السياق التاريخي لنشوء وترعرع البربرية في سوريا ( 15 )

لومـــــوند : نبيل ملحم
الخامس عشر: المعارضة السورية وإغلاق رباعي الموت على السوريين:
لقد تشكل رباعي الموت السوري من أربعة أضلاع غير متساوية في الطول والمساحة والمسؤولية، حيث شكل النظام الأسدي الضلع الأساسي والأكبر في البلاء والموت السوري في هذا الرباعي، ثم شكل التدخل الإقليمي والدولي إن كان لجهة دعم النظام أو لجهة دعم المعارضة الضلع الثاني في هذا الرباعي، ثم أتى الضلع الثالث المقابل له من الفصائل الإسلامية السنية المعارضة للنظام والفصائل الإسلامية الشيعية الموالية للنظام التي تم تشكيلها من قبل موالي النظام بدافع القضاء على الثورة من جهة، ومن قبل معارضي النظام بدافع اختطاف الثورة السورية من جهة ثانية، ثم كان الضلع الرابع وهو الأصغر بين كل هذه الأضلاع لتشكّله النخب ذات الأصول اليسارية والعلمانية سواء منها التي تصدرت واجهة المعارضة وانخرطت في الثورة أو التي وقفت مع النظام ضد الثورة وحيث شكلت هذه النخب – ومن هنا تأتي مسؤوليتها بجناحيها - ضلعاً وصل بين الضلع الثاني والثالث، فحول علاقتها مع الضلع الثاني نجد أن النخب اليسارية والعلمانية التي وقفت مع النظام اعتبرت أن الدول التي ساندت النظام - إيران وروسيا الاتحادية - بشكل أساسي بأنها تشكل محور المقاومة والممانعة للمشاريع والمخططات الإمبريالية في المنطقة حسب زعمهم، وبالمقابل نجد أن النخب اليسارية والعلمانية التي وقفت ضد النظام اعتبرت أن الدول التي " احتضنت " الثورة - كقطر والسعودية وتركيا – بأنها تشكل النواة الصلبة الداعمة للثورة، أما عن علاقة النخب ذات الأصول اليسارية والعلمانية مع الضلع الثالث نجد أن النخب اليسارية والعلمانية التي وقفت مع النظام اعتبرت الفصائل الشيعية وعلى رأسها حزب الله بأنها جزء من محور الممانعة والمقاومة للمخططات الإمبريالية حسب زعمهم، وبالمقابل اعتبرت النخب اليسارية والعلمانية التي وقفت ضد النظام بأن الفصائل الإسلامية السنية التي عملت على الأرض السورية بأنها جزء أساسي من الثورة، وبما يعني أنها فصائل ثورية بما فيها جبهة النصرة. أما حول علاقة هذه النخب بشقيها مع الضلع الأول الذي شكله النظام فلن أعيد ما كنت قد كتبته حول هذا الموضوع سابقاً على صفحات اللوموند في مقال تحت عنوان " الاقتصاد السياسي لنظم الاستبداد والمحنة السورية الكبرى " . ولكن يمكن إيجازه ببعض العبارات المختصرة فالاقتصاد السياسي لنظم الاستبداد المعمم في أي مجتمع يقود في المحصلة إلى تخريب الدورة الدموية والسياسية للمجتمع برمته موالاةً ومعارضةً، حيث نجد أن المعارضة في شروط كهذه تكون صورة عن النظام، فتبني ذاتها بالوسائل والطرق نفسها التي بنى فيها النظام ذاته، كما أن الفساد والانحطاط السياسي والأخلاقي الذي يستشري في أوصال النظام نجد صداه في أوصال المعارضة، كما نجد أن الكلبية في التمثيل والاحتكار السياسي عند النظام هي ذاتها الكلبية في أوساط المعارضة، وقد بلغت حالة التماهي بين النظام والمعارضة في الحالة السورية إلى حد أن التوريث السياسي والعصيان بالسلطة التي ميزت النظام السوري كان له ما يقابله داخل احزاب النخب اليسارية والعلمانية بشقيها المعارض والموالي للنظام، إن كان لجهة التوريث أو العصيان بموقع الأمين العام التاريخي والقائد الضرورة. أعود للقول بأنني لم أقل عن رباعي الموت هذا بأنه مثلاً مربع أو مستطيل الموت كون الأضلاع التي شكلت رباعي الموت هي أضلاع غير متساوية لهذا تم استبعاد الشكل المربع، ولأنها من جهة ثانية غير متقابلة بالدرجة نفسها ولهذا لم أقل مستطيل الموت. وهنا من الضروري الإشارة والقول أن رسم هذا الرباعي على الورق كما هو في الواقع يستدعي منا أن نرسم زوايا حادة جداً في نقطة التقاء الضلع الأول مع الثاني وفي نقطة التقاء الضلع الأول مع الضلع الثالث، وإذا دققنا قليلاً في هذا الرباعي نجد أن لكل ضلع من أضلاعه الأربعة وجهان متعاكسان ولكنهما من الطينة والعجينة نفسها، وأن كل ضلع من هذه الأضلاع خرج من الضلع الأساسي الأول وعاد ودخل فيه، أي أن ما يميز رباعي الموت السوري هذا هو عدا عن أنه يمثل تكثيفاً للهندسة السياسية لتراكب الوضع السياسي السوري بلوحته العامة والمعقدة، فأنه يشكل باعتقادي الأساس لأي دراسة سيسيولوجية للعبور الصحيح إلى تفسير السياق التاريخي لنشوء وترعرع البربرية في سورية. أي أن تفسير هذا السياق ينبغي كما أعتقد أن ينبني على فهم هذا الرباعي من الهندسة السياسية التي تراكبت في الواقع السوري قبل وأثناء زمن الثورة، وهنا من الضروري الإشارة إلى مسألتين هامتين، هما أولاً: أن النخب العاجزة عن فهم جوهر وكينونة أي نظام سياسي اجتماعي ستكون عاجزة بالضرورة عن تغييره وثانياً: بأنه لا يمكن أن يتم إدراك الحقيقة، إن كان حقيقة أحداث الواقع المتحرك أو حقيقة الثورة من دون التحرر من القيود الداخلية العصبوية بكل أنواعها أو من أي فكرة ثقافية أو فكرية مسبقة، فهذا التحرر يشكل شرط إدراك الحقيقة كما شرط رؤيتها بموضوعية. وإذا كنت قد تحدثت في أكثر من مكان في هذا السلسلة عن دور كل ضلع من الأضلاع الثلاثة الأولى المركبة (دور النظام كأساس للبلاء والموت السوري – دور الفصائل الإسلامية السنية والشيعية - والدور الخارجي الإقليمي والدولي بكل ألوانه ) فإنني في هذا المقال سأتحدث بشكل أساسي عن دور النخب ذات الأصول اليسارية والعلمانية، وهو في النهاية حديث عن دور اليسار السوري بشكل عام، إن كان اليسار الذي انخرط في هيئات المعارضة السورية المكرسة أو التي شاركت في صياغة هذه الهيئات بدءاً من المجلس الوطني ثم الائتلاف وصولاً لهيئة التفاوض، إن كان في السر ومن خلف الستار أو في العلن والتي من الجدير تسمية أغلبها باليسار الديمقراطي المزيف، إن كان على هيئة " دينوقراطيين " ، أي إقامة ديمقراطية على أساس الدين أو بحوامل دينية، وهم من يصح القول بأنهم أخذوا موقع يسار الإسلاميين ، أو على هيئة " امبرقراطيين "، أي إقامة ديمقراطية من خلال الدبابة الأمريكية، أو ديمقراطية بحوامل خارجية، وهم من يصح القول بأنهم أخذوا موقع يسار الإمبريالية الأمريكية أو يسار الليبرالية المتوحشة. كما وجد إلى جانب هذا النوع من اليسار الديمقراطي المزيف نوعاً آخر من اليسار الذي انخرط في المعارضة والثورة، أقصد بذلك اليسار الذي يمكن تسميته باليسار الرهابي والذي انضوى داخل هيئة التنسيق للتغيير الوطني. وسوف أؤجل الحديث في هذا المقال عن دور تيار النخب اليسارية والعلمانية التي منها من كان نصيراً للنظام والاستبداد الأسدي طيلة فترة وجود النظام على مدى نصف قرن من الزمن السوري بما في ذلك زمن الثورة، إضافة إلى بعض النخب التي انضمت إلى هذا التيار في مرحلة الثورة، من أمثال القيادي السابق في حزب العمل الشيوعي فاتح جاموس وغيره الكثر من الشخصيات المحسوبة تاريخياً على أحزاب المعارضة، ممن كانوا في صفوف الاتحاد الاشتراكي الناصري أو ممن كانوا محسوبين على حزب البعث الديمقراطي. وهو التيار واليسار الذي سأطلق عليه بالعموم رغم تعدد أشكاله في الظاهر اسم اليسار العبودي المخاطي اللزج حيث سأفرد له مقالاً خاصاً قادماً سأكشف فيه عن دوره المنحط سياسياً وأخلاقياً، إن كان اتجاه الثورة أو اتجاه المجتمع بشكل عام. ولكن بالعام يمكن القول أن العنوان العريض الذي يجمع الحديث عن كل هذه التيارات من اليسار يمكن وضعه تحت عنوان عريض واحد يمكن القول عنه أنه موت اليسار السوري. إذاً حديثنا في هذا المقال سيتركز بالمجمل عن بعض النخب اليسارية والعلمانية التي تصدرت المشهد المعارض أو بالأصح التي شاركت في صياغته، وهي متوارية في الظل بالغالب، ولا سيما دورها في تحديد من مثلها في المشهد العلني للمعارضة. ولكن قبل الدخول في هذا التحديد الخاص من المهم إلقاء نظرة عامة أولية عن اليسار المعارض الذي عرفته الساحة السورية في ظل النظام الأسدي طيلة ما يقارب نصف قرن من الزمن. أعود للقول بأنه بالتفارق والتعارض مع اليسار العبودي المخاطي اللزج الذي ظل في حالة من التكاثر والثبات في حظيرة الجبهة الوطنية التقدمية التي أقامها النظام الأسدي، فقد عرفت الساحة السورية بدءاً من أوائل السبعينيات من القرن الماضي ما يمكن تسميته باليسار " التحرري " المعارض، وأضع هنا كلمة تحرري بين مزدوجتين كون هذه النخب لم تكن يوماً تحررية بشكل أصيل وفعلي على مستوى العقلية والثقافة والقيم التي تحملها ، كونها كانت كلها تتبع لمرجعية تاريخية ثقافية فكرية واحدة هي الماركسية التاريخية الستالينية العبودية – مع اختلاف درجة الارتباط مع هذه المرجعية بين فصيل وآخر - الممزوجة في كثير من الأحيان بفكر البرجوازية الصغيرة القومي الضيق الأفق، وهو الأمر الذي جعلها من الناحية العقلية والثقافية والقيم التي تحملها لا تعدو كونها نخباً متمردة على الاستبداد الأسدي وتسعى للتحرر وتحرير المجتمع منه، ولكن من دون أن تحمل تصوراً ونموذجاً للدولة والمجتمع البديل، نقيضاً لدولة ومجتمع النظام الذي تسعى للتحرر منه، أي دون قدرتها على الوصول إلى درجة نيل لقب التحرري بمعناه الأصيل. إن هذا النوع من اليسار بدأ بالظهور شيئاً فشيئاً رداً على نكسة حزيران عام 1967، كما هي رد على الانقلاب الأسدي عام 1970، وهي رد على دخول اليسار الشيوعي التقليدي بجناحيه – خالد بكداش ورياض الترك – إلى الجبهة الوطنية التقدمية للنظام ، لهذا بدأت تشهد الساحة السورية حراكاً سياسياً يسارياً بدأ بالانتشار والتكاثر كالفطر في ضباب الواقع السوري المتشكل في تلك المرحلة، وما أن وصلنا إلى تخوم عام 1976، وما بعدها بقليل حتى كانت الساحة السورية قد عرفت أكثر من حزب ومنظمة يسارية شيوعية أو قومية معارضة للنظام، شكلت بمجملها ما أطلقت عليه باليسار " التحرري " و حيث ضم في صفوفه، حزب العمال الثوري العربي بزعامة الراحل ياسين الحافظ ( وهو حزب انشق عن صفوف البعث عام 1966)، وحزب البعث الديمقراطي الذي تم إخراجه من السلطة من خلال الانقلاب الأسدي في 16 تشرين الثاني 1970، كما نجد الكثير من القوى اليسارية الصغيرة والتي لم ترتق إلى مستوى حزب كامل الأركان وحيث أغلبها لم يتجاوز مستوى الخلية والحلقة أو المجموعة، وحيث كلها ماتت وهي في مرحلة المهد والطفولة المبكرة، إن كان بسبب شدة التجاذبات والاستقطابات السياسية والفكرية حينها داخل صفوف اليسار الجديد الصاعد، والتي سمحت لبعض القوي بالاستمرار ولم تعط البعض الآخر الضعيف فرصة للبقاء، أو بسبب القمع المتواصل الذي لاحقها جميعاً وهي في حالاتها الجنينية. ومن هذه التنظيمات التي لم يكتب لها الحظ في الاستمرار نجد المنظمة الشيوعية العربية التي تشكلت بعد حرب تشرين 1973 و زيارة نكسون إلى سوريا 1974، وهي المنظمة التي قام النظام بتصفية أعضائها من خلال محكمة استثنائية بتاريخ 29تموز 1975 قضت بإعدام قائد المنظمة الشهيد علي الغضبان مع بعض رفاقه والحكم بالسجن المؤبد على بقية أعضاء التنظيم ، كما نجد الحزب الشيوعي العربي المتأثر بالتجربة الماوية الصينية أواخر 1974 ( جريس الهامش كان أهم رموزه البارزة )، كما نجد الفصيل الشيوعي 1 / 1 / 1978 ( حيث كان أهم رموزه البارزين المعارض خلف الزرزور) والذي تشكل من كوادر وقواعد القوميين العرب السوريين الذين كانوا يعملون داخل حزب العمل الاشتراكي العربي المعارض لنظام البعث بزعامة جورج حبش منذ أواخر الستينيات، وبعد إصدار ثلاثة أعداد من جريدة العامل جاءت اعتقالات آذار 1978 لتقضي على التنظيم الشيوعي، كما نجد حركة النهوض التي تشكلت من مجموعة من الشباب بدأت بالعمل المعارض بدءاً من عام 1976 وكانت في البداية على علاقة مع حزب العمال الشيوعي الفلسطيني ثم تشكلت كتنظيم مستقل تحت اسم النهوض عام 1977 وأخذت اسمها من النشرة التي أصدرتها باسم النهوض وكان المعارض فايز سارة أهم الوجوه البارزة فيها والذي اعتقل في آذار عام 1978 الأمر الذي قاد إلى توزع المجموعة على تنظيمات أخرى، كم كان هناك اتحاد الشغيلة نهاية 1976، كما كان عام 1976 حزب التجمع الديمقراطي الاشتراكي العربي وأهم الوجوه البارزة فيه اسماعيل محفوض وتوفيق دنيا، وقد تشتت المجموعة المشكلة لهذا التنظيم بين الملاحقة والاعتقال في العام نفسه الذي أنشئ فيه، كما كان هناك بدءاً من عام 1972 الحلقات الماركسية وهي الوحيدة التي استطاعت أن تستمر وتتحول إلى حزب كامل الأركان والمواصفات عندما تحولت في آب 1976 إلى رابطة العمل الشيوعي التي أخذت في آب 1981 بعد انعقاد المؤتمر التأسيسي اسم حزب العمل الشيوعي في سوريا، ثم أضيف إلى هذه اللوحة الحزب الشيوعي السوري جناح المكتب السياسي بزعامة رياض الترك وحزب الاتحاد الاشتراكي الناصري بزعامة جمال الأتاسي، بعد أن غادر هذين الحزبين في كانون الثاني 1976الجبهة الوطنية التقدمية التي كان قد أنشأها النظام الأسدي عام 1972، ثم أضيف فيما بعد حزب اليسار الديمقراطي السوري 22 /4 / 2015 بزعامة منصور الأتاسي وبعض التيارات والتجمعات اليسارية الصغيرة الأخرى والتي نشأت قبل الثورة وفي سياقها. لقد تعرضت جميع هذه الأحزاب في رحلة نضالها منذ أوائل السبعينيات حتى يوم انفجار الثورة السورية في 18 آذار 2011 إلى جملة من التغيرات والتحولات، إن كان لجهة العلاقات الداخلية داخل كل حزب أو لجهة علاقات هذه الأحزاب فيما بينها. ويمكن القول بالعام أن جميع هذه الأحزاب عانت مجموعة كبيرة من التصدعات الداخلية – والتي أغلبها لم يأخذ طابعاً تنظيمياً وبما يعني التأسيس لحالات تنظيمية جديدة – وقد كانت أكبر هذه التصدعات هي التي حدثت داخل الاحزاب اليسارية بعد زلزال انهيار مرجعيتها التاريخية في موسكو بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وكتلته الشرقية أواخر الثمانينيات من القرن الماضي ثم جاءت عملية الغزو الأمريكي للعراق التي مهد له في عاصفة الصحراء في 16 يناير 1991 أولاً : لإخراج قوات نظام صدام حسين التي احتلت الكويت ثم، ثانياً : في الغزو الأمريكي المباشر للعراق بتاريخ 19 آذار 2003 وإسقاط نظام الطاغية صدام حسين وتحريك الستاتيك السياسي القائم في المنطقة على صعيد النظم والمعارضات، ثم كان الزلزال السياسي الذي هز لبنان على إثر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري مع كل تداعياته اللبنانية والعربية والدولية على صعيد المعارضات والنظم، ثم جاء الحدث الأكبر المتمثل بانفجار الربيع العربي والثورة السورية من ضمنه، لتعلن مرحلة جديدة في تاريخ هذا النوع من اليسار " التحرري " والتي يمكن تكثيفها بالقول بأنه استطاعت بعض النخب المحسوبة تاريخياً على كل الأحزاب اليسارية المعارضة أو اليسار " التحرري " أن تشكل تيار اليسار الديمقراطي المزيف الذي أشرت إليه في السطور السابقة، وهو التيار الذي تشكل ممن تبقى من حزب الشعب الديمقراطي بزعامة رياض الترك إضافة إلى شركائه من بعض القياديين السابقين في حزب العمل الشيوعي كاصلان عبد الكريم، وحزب العمال الثوري مع بعض المحسوبين تاريخياً على حزب البعث الديمقراطي، يضاف إليهم بعض النخب الثقافية والسياسية ممن كانوا محسوبين تاريخياً على هذا الحزب أو ذاك - ممن انضووا تحت لجان إحياء المجتمع المدني التي تشكلت بين خريف 2000 وربيع 2001 -، كما ضم كذلك في صفوفه بعض القوى والأحزاب الكردية، فهؤلاء جميعاً وبعد سلسلة من التصفيات والتآمر إن كان على رفاق الأمس داخل أحزابهم الأم أو التآمر على زملائهم داخل ما عرف بتيار إعلان دمشق، حيث أقام تيار اليسار الديمقراطي المزيف بجناحيه الدينوقراطي والامبرقراطي بازاراً سياسياً قبل الثورة واستمر بعد انطلاقها حيث العنوان الأساسي لهذا البازار كان الدعوة للقبول بالشهوات السياسية المعندة عند أبرز الشخصيات المشكلة لهذا اليسار الديمقراطي المزيف، شهوتين معندتين هما شهوة التحالف مع الإسلاميين حتى ولو كان هذا التحالف بقيادة الإسلاميين، وهي الشهوة التي سيطرت على " دون كيشوت " المعارضة السورية رياض الترك - وشهوة التدخل الأمريكي من أجل إحداث تغيير ديمقراطي في سوريا من خلال الدبابة الأمريكية .وهي الشهوة التي سيطرت على القيادي السابق في حزب العمل الشيوعي أصلان عبد الكريم الذي لعب دور " شانسو " التابع " لدون كيشوت " في حكاية سرفانتس السوري، وقد أضيف إلى هاتين الشهوتين عند أصحاب الشهوات، شهوة التخلي عن الهوية المستقلة لقوى اليسار السوري. في مقابل هذا التيار من اليسار ظهرت بعد انطلاق الثورة الفلقة الثانية من اليسار " التحرري " أو الفلقة الثانية من أحزاب هذا اليسار فكان يسار هيئة التنسيق للتغيير الوطني للمعارضة، حيث تشكل هذا اليسار من حزب الاتحاد الاشتراكي بزعامة حسن عبد العظيم وما تبقى من حزب العمل الشيوعي في سوريا بقيادة عبد العزيز الخيّر( بعد أن كان قد غادر صفوفه بعد الخروج من المعتقلات أغلبية القيادات التاريخية للحزب مع معظم كوادره )، كما كان ما تبقى من حزب البعث الديمقراطي، والحزب الشيوعي – المكتب السياسي - بزعامة محمد سيد رصاص بعد أن انشق عن حزب الشعب الديمقراطي بعد 2005 واحتفظ باسم الحزب الأم، كما كانت بعض الأحزاب الكردية وعلى رأسهم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ب- ي- د – ( وهنا من المهم الإشارة إلى أن الأحزاب الكردية جميعها عانت من علاقة غيرة مستقرة مع أطراف المعارضة السورية كون المعارضة السورية بجناحيها كانت تسوف وتتجاهل المطالب الأساسية للأحزاب الكردية والمتعلقة بالحقوق القومية للشعب الكردي )، كما ضمت الهيئة الكثير من الشخصيات السياسية المستقلة التي تعود أصولها لأحزاب اليسار " التحرري " التي أشرت إليها في الأسطر السابقة. إن اليسار الذي شكلته هيئة التنسيق هذه يمكن أن نطلق عليه اسم اليسار الرهابي أي ذلك اليسار المصاب برهاب الإمبريالية العالمية والرجعية العربية والأسلمة والتطييف ( علينا هنا ملاحظة المسافة الشاسعة التي كانت تفصل اليسار الديمقراطي المزيف عن اليسار الرهابي ) وهو رهاب متبق وموروث ومركب من ثقافة البرجوازية الصغيرة القومية البعثية والناصرية والثقافة السوفييتية الستالينية في زمن الحرب الباردة، وقد أضيف إلى هذا الرهاب وهم السلمية، ووهم جر ( أو إقناع ) إيران وروسيا والصين أهم حلفاء النظام إلى حل سياسي يقود إلى إبعاد الأسد عن السلطة بعملية سياسية وهي الأوهام التي سيطرت على القيادي في هيئة التنسيق عبد العزيز الخيّر كما كان هناك وهم التغيير المتدرج للنظام الذي تبناه القيادي في الهيئة محمد سيد رصاص (صاحب مقولة التغييريين إشارة لهيئة التنسيق والإسقاطيين إشارة للمعارضة التي انضوت تحت لواء المجلس الوطني وما تبعه ) وما زاد في الطين بلة في موقف هذا اليسار الرهابي كان الجبن السياسي والتأتأة التي سيطرت على لسان حسن عبد العظيم المنسق العام لهيئة التنسيق والتردد – مع غيره ممن انضووا تحت لواء الهيئة - في حسم مسألة إسقاط رأس النظام في وقت كان السوريون الثائرون يضعون ذلك الهدف في مقدمة جدول أعمالهم كونه كان المسؤول المباشر عن الدم السوري الذي يراق في الساحات والشوارع على مدار الساعات والأيام منذ اليوم الأول لانطلاق الثورة، ثم جاء تنظيم هيئة التنسيق لمؤتمر الإنقاذ الوطني برعاية روسية إيرانية في وسط دمشق بتاريخ 23 / 9 / 2012 والذي حضره حوالي العشرين حزباً سياسياً الكثير منها نشأ بعد الثورة ومشكوك في أصله وفصله السياسي، وفضيحة حضور السفير الروسي عظمة الله كولمخمدوف والسفير الإيراني محمد رضا شيباني لهذا المؤتمر مع الضحكة العريضة للسفير الإيراني وهو يجلس إلى جانب منسق المؤتمر رجاء الناصر أحد الشخصيات البارزة في هيئة التنسيق والتي نقلتها وسائل الإعلام في لحظة سياسية كان واضحاً فيها أن المؤتمر- ومن دون وعي منظمي هذا المؤتمر - كان مفيداً وضرورياً للنظام وحلفائه أكثر مما كان مفيداً وضرورياً في المكان والزمان لمنظميه، فالمؤتمر كان ضرورياً ومفيداً للنظام وحلفائه:
أولاً: من أجل كسب الوقت، وهو الأمر الذي تحدثت عنه في مقال سابق في هذه السلسلة تحت عنوان " استراتيجية النظام السوري القائمة على ممارسة أقصى الأعمال البربرية مع كسب الوقت ".
ثانياً : من أجل شق صفوف المعارضة، فالنظام أراد القول بأنه لا يمانع في عقد مؤتمر للمعارضة في وسط دمشق في وقت كان فيه النظام على أرض الواقع يشن حملة تخوين شعواء ضد من سماهم النظام معارضة الخارج ويتهمهم بأنهم مجموعة من عملاء الخارج وفي وقت كان فيه النظام يسفك بلا هوادة دماء السوريين في السجون والساحات وفوق رؤوس الناس وهم في بيوتهم، وفي وقت قام فيه النظام بالاتفاق مع الروس والإيرانيين بالتخلص قبل يومين من انعقاد المؤتمر من المعارض عبد العزيز الخيّر، أحد أهم الرموز السياسية في هيئة التنسيق والناطق الرسمي باسمها وأحد أهم الصقور داخلها، وباعتقادي أن ذلك لم يكن خارج رغبة أحد الحمائم الوضيعة داخل هيئة التنسيق والذي استخدمه الروس والإيرانيون كورقة مؤقتة سيتم حرقها بعد أن تؤدي وظيفة مرحلية - هي ذاتها الوظيفة التي كانت وراء السماح بعقد المؤتمر في وسط دمشق - وحيث تم إيهامه بحل للصراع يكون له فيه حصة دسمة وحيث كانت مسألة التخلص من عبد العزيز الخير مسألة ضرورية كي يفسح له المجال للسيطرة على هيئة التنسيق حيث يصبح خطها السياسي متماشياً مع رؤيته السياسية والرؤية الروسية الإيرانية ومن دون وجود من يقف عائقاً أمامه. إن كل ذلك جعل من مخرجات المؤتمر والداعية إلى إسقاط النظام بكل مرتكزاته لا تعدو كونها كلاماً بكلام كما يقول السوريون بالعامية، كون مخرجات المؤتمر جاءت وتمت تحت سقف ومظلة الروس والإيرانيين أهم حلفاء النظام في سفك الدم السوري، ولقد جاء ذلك كله ليشكل القشة التي قصمت ظهر هيئة التنسيق ولا سيما بعد أن سيطر على هذه الهيئة سيئ السمعة والصيت هيثم المناع، وبعد الاستقالات والتصدعات التي أصيبت بها، حيث عرفت هجرة الكثير من الشخصيات التي كانت في الهيئة إلى الضفة الأخرى من المعارضة حيث الكثير منهم وجد له موقعاً داخل الائتلاف المعارض، بعد ذلك تحولت هيئة التنسيق – باستثناء حليفهم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ( PYD ) الذي أصبح يلعب لحسابه الخاص في منطقة شرق الفرات - إلى مجموعة من المستحاثات السياسية ولون تستخدمه القوى الإقليمية والدولية عندما تريد أن تشكل لوحة عامة لقوى المعارضة حين تقتضي الضرورة والاستثمار بالمعارضة السورية ككل، هذا إذا ما أضفنا أنها تحولت ككل هيئات المعارضة السورية إلى باب للترزق والاسترزاق السياسي والمالي لمن هم في قيادة هذه الهيئات بكل ألوانها وأشكالها. هنا وضمن هذه اللوحة السوريالية لليسار السوري من المفيد الإشارة إلى:
أولاً: إن الذي أخّر تشكيل جسم سياسي موحد للمعارضة السورية بعد انطلاق الثورة كان بسبب البازار السياسي الذي أشرت إليه في السطور السابقة والذي تشكل قبل الثورة واستمر اثناءها.
ثانياَ: إن هذا البازار السياسي قاد إلى أن تكون الهوة شاسعة بين رؤية اليسار الديمقراطي المزيف ورؤية اليسار الرهابي وهو ذاته السبب الذي شق صفوف المعارضة في البداية بين مجلس وطني وهيئة تنسيق.
ثالثاً: إن هذا البازار السياسي كان وراء عدم انخراط الكثيرين في صفوف لا هذه ولا تلك من المعارضات التي تشكلت.
رابعاً: وهو السبب الذي جعل برهان غليون ينتقل من ممثل هيئة التنسيق في الخارج ليصبح بعد أيام وأسابيع في الضفة الأخرى رئيساً للمجلس الوطني.
خامساً: من هنا نفهم ما كشفه الدكتور حيدر الأمين الذي حضر اجتماعين من اجتماعات فعاليات المجلس الوطني قبل أن ينسحب منه، فقد كتب في مدونته بتاريخ 22 مارس 2019: " كنت قد دخلت المجلس الوطني في بداية تأسيسه مع مجموعة الدكتور برهان غليون وشاهدت بأم عيني من أول يوم قذارة الإخوان المسلمين وحلفائهم تجاهه وكيف حاولوا من أول لحظة تشويه سمعته وتقييده ... شخصياً صدمت بكائنات الإخوان المسلمين الذين كانوا موجودين، صدمت بفكرهم وعنجهيتهم وغبائهم الذي لا مثيل له وخاصة بشراستهم، حضرت اجتماعين ومن ثم انسحبت ... ويمكنني أن أقول بأن الدكتور برهان تحمل منهم ومن حلفائهم مالم تتحمله الجبال .. كان وحيداً، نعم كان وحيداً ... فجميعنا نتذكر تحالف جورج صبرا وسمير النشار وغيره معهم.. لا أنسى قذارة أحمد رمضان وأنس العبدة والشقفة وطيفور " طبعاَ كلنا يعلم من كان يقف من أصحاب الشهوات خلف جورج صبرا عضو حزب الشعب الديمقراطي بزعامة رياض الترك، ومن كان يقف خلف سمير النشار العضو البارز في إعلان دمشق.
سادساً: ولأن هذا البازار انكشفت كل قذاراته نجد أن الكثيرين ممن دخلوا هذا المجلس ويعرفون أدق التفاصيل يصمتون عما تم بداخله صمت القبور ظناً منهم بأنهم إذا دفنوا رؤوسهم بالرمال فإن أحداً لن يراهم كما تفعل الزرافات. وهنا سأستبق ما سيأتي في هذا المقال لأقول أن أصحاب هذا البازار السياسي كانوا هم أكثر من صمتوا وهم ذاتهم أصحاب الشهوات السياسية المعندة ، شهوة التحالف الذيلي مع الإسلاميين وشهوة إسقاط النظام من خلال الدبابة الامريكية، أقول هم من كانوا وراء عدم تقديم أي تنازل لأي طرف يساري وعلماني معارض من كل الاتجاهات داخل صفوف اليسار " التحرري " سواء من كانوا في هيئة التنسيق أو ممن لم يدخلوا لا في هذا ولا ذاك من هيئات المعارضة, تنازلات كانت ضرورية كي تبدد المخاوف والهواجس – هواجس ومخاوف الأسلمة والتطييف وهاجس إفلات القرار الوطني للثورة، وهواجس الأخوة الأكراد الذين شكلوا أهم روافع الثورة، والذين كانوا ينظرون بعين الريبة لارتهان المعارضة للوصاية التركية، وحيث أن تقديم التنازلات وتبديد الهواجس كان ضرورياً من أجل كسب وحدة صف المعارضة وقواها أو لنقل من أجل تشكيل قطب معارض ديمقراطي حقيقي يكون نواة لكل من يريد الانخراط في الثورة من إسلاميين وغيرهم ولكن على مبدأ الشراكة الوطنية وبعيداً عن مبدأ الاستحواذ والغلبة. لقد فضل أصحاب الشهوات المعندة من اليساريين الديمقراطيين المزيفين التنازل للإسلاميين وللقوى الإقليمية والدولية إلى الحد الذي جعلهم يفلتون من أيديهم القرار الوطني العسكري والسياسي للثورة، في مقابل تعنتهم وإصرارهم على عدم التنازل لرفاق دربهم من قوى اليسار " التحرري " وقد وصل هذا التعنت إلى الحد الذي جعلهم يفلتون شبيحتهم الثوريين بتاريخ 10 /11 / 2011 حيث قاموا بضرب المعارض عبد العزيز الخيّر ووفد هيئة التنسيق بالبيض وبقبضات الأيدي باعتبارهم خونة وعملاء للنظام أمام مقر الجامعة العربية في القاهرة. وهنا من المهم القول أولاً : بأنه إذا كان صحيحاً أن من تعرضوا للضرب كانوا مخطئين سياسياً إلا أنهم كانوا في الوقت ذاته أصحاب هواجس سياسية الكثير منها كانت حقيقية ومحقة، كما أنهم لم يكونوا خونة ويستحقون الضرب بأي حال من الأحوال وثانياً : إذا كان ينبغي ضرب كل من أخطأ سياسياً – هذا إن كان جائزاً الضرب - فقد كان من العدل ضرب الجميع دون استثناء، أقصد ضرب من كان يقف في الضفة الأخرى للمعارضة، وثالثاً : إن من تعرضوا للضرب لم يكونوا يوماً أقل شرفاً وتضحية في مواجهة النظام الأسدي من الذين قاموا بتغطية الأقزام الذين ضربوهم، أقصد هنا الشخصيات التي كانت تجلس في الضفة الثانية للمعارضة، ورابعاً : علينا ألا ننسى أن من تم ضربهم. - عبد العزيز الخيّر ورجاء الناصر مع كثر من رفاقهم، هم الآن مغيبون في سجون النظام وربما تمت تصفيتهم وإبعادهم كلياً عن الحياة والمشهد السياسي، وخامساً: إن المفارقة السياسية هنا أن أسياد هؤلاء الشبيحة " الثوريين " عاد فيما بعد وبعد أن لحسوا بصاقهم ليقبلوا بأقل من الحلول السياسية التي كان يطرحها من تعرضوا للضرب بالأمس. لقد تم هذا التهاوش الكلبي بين ضفتي اليسار السوري " التحرري " المعارض في لحظة سياسية لم يكن فيها من مهمة تفوق في سموها من مهمة وحدة صف القوى اليسارية والعلمانية في مواجهة طموحات الإسلاميين التي كانت قد بدأت تطل برأسها، إن كان من خلال وسائل الإعلام أو من خلال الدول الداعمة لهم أو من خلال بعض الشعارات والمجموعات التي بدأت تنخرط في الحراك الثوري لتغيير جهة مجراه بهدف اختطاف الثورة. لقد أدار أصحاب الشهوات السياسية المعندة ظهورهم للجميع ولم يسعوا إلى إيجاد حل وسط يرضي كل أطراف ومكونات اليسار" التحرري " وذلك لسبب بسيط هو أن أصحاب الشهوات كانوا يأملون بنصر سريع من خلال الإسلاميين والدبابة الأمريكية، وعلى الطريقة العراقية عام 2003، لهذا لم يكونوا كما توهموا بحاجة إلى حلفاء ولم يبحثوا عن حلول وسط ترضي الجميع، بالرغم من وجود نقطة التقاء من وجهة نظري كان يمكن الوصول إليها ويمكن أن ترضي الجميع وتفك الاشتباك السياسي الحاد بين كل أطراف اليسار المعارض، ولم يكن يقف عائقاً لتحققها سوى تخفيف أصحاب الشهوات من اندفاع شهواتهم المعندة. إنني أجزم بأنه لم يكن هناك سوري واحد معارض وآمن بالثورة السورية كان يرفض فكرة التعاون والتحالف مع الإسلاميين، ولكن على أن يكون هذا التعاون والتحالف قائماً على أرضية الشراكة الوطنية، وبعيداً عن عقلية الاحتكار والغلبة والاستحواذ، كما لم يكن هناك من سوري آمن بالثورة وبضرورة إسقاط النظام الأسدي كان يرفض فكرة مساعدة الخارج الدولي أو الإقليمي ولكن بشرط ألا تكون هذه المساعدة مقابل التخلي عن القرار الوطني للثورة، وببساطة يمكن القول أن حل المسألة السورية في مرحلة كانت فيها المعادلة السورية بسيطة وبمجهول واحد، قبل أن تتعقد وتصبح بألف مجهول ومجهول، كان يتوقف على أولاً : إيمان المعارضة بقوة شعبنا وبقوة الوطنية السورية التي نهضت مع الثورة ومن خلالها، وثانيا ً: كان يتوقف على توسيع الهوية الوطنية للثورة إلى الحدود القصوى الممكنة، وثالثاً : الإيمان بالمخزون النضالي الذي يكتنزه الشعب السوري، حيث كشفت السنوات الماضية أنه مخزون نضالي أسطوري ولا ينضب، ورابعاً : كان ينبغي التخفيف من اندفاع ونفاد صبر أصحاب الشهوات المعندة، فالمسألة كانت تحتاج إلى صبر ساعة كي ينتصر الدم على السيف، وخامساً : كانت المسألة تحتاج إلى تقديم شكوانا ومظلوميتنا بالدرجة الأولى إلى شعوب العالم وقواه الحرة لا إلى حكومات العالم وأكثرها جشعاً وقذارة، خامساً : كان يفترض أن تستغل المعارضة الموقع الجيوسياسي الذي تحتله سوريا في المنطقة، ولكن لا حسب منطق البيع والشراء، بل من منطق توصيل وتوجيه الرسائل إلى حكومات العالم بأننا أقوياء وأننا نشكل البديل القادم الذي ينبغي مسايرته والإصغاء إليه كونه الجهة التي ستمسك بالقرار السوري وخاصة أننا نتكلم عن قرار ثورة، فهذا يعني بأن البديل القادم مقبل على الإمساك بكل ملفات المنطقة وممسك بالمصالح الدولية والإقليمية البعيدة والقريبة، سادساً : كان على المعارضة السورية ألا تتوجه إلى المجتمع الدولي كمجموعة من الشحاذين الرخيصين، كما كانت تفعل أمام السفير الأمريكي السابق فورد أو غيره من قادة المنطقة والعالم، بل كان عليهم التوجه كسادة وكقادة ثورة هي ثورة سوريا العظيمة كما قالت عنها الراحلة أيقونة الثورة مي سكاف. أعود إلى البازار السياسي الذي افتتحته بعض جهات المعارضة للقول: علينا أن نتذكر أن الفرز داخل هذا البازار بدأ بشكل عملي من زمن ما قبل الثورة، كما علينا أن نتذكر أن مقر هذا البازار السياسي كان بعد انطلاق الثورة في الدوحة، وكلنا يعرف أن القيادة القطرية هي من أدارته من خلال رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم آل ثاني الذي قدم وعوداً لأصحاب الشهوات بأن مسألة إسقاط النظام هي مسألة وقت وأنها أسهل من عضة كوساية كما يقول السوريون بالعامية، وكلنا يعرف ما حدث في محادثات الدوحة بين أطراف المعارضة في أيلول 2011 التي شملت حينها، هيئة التنسيق، وتيار إعلان دمشق، والإخوان المسلمون، وهنا أنقل ما قاله الباحث السوري محمد سيد رصاص في جريدة الحياة في 30 نيسان 2016 بأنه : " عندما طلب رجاء الناصر في الدوحة بإضافة ( رفض التدخل العسكري الخارجي ) طلب منه مشارك غير سوري في الاجتماع أن يذهب وإياه إلى " الكوريدور " وقال له بالحرف " أنت بطلبك هذا ستقوم بإفشال سيناريو مهيأ " وقد كان المقصود حينها - إيهام الجميع كذباً - إلى أن هناك سيناريو معد لسوريا على غرار السيناريو الليبي. لقد وقع أصحاب الشهوات في نفس المصيدة والوهم الذي سيطر على نظرائهم في قوى 14 آذار في لبنان حين كانوا يخوضون المواجهة مع خصومهم اللبنانيين من حلفاء النظام السوري وإيران مستندين لا على قواهم الذاتية التي كانت كبيرة جداً في البداية وعشية اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في 14 شباط 2005، بل على النجدة التي ستأتيهم من الخارج الأمريكي أو الإقليمي، ولهذا لم يسعوا إلى المحافظة على وحدة الصف داخل معسكرهم فكان أن خسروا وضحوا بحليفهم وشريكهم العوني في 14 آذار مجاناً، وهو الأمر الذي تلقفه حزب الله المحاصر سياسياً حينها، فحول التيار العوني من كلب يعوي عليه مع قوى 14 آذار إلى كلب يعوي معه عليهم، حيث جعل من التيار العوني حليفاً وتابعاً له بعد أن حقق له شهوته في أن يكون ممثلا للطائفة المارونية، ويمنحه منصب رئاسة الجمهورية اللبنانية، وهو الأمر الذي جعل النظام السوري الذي خرج للتو من الباب يعود من الشباك وبصيغة أقوى إلى الساحة اللبنانية .لقد لعبت مسألة الاعتماد وتعليق الآمال على الخارج دوراً في جعل أصحاب الشهوات بغنى عن وحدة الصف ولملمة الصفوف إلى الحد الذي يمكنني من القول بأنهم تحولوا إلى قوة نابذة للوحدة بدل أن يكونوا قوة جذب لكل من له مصلحة في تغيير النظام. وهم بهذا لم يكتفوا بأن استغنوا عن الكثيرين ممن يعادون النظام ويطمحون ويعملون على تغييره ليل نهار فحسب بل كانوا باعتقادي خلف ولادة ظاهرة عودة بعض ضعفاء النفوس إلى حضن النظام من بين صفوفهم من أكثر من باب، وقد وصل الأمر مع اندفاع أصحاب الشهوات في الأسلمة والأمركة بأن تشكل في الواقع السوري – ووجد صدى له في الواقع العربي وحتى الغربي – إن ولد تيار من " اليسار والعلمانيين " الذين تحول قسم كبير منهم إلى جيش من الكلاب التي تعوي على الثورة بدل ضمان حياد هذا الجيش على أقل تقدير إن لم تكن هناك من قدرة على كسبه إلى صفوف الثورة. ولكي أوضح أين كان يكمن التآمر والانحطاط السياسي والأخلاقي عند أصحاب هذه الشهوات المسبقة والمعندة ؟؟؟ – وأشير إليهم بشكل خاص كونهم كانوا ذوي أثر أكثر من غيرهم في تحديد اتجاه حركة التحالفات والأحداث وكونهم نالوا قبل الثورة وفي مراحلها الأولى ثقة – والأصح كانوا أكثر قدرة على تضليل - غالبية النخب اليسارية والعلمانية التي ناصرت الثورة كونهم كانوا يخفون ما كان يتم في الكواليس من مؤامرات ضد الثورة حيث لم يكن أولها وآخرها وأكبرها مسألة إخفاء أن ما كان يتم على الأرض هو إنشاء مجموعة فصائل إسلامية بديلة عن الجيش الحر الذي ادعوا أنه هو ذاته هذه الفصائل، كما لم يكن أولها وآخرها أنهم كانوا في كل يوم يتخلون للدول الإقليمية والدولية عن القرار الوطني للثورة تحت كذبة تقديم التنازلات من أجل نيل الدعم من دول أصدقاء الشعب السوري. وهنا أقول : إن المفاجئ وغير المتوقع كان وتأتى من النخب السياسية والثقافية التي لم تبق رهينة وحبيسة تصوراتها السياسية والثقافية المكونة في زمن ما قبل الثورة فحسب بل عملت في نفس الاتجاه الذي كان النظام يدفع إليه, فهذه النخب التي من المفترض أن تشكل الدليل والقائد والمنظم لحركة الشارع العفوية من الناحية السياسية والثقافية والأخلاقية، لم تدرك أن للثورة ثقافتها وقيمها وأخلاقها وعقلها السياسي المختلف نوعياً عن عقل ما قبل الثورة، أي لم تدرك أن للثورة تصورات وعقلاً وثقافة تولد وبشكل يومي ومتجدد في سياق الحركة في الشارع وبما يعني ضرورة عدم البقاء رهينة لا تصوراتها السياسية وشهواتها القديمة فحسب بل عدم البقاء عند مستوى خلافاتها السياسية القديمة، الأمر الذي يعني أن اليقين السياسي والأخلاقي والثقافي هو يقين متحرك ومربوط أخلاقياً وسياسياً بخدمة نجاح حركة الشارع ولو على حساب كل التصورات واليقينيات القديمة المسبقة الرمادية اليابسة, أي أن هذه النخب لم ترتق إلى مستوى عقل ثورة تدب فيه الحياة, ولهذا... ولهذا فقط بدت كل النخب السياسية والثقافية التي سرقت التمثيل السياسي من الحركة العفوية ومن الشباب الذي أول من أوقد نار الثورة، أقول : بقيت هذه النخب وكأنها كتل غريبة تطفو على سطح الحركة, وكون هذه النخب سارت على نفس الطريق والاتجاه الذي أراده لها النظام الذي كانت رغبته في أسلمة الثورة أو رغبته في استنجاد هذه النخب بالأجنبي الأمريكي أو غيره فإنها استطاعت شيئاً فشيئاً أن تشكل قوة عطالة للتغيير, ولأنها فعلت ذلك كان سهلاً إعادة قسم كبير من الشعب ولو في المدى المنظور إلى قمقمه الثقافي والعقلي القديم كما كان سهلاً وطبيعياً أن نرى حالة الإحباط السياسي والسلبية التي يعيشها شعبنا المنكوب إن كان في المخيمات او في بلاد الله الواسعة التي تم تهجيره إليها. إن ما هو مثير للاشمئزاز في حالتنا السورية هو أن مناصري الإسلام السياسي ومناصري الدبابة الأمريكية تحالفا في عملية يمكن أن أسميها باللهجة العراقية المحكية بعملية " البوك " السياسي وفي اللهجة السورية العامية يمكن تسميتها بالمعرصة السياسية حيث فيها فاعل ومفعول به، فاعل استنهض شهوته مرفوعة إلى حدها الأقصى بنهكة الطائفية ومفعول به استسلم للذة ما يفعل به تحت رغبة تقاطع الشهوات ولو على حساب الكرامة والأخلاق فشكلا كليهما وجهين لعملة واحدة وكليهما استبطن في الغالب نزعة وميلاً لا أخلاقياًن، فهم عدا عن كونهم لم يميزوا على الأقل بين زمن ما قبل الثورة وضروراته وزمن ما بعد الثورة وضروراته، هذا إذا سلمنا أن التآمر مشروع – وهو بقناعتي غير مشروع في كل الظروف – في العمل السياسي، والواقع أن المشكلة لم تكن في هذه الشهوات السياسية فالشهوة السياسية حق مشروع وطبيعي لكل إنسان مثلها مثل الشهوة الغريزية في الأكل أو الجنس، إن المشكلة كانت في عناد هذه الشهوات، وهو الأمر الذي سأكشف عنه في أكثر من مقال قادم، بل أقول : أن كل المقالات القادمة في هذه السلسلة سوف تكون عن أصحاب الشهوات المعندة، ولماذا كانت معندة ؟؟؟ وإلى ماذا قادت هذه الشهوات؟؟؟ وما هي هذه الشهوات ومن هم أصحابها ؟؟؟؟؟ ولكن قبل الإشارة إلى أصحاب الشهوات من الضروري الإشارة إلى أولاً: بأنه سيتم التركيز على شخصيتين من أصحاب الشهوات المعندة هما: رياض الترك زعيم حزب الشعب الديمقراطي وأصلان عبد الكريم القيادي السابق في حزب العمل الشيوعي في سوريا، وذلك كون هذان الحزبان شكلا الثقل الأساسي داخل أحزاب اليسار " التحرري " الذي أشرت إليه سابقاً. وثانياً: بأنه سيتم التركيز أكثر على رياض الترك كونه كان الشخصية الأجرأ في التعبير المكتوب عن وجهة نظره في كل ما سيتم التطرق إليه فلطالما كان داخل النخب المعارضة السورية أكثر من سانشو- منهم من كان له وزن ومنهم من كان بلا وزن - يتخفى في ظل حمار " دون كيشوت " المعارضة السورية. وثالثاً: من المهم الإشارة إلى أن زمن الفروسية السياسية اختلط في الحالة السورية مع زمن من الانحطاط الثقافي والأخلاقي والفكري عند النخب السورية قبل وعشية الثورة وفي سياقها، وهو الأمر الذي جعل كل ما كان يبدي فحولة سياسية عند البعض لا تعدو كونها عنة سياسية دفعتهم إلى رمي الثورة إلى الحضن الذي اغتصبها واستباحها – من إسلاميين ودول إقليمية ودولية - من دون رحمة أو شفقة. ورابعاً: سوف أؤجل إلى مقالات قادمة مناقشة بعض المقولات والثقافة الفكرية التي كانت خلف هذه الشهوات المعندة وخلف أسلمة الثورة والتخلي عن القرار الوطني للثورة.
السياق التاريخي لنشوء وترعرع البربرية في سوريا ( 15 ) lemonde.in 5 of 5
لومـــــوند : نبيل ملحم الخامس عشر: المعارضة السورية وإغلاق رباعي الموت على السوريين: لقد تشكل رباعي الموت السوري من أربعة أضلاع غير مت...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك