السياق التاريخي لنشوء وترعرع البربرية في سوريا ( 18 )

لومــــوند : نبيل ملحم : 
الثامن عشر : تحالف أصحاب الشهوات وولادة شهوة التخلي عن هوية اليسار وبروز ظاهرة الهبل  الديمقراطي  :
من يقلب صفحات التاريخ ويقرؤها بهدوء وموضوعية سيجد ويكتشف بسهولة إحدى مقولات علم الاجتماع السياسي، والتي يمكن صياغتها ببساطة بالقول: إن درجة عقلانية مجتمع من المجتمعات – عامة ونخباً – يرتبط ويتوقف على درجة عقلانية النظام الاجتماعي والسياسي الحاكم والمسيطر. أشير إلى ذلك في هذا المقال للقول : إن الدرجة العالية من لاعقلانية النظام السوري الأسدي، كما الكثير من نظم الاستبداد العربي، قادت إلى درجة عالية من لاعقلانية المعارضة السورية والكثير من المعارضات العربية، وحيث اللاعقلانية في السياسة والاقتصاد وبنية العقل والثقافة، هي باختصار شديد يمكن أن يفهمه المفكر والباحث والانسان العادي البسيط، هي وضع مجموعة من الأهداف والسير باتجاه معاكس لتحقيق هذه الأهداف. إن المعارضة السورية التي واجهت على مدى نصف قرن من الزمن نظاماً مستبداً ومتحللاً من أي مبدأ أخلاقي أو سياسي عقلاني مألوف ومعروف في منطق علم الاجتماع، انزلقت شيئاً فشيئاً إلى ساحة اللامعقول إلى الحد الذي قادها للوقوع في بؤرة أمراض النظام الذي تواجهه، فكانت إصابة المعارضة بما يمكن تسميته بمرض الهبل " الديمقراطي " ، وقد جاء هذا الهبل ليشكل الوجه الآخر للهبل " الثوري " الذي تحدث عنه المفكر السوري ياسين الحافظ ، وإذا كان الهبل " الثوري " الذي وسم الممارسة الفكرية والسياسية والثقافية لليسار العبودي المخاطي اللزج، وهو اليسار الذي علق الآمال العريضة في مواجهة المشاريع الإمبريالية في المنطقة على نظم الاستبداد المعمم ذات الأصول القومية البرجوازية الصغيرة تحت مسمى نظم الصمود والتصدي، وفيما بعد نظم الممانعة، وقد وصل الأمر في العقود الأخيرة إلى درجة تعليق الآمال على ميليشيات شيعية طائفية – في البداية حزب الله اللبناني وفيما بعد كل الميليشيات العراقية والأفغانية المرتبطة بملالي إيران والتي انشئت خصيصاً لذبح الثورة السورية، فإن الهبل " الديمقراطي " تمثل بتعليق الفلقة الثانية من اليسار السوري الآمال العريضة لإقامة الديمقراطية في المنطقة من خلال الدبابة الأمريكية التي توجهت بشكل مباشر إلى المنطقة بدءاً من بداية التسعينيات من القرن الماضي، وحيث أن كلا الهبلين أوصلوا أصحابهم إلى نتائج عكسية. ومن المفارقات المضحكة المبكية أن الهبل " الثوري " كان يغذي الهبل " الديمقراطي " والعكس صحيح ، فبمقدار ما كان الهبل " الثوري " يندفع نحو مزيد من الهبل من خلال دعمه لبعض نظم الاستبداد - كالنظام السوري - تحت ذريعة ضرورة مقارعة الإمبريالية الأمريكية، كان الهبل " الديمقراطي " كرد فعل على هذا العقل السياسي العفن يندفع للالتصاق والانخراط بثقافة ودعم سياسة الليبرالية المتوحشة للإدارات الأمريكية المتعاقبة بدءاً من إدارة بوش الأب، وفي تلك الفترة بدأ أصحاب هذا الهبل التمهيد لتسليم رقبة قوى التغيير الديمقراطي في سوريا للإسلاميين – وهذا ما سوف أتناوله بالتفصيل في مقال قادم مستقل - وفي زمن الثورة السورية اندفع أصحاب الهبل " الديمقراطي " إلى الحد الذي جعلهم يعتبرون فصائل الإسلام السياسي السني التي اختطفت ثورة السوريين بمن فيهم جبهة النصرة فصائل ثورية وحاملة للمشروع الديمقراطي في سوريا. طبعاً العكس كان صحيحاً فبمقدار ما كان أصحاب الهبل " الديمقراطي " ينخرطون في المشروع الأمريكي في المنطقة كان أصحاب الهبل " الثوري " يندفعون أكثر للالتصاق بنظم الاستبداد، ولهذا لم يكن مستغرباً أن تكون فلقتا اليسار السوري من أصحاب الهبل " الثوري " والهبل " الديمقراطي " جزأين من محوري التطاحن الهوياتي الطائفي أو التطاحن السني الشيعي في المنطقة. في هذا المقال سوف أسلط الضوء على أهم أعراض وتجليات هذا الهبل السياسي والثقافي والفكري " الديمقراطي " . ولكن قبل الكشف عن مظاهر هذا الهبل من الضروري والمفيد كي نفهم مصدره وأسبابه العامة وضعه في الإطار والسياق التاريخي العام العالمي الذي ولد فيه. حيث أن اللاعقلانية التي سادت في كثير من نظم الأطراف خلال ما يقارب القرن من الزمن الحديث رافقها درجة عالية من لاعقلانية النظام الرأسمالي العالمي ككل، فما هو هذا السياق التاريخي الذي حدث فيه الانقلاب في الرؤى الثقافية والسياسية للنخب السورية ذات الأصول اليسارية المعارضة ؟؟؟. كلنا يعلم أن النظام الرأسمالي العالمي بشكل عام ومراكزه الغربية بشكل خاص قد عاشت منذ أن ظهرت الرأسمالية على مسرح التاريخ الحديث لمدة تزيد عن قرن من الزمن في دوامة وحلبة من الصراعات الطبقية الساخنة، أقصد هنا الفترة الواقعة بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين مع كل المقدمات التي سبقت هذا الزمن والنهايات التي تلته، استطاعت من خلالها بعض شعوب الأطراف إبعاد ساحاتها عن ساحة الاشتغال المباشر للنظام الرأسمالي العالمي بالطريقة والكيفية التي تريدها القوى الفاعلة والممسكة بهذا النظام، كما استطاعت الشعوب الأوروبية التي ظلت داخل مراكز وساحة اشتغال هذا النظام الظفر من خلال نضالاتها الدؤوبة على مجموعة هائلة من المكتسبات المادية والثقافية والروحية والإنسانية التي لا تقدر بثمن. حصل هذا في سياق قرن من الزمن أجمع كل الباحثين بأنه كان قرن الهجوم الاستراتيجي للعمل وقوة العمل على رأس المال العالمي والمتحكمين بثروات العالم القديم أو المكتشف في العصور الحديثة، كما ويجمع كل الباحثين والمتتبعين للاتجاهات والميول والنزعات الاقتصادية والسياسية والثقافية المسيطرة داخل بنية النظام الرأسمالي العالمي على أنه مع وصول الرئيس رونالد ريغان إلى رأس الإدارة الأمريكية (1981 – 1989 ) ووصول المرأة الحديدية مارغريت تاتشر إلى رئاسة الوزراء في بريطانيا في نفس الفترة تقريباً ( 1979 – 1990 )، بدأت معهما مرحلة جديدة في العلاقة القائمة بين قوة العمل ورأس المال وهي المرحلة التي تمت تسميتها بمرحلة بدء الهجوم المعاكس الاستراتيجي لقوى رأس المال على قوة العمل، أو مرحلة الانتقال من اقتصادات الرفاه التي اعتمدتها بعد الحرب العالمية الثانية المراكز الرأسمالية والتي خففت من حدة الصراعات الطبقية وأبعدت شبح كارل ماركس الذي خيم في الفضاء الأوروبي لمدة قرن من الزمن إلى اقتصاد السوق الحر المفتوح، وقد كان ذلك بداية انطلاق ما سيعرف فيما بعد بهجوم الليبرالية المتوحشة على الصعيد العالمي، أو بدء انطلاق موجة العولمة التي جاءت لتعبر عن درجة عالية وغير مسبوقة من إرادة وواقع سيطرة وتحكم القوة القائدة للنظام الرأسمالي على صيرورات التطور في مراكز وأطراف النظام، وقد كانت أولى ثمرات هذا الهجوم انتصار نظم الغرب الرأسمالي على نظم الكتلة " الشيوعية " في أوروبا الشرقية غير المأسوف على سقوطها، كونها كانت قد سقطت من عقل وثقافة وأعين شعوبها منذ زمن بعيد قبل أن تأتي الموجة الليبرالية لتطلق عليها رصاصة الرحمة في تصفيات الحرب الباردة بين المعسكرين، وهو الأمر الذي قاد كما نعلم إلى عودة الساحات التي كانت المراكز الرأسمالية قد خسرتها سابقاً لتصبح داخل ساحة اشتغال وفعل النظام الرأسمالي وبشكل مباشر وعضوي، كما كان أن بدأت مرحلة جديدة من الهجوم الاستراتيجي لرأس المال في المراكز الأوروبية على المكتسبات التي حققتها وانتزعتها سابقاً شعوب المراكز حيث تركز الهجوم بشكل رئيسي على التنظيمات النقابية وعلى المكتسبات المادية التي تم تحصيلها في مراحل سابقة، مع التمنع ما أمكن عن تقديم المزيد من هذه المكتسبات، وهي المعركة المستمرة والقائمة حتى هذه الأيام من دون معرفة النتيجة والمحصلة النهائية في حلبة الصراع، بالرغم من كل ما حققه الهجوم الليبرالي من خسائر وفقدان للكثير من المكتسبات التي حصلت عليها شعوب المراكز في مراحل سابقة ولا سيما في مجال تفتيت وإضعاف تنظيماتها النقابية. في هذا الإطار جاء كتاب صموئيل هنتنغتون 1996بعنوان " صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي " كتقديم وتبشير لمرحلة جديدة من الصراعات يراد لها أن تعم كل أنحاء العالم، حيث رأى أصحاب المصالح والقرار في المراكز بضرورة فرضها وتعميمها والاشتغال عليها في الفترة القادمة من التاريخ الحديث، مرحلة يمكن أن نقول عنها من جهة بأنها مرحلة تصفية الحساب مع المرحلة السابقة مستغلين بذلك السقوط الأخلاقي والسياسي والثقافي المريع لنظم العبوديات الحديثة التي مثلت الاشتراكية التاريخية التي عرفها القرن العشرون ومن جهة أخرى مرحلة يتم بموجبها تغيير محتوى واتجاه الصراعات القائمة داخل ساحات النظام الرأسمالي – مراكز وأطرافاً - حيث يتم الانتهاء من عصر الصراعات الطبقية الأفقية داخل النظام الرأسمالي ككل وحيث يتم قطع الطريق على عودة شبح كارل ماركس مرة أخرى من خلال تدشين مرحلة يتم من خلالها تحويل وإحداث انزياح في محتوى وميدان الصراعات حيث يتم نقلها إلى ميدان آخر أقل خطراً بالمعنى الآني على النظام الرأسمالي من الناحية السياسية وأقل كلفة على قيادته من الناحية المادية وأكثر ضرراً على شعوب العالم في المراكز والأطراف، أي بعبارة مكثفة إغراق ميدان صراع الطبقات بسيل هائل وجارف من صراع الهويات، وقد تم الاتفاق على عنوان ومحتوى جديد للصراعات أطلق عليه اسم صراع الحضارات العمودي كبديل عن صراع الطبقات الأفقي الماركسي الذي خيم شبحه كما ذكرت في مقدمة هذا المقال ككابوس على أنفاس النظام الرأسمالي العالمي لمدة قرن من الزمن الحديث. إن القوة القائدة للنظام الرأسمالي، وهي في الزمن المعاصر ومنذ ما يزيد عن نصف قرن، الولايات المتحدة الأمريكية مسنودة بالشركات الرأسمالية العابرة للقارات ورأس المال المالي العالمي الذي أصبح الغالب في بنية الاقتصاد العالمي، وبعد أن تخلصت من كل خصومها السابقين أولاً: تفكيك ما كان يسمى الكتلة الشرقية " الشيوعية " وثانياً: وهو ما يتم العمل عليه منذ زمن ويأخذ زخماً جديداً هذه الأيام أقصد هنا السعي لتفكيك الاتحاد الأوروبي والهوية الأوروبية الناشئة وقطع الطريق على اكتمال تكوينها، وتفكيك الكثير من بنى هويات مجتمعات الأطراف، وثالثاً: في إطار سعيها الحثيث للتخلص من أي خصم حتى ولو كان خصماً محتملاً قد يرميه المستقبل في وجهها، لهذا بدأت تعمل بما تملكه من قوة وجبروت عالمي سياسي واقتصادي وعسكري على إطلاق صيرورات هابطة في مسار التطور الطبيعي للتاريخ، إن كان في الأطراف أو المراكز، من خلال خلق ودفع موجات ارتدادية في مسار نهر التاريخ العالمي المتدفق، موجات ارتدادية – تسونامي في مجرى التاريخ - قادت في العقود الماضية كما تقود اليوم إلى الكشف عن الهويات القديمة والحديثة المترسبة والمنسية والمغمورة في الطبقات السطحية والعميقة من قاع نهر التاريخ، حيث يتم إيقاظ هذه الهويات وجعلها تطفو على سطح التاريخ المعاصر، كما جعلها تختلط وتتعارك مع الهويات الحديثة القائمة في شروط انعدام إمكانية وإرادة دمجها واندماجها مع الهويات الحديثة، فبهذا يصبح مسرح التاريخ مهيأ ليصبح الصراع السائد على خشبته في كل مكان هو الصراع العمودي بين الهويات والثقافات الدينية والقومية والعرقية بما في ذلك صراع الهويات الدينية مع الهويات اللادينية، بعد أن كان الصراع بين هويات سياسية طبقية اجتماعية، فالصراع القومي والديني والمذهبي والعرقي والمناطقي والحضاري الذي نجد صداه في كل أنحاء المعمورة هذه الأيام ما هو في الحقيقة والعمق سوى تغليف وتزييف ونقل وتحوير للصراع الحقيقي بين الأغنياء والفقراء ولكن في الميدان والحلقة والدائرة غير الصحيحة والتي أصبحت تمتد لتشمل العالم كله، حيث نجد صداه في المراكز والأطراف، فالرأسمالية عالمية والنهب عالمي والإفقار عالمي وكل حرب هي حرب عالمية حتى لو أخذت طابعاً محلياً أو إقليمياً أو دينياً أو مذهبياً أو قومياً أو عرقياً . إن أخطر ما في عملية خلق هذه الموجات الارتدادية في مجرى التاريخ هو أن هذه الموجات التي تنبش وتوقظ الهويات القديمة إن كان في المراكز حيث الهوية القومية التي يحمل رايتها الآن اليمين المتطرف الأوروبي هي بمقاييس العصر أصبحت من الهويات القديمة قياساً بالهوية الأوروبية الناشئة، كما أصبح مضمون هذه الهوية ومحتواه عنصرياً ومغايراً كلياً لمحتوى الهوية القومية التي نشأت في عصر تشكل القوميات في القارة الأوروبية، وحيث وصل النبش في قاع التاريخ في الأطراف إلى حد عدنا نرى فيه ظهور هويات دينية وخصومات وثارات مرافقة تعود لعشرات القرون إلى الوراء، وحيث وصل النبش والكشف في قاع التاريخ إلى الحد الذي جعل هويات مندثرة منذ مئات القرون في قاع التاريخ تعود لتظهر وتشهر وجودها وكأنها بنت الأمس القريب كالهوية الفينيقية على سبيل المثال لا الحصر. فالرأسمالية في المراكز و الأطراف وبتحالف مكشوف لمن يريد أن يرى، تستخدم كل براعتها في نبش الجثث والهويات الميتة.
أشير إلى كل ذلك للقول: إن هذا النبش والكشف الذي أصبح له طابعاً عالمياً سيولد سياقات تاريخية لنشوء وترعرع البربريات في أكثر من مكان في العالم وحيث لن تنجو منه حتى المراكز الرأسمالية ذاتها التي أصبحت تعج بالهويات القادمة إليها من الأطراف إلى الحد الذي يجعلني أقول: بأنه لن يمضي زمن بعيد حتى تكون القارة الأوروبية قد تريفت بالكامل، في شروط سيطرة رأس المال المالي داخل بنية الاقتصاد الرأسمالي العالمي والذي يعد من أحط أنواع رأس المال، وهو الأمر الذي دفع كارل ماركس لنعته يوماً بالقول بأنه " عبارة عن انبعاث لحثالة البروليتاريا في صفوف البرجوازية " والأصح وصفه هذه الأيام بأنه عبارة عن انبعاث لحثالة الرأسمالية في صفوف قيادة الرأسمالية – ففي التقسيم الدولي للعمل بين لصوص العالم يجب علينا ملاحظة الدور الذي يلعبه البترو دولار الخليجي بثقافته الرعوية ودوره القديم والجديد في إيقاظ الهويات القاتلة، ثم ملاحظة الدور الجديد الذي يلعبه البترو دولار والغاز للمافيا الروسية في النادي الرأسمالي ودعمه للاتجاهات والهويات العنصرية القاتلة في القارة الأوروبية – إن هيمنة رأس المال المالي في بنية الاقتصاد الرأسمالي العالمي والذي من أهم صفاته هو كونه كسولاً وربوياً يوظف في البنوك والبورصات وإقراض الحكومات عبر المؤسسات المالية الدولية وابتعاده عن الاشتغال في حقل الإنتاج المادي وخلق فرص عمل قياساً بالرأسمال الصناعي أو التجاري، وهو الأمر الذي يعني ضمن هكذا شروط أولاً: عدم قدرة المراكز على دمج الهويات الجديدة المهاجرة بهوياتها الحديثة وبما يعني عدم القدرة على دمج هذه الهويات في دورة حياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وما يزيد الطين بلة في هذا المجال هو أن الحوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية الأم – بلد المنشأ – تلاحق الهويات المهاجرة أينما حلت وارتحلت في شروط العمل على إيقاظ الهويات والاستثمار في صراعها.
وثانياً : الاستمرار في زيادة الهوة الثقافية والحضارية بين المراكز والأطراف، وفي شروط كلبية المراكز اتجاه الأطراف، فإن هذا سيؤدي إلى المزيد من الأزمات في الأطراف وتركها كجروح نازفة وحيث إحدى تجليات هذا النزيف هو تزايد موجات الهجرة من بلدان الأطراف إلى بلدان المراكز، الأمر الذي يؤسس في سياق تأجيج واعتماد صراع الثقافات والهويات إلى خلق كل المقدمات التي ستجعل بالضرورة حتى المجتمعات الأوروبية ساحة لاشتغال واشتعال هذه الصراعات وحيث ستكون الحضارة الأوروبية أول ضحايا هذا الصراع الذي إذا ما بدأ فإنه سيأكل الأخضر واليابس. وإذا كانت قوى اليسار الأوروبي - بكل مشاربه وألوانه بما في ذلك أحزاب الخضر وأحزاب الاشتراكية الدولية التي صعدت إلى سدة الحكم في أكثر من ساحة أوروبية ولأكثر من مرة وبعض قوى المجتمع المدني - تخوض صراع إعاقة ضد هذا التيار منذ زمن بعيد إلا أنه إذا ما أخذنا كل الشروط الموضوعية والذاتية للأطراف المتصارعة فأن الواقعية تقتضي منا القول والاعتراف بأن هذه القوى بما تملكه من إمكانات لن تكون قادرة على الوقوف إلى ما لا نهاية في وجه هذه التيار، وإذا لم تحمل صفحات المستقبل مفاجأة غير متوقعة فإن القوى القائدة للنظام الرأسمالي العالمي إذا ما وجدت أمامها إمكانية أن تحقق نسبة من الربح تتجاوز سقف نسبة ال25% أو ال50% أو ال75% وتصل الفرصة لأن تكون نسبة الربح 100% ولو كانت نسبة ربح على هيئة إيجاد مخرج لأزمتها البنيوية، وهنا فإن الرأسمالية كما قال كارل ماركس لا تقدم على مغامرة أو مقامرة أو مجازفة فحسب بل تندفع لأن ترتكب أكبر الجرائم من أجل الحصول على هذه النسبة، ولكن الجريمة هذه المرة لن تكون بحق الشعوب فحسب بل بحق حتى المنجزات الحضارية المادية والثقافية والروحية التي بنتها الرأسمالية الغربية طيلة فترة تربعها على مسرح التاريخ، وإذا ما حدث هذا - وباعتقادي بأنه سيحدث قبل أن يطوي القرن الواحد والعشرين صفحته إن لم يحمل المستقبل مفاجأة - فإنه سيكون تكراراً لما حدث في نهاية القرن الرابع الميلادي الذي شهد سقوط الإمبراطورية الرومانية والتي سبق سقوطها بقرنين عصر ما سمي بعصر هجرة الشعوب إليها، فروما وبعد ما يقارب من عشر قرون من مجدها وعظمتها ومدنيتها ولأنها عجزت عن إيصال وتعميم مدنيتها وحضارتها إلى محيطها فقد غزتها الأقوام البشرية الريفية من أطرافها وكانت نتيجة ذلك سقوط روما ومجدها من داخلها. إن الفرق بين السقوطين لن يكون في كمية الدماء والدمار التي سترافق عملية السقوط فحسب ولا في مهزلة التاريخ عندما يكرر التاريخ ذاته بل في النتائج والفاتورة التي يطلبها عقل التاريخ. فإذا كان سقوط الإمبراطورية الرومانية هو من فتح أبواب التاريخ للانعتاق من نظام العبودية والعبور إلى عصر أرقى بالمعنى التاريخي وهو نظام القنانة الإقطاعي فإن سقوط الحضارة الأوروبية وقيمها لن يكون معبراً إلى نظام أرقى تاريخياً ولن يكون نكوصاً إلى حد العودة إلى ما قبل الرأسمالية فهذا مستحيل. و ما يمكن توقعه هو صراع ودمار في الإطار التاريخي للرأسمالية القائمة، وإذا كان الخوض في نتيجة هكذا صراع في هذه اللحظة هو نوع من التنجيم لن أدخل فيه إلا أني أقول بأنه ليس للبشرية من خيار سوى انتظار ما سيفعله عقل التاريخ بحكمته وعدله ومكره المعروف في أحيان أخرى، فالتاريخ يسمح لكل من له قوة أن يمتطي ظهره ولكن في النهاية يرمي كل من ليس كفؤاً عن ظهره.
لقد جاء تبشير - ووهم - نخبنا العربية والسورية ذات الأصول اليسارية بنهاية عصر الإيديولوجيات لتصب في هذا الاتجاه بوعي كامل منها أو من دون وعي وحيث كانت رغبة التخلي عن الهوية المستقلة لليسار عند بعض النخب اليسارية السورية يأتي في إطار ملاقاة هذا الاتجاه. وبما يعني رغبتهم في خوض الصراع السياسي بعيداً عن المضامين الاجتماعية والطبقية والإيديولوجية التي عرفوها تاريخياً ولا سيما بعد سقوط مرجعيتهم التاريخية في موسكو أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي، وحيث يمكن القول بأنه في الفترة التي أعقبت سقوط منظومة دول العبوديات في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، وبعد ذلك التمهيد الأمريكي لاجتياح المنطقة – بعاصفة الصحراء عام 1991- ثم الغزو الأمريكي للعراق في 9 نيسان عام 2003، فقد حدث في تلك الفترة ما يمكن تسميته بتحالف أصحاب الشهوات السياسية المعندة داخل صفوف المعارضة السورية، شهوة التيار الدينوقراطي وشهوة التيار الإمبرقراطي مع ما رافق ذلك من انتشار وتوسع كلا الشهوتين عمودياً وأفقياً بين النخب السياسية السورية اليسارية المعارضة، وما رافق ذلك من خلع هذه النخب لجلدة مقدماتهم واستبدالها بجلدة مؤخراتهم ووضعها على وجوههم. وقد كثف وكشف عن هذا المخاض السياسي وبشكل مفصل الباحث السوري محمد سيد رصاص في مقال في جريدة الأخبار بعنوان " الليبراليون الجدد في سوريا " بتاريخ 23 آب 2017 يقول "... هنا كان العراق المغزو والمحتل أميركياً عام 2003 هو الولادة الحقيقية لتيار «الليبرالية الجديدة» السوري، ويبدو أن عراق 1991 لم تكن بذرته كافية لتلك الولادة. في تلك الفترة نزلت إلى السوق الفكرية الطروحات التالية وكلها من ماركسيين وشيوعيين بدؤوا بالتحول أو تحولوا نحو «الليبرالية الجديدة»، مثل: «الديكتاتورية قضت على العوامل الداخلية للتغيير، لذلك لا بد من الاستعانة بالخارج من أجل إحداث تحولات داخلية، الولايات المتحدة ترى في الديموقراطية وسيلة لتجفيف ينابيع الإرهاب الذي ضربها في 11 أيلول 2001، وهي آتية بجيوشها إلى المنطقة من أجل إعادة صياغة المنطقة كوسيلة لتحقيق ذلك، وليس من الخطأ التلاقي موضوعياً معها في هذا، ما سقط يوم التاسع من نيسان 2003 بقوة الجيش الأميركي هو صدام حسين وليس بغداد وهذا طريق نحو «عراق جديد» يمكن أن يبنى عليه في عموم المنطقة». بعد أسابيع من سقوط بغداد، كان هناك رأي عند أحد قياديي حزب العمل الشيوعي التاريخيين هو التالي: «الدبابة الأميركية الواقفة عند الحدود في البوكمال هي مثل الباص الذي يقف في استراحة حمص أثناء توجهه من حلب إلى الشام». يمكن أن يلخص هذا كله ما طرحه أحد قادة حزب «العمال الثوري العربي» قبل ثلاثة أشهر من بدء غزو العراق، هو جاد الكريم الجباعي ومن التلاميذ المخلصين لياسين الحافظ، تحت عنوان مكثف: «تهافت الدفاع عن العراق» (موقع «أخبار الشرق»، 24 كانون أول 2002)، وهو كان أيضاً من القادة المؤسسين عام 2000 لـ«لجان إحياء المجتمع المدني». لم يكن هؤلاء يملكون الثقل المعنوي لإحداث النقلة النوعية في تأسيس تيار «الليبرالية الجديدة السورية»، الذي بدأت ملامحه بالتشكل بقوة داخل «الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي» وحزب «العمل الشيوعي» وحزب «العمال الثوري العربي» و«لجان إحياء المجتمع المدني» مع تاركين من تنظيم خالد بكداش مثل الدكتور عبد الرزاق عيد. وهذه النقلة النوعية التأسيسية لم تحصل إلا مع تحول رياض الترك نحو هذا الاتجاه منذ مقابلته مع «النهار» في يوم 28 أيلول 2003 عندما طرح نظريته حول «الصفر الاستعماري: الأميركان نقلوا المجتمع العراقي من تحت الصفر إلى الصفر». وهذا كان يعني تأييداً لما فعله جورج بوش الابن في العراق، وقد أتى هذا قبل زيارته بأيام لأوروبا وكندا والولايات المتحدة سراً، حيث عاد منها ليقول: «إن هناك رياحاً غربية ستقتلع الأنظمة وعلينا أن نلاقيها بثوب جديد وببرنامج جديد»، داعياً إلى تغيير اسم «الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي». وقد كان عملياً تأسيس رياض الترك لـ«حزب الشعب الديموقراطي» في نيسان 2005 هو الرافعة التي جرفت معظم القوى السياسية السورية المعارضة باتجاه تشكيل «إعلان دمشق» الذي انبنى على أن ما جرى في بغداد في التاسع من نيسان 2003 وترجم في بيروت 14 آذار 2005 ستكون محطته الثالثة في الشام. فشلت مراهنات «إعلان دمشق» (16 تشرين أول 2005) على تغيير في دمشق وقد كان بعض قادته ورموزه يدعون إلى انتظار أسابيع فقط أو على الأكثر لرأس سنة 2006، لتغيير وقت سقوط النظام السوري بناء على التصادم الأميركي ــ السوري الذي كان رأس جبل جليده هو المحقق الدولي ديتليف ميليس في «قضية الحريري»....." . لقد ترافق ذلك مع ولادة شهوة سياسية جديدة معندة عند أصحاب الشهوات هي شهوة التخلي عن الهوية المستقلة لليسار أو لنقل شهوة تخليهم عن هويتهم القديمة اليسارية بكل أشكالها وألوانها التي ميزتهم تاريخياً، يقول الباحث محمد سيد رصاص في نفس المقال المشار إليه أعلاه "...كان العراق هو المناسبة ولكن السبب كان موسكو. خلال التسعينيات، بدأت تظهر ملامح أوسع لهذا التيار الليبرالي الجديد سورياً وعربياً من خلال طروحات بدأ ماركسيون منزاحون بطرحها: «نهاية الأيديولوجيات» ــ «السياسة لا تبنى على منهج معرفي بل على خط سياسي فقط» ــ «الحزب لا يبنى على ثلاثية: فكر ــ سياسة ــ تنظيم، وإنما فقط على البرنامج وبالتالي يمكن لألوان فكرية متعددة أن تتعايش في الحركة السياسية الواحدة وألا يكون هذا مقتصراً على التحالفات السياسية». في عام 1990 وفي كتاب «حوارات»، أعطى القيادي الشيوعي اللبناني كريم مروة إرهاصاً لهذه الآراء، ولكن المحاولة الكبرى كانت في سوريا في عام 1998 عند الدكتور جمال الأتاسي أمين عام «التجمع الوطني الديموقراطي» الذي كان يضم خمسة أحزاب هي: . حزب «الاتحاد الاشتراكي العربي»، «الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي»، حزب «البعث الديموقراطي»، حركة الاشتراكيين العرب، حزب «العمال الثوري العربي»، لما طرح وثيقة في نيسان من العام المذكور لـ«تحويل التجمع من تحالف إلى حركة سياسية واحدة بألوان أيديولوجية متعددة». كان أكثر المتحمسين لهذا الطرح هم قياديون من «المكتب السياسي»، مع بعض من كان يدور في مداراتهم مثل ميشال كيلو، والجسم الكامل لـ«حزب العمال» الذي كان رمزه منذ تأسيسه عام 1965 هو ياسين الحافظ. تم إفشال المشروع بسبب معارضة أغلبية كوادر وجسم «الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي» والذين تعززت معارضتهم للمشروع مع خروج الأمين الأول للحزب رياض الترك من السجن في 30 أيار 1998 والذي أعلن في مقابلات صحفية عديدة، في جريدتي «النهار» و«الحياة»، بأنه لن يشتغل بالسياسة «إلا تحت راية الحزب الشيوعي». طبعاً كان هذا قبل أن يغير رأيه بعد الغزو الأمريكي للعراق 2003 والذي أوصله لتغيير اسم الحزب إلى حزب الشعب الديمقراطي. لا أريد زيادة حمولة ومساحة هذا المقال كثيراً للتدليل على إرادة النخب اليسارية السورية في التخلي عن هويتها اليسارية، وسوف أكتفي – إضافة لما تقدم أعلاه - بالإشارة إلى حدثين لهما دلالة كافية حول تلك القضية. كتب الباحث حسين شاويش في مدونته في 23 ديسمبر 2016 " أعرف أنه من المبكر الحديث عن دروس الثورة السورية لكنني لا أعرف إن كان العمر سيكون كريماً معي ليسمح لي بالإدلاء بشهادتي عندما يأتي ذلك الوقت. ولذلك سأذكر هنا بعضاً مما عايشته. وسأبدأ برجل لا يشك بنزاهته وشجاعته وهو رياض الترك. في إحدى زياراته إلى برلين ( قبل اندلاع ثورات الربيع العربي ) وكان الموضوع العراقي ما زال طازجاً، التقى الرجل بمجموعة من الناس في برلين وكنت أحدهم. ورداً على استهجاننا لسلوك الحزب الشيوعي العراقي في تلك الأزمة أي تحالفه مع الغزو الأمريكي والأحزاب الطائفية العراقية، قال الترك ما معناه " أنا أرى أن نصغي إلى ما يقوله الحزب ( أي الحزب الشيوعي ) فلهم رأيهم وأسبابهم، لا أذكر حرفياً ما قال، لكنني شعرت بأن المناضل رياض الترك قد يقوم بالخطوة نفسها ذات يوم. لكن المرء لا يدرك تغيرات الآخرين فوراً. ولذلك قدمت له دراسة كتبتها ونشرتها في النهار بعنوان فحواه " هل لدى اليسار من دور يلعبه " وعندما قرأ الرجل العنوان نظر لي باستغراب وكأنني جئت للتو من كوكب المريخ وقال لي ما معناه " لا يسار ولا بطيخ " فيما بعد علمت أنه – تماما كما فعل برهان غليون بعد ذلك – كان لا يعتقد بالجدوى الحقيقية للحوار إلا مع البيانوني، مراقب الإخوان في ذلك الوقت، وقد فعل كما نعلم جميعاً الآن ". في الواقع أن رياض الترك عندما قال للباحث والكاتب حسين شاويش بأنه " لا يوجد يسار " أو " لا يسار ولا بطيخ " لم يكن يقول ذلك لتوصيف خريطة الوجود السياسي المعارض في سوريا، فكلنا يعلم أن أغلب الأحزاب المعارضة في سوريا باستثناء الإخوان المسلمين تنتمي بهذا الشكل أو ذاك الى قوى اليسار الشيوعي أو القومي بما في ذلك الحزب الذي ينتمي إليه السيد رياض الترك صاحب القول، كما لم يقل ذلك للتعبير بطريقة غير مباشرة بأنه خلع أو قرر أن يخلع ثوب اليسار الذي كان يغطي جلده حتى تلك اللحظة، كما لم يكن هذ القول ناتجاً عن فقدان الثقة بالنفس فحسب كما يقول الباحث والكاتب حسين شاويش في موقع صالون سورية بتاريخ 14 كانون أول 2019 بعنوان ." فرص ضائعة وسياسة إنكار حزب الشعب الديمقراطي نموذجاً " يقول : " لخص لي هذا التصريح ( المقصود بكلمة الترك لا يوجد يسار ) من شيخ اليسار السوري آنذاك الجانب الذاتي من أزمة اليسار السوري، إنه الفقدان المطلق للثقة بالنفس .وعندما يفقد المرء الثقة بنفسه يلتحق بأحد أولئك الشجعان الذين ما زالوا يحتفظون بتلك الثقة، ويفترض المنطق أن يكون ذلك الملتحق به قريباً فكرياً من المسكين الفاقد للثقة بنفسه، لكن حزب الشعب الديمقراطي لا علاقة له على ما يبدو بهذا المنطق، فاختار الإخوان المسلمين أو لعله التحق بهم لهذا السبب إياه ". في الواقع أن ما كان يقصده السيد رياض الترك من قوله لم يكن تعبيراً عن رغبته في التخلي عن هويته اليسارية فحسب، وليس تعبيراً عن هزيمته الثقافية فحسب، بل تعبيراً عن رغبته في عدم استمرار وجود اليسار على الساحة السورية، وحتى أتجرأ للقول بأنه كان يقصد بأنه لا يريد حتى أن يسمع - ولا يريد أن يسمح إن استطاع - بوجود شيء اسمه يسار على الساحة السورية، وهو الأمر الذي تجلى بشكل واضح أيام ربيع دمشق – 2000- 2001 - عندما عرفت ظاهرة المنتديات على الساحة السورية، فحينها فتح السيد رياض الترك النار على فكرة وجود منتدى لليسار على الساحة السورية، فمثل هكذا منتدى لليسار من وجهة نظر رياض الترك لا داعي لوجوده كونه يثير من وجهة نظره مخاوف البرجوازية الدمشقية وتجار سوق الحميدية في قلب العاصمة دمشق المأمول منها أن تشارك بالتغيير الديمقراطي القادم على حد زعمه واعتقاده، وموقف رياض الترك هذا أعلنه بشكل واضح وصريح في لقاء جرى في دمشق جمع منيف ملحم مؤسس منتدى اليسار في دمشق في تلك المرحلة مع رياض الترك وبحضور أصلان عبد الكريم، كما أن رغبة الترك في حرق ثوب اليسار من داخل المعارضة كان بهدف مغازلة الحليف الأمريكي المنشود والمعقود عليه الآمال والأحلام في التغيير الديمقراطي في سوريا، وهو الأمر الذي كان يعني بأنه على المعارضة أن تكف أمام السيد الأمريكي عن إبراز أي وجه وطابع يساري لها، وهو الأمر الذي يفسر تراجع الترك عما قاله بعد خروجه من السجن في 30 أيار 1998 والذي أعلن في مقابلات صحفية عديدة، في جريدتي «النهار» و«الحياة»، بأنه لن يشتغل بالسياسة «إلا تحت راية الحزب الشيوعي» ليقول بعد الغزو الأمريكي للعراق 2003 والذي أيده الترك وكان يأمل وموعود بأن يتكرر في سوريا ، ليقول: «إن هناك رياحاً غربية ستقتلع الأنظمة وعلينا أن نلاقيها بثوب جديد وببرنامج جديد»، داعياً إلى تغيير اسم «الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي». وقد كان عملياً تأسيس رياض الترك لـ«حزب الشعب الديموقراطي» في نيسان 2005. لهذا لم يكن مستغرباً رفض بعض النخب السياسية والثقافية السورية قبل زمن الثورة تضمين برنامجها الديمقراطي ببعد اجتماعي صريح كي لا تخيف البرجوازية السورية التي كان ينتظر منها دور ومشاركة في عملية التغيير الديمقراطي القادم , كما كانت ترفض تضمين برنامجها الديمقراطي ببعد وطني صريح كي لا تخيف حليفها المؤمل الامريكي الذي كان ينتظر منه تدخل يساهم في عملية اسقاط النظام , اي كانت تعلق الآمال على كل من سيخذلها ونسيت ان الحامل الاساس للثورة الديمقراطية هم عامة الشعب السوري والوطنية السورية والمخزون النضالي الاسطوري الكامن في الشعب اذا ما أراد إسقاط النظام , وهنا أقول ربما تفاجأت هذا النخب بان شعار الربيع العربي الأساسي كان الشعب يريد إسقاط النظام , وربما أن هذا الشعار لم يعجبها لهذا فضلت أو تواطأت مع من استبدله بشعار " وما خرجنا إلا نصرة للإسلام " ومع شعار "الحماية الدولية " وتسليم قرار الثورة للصوص العالم.
بناء على ما تقدم يمكن فهم لا بنية العقل الثقافي والسياسي للمعارضة السورية ذات الأصول اليسارية فحسب بل كذلك بنية الرهانات السياسية التي كانت جاهزة للتجسد قبل عقدين من زمن الثورة التي انفجرت في وجه النظام ووجه هذه النخب في الآن ذاته . وحتى تكتمل الصورة أكثر لا بد من الإشارة إلى أن مفهوم ومقولة ومصطلح الثورة ذاته قد غاب عن خطاب هذه النخب لمدة تصل لأكثر من عقدين، فمنذ بداية التسعينيات وصولاً للحظة انفجار وتدفق الربيع العربي غاب مصطلح الثورة عن أدبيات هذه النخب، حتى يمكن القول أن من كان يتفوه ويلفظ هذا المصطلح كان عليه أن يتوارى ويختبئ لا خوفاً من أعين النظام فحسب بل حتى خوفاً وتحسباً من هذه النخب التي أصبحت تعمل " معقب معاملات ديمقراطية " عند سيدها الأمريكي وتحقد على كل من يتفوه بهذا المصطلح، كون هذا المصطلح أصبح ينتمي من وجهة نظرها إلى الخطاب اليساري الخشبي القديم وكون هذه النخب أصبحت تعتبر ذاتها وخطابها ينتمي إلى جيل " ما بعد بعد الحداثة "، والمضحك المبكي في هذه الحداثة المهزلة أن هذه النخب استبدلت شعار الثورة الديمقراطية بشعار التغيير الديمقراطي، وبعد أن كانت تتحدث عن مكونات اجتماعية طبقية للمجتمع أصبحت تتحدث عن المكونات الطائفية والقبلية، واستبدلت الحديث عن النظام الرأسمالي العالمي بالحديث عن النظام الدولي أو الاقليمي ، والأهم ما في " الحداثة " المزعومة عند هذه النخب أن الكثيرين منهم تجلت حداثتهم بان استبدلوا جلدة وجوههم ووضعوا بدلاً منها جلدة مؤخراتهم الطائفية ، فكان أن أصبح بين النخب " الديمقراطي الليبرالي " السني يقابله في الضفة الأخرى " العلماني اليساري " العلوي أو الدرزي أو الإسماعيلي أو المسيحي وهو الأمر الذي كنت قد تناولته بالتفصيل في مقال سابق على صفحات اللوموند تحت عنوان " سقوط النخب السورية في المستنقع الطائفي " ، وحتى عندما جاءت الثورة وأصبحت حقيقة ملموسة وعادت هذه النخب للتغني بالثورة " وإيمانها " بفكرة الثورة فإنها في تجسيدها على الأرض كانت تمارس ما كانت قد تعودت عليه، أقصد غياب منطق الثورة عن أفعالها وأعمالها والإصرار على التمسك بمنطق معقب المعاملات " الديمقراطي " لدى الدول الإقليمية التي تأتمر بأوامر سيدها وسيدهم الأمريكي، لقد وصل الهبل " الديمقراطي " عند هؤلاء إلى الحد الذي دفع أحد " فلاسفتهم " الذي صنعت منه الثورة وفكرة الثورة " فيلسوفاً لغوياً غوغائياً " بأن قال عندما كتب وهو ينعي المفكر اليساري الراحل سلامة كيلة الذي آمن بفكرة الثورة قبل وفي سياق الثورة وترك لنا إرثاً كبيراً حول فكرة الثورة كتب يقول: بأنه بالرغم من السنين الطويلة التي قضاها مع سلامة كيلة في سجون النظام فأنه لم يلتق معه حول أي فكرة ، في الوقت الذي نجد أن هذا " الفيلسوف الحداثوي " التقى منطقه مع الكثير من أفكار حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني القطري وأفكار حكام المملكة السعودية وأروغان والسفير الأمريكي السابق في سوريا روبرت فورد وحتى مع جبهة النصرة وداعش قبل أن تميط اللثام عن وجهها، لقد أعتقد أصحاب هذا الهبل بأنه إذا ما لحق بهم قطيع من الطائفيين هو خير لهم وللثورة ولم يدركوا مدى خيبتهم إلا بعد فوات الأوان. أن كون أصحاب هذا الهبل " الديمقراطي " حداثويين جداً أي " خلنج " كما يقال باللهجة العامية السورية ومتحررين من أي إيديولوجيا على حد زعمهم فأنهم عندما قرروا عسكرة الثورة السورية فإنهم لم يستلهموا الإرث النضالي لتشي غيفارا أو غيره من إرث اليسار العالمي بل سعوا إلى إرث هوية بندقية تعبر عن " الحياد " الإيديولوجي، فكان أن اهتدوا إلى بندقية القاعدي أبو محمد العدناني الذي أصبح فيما بعد الناطق الرسمي باسم تنظيم الدولة " داعش " ؟؟؟؟!!!! فهذه البندقية كما اعتقدوا لا تخيف أحداً ولا يمكن ان يستثمرها أحد ؟؟؟!!!!، وحيث كانت بندقيته هي أول بندقية – وهو ما أشرت له في مقال سابق من هذه السلسلة بشكل مفصل – يرفعها أول رئيس للمجلس الوطني المعارض " الحداثوي المتحرر " – اقرأها – المتحلل من أي " إيديولوجيا " !!!. ربما هنا يقول قائل أو قارئ لهذا المقال بأن هذا كاف للتدليل على هذا الهبل، وأنا أقول بدوري: لا ضير من كشف كل مظاهر وأصول هذا الهبل فقد ينفعنا إن لم يكن في حاضرنا فعلى الأقل في مستقبلنا وحيث أصول وأساس هذا الهبل يكمن في الكثير من المقولات التي ذكرت في هذا المقال كمقولة " الصفر الاستعماري " ومشتقاتها المساعدة وهو الأمر الذي يعني ضرورة محاورة ومناقشة هذه المقولات وهو ما سيكون موضوع مقالي القادم .
السياق التاريخي لنشوء وترعرع البربرية في سوريا ( 18 ) lemonde.in 5 of 5
لومــــوند : نبيل ملحم :  الثامن عشر : تحالف أصحاب الشهوات وولادة شهوة التخلي عن هوية اليسار وبروز ظاهرة الهبل  الديمقراطي  : من يقلب ...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك