/ سبتمبر 2004)." قبل مناقشة مقولات الاستقواء بالخارج الواردة في الأسطر السابقة، أقول: بأنه لا يوجد حدث في التاريخ يشابه ما تعيشه الساحة السورية خاصة والعربية عموماً منذ عقود يوازي شبه هذه المرحلة مع مرحلة الانحطاط التي عاشتها دولة الاستبداد المعمم في العصر العباسي في آخر قرنين من عمرها بدءاً من حكم المعتصم بالله وحيث كانت أهم سمات تلك المرحلة، تبادل حالة الاستقواء بالخارج من قبل الحاكم والمحكومين، وحيث كان الحاكم هو السباق في عملية الاستقواء، وهو سببها في آن معاً. أعود للمقولات الواردة في السطور السابقة للقول أننا أمام حد عال لا من البلاغة والصراحة في طلب الاستقواء بالخارج فحسب بل أمام حد عال من الوقاحة السياسية التي بلغت ذروتها عندما اندفع في زمن الثورة بعض الذين آمنوا بفكرة الاستقواء داخل هذا التيار إلى الحد الذي جعلهم يزورون إسرائيل ويطلبون العون منها، كما فعل كمال اللبواني وغيره كثر ممن غطوا زياراتهم تحت نفس الحجج، كما نجد كذلك أننا أمام حالة نموذجية لتحقق مقولة لينين على الأقل من الناحية الشكلية " بأن المثقفين هم الأكثر قدرة على الخيانة كونهم الأكثر قدرة على تبريرها " . أقول من الناحية الشكلية لقناعتي أن بعض أصحاب نظرية الاستقواء بالخارج وبالرغم من كل النتائج الكارثية التي تأتت من تطبيق هذه النظرية على أرض الواقع، إلا أنهم يظلون بلغة الفلسفة الخاصة بعلم الاجتماع السياسي الذي يحيط بنظم الاستبداد المعمم وطنيين بالفعل وعلى طول الخط وخونة بالقوة، إنها حالة خاصة من التعاكس والتضاد بين العقل والإرادة، وبتعبير مشتق من فلسفة غرامشي ومقولته " تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة ". أقول إنها حالة من خيانة العقل المتشائم - حين يحيد عن الحقيقة الموضوعية - ووطنية الإرادة، وبلغة الفيزياء السياسية فإن خيانتهم هي حالة من تشوه الوعي وفتل الوعي الناتج عن وقوعه بين مزدوجتي عزم السيف الداخلي وعزم الخديعة الخارجية، فالفكرة أي فكرة والسيئة منها خصوصاً عندما تخرج من مجالها الخاص إلى المجال العام، تتدحرج وتتحرر من أصحابها ونواياهم كونها تتدحرج وتتشابك مع قوى الواقع المتحرك بكل تعقيداته وتصبح ملكاً لكل من يراها تخدم نواياه ومصالحه، إن كان طرفاً إقليمياً أو دولياً أو فصيلاً سياسياً أو عسكرياً أو حتى ولو كانت مجموعة صغيرة أو شخصاً مفرداً بذاته. إذاً وبعيداً عن النوايا الطيبة لبعض أصحاب الشهوات في الاستقواء بالخارج فالنوايا هنا لا قيمة لها وإن كانت تخفف من حكم التاريخ على أصحابها، فالطريق إلى جهنم كما يقال مفروش بالحرير، وكما أن القانون لا يحمي المغفلين كذلك التاريخ لا يحمي الحمقى من السياسيين، مع التأكيد أن حكم القيمة السلبي الذي أطلقه على هذه الأفكار وعلى أصحابها، المقصود فيه المآل النهائي الموضوعي الذي قادت إليه هذه الأفكار. إذاً في محطة سقوط بغداد وما سبقها وما تلاها من تغييرات في بنية وطبيعة القناعات الثقافية والفكرية، وطبيعة الرهانات السياسية داخل النخب السياسية السورية المعارضة، نشأت ما كنت قد أطلقت عليه بظاهرة الهبل السياسي " الديمقراطي "، كما ظهرت مقولة ونظرية الخلاص بأي ثمن، وهي النظرية التي يمكن أن نكتشفها من خلال تعامي المعارضة عن نوع الحامل الديمقراطي، أو لنقل موافقتها على أي حامل يطيح بالنظام، إن كان على هيئة إسلام سياسي شيعي كالحالة العراقية أو إسلام سياسي سني كالحالة السورية، مع تركيب حامل خارجي أمريكي على الحامل الإسلامي، ويمكن القول بأنه في هذه الفترة نشأت واكتملت في الواقع السياسي السوري من الناحية النظرية والتي ستترجم عملياً في زمن الثورة دورة الحياة الكامنة في المقولة المنسوبة لابن خلدون والقائلة بأن " الطغاة يجلبون الغزاة "، أو لنقل هنا اكتملت الوجوه الثلاثة في هذه المقولة، فمقولة الطغاة يجلبون الغزاة لا تعني أن الطغاة يطلبون الغزاة فحسب، بل تعني بالعمق:
أولاً : إن الطغاة في سعيهم لتأبيد سلطهم مدى الحياة ومهما كانت الكلف يسعون للاستنجاد بالخارج والغزاة كي ينالوا منهم الدعم كي يبقوا على رأس السلطة.
وثانياً : تعني أن القوى المعارضة لنظم الطغيان والتي يصيبها في لحظة اليأس من شدة ما تلقاه من قمع وإنهاك إلى الحد الذي يفقدها أي أمل بالخلاص، الأمر الذي يدفعها للاستنجاد بالخارج والغزاة، من أجل التخلص من الطغيان الذي يثقل عليها وعلى الشعب كابوس وجوده المديد.
ثالثاً : في شروط نوع كهذا من نظم الطغيان وفي لحظة الاستعصاء في رجحان كفة الصراع المتفجر والمفتوح بين نظم الطغيان وشعوبها ومعارضيها، فإن هذا قد يدفع كلا الطرفين - وفي مطلق الأحوال فإن الطغيان هو من يكون الطرف الذي يبادر أولاً للاستنجاد بالخارج والغزاة - كي يستنجدوا بالخارج سعياً من كلا الطرفين كي تميل كفة الصراع لصالحه، وفي هذه الحالة تأخذ مقولة الطغاة يجلبون الغزاة كامل معناها وأبعادها حيث تكتمل كامل دورة حياتها بشكل مطلق. لقد شكلت الحالة السورية نموذجاً – كان قد حدث ما يشابهه في تاريخنا القديم والحديث - لاكتمال دورة حياة مقولة ابن خلدون في كل وجوهها حيث نجد في الوضع السوري لا مجاهرة النظام في دعوته واستنجاده بالخارج من أجل حمايته، بل نجد المجاهرة ذاتها عند المعارضة كذلك، حيث نجد تقديم الحجج والمبررات النظرية بكل ما أجادت عليهم قريحتهم وعبقريتهم السياسية من قوة، فنجد جاد الكريم الجباعي في مقالته " تهافت الدفاع عن العراق " ونجد رياض الترك ونظرية " الصفر الاستعماري " وأصلان عبد الكريم ودبابته الأمريكية القادمة إلى المنطقة لإقامة الديمقراطية وتجفيف منابع الإرهاب. وبالعموم يمكن حصر الطروحات الداعية لتدخل الخارج لإحداث التغيير الديمقراطي في مجتمعاتنا العربية بالمقولات التالية: 

أولاً : أن الاستبداد يجفف منابع التغيير، الأمر الذي يدعو إلى الاستنجاد بالخارج لإحداث التغيير.
ثانياً : شهوة إعادة استنساخ النموذج العراقي في التغيير وبما يعني تغيير النظام من خلال الغزو الخارجي كما حدث عام 2003 في عملية إسقاط نظام صدام حسين الاستبدادي، والقول أن الذي سقط هو فقط النظام العراقي ولم يسقط العراق كله.
ثالثاً : نظرية الصفر الاستعماري، التي تعني أن استبدال نظام استبدادي بنظام احتلال خارجي استعماري – كتكتيك مرحلي - هو نقطة إيجابية، فنوع كهذا من العمل من وجهة نظر أصحابه ينقل المجتمع من مستوى ما دون الصفر إلى مستوى أرقى هو مستوى الصفر.
رابعاً : مقولة أن التدخل الأمريكي الجديد في المنطقة والعمل الأمريكي لاجتياحها بدءاً من نهاية الحرب الباردة في أوائل التسعينيات من القرن الماضي قد جاء بهدف إقامة نظم ديمقراطية في المنطقة كوسيلة لمحاربة الإرهاب الذي ضرب أمريكا في 11 سبتمبر 2001. وقبل مناقشة هذه المقولات علينا القول والاعتراف أن بعض هذه المقولات تحمل في طياتها مقداراً من الحقيقية بمقدار ما تحمل من التضليل والضلال والوهم، وهو الأمر الذي جعلها من جهة قوية ومؤثرة في أوساط النخب السياسية السورية ومن جهة أخرى مكشوفة وعارية ويسهل دحضها والرد عليها. وهنا أقول أن أكثر لغة يمكن أن توصّف هذه المقولات حيث تعبر عنها بتعبير منطوق يكثف كل التناقضات المحتواة في داخلها، هي اللغة الانكليزية، فكل هذه المقولات يمكن القول عنها بلغة الانكليز بأنها " " good for nothing.فهذه العبارة تعني وفق الترجمة الحرفية أن هذه المقولات جيدة ولكن من أجل لا شيء، أي هي مقولات تافهة، فهي جيدة – وهنا نجد وجه الحقيقة في هذه المقولات - كونها تعبر عن حقيقة لا يختلف حولها عاقلان من أن الاستعمار أكثر رحمة على الشعوب من حكامها الشموليين، وهي جيدة كذلك كونها تقر بحقيقة أن النظم الشمولية هي حالة احتلال داخلي وأنها أكثر عنفاً وإجراماً من الاستعمار الخارجي, فلا أحد يختلف مع هذه المقولات في كون النظم الشمولية وكما وصفتها في مقال سابق هي نظم كليانية كولونيالية داخلية مجرمة متحللة من أي رادع أخلاقي أو قيم وثقافة تمتلك الحد الأدنى من التحضر. أما لماذا هذه المقولات جيدة من أجل لا شيء إيجابي؟؟؟ فنجد:
أولاً : إن هذه المقولات لا ترى وسيلة أخرى للتخلص من الاستبداد غير الاستعمار، فهي تخيرنا بين خيارين لا ثالث بينهما، فإما الاستبداد أو الاستعمار، أو لنقل إما القبول بالهبل " الثوري " والدفاع عن نظم الاستبداد أو الانسياق خلف الهبل " الديمقراطي" والتطبيل للاستعمار. يقول السيد جاد الكريم الجباعي في نفس المقال المشار إليه أعلاه " تهافت الدفاع عن العراق " وحيث نجد كل الكارثة في عنوان المقال الذي يلخص محتواه، فهو لم يقل مثلاً تهافت الدفاع عن نظام صدام حسين فهذا أمر مفهوم، بل قال تهافت الدفاع عن العراق، يقول في المقال “الوجه الآخر لإدانة العدوان كان منذ 1991 وما يزال تسويغ الاستبداد وتأييده ومناصرته، وليذهب الشعب العراقي والشعوب العربية الرازحة تحت نير الاستبداد كلها إلى الجحيم، ما دام هناك بطل يدافع عن الأمة العربية ويعلي مجدها، بل مجده بين الأمم، ولم نسأل عن الأسباب التي دفعت نخبة من السياسيين العراقيين إلى الاستقواء بالخارج، ثم يضيف: قد يقول قائل إن هذا أقرب إلى موعظة أخلاقية، وقد يقول آخر: هذا تسويغ للعدوان الأمريكي على العراق وللاستقواء بالخارج على الداخل، حسناً، ليقل كل أمرئ مايشاء. إن أساس هذه الطروحات يكمن في إسقاط واستبعاد فكرة الثورة من الحسبان، وبما يعني استحالة إمكانية حدوث الثورة على الاستبداد في مجتمعاتنا. وفي نفس السياق يتحدث السيد رياض الترك عن الشعب السوري في حوار مع صحيفة “نيويورك تايمز” عام 2005.".. لا نستطيع الجزم، أن هذا المجتمع الأبكم يريد التخلص من هذه الحكومة.." - طبعا يقصد النظام -... ثم أعلن: “نعم، أنا على يقين أن الشرق الأوسط جاهز للسير في الطريق نحو الديمقراطية، نحن جاهزون للتخلص من الدكتاتورية، نحن نتفق مع الأمريكيين في ذلك”.( المصدر السابق مقال الباحث محمد سيد رصاص ). من الواضح من هذا القول أن لا رهان على الحامل الداخلي في عملية التغيير الديمقراطي، ولكي نعرف أساس هذا التفكير علينا الانتقال إلى مناقشة مقولة أن الاستبداد يجفف منابع التغيير.
ثانياً : كلنا يعلم أن تأخر انطلاق الربيع العربي عن الربيع الذي تفتح في أوروبا الشرقية أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي هو من كان وراء حالة اليأس والإحباط التي عاشتها النخب السورية المعارضة، وهو الأمر الذي دفعها لإنتاج مقولة أن الاستبداد يجفف منابع التغيير. ولكن من المفارقات المضحكة في هذه المقولة، أن الربيع الذي تفتح في أوروبا الشرقية بوجه نظم الاستبداد المعمم كان يكذب هذه المقولة، وينفي صحتها، ثم جاء الربيع العربي والسوري خصوصاً الذي انفجر بوجه أعتى نظم الاستبداد إجراماً في التاريخ ليعيد بدوره تكذيب وخطل هذه المقولة. فإذا كان صحيحاً أن الاستبداد المعمم يحدث تكلساً وركوداً وشللاً في أنماط الإنتاج والطبقات السائدة ويمنع تعاقب التشكيلات الاجتماعية، وفتح أبواب التاريخ، أي الانتقال من تشكيلة اجتماعية إلى أخرى أكثر تطوراً كحالة الانتقال مثلاً من العبودية إلى الإقطاعية أو من الإقطاعية إلى الرأسمالية، إلا أن هذا لا يحول ولا بأي شكل من الأشكال من انفجار الصراع بين الحاكمين والمحكومين في أي تشكيلة اجتماعية يسودها الاستبداد المعمم، فتجارب التاريخ الحديث – الربيع في أوروبا الشرقية ومن ثم الربيع العربي - تثبت أن الاستبداد المعمم قد يلجم الصراع السياسي والثورات السياسية ولكن ليس إلى ما لا نهاية، كما أن تجارب التاريخ القديم والوسيط تثبت ذلك، فالاستبداد المعمم الذي استمر حوالي 14 قرناً في المنطقة، صحيح أنه حال من قدرة مجتمعاتنا على الانتقال من التشكيلة الإقطاعية الشرقية إلى التشكيلة الرأسمالية إلى أن أتى التغلغل الرأسمالي الغربي فقام بكسر تكلس أنماط الإنتاج والطبقات، الأمر الذي قاد إلى نقلنا إلى التشكيلة الرأسمالية، إلا أن هذه المراوحة طيلة هذه القرون لم تحل من انفجار الثورات السياسية والصراع ضد الحاكمين، إن كان في العصر الأموي أو العباسي وكل العصور التالية. أقول ذلك كون أصحاب مقولة أن الاستبداد يجفف منابع التغيير لا يقصدون بهذه المقولة - اللهم إلا إذا كانوا يتقصدون الخلط - الإشارة إلى أن الاستبداد الحديث والمعاصر يمنع الانتقال إلى تشكيلة اجتماعية أخرى ولا سيما أنهم جميعاً ليس في أجنداتهم مثل هذا الانتقال، بل يقصدون أن الاستبداد يحول إلى ما لانهاية من انفجار الثورات والصراع بوجه الحاكمين المستبدين في إطار التشكيلة الرأسمالية التي نعيش في ظلها، وهو الأمر الذي دفعهم للاستقواء بالخارج كي يلعب دور المولدة. لقد نسي أصحاب هذه المقولة أن المجتمعات لم تعد في عصر المجتمعات المغلقة والمعزولة ضمن جدران وأسوار الطغاة والإمبراطوريات القديمة، وأن السيرورات الثورية في العصور الحديثة لم تعد مفصولة عن بعضها، وأن حاجز الخوف والرعب الذي تبنيه نظم الاستبداد والاستعباد ومهما بلغ طول كعبها سينهار يوماً ما بمجرد ظهور بارقة أمل تطلقها شرارة وسيرورة ثورية تنطلق من شعب قريب منه أو بعيد. لقد أتى الربيع العربي لا ليكذب مقولة تجفيف منابع التغيير فحسب، بل ليقول أن الحامل الأساسي للتغيير ومحركه هو محرك داخلي وشعبي وحيث الطبقات الفقيرة والمهمشة هي محركه ووقوده الذي لا ينضب، وأن هناك بديلاً عن الحامل البرجوازي والخارجي الذي أملت به المعارضة السورية، وبنت كل استراتيجيتها عليه. وهنا أقول أن الجريمة الكبرى التي اقترفتها النخب المعارضة السورية التي تصدرت المشهد السياسي تمثلت في أنها لم تغير من رهاناتها السياسية التي وضعتها قبل الثورة، وأن أصحاب الشهوات السياسية المعندة ومن شدة عناد شهواتهم لم يكن لهم القدرة على التمييز بين زمن ما قبل الثورة وإمكاناته المحدودة وزمن الثورة وإمكانيته الأسطورية. لقد أحلت هذه النخب ذاتها محل الشعب واعتبرت قدرة النظام على ملاحقة أحزابها وتصفيتها على مدى عقود وعقود هو تصفية للروح النضالية للشعب السوري، فاعتبرت قدرة النظام على تجفيف منابع هذه الأحزاب هو تجفيف للروح النضالية عند الشعب السوري، لهذا رأت باستحالة قيام الثورة بدون وجودها وقيادتها لهذه الثورة، وهو الأمر الذي دعاها لتبني استراتيجية الدبابة القادمة من الخارج على الطريقة العراقية عام 2003.
ثالثاً : صحيح أن نوعاً من نظم الاستبداد المعمم كالتي عرفتها بعض شعوب المنطقة – نظام صدام حسين في العراق، نظام معمر القذافي في ليبيا - والنظام الأسدي في سوريا الذي فاق كنظرائه في بطشه ووحشيته ما قامت به النازية الهتلرية، الأمر الذي يعني أن فكرة الاستفادة من الخارج والاستنجاد به لم تكن خاطئة على طول الخط، بل كانت ضرورية ولازمة لاقتلاعه كونه نظاماً يمتلك فائضاً هائلاً من القوة ومن إرادة البطش، إلا أن هذا كان يتطلب كي تكون الخسائر في حدودها الدنيا وحيث لا يمكن التخلص من نظم كهذه من دون حد من الخسائر، وكي لا تصل الخسائر إلى حدود كارثية تصل إلى حد أن تكون عملية اقتلاع النظام هي ذاتها اقتلاع للمجتمع وهويته وخريطته السياسية التاريخية. أقول كي لا يحصل هذا ينبغي توفر الشروط الثلاثة التالية:
الشرط الأول : أن يكون حامل التغيير الأساسي حاملاً داخلياً وطنياً شعبياً ناهضاً وثائراً، وهو الأمر الذي وفرته الثورة السورية في الأشهر الأولى لانطلاقتها، الأمر الذي يعني أن تركيب الحامل الإسلامي على ظهر الثورة وحاملها الوطني كان في العمق تفريغاً للحامل الوطني من محتواه و قوته و اتجاهه وقدرته على التأثير في اتجاه حركة الصراع، وقد كان تركيب الحامل الإسلامي على ظهر الثورة مبيتاً وقديماً، ويعود كما كنت قد أشرت إليه في مقال سابق إلى زمن الصراع الذي حدث في ثمانينيات القرن الماضي بين النظام والإخوان المسلمين، فكما قال الدكتور برهان غليون في كتابه " عطب الذات ..سوريا ..ثورة لم تكتمل " فإن زعيم المعارضة رياض الترك كان أقرب للإسلاميين من أي قومي أو شيوعي، وما تبرير السيد رياض الترك في لقائه الصحفي مع علي الأتاسي بعد خروجه من سوريا أواخر حزيران 2018 والمنشور في صحيفة القدس العربي بتاريخ 2 سبتمبر 2018 : بأن الإسلاميين هيمنوا على المجلس الوطني من خلال إخفاء تمثيلهم تحت عباءة ممثلي العشائر سوى إدانة ثانية له - هذا إذا ما صدقنا من كان حريصاً على معرفة هوية لا كل من جلس على مقاعد المجلس الوطني فحسب بل حتى هوية من كانوا يقفون على شبابيكه وأبوابه، فالسيد رياض الترك كان يجد في تمثيل العشائر والقبائل والطوائف في المجلس الوطني أهم بكثير من تمثيل الكثير من المكونات السياسية الوطنية العريقة في نضالها ضد النظام الأسدي، حيث أصبح معروفاً ومثار سخرية السوريين أن لا مكان في المجلس الوطني لمن لا يمثل واجهة عشيرة أو قبيلة أو طائفة، وفي كل الأحوال فإن هؤلاء لم يكونوا يمثلون أحداً سوى أنفسهم. كما كانت شهوة استنساخ النموذج العراقي في سوريا بعد تبديل الإسلام السياسي الشيعي بالإسلام السياسي السني مع تثبيت الدور أو لنقل الحامل الأمريكي هي خلف هذا الخراب في الحامل الأساسي للثورة وهي خلف جعله ينقلب ليكون حاملاً لمشاريع القوى الإقليمية والدولية.
الشرط الثاني : توفر قيادة للثورة والمعارضة تعمل بروح المسؤولية الوطنية على توحيد كل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي السوري من إسلاميين وشيوعيين وقوميين وليبراليين وعلمانيين من دون استثناء أحد وعلى مبدأ الشراكة الوطنية بعيداً عن منطق الغلبة والاستحواذ لأي طرف كان – كما فعلت مؤخراً المعارضة السودانية التي أسقطت نظام البشير، والتي كانت حريصة على وحدة صفوفها بمن كان على يسارها ومندفعاً حتى أقصى الحدود كالحزب الشيوعي السوداني وبمن كان على يمينها ومتردداً في بعض اللحظات كحزب الأمة القومي الذي يقوده الصادق المهدي، مضافاً إلى ذلك استماتتها في استيعاب كل الحركات المسلحة المتمردة على نظام البشير- إذ أن توحيد أطياف المعارضة وعلى مبدأ الشراكة الوطنية كانت الطريقة الوحيدة لتوسيع الهوية الوطنية والاجتماعية والسياسية للثورة بشكل دائم ومستمر خلال تطور السيرورة الثورية التي عاشتها سوريا بدءاً من منتصف آذار 2011. لقد افتقدت الساحة السورية هذا الشرط حيث لعب زعيم المعارضة رياض الترك مستغلاً مكانته دوراً حاسماً في شرذمة صفوفها، فكان دوره نابذاً وطارداً لأي وحدة تجمع كل أطيافها. يكفي هنا أن أشير إلى ما كتبه الدكتور برهان غليون المقرب جداً من السيد رياض الترك وأول رئيس للمجلس الوطني المعارض، حيث يشير من وجهة نظري إلى أهم مكامن العطب في الذات المعارضة حين يقول في كتابه " عطب الذات ..سورية ..ثورة لم تكتمل " متحدثاً عن رياض الترك قائلاً "... كانت طريقته الودية والمتواضعة في اكتساب الأصدقاء والمحبين نوعاً من السحر الذي يخفي تحته نزعة عصبوية ضيقة، هي النقيض المباشر لروح التجمع والتأليف والتوليف بين الأفراد والجماعات، والتي من دونها لا يمكن بناء قوى مؤثرة ومحركة اجتماعية وسياسية، والتي تشكل القيادة والعنصر الأبرز والأهم فيها في كل المجالات وميادين النشاط الإنسانية... بعد رحيل جمال الأتاسي، لم يكن – يقصد رياض الترك – مستعداً للتعاون مع من لا يشاطره الرأي بتفاصيله، في العلاقة مع النظام. وكان يشعر، بسبب ذلك أن الإسلاميين أقرب إليه سياسياً من اليساريين الآخرين قوميين كانوا أو ماركسيين، الذين لا يعتبرون أن المهمة الأولى للمعارضة هي القضاء على نظام الأسد ، وبأي وسيلة كانت " . طبعاً هنا علينا أن نتوقف كثيراً عند عبارة بأي وسيلة كانت، فهنا أساس نظرية ( الخلاص بأي ثمن ) المقابلة لنظرية النظام ( البقاء بأي ثمن)، إذ سنجد في زمن الثورة أن السيد رياض الترك سيجد في الفصائل الإسلامية التي شكلتها المخابرات الإقليمية بالتعاون مع المخابرات الدولية بما فيها مخابرات النظام السوري، ومن ضمن هذه الفصائل جبهة النصرة وحتى داعش، حلفاء وفصائل ثورية قبل أن تكشفان عن وجههما وتنهشان مؤخرة ومقدمة رياض الترك من دون أن تقضيان على شهوته السياسية المعندة اتجاه الإسلاميين. ثم يتابع غليون القول: " لذلك على الرغم من الكاريزما التي كان يتمتع بها من دون شك – يقصد الترك – لم ينجح في أن يكون عامل توحيد وتجميع وتكتيل للمعارضة، بل حتى عامل استقطاب داخل حزبه ذاته، واستعدى خيرة الكوادر التي حمت الحزب، وقادته خلال مرحلة التيه الكبير، وفي الفترة الأقسى من حكم حافظ الأسد، لقاء تضحيات شخصية لا تقدر بثمن .( من أبرزهم عبد الله هوشة ومازن عدي. وكنت قد التقيتهما مرات في أواخر التسعينيات، خلال فترة عملهما السري. وكانا من أنشط الإطارات الحزبية. وحسب ما خلد في ذهني من انتقادات رياض لهما تبعيتهما، لجمال الأتاسي، خلال فترة اعتقاله في الثمانينات، وشكه بولائهما الكامل ) " . وإذا ما اضفنا إلى هوس الترك بالولاء الشخصي ما قاله غليون في كتابه من أن "... رياض الترك قاس لا يرحم مساعديه، ولا منافسيه أبداً، أوتوقراطي نموذجي، وسواسي مسكون بالظنون، لا يطمئن لأحد، حتى نفسه.. " . فإننا نكون أمام زعيم للمعارضة يشبه أي حاكم أو طاغية مستبد، ولم يكن ينقصه سوى بعض السجون كي يزج بها كل من يعارضه ولا يواليه داخل صفوف المعارضة، بما في ذلك وربما على رأسهم من يعارضه من رفاق دربه في الحزب الذي يتزعمه الترك ذاته، فهؤلاء ربما كان مكانهم في الزنازين، ولهذا قلت في مقال سابق أن كل من مشى معه كان في مرتبة سانشو، وظيفته أن يمشي تابعاً في ظل حمار دون كيشوت المعارضة السورية، حالماً أن يجعله دون كيشوت حاكماً لأحد الجزر التي سيحررها في مغامراته هذه، تماماً كما كتب ميخائل دي سرفانتس في روايته دون كيشوت، وهو الأمر الذي لم يجده الترك إلا عند من يشاركه شهواته السياسية المعندة وعند الإسلاميين المولعين به، والمولع بهم، فالسيد رياض الترك وبعد سبع سنوات من غدر الإسلاميين بالثورة وبعد أن عاثوا فساداً في أرض الثورة، نجده يبرر لهم فعلتهم تحت الف حجة وحجة، ولم يكن ينقصه إلا القول لنا أن نبكي عليهم حفنة من الدمع بوصفهم ضحايا، بدل فضح دورهم. ففي معرض جوابه عن سؤال في لقائه الصحفي مع علي الأتاسي المشار إليه أعلاه عن رأيه في اتهامات العديد من ناشطي الثورة للإخوان بأنهم غدروا بالثورة. يقول رياض الترك " لا، الأمر لا يتعلق بالغدر. أعتقد أنه كانت لديهم رغبة في السيطرة والاستيعاب وأن تكون لديهم الكلمة الفصل أمام الرأي العام، وكانت هناك ثقة مفرطة في النفس " ، ثم يتابع ليقول " أن الإخوان المسلمين، كما الآخرين، كانوا ضحايا للعديد من المؤامرات التي تعرض لها الشعب السوري ". ولا نعلم إن كان السيد رياض الترك يتباكى بنفس القدر على الحشد الشعبي الشيعي العراقي وحزب الله اللبناني وكل فصائل الإسلام السياسي الشيعية الذين ذبحوا الثورة السورية من الوريد للوريد بحجة أنهم كانوا ضحايا المؤامرة الإيرانية ؟؟؟. نعم أيها السادة لم يكن رياض الترك يحتاج إلى مزيد من الحلفاء، وبما يعني الحرص على تجميع الطيف المعارض في جبهة عريضة موحدة لمواجهة أعتى نظام استبدادي عرفه التاريخ، يقول السيد رياض الترك في نفس اللقاء الصحفي معدداً أسباب الفشل: " الخطأ الثاني كان استسهال مقولة الدفاع عن النفس في وجه عنف وبربرية النظام، من دون رقابة أو تنظيم أو تخطيط محكم ". نعم لقد كان الأمر سهلاً بالنسبة للسيد رياض الترك حيث كان رهانه قائماً على أن تكفيه لمواجه النظام حفنة من الفصائل الإسلامية السنية التي جمع قادتها من أزقة سوريا وأزقة كل العالم والتي تم توكيل مهمة تسليحها وتمويلها وتوجيهها للمخابرات الإقليمية التابعة للدول التي ادعت صداقتها للثورة السورية، ثم يركّب – مع ضم الياء - على ظهر هذه الفصائل تدخل أمريكي مشتهى وكفى الله المؤمنين شر تجميع وتوحيد صفوف المعارضة السورية.
الشرط الثالث : يتمثل في توفر معارضة تقود الثورة وحاملها الوطني وتمسك وتتمسك بالقرار الوطني للثورة في علاقتها من قوى الخارج الإقليمي والدولي، فالاستفادة من الخارج لا تعني طلب التدخل والمساعدة فقط بل تعني طلب عدم التدخل إذا كان هذا التدخل لا يخدم هدف اقتلاع النظام والتحرر منه. أشير إلى ذلك كون النظام السوري اختلف عن النظام النازي الهتلري في كونه لم يشكل يوماً خطراً وجودياً على مصالح الحكومات والنظم الإقليمية والدولية كحالة النازية الهتلرية التي شكلت خطراً على الشعب الألماني وجميع شعوب وحكومات العالم، وهو الأمر الذي استدعى كما نعلم أن تكون مهمة إسقاط النازية على جدول أعمال كل شعوب وحكومات العالم على حد سواء، وإذ شكل النظام السوري خطراً فإن خطره كان على شعبه وعلى شعوب المنطقة ولا سيما الشعبين اللبناني والفلسطيني، في حين كان الأمر مختلفاً فيما يتعلق بالحكومات والنظم، فعندما قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتاريخ 22 حزيران 2017 في مقابلة مع صحيفة " لوفيغارو " الفرنسية " الأسد ليس عدواً لفرنسا وإنما للشعب السوري " فإنه في هذا القول كان يعبر عن لسان حال الكثير من الحكومات في العالم، فكلنا يعلم مدى الرضا الإسرائيلي على أدائه في حماية حدودها، وكلنا يعلم الاحتضان القطري والتركي الأردوغاني للنظام في عز عزلته الدولية بعد 2005، وكلنا يعلم احتضان العائلة المالكة في المملكة السعودية والعائلة الحاكمة في الإمارات العربية للعائلة الأسدية منذ وصولها للسلطة عام 1970، وكلنا يعلم أن خلاف الأمريكان مع النظام لم يكن يوماً خلافاً جدياً إلا في عقول أصحاب الشهوات السياسية الذين صدقوا جورج بوش الابن عندما خرج عليهم وأقنعهم يوم 6 تشرين الثاني، بعد أشهر من غزوه للعراق عام 2003 ، في خطاب أعلن فيه استراتيجية تسعى لنشر الديمقراطية في ربوع المنطقة ؟؟؟. وهو خطاب سأعود إليه في مقالي القادم الذي سيكون عنوانه " لغما إعلان دمشق اللذين انفجرا في وجه الثورة السورية ". لقد ضربت المعارضة السورية عرض الحائط حقيقة ألا اعداء حقيقيين للنظام إقليمياً ودولياً - على صعيد الحكومات - وركنت إلى وهمها الأمريكي المخادع وبنت كل استراتيجيتها في مواجهة النظام على هذا الوهم وعلى نظرية الصفر الاستعماري العتيد، فكان تسليم القرار الوطني للثورة لقوى الخارج مبيتاً في عقل المعارضة. يقول رياض الترك في مقابلته الصحفية مع علي الأتاسي بعد خروجه من سوريا بعد سبع سنوات من الفشل، وفي سياق تعداده لأسباب الفشل " الخطأ الثالث كان الحلم – وهنا الحلم هو رغبته المكبوتة في نظريته عن الصفر الاستعماري التي عمل على تجسيدها على أرض الواقع زمن الثورة – والتمني لدى بعض القوى السياسية في أن تنال دعماً غربياً في مواجهة النظام وهذا لم يتحقق وكان في النهاية معاكساً لمصالح الثورة " . وقد كان أخطر تجليات هذا الوهم الحلم زمن الثورة في أن المعارضة قامت بتسليم القرار الوطني للثورة لأمريكا وأذرع أمريكا في المنطقة – تركيا وقطر والسعودية والإمارات العربية – فكان أن تحول مشروع بناء جيش حر وطني إلى مشروع بناء مجموعة فصائل عسكرية إسلامية سنية من بينها جبهة النصرة وداعش، وحيث كل ذلك تم بإشراف ورعاية غرفتي " الموك والمور " المدارتين من قبل أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية العاملة على إجهاض الثورة السورية، فكان أن تراكب على ظهر الثورة الحامل الإسلامي والحامل الخارجي، الأمر الذي قاد إلى خلق الثورة المضادة التي شاركت النظام على قصم ظهر الثورة. لهذا كان سهلاً أن تركب المعارضة في زمن الثورة في المركب الأمريكي وأن تتحول إلى أدوات في التطاحن الإقليمي والدولي على الأرض السورية من خلال الفصائل الإسلامية. ولهذا أصبحنا أمام نظام انكشاري يعمل لصالح ملالي إيران والمافيا الروسية البوتينية، مقابل معارضة تعمل لصالح قطر والسعودية وتركيا وأمريكا. بهذه الطريقة والكيفية تم كسر الإطار الوطني للصراع وتم تكريس الانقسام العمودي للمجتمع الذي أسس له النظام الأسدي على مدار خمسة عقود من حكمه المرتكز على عصبية طائفية مضافة إلى عصبية طبقية سياسية. وعلى هذا الأساس من القول، وكما في أغلب المجتمعات التي ينزلق فيها الانقسام ثم الصراع إلى انقسام طائفي أو قبلي عمودي، إن أهم سمة للقوى والأطراف المتصارعة تكون هي فقدانها لطابعها الوطني حيث تصبح أو تتحول هذه الأطراف إلى مجموعات بشرية ارتباطها مع القوى الخارجية الإقليمية ذات الهوية الطائفية أو الدينية أو القبلية المطابقة لهويتها هو الأساس في ارتباطاتها وعلاقتها، وعلى حساب أي ارتباط أو علاقة مع المجموعات البشرية التي تسكن معها على نفس الأرض وتشاركها نفس المصير والتاريخ، أي إن أول ما يعنيه الانزلاق إلى حالة الانقسام العمودي، هو موت الهوية الوطنية للمجتمع المعني، ويعني تحول أصحاب هذه الهويات ما قبل الوطنية إلى استطالات للخارج، كما يعني أن هذه الاستطالات تصبح الأدوات التنفيذية الضرورية واللازمة التي تعمل من خلالها القوى الخارجية الدولية ومعها الإقليمية على إغلاق صيرورات التطور والنهوض. ولقد كان عمل هذه القوى على إغلاق صيرورة تطور الربيع العربي آخر فصول عملها ولن يكون آخرها، حيث حولت هذه الصيرورات من صيرورات ثورية صاعدة إلى صيرورات رجعية هابطة، فدائماً قوى الخارج الرأسمالي تعيد إنتاج صيرورات التطور في أطراف النظام الرأسمالي من خلال هذه الاستطالات بحيث تحول هذه الصيرورات بشكل دائم إلى صيرورات هابطة. إن المستوى العالي غير المسبوق في ممارسة العنف والتدمير المرافق له لكل بنى المجتمع الاقتصادية والعمرانية والنفسية والروحية والوطنية والتاريخية الذي شهدته أكثر من ساحة عربية يجد تفسيره في كون الأطراف المتصارعة فقدت طابعها الوطني أو لنقل جُردت من طابعها الوطني وتحولت إلى استطالات ودمى تحركها أطراف وجهات إقليمية أو دولية. ولهذا كان التطاحن الإقليمي والدولي الذي تراكب مع التطاحن السني الشيعي على الأرض السورية وكانت النتيجة وقوع الأرض والمجتمع السوري تحت خمسة احتلالات أو لنقل تحت خمسة أصفار استعمارية بدل الصفر المرتجى. ومن المفارقات المبكية أن الصفر الأمريكي " الحضاري " المأمول والمشتهى من أصحاب الشهوات لم يحل وحيداً على الأرض السورية، بل جلب معه أربعة أصفار استعمارية، كل صفر أشد كلبية من الصفر الآخر، وإذا كانت استراتيجية الصفر الأمريكي في العراق قادت إلى سقوط نظام الطاغية صدام ومعه سقوط العراق كله تحت الصفر الإيراني والأمريكي، فإن استراتيجية الصفر الأمريكي في الحالة السورية قادت إلى إسقاط سوريا كلها وفوقها خمسة احتلالات ولكن مع بقاء النظام. في الواقع لا تكمن المأساة السورية في وقوع سوريا أرضاً وشعباً تحت نير خمسة احتلالات مع بقاء النظام فحسب، بل المشكلة الأكبر في أن لكل احتلال من هذه الاحتلالات له أنصاره داخل المجتمع السوري، موزعين بين انكشاريين بالفعل وهم أنصار النظام، وانكشاريين بالقوة وهم الآخرين ممن وقفوا في وجه النظام واحتموا بأحد الاحتلالات خوفاً من النظام المجرم وفي هذه المأساة يتجلى معنى قولي في مقدمة هذا المقال أنه في الحالة السورية اكتملت كل وجوه مقولة ابن خلدون أن الطغاة يجلبون الغزاة حيث الجميع يحتمي ويستقوي بالغزاة، كما هنا يكمن معنا قولي في عنوان هذا المقال بالانزلاق نحو الانكشارية المعممة، حيث المعممة تعني من جهة حالة العموم في تفشي الانكشارية وتعني من جهة ثانية أن كل هذه الانكشاريات تضع على رأسها العمامة الدينية الطائفية أو القومية أو الشيوعية، وحيث لا فرق بين انكشارية وأخرى سوى بلون وشكل العمامة وعدد لفاتها، ولا يغير من هذه الحقيقة في كون النظام هو المسؤول الأول والأخير عن قدوم كل الغزاة، كما لا يغير من هذه الحقيقة كوننا نعيش الآن مأساة حقيقية وكأنها كتبت بخط اغريقي قديم تضحكنا على معارضتنا من جهة وتبكينا على وطننا وشعبنا بنفس القدر من جهة أخرى.
رابعاً : هي أطروحات تافهة لأن أصحاب هذه الطروحات نسوا حقيقة أصبح يعرفها طلاب المداس الابتدائية في العالم، حقيقة تقول أن الاستعمار في شكله القديم والذي كان يتجلى بوجوده المباشر في الساحات التي يستعمرها لا من خلال وجوده العسكري فحسب بل من خلال وجوده السياسي والاقتصادي المباشر كذلك، وبما يعني قيامه بشكل شبه مباشر بإدارة شؤون المجتمعات التي يستعمرها، وهو الأمر الذي كان يقود في السابق إلى ترك بصمات من المنجزات الحضارية الغربية الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية على ملامح المجتمعات المستعمرة، فهذه المرحلة انتهت من تاريخ عمر الرأسمالية منذ أكثر من نصف قرن من الزمن، وأن المرحلة الجديدة – باستثناء الرأسمالية الاستعمارية الروسية الجديدة والصاعدة وبعض الرأسماليات الطرفية المتوسطة الحجم - بعد أن تم تطويرها عبر أكثر من مرحلة وحقبة، فإن الاستعمار أصبح يحكم مستعمراته من خلال وكلاء محليين ولم يعد بحاجة إلى وجوده المباشر، وإن ظلت حاجته للغزو والتدخل العسكري وإقامة القواعد العسكرية في كل بقاع العالم موجودة على طول الخط، وما حاجة الأمريكان لحكم العراق مباشرة من خلال بول بريمر الأمريكي سوى حالة تطلبتها الحاجة والخطة الأمريكية لهندسة عملية إدخال العراق في دوامة صراع الهويات الطائفية أي حتى تتمكن القوى الطائفية والحكم الطائفي الجديد في العراق كي يكون نموذجاً – نموذج المحاصصة الطائفية في الحكم - يقطع الطريق على أي صيرورة ديمقراطية في العراق وفي عموم المنطقة، أي بعكس ما اعتقدت العاهات السياسية السورية التي اعتقدت أن الأمريكان قد جاؤوا إلى المنطقة لتمكين الديمقراطية كبديل عن الاستبداد. إن دعاة إحلال الاستعمار يعلمون كما نعلم جميعاً أن الاستعمار في شكلة القديم و الجديدة ومنذ أن خرج يصول ويجول في أنحاء المعمورة، فإنه لم تطأ قدماه أرض مجتمع استعمره ثم خرج منه إلا بعد أن قسمه وفتت هويته الوطنية الأساس، وهنا نسأل أصحاب الاستقواء بالخارج الداعين إلى استعمار بلداننا العربية: ماذا يبقى من هوية إذا تم تقسيم المقسم في سايكس بيكو ؟؟؟؟ كما نسألهم هل تدركون أننا سنخرج إلى خارج أسوار التاريخ إذا ما تم تقسيم مجتمعاتنا العربية إلى قبائل وطوائف هذه المرة ؟؟؟؟ أم أن هؤلاء الحمقى يعتقدون بعد انقلابهم الفكري أن الاستعمار حمل وديع لن يفعل فينا هذا الخراب ؟؟؟؟ وهنا نسألهم هل نسوا أن الاستعمار الذي يأتي إلى بلداننا له خصوصية تتمثل في كونه لا ينظر إلينا بعين الاقتصاد فحسب، بل كذلك بعين السياسة التي تخدم مصالح إسرائيل، وحيث مزيد من تفتيتنا هو دائماً على أجندته لا لكي تبقى إسرائيل أقوى الكيانات القائمة على أساس الهوية الدينية في المنطقة فحسب، بل كي يكون هذا الوجود طبيعياً، وحيث أن حكام دولة إسرائيل وبعكس ما يعتقد الكثيرون لم ينتهوا بعد من وضع الخارطة النهائية لتموضع دولة إسرائيل داخل الأراضي العربية الفلسطينية.
خامساً : إن هذه المقولات لم تر بأنه منذ أكثر من نصف قرن من الزمن لم تعد هناك صراعات بينية خشنة عسكرية بين القوى المشكلة للنظام الرأسمالي العالمي داخل ساحاتها، وبأنه تم نقل هذه الصراعات والمواجهات إلى أطراف النظام، ففي الأطراف تتم تصفية الحسابات والصراع على الثروة والنفوذ وبأدوات يتم صناعتها من مجتمعات الأطراف ذاتها. وأن الاستعمار المباشر لم يعد موجوداً في العالم حيث تم التعويض عنه من خلال إحلال قوى تابعة له في الأطراف، تقوم بالواجب على أتم وجه، على هيئة نظم سياسية طبقية يتم تصنيعها لا من خلال الطبقات الاجتماعية كما كان الأمر في السابق، بل تطور الأمر إلى صناعتها من خلال الطبقات السياسية كذلك، فكلنا يعلم أن المعارضة العراقية على سبيل المثال لا الحصر التي تسنمت السلطة بدل نظام صدام حسين كانت طبقات سياسية شحاذة تحولت عبر السلطة إلى لصوص وملاكين للثروة، فلطالما قرأت الرأسمالية التاريخ بعينها وعين خصمها، فتجربة الطبقات السياسية التي صعدت إلى السلطة في القرن العشرين في أوروبا الشرقية وغيرها من بقاع العالم، أعطت درساً للرأسمالية وغيرها كيف يمكن تحويل طبقات سياسية عبر السلطة إلى طبقات اجتماعية يتم توطينها داخل علاقات الإنتاج الرأسمالية السائدة، يقول بول بريمر حاكم العراق الأمريكي بعد الغزو في مقابلة بتاريخ 21 أيار 2019 مع قناة الجزيرة أن 95% من ثروات العراق هي بيد السلطة والدولة التي حلت كبديل عن سلطة ودولة نظام صدام حسين، أي أن ثروة العراق انتقلت من قبضة نظام طائفي إلى قبضة نظام طائفي آخر، ومن قبضة احتلال داخلي مفروض بقوة وجبروت السلطة المحتلة والمحتكرة للمجال العام السياسي، إلى قبضة احتلال داخلي آخر – سلطة ممثلي الطوائف - المفروضة هذه المرة لا من خلال احتلال المجال العام السياسي، بل بقوة الإيديولوجيا الدينية الطائفية التي احتلت النسيج الاجتماعي والعقل العراقي، ولكن مع فارق أن العراق في ظل النظام الطائفي الجديد، لا يجد ماء لكي يشربه من شدة لصوصية الحكام الجدد الذين نهبوا خلال السنوات السابقة 450 مليار دولار من خزينة الدولة العراقية، وهو الأمر الذي يدفع قطاعات من المجتمع العراقي للحنين لنظام صدام حسين البغيض. ولا يغير من هذه الصورة بأنه ترك للقوى اليسارية والعلمانية التي طبلت وزمرت أكثر من غيرها لهذا الغزو، بعض الفتات الذي جعلها في موقع الكلاب التي تتغذى على موائد هذه القوة أو تلك من القوى الطائفية العراقية، وفي أحسن الأحوال ترك لها الحرية في العواء كما تشاء بين ضجيج طاحون الصراعات الطائفية المستقرة تارة والمتفجرة تارة أخرى.
أخيراً أقول لقد قامت هذه النخب من خلال رهاناتها وشهواتها المعندة بالسماح للإسلام السياسي وقوى الخارج بامتطاء ظهر الثورة وحاملها الشعبي وعاث من امتطاها وبمشاركتهم فساداً وإفساداً في الأرض والنسيج الاجتماعي والعقل السوري، ثم عندما اكتشفوا مدى خيبتهم وفشلهم، بدأوا يلطمون على وجوههم وصدورهم ويصرخون كم كانت ثورتنا يتيمة ؟؟؟ وكم تآمر علينا العالم وكم خذلنا ؟؟؟ ...الخ من كلام يحمل من الحقيقة بمقدار ما يحمل من تضليل وتبرئة الذات من أخطائها ورهاناتها البائسة، فهؤلاء لا يعترفون أن ثورتنا كانت مغدورة من أبنائها، ومنهم تحديداً قبل أن تصبح يتيمة، فإذا كانت الحقيقة في أن حكومات العالم خذلت السوريين، فإن التضليل والكذب يكمن في عدم اعتراف هؤلاء في أنهم كانوا أول من بنى استراتيجيته ووضع كل ثقته بكل الذين خذلوهم إن كانوا من الإسلاميين أو من الدول الإقليمية والدولية التي باعتهم في سوق النخاسة بكمشة من الوعود مضافاً إليها كمشة من الدولارات، حسناً إيها " السادة " الحمقى لن أقول لكم قدموا لنا كشف حساب عن كيف ولماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه ؟؟؟ . فقد أصبح كله مكشوفاً عارياً، أعلم أنكم قمتم بتحويل الثورة إلى ما يشبه حرب البسوس بنسخة طائفية، وأعلم كم من ابن عباد اعتزل بعدها حربكم كي لا ينجر خلف قذاراتكم، كما عليكم أن تعلموا بأنني لن أفضح كل قذاراتكم لا احتراماً لكم، بل فقط كي لا تقول العرب يوماً أن معارضة نظام الأسد كانت بهذه القذارة، وهنا نسأل هؤلاء الحمقى متى لم تتآمر الحكومات على ثورات الشعوب ؟؟؟ فهل نسوا تحالف الرجعيات الأوروبية ومحاصرتها للثورة الفرنسية ؟؟؟ وهل نسوا حصار الدول الرأسمالية للثورة الروسية ؟؟؟ ومتى سيتعلم هؤلاء الحمقى أن الثورات التي لا تحمي ذاتها وتنتصر لنفسها قبل أن ينصرها الآخرين، فإن أحداً لن ينصرها ؟؟؟ حسناً أيها الحمقى، ها قد اكتشفتم مدى الخديعة، وعرفتم كل الحقيقة، فهل ستقومون بما قام به أوديب بطل مسرحية سوفوكليس "أوديب ملكاً " عندما اكتشف حقيقة فعلته الشنيعة ؟؟؟ من المؤكد أن لا أحد يطلب منكم أن تفقؤوا عيونكم كما فعل أوديب، ولن يطلب أحداً منكم أن تقصوا ألسنتكم، كل ما هو مطلوب منكم احتراماً لشرفكم السياسي وتاريخكم النضالي والشعر الأبيض في رؤوسكم هو الاستقالة وأن تصمتوا إلى الأبد، فهل ستصمتون ؟؟؟ أم أن ألسنتكم ستبقى تملأ هذا الفضاء بلغوكم حتى يأخذكم ملاك الموت كما يفعل ويحدث عادة مع الطغاة ؟؟؟.

السياق التاريخي لنشوء وترعرع البربرية في سوريا ( 19 ) lemonde.in 5 of 5
لومـــــوند : نبيل ملحم  التاسع عشر: كسر الإطار الوطني للصراع والانزلاق نحو الانكشارية المعممة: سأتحدث في هذا المقال عن نار نظم الاستبداد ...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك