الشروط التاريخية لنشوء وترعرع البربرية في سورية ( 8 )

لومــــــوند : نبيل ملحم
ثامناُ : استراتيجية النظام في جعل الظباء تركض وتحتمي بالذئاب الإسلامية والإقليمية والدولية :
لا أتصور بوجود تعبير مكتوب يعبر عن الحالة التي عاشها الشعب السوري في المناطق التي ثارت على النظام تفوق على ما نطقت به رواية النطع للروائي السوفييتي جنكيز إيتماتوف حيث يجد من يقرؤها كيف أن الظباء التي تلاحقها مجموعة من صيادي البيروقراطية السوفييتية لتأمين كمية مطلوبة منهم من اللحوم تركض دون خوف جنباً إلى جنب مع قطيع من الذئاب اصطدمت به في طريق هروبها وملاحقتها، وإذا كان الكثير من قراء هذه المقالة لم يتسن له قراءة هذه الرواية التي تحكي عن الشمولية السوفييتية بلغة الأدب الروائي، فإني في هذه المقالة سأعيد صياغة ومقاربة المعنى من خلال الحديث عن سيرة وحكاية الثورة السورية بطريقة تجعل قارئ هذه المقالة يكون إحساساً أدبياً وفيزيائياً بالحدث السياسي السوري الذي انفجر على شكل ثورة في وجه النظام الأسدي، فكيف بدأت الرواية السورية وكيف تتابعت فصولها ؟؟؟؟ فمنذ أن انطلقت الصرخة الأولى والشرارة الأولى للثورة السورية في أرض حوران في 18 آذار عام 2011 ومن ثم امتداد حريق الثورة إلى باقي المحافظات السورية كان النظام السوري يدرك أن السوريين الذين خرجوا عليه مطالبين بالحرية والتحرر من الاستعباد لن يعودوا إلى بيوتهم كما كانوا قبل تاريخ 18 آذار، ولهذا عندما استخدم استراتيجية العنف البدائي البربري الممنهج والمدروس جيداً لم يكن يرمي إلى زرع الخوف من جديد في نفوس السوريين الذين كسروا حاجز الخوف وتحرروا من عقدة الخوف بعد أن رأوا إخوتهم وأشقاءهم التونسيين والمصريين والليبيين واليمنيين يتحررون من هذه العقدة ويقتحمون السماء ويسقطون أنظمة الطغيان والاستبداد في بلادهم, كما لم يكن ينوي إعادتهم إلى قمقم الخوف الذي عاشوا فيه طيلة سنوات حكم الأب ومن بعده الابن وإنما كان ذلك الاستخدام يهدف إلى أكثر من ذلك بكثير, فما هي الأهداف التي سعى النظام لتحقيقها من خلال اعتماده وارتكازه على استراتيجية العنف البربري المنظم والممنهج والمحسوب بدقة عالية ؟؟؟ وكيف كانت ردة فعل المعارضة السورية والثورة على ذلك والتي أقل ما يقال عنها أنها أتت في نفس الاتجاه الذي أراده النظام أو لنقل أنها ساعدت النظام إلى الوصول لأهدافه التي سعى إليها في استراتيجيته ؟؟؟؟.وإذ كنت تحدثت في مقالي السابق عن عمل النظام على توليد الثورة المضادة فإني سأتحدث هنا عن استراتيجية النظام في العمل الميداني والعملي على خلط موجة الثورة مع موجة الثورة المضادة أي العمل على جعل الظباء – موجة الثورة وعمقها – مع كتلة الثورة المضادة التي طفت على السطح بعد أشهر من انطلاق الثورة – أي سأتحدث عن استراتيجية النظام في جعل الظباء – الثورة - تركض مع الذئاب – الثورة المضادة الإسلامية والإقليمية والدولية كي يسهل ذلك على النظام من جهة إيجاد الذريعة للاستمرار في ممارسة أقصى الأعمال البربرية ومن جهة ثانية من أجل إدانة الثورة وتشويه سمعتها بحجة أنها ثورة إرهابيين أصوليين ومن جهة ثالثة من أجل حرف مسار تدفقها إلى أهدافها التي انطلقت من أجلها ومن جهة رابعة من أجل تسهيل استجرار تدخل إقليمي ودولي للاستثمار في الهويات ما قبل الوطنية ومن جهة خامسة من أجل إيقاظ كل الهويات والعصبيات ما قبل الوطنية داخل المجتمع السوري ولكي يخلق المناخ المناسب لصراع البربريات على جثة المجتمع السوري:
أولاً : استراتيجية الارتكاز على العنف البربري لاستنهاض الغرائز البدائية والبربرية المقابلة :
في البداية أقول إني سأقوم هنا بمقاربة الحدث السوري في الأشهر الأولى للثورة بحكاية قصة فتاة لعوب وتمتلك خبرة استدرجت إلى صالة السينما شاباً طيباً لحضور عرض فيلم وانتظرت حتى أطفئت الأضواء وسادت العتمة فقامت بمد يدها عليه وبدأت باستثارته في المنطقة المركزية لغريزته وانتظرت حتى تحسست بيدها أن غريزته الجنسية قد تم إيقاظها فصاحت بأعلى صوتها أن من يصاحبها ويجلس إلى جوارها في صالة السينما شاب أزعر قليل التربية وبدون أخلاق وأنه يقوم بالتحرش بها ، إن هذه الحكاية تشكل مدخلا مهما لفهم سلوك واستراتيجية النظام السوري في الأشهر الأولى للثورة ومن ثم طيلة سنوات الصراع والقائمة على إيقاظ كل الغرائز البدائية على شكل هويات طائفية أو على شكل غرائز بدائية في القتل والتدمير ليقول بعد ذلك أنه يواجه لا ثورة شعب بل مجموعات إرهابية إسلامية متطرفة، فما حصل على مسرح التاريخ السوري منذ ما قبل انفجار الثورة وأثنائها هو تماماً كان مشابهاً لما يحصل أحياناً في دور السينما أو كما يحصل في الحياة والعلاقات بين البشر، هكذا فعل النظام السوري بما يمكن تسميته سيسيولوجيا عهر النظام عندما قام بكل أعمال التنكيل والقمع والإفقار ونهب الثروات لصالح أوليغارشية عائلية، وقام بالتمييز الطائفي بين أبناء البلد على مدار خمسة عقود من الزمن ومارس التشبيح الطائفي والقتل والسحل في الشوارع والساحات والسجون واستباح البيوت وكل حرمات وممتلكات ومعتقدات البشر وعندما وصلت ردة فعل الشارع أو لدى بعض شرائحه إلى أقصى حالات الاستثارة نتيجة هذه الأعمال وعندما سيطرت الغرائز البدائية في تجلي ردة الفعل، هنا صاح النظام وانساق معه الكثيرين من قوادي اليسار العبودي المخاطي اللزج العربي والعالمي ، بأنه يواجه حلفاً من الإرهابيين الإسلاميين الطائفيين وأنه ضحية مؤامرة خارجية تستهدف النيل لا من سلطته بل من الدولة السورية وجيشها العتيد، فكانت صيحة النظام هذه هي تجسيد للعهر السياسي الذي سنبدأ بالكشف عنه بالقول : بأنه إذا كان الموقف السياسي في زمن الحياة السياسية العادية والطبيعية التي يمر بها مجتمع من المجتمعات لا يحمل في طياته إلا الشحنة العقلية, فإن كل موقف سياسي في زمن الصراعات والمنازلات السياسية والاجتماعية الحادة يحمل في طياته إضافة إلى الشحنة العقلية نجد قليلاً أو كثيراً من الشحنات العاطفية, وفي ذروة احتدام الصراع السياسي وفي حالة المجتمعات المقهورة التي تتعرض لدرجة عالية وغير مسبوقة من المظلومية وإلى أشكال غير مسبوقة من أشكال وألوان القتل والدمار والموت, نجد أن أغلب الخطابات السياسية أو لنقل أغلب المواقف السياسية للبشر إن كانوا من النخب أو من الناس العاديين تحمل شحنة عالية من العاطفة إلى الحد الذي يمكننا من القول أن الشحنة العاطفية في الموقف السياسي هي التي تطغى وتسيطر على المحتوى العقلي للخطاب السياسي, وهو الأمر الذي يجعل الحوار بين البشر حواراً في حقل وميدان العواطف والأحاسيس أكثر منه في حقل العقل وميادينه الرحبة, وكذلك هو الأمر الذي يجعل العامل الحاسم في اتفاق أو اختلاف البشر فيما بينهم يقوم ويتحدد على الجانب العاطفي لا على الجانب العقلي من الخطاب السياسي، حيث يصبح إرواء الغليل العاطفي هو المقياس والمعيار الذي يشد هذا إلى ذاك , كما أن عدم إرواء الغليل العاطفي هو من يبعد ويفرق هذا عن ذاك ، إن الخطر كل الخطر في شروط وواقع تسود فيه كل أشكال القتل والتنكيل بالبشر كما تتفتح فيه وتستنهض كل أنواع وأشكال الغرائز والعواطف والأحاسيس بدءاً بالغرائز والعواطف البدائية الطائفية وصولاً إلى أرقى أشكال العواطف الإنسانية, نقول في هكذا شروط يصبح خطر انجرار البشر خلف العواطف أمراً في غاية الخطورة, حيث الفاصل أحياناً بين المشاعر والغرائز البدائية والعواطف الإنسانية الراقية يكون برقة شعرة فقط , وحيث القدرة على التمييز بين الانجرار إلى هذا أو ذاك من العواطف أمرا صعباً إن لم نقل مستحيلاً وهنا يصبح أثر المحطات التلفزيونية الفضائية التي تنقل أعمال القتل والتنكيل الجسدي والنفسي والروحي والطائفي والديني بالصوت والصورة الحية أثراً في غاية الأهمية والخطورة لا في تأجيج وتهييج هذا النوع أو ذاك من العواطف فحسب بل في قدرتها على توجيه مسار الصراع السياسي كما في قدرتها على تحديد محتوى الصراع وطابعه, ويزداد هذا الخطر عندما تكون كل المحطات الفضائية التابعة لطرفي الصراع التي تنقل الحدث بالصوت والصورة تدفع لأن يسير الصراع بنفس الاتجاه ويأخذ نفس المسار والطابع والمحتوى, ولهذا يمكن أن نفهم لماذا في الحالة السورية كان يتم بث ونشر وتسريب مقاطع فيديو توضح وتبين كل أنواع القتل والتنكيل والإذلال التي كان يقوم بها شبيحة النظام بحق الثائرين في وجه النظام ؟؟؟؟ فالهدف لم يكن ببساطة سوى لاستنهاض وإيقاظ المشاعر والغرائز الطائفية البدائية أو لنقل لاستنهاض نوع محدد من الغرائز والمشاعر البدائية وتحديداً المشاعر والغرائز الطائفية عند الثائرين وبما يقود إلى تحويل وجه وطبيعة وميدان وساحة المعركة بين الشعب السوري الثائر والنظام الاستبدادي البربري المجرم بحيث يتم نقلها من ميدانها التحرري وبوصفها معركة بين شعب ثار من أجل نيل الحرية والتحرر من نظام استبدادي متوحش إلى ميدان وساحة وحقل الصراع الطائفي الديني . لقد عمل إعلام النظام السوري والإعلام الحليف له المقروء والمرئي بخطة مدروسة جيداً، لقد سخرنا جميعاً من إعلام النظام الرسمي وغير الرسمي في بداية الثورة, من يذكر الإشاعات التي أطلقها النظام عن الخبز المسموم وحبوب الهلوسة التي يتعاطاها المتظاهرون ؟؟؟ من يتذكر قصص الملثمين الذين يتجولون في المدن والأرياف الذين يخطفون ويقتلون ويغتصبون ؟؟؟ من يتذكر الإشاعات التي أطلقها النظام عن عمليات الإنزال البحري وتهريب السلاح من الشواطئ السورية جهة بانياس السورية الساحلية الثائرة ؟؟؟؟ من يذكر منكم مشاهد الإهانات والتعذيب المروعة التي انتشرت على اليوتيوب في قرية البيضا التابعة لمدينة بانياس وفي اللاذقية ودرعا وحماه وحمص في بداية الثورة ؟؟؟ من يذكر الهمجية والبربرية في جريمة وطريقة قتل الشهيد حمزة الخطيب ؟؟؟ من يذكر منكم مشهد " بدكين حرييي وهاي ميشان الحرية " ؟؟؟؟ من يذكر منكم مشهد قتل الحمير ؟؟؟؟ ومشاهد الأشلاء البشرية التي كانت تعرض على التلفزيون السوري الرسمي ؟؟؟؟ من منا لا يذكر أشلاء " نضال جنود " ابن محافظة طرطوس الذي ينتمي إلى الطائفة العلوية والذي اتهم النظام أهالي مدينة بانياس الثائرة بقتله وتقطيعه ؟؟؟ من منا لا يذكر حادثة قتل وتقطيع أحد الضباط على أيادي شبيحة النظام في حي كرم اللوز بحمص واتهام النظام ثوار باب الدريب وباب السباع بالجريمة ؟؟؟؟ كل هذه الجرائم التي لا يمكن حصرها وإحصاؤها في هذا البحث لم تكن جرائم وتسريبات اعتباطية وانفعالية, ولم تكن أبداً فيديوهات مسربة أو تم العثور عليها بمحض المصادفة, كل شيء كان ممنهجاً ومدروساً بدقة ومهنية عالية من قبل خبراء تابعين للنظام وحلفاء النظام وحتى قبل أن يندلع ويتفجر الربيع السوري, أي أن هذا كان محضراً ومعداً سلفاً منذ أن سقط نظام بن علي في تونس ومن بعده نظام مبارك في مصر, لقد كان هدف النظام وحلفائه استثارة الانفعالات العاطفية والغرائز من خوف ورعب وغضب وهلع وقلق سواء عند المؤيدين أو عند الثائرين المعارضين, فبهذه الطريقة فقط يمكن تعطيل التفكير والتحليل المنطقي عند البشر جميعاً وبهذه الطريقة يغيب العقل والتحليل النقدي للبشر من الطرفين موالين ومعارضين, فاستثارة العواطف والغرائز البدائية تؤدي بالإنسان الموالي والمعارض إلى الانتقال من الوعي إلى اللاوعي ومن العقل إلى الغريزة . بهذه الطريقة استطاع النظام أن يشد إليه العصب الطائفي الذي استند عليه طيلة فترة حكمه ( الأسد الأب والابن ), وبهذه الطريقة بدا النظام للطائفة العلوية وكأنه المخلص والحامي والمدافع عن المصير, وبهذه الطريقة استطاع أن يزرع وينمي حقداً طائفياً أسود, وبهذه الطريقة استطاع أن يدفع الطائفة العلوية إلى الدخول في المعركة باندفاع وكأنها معركتها الخاصة لا معركة نظام سياسي طبقي يستند على الطائفية, وبهذه الطريقة استطاع أن يجعل الطائفة العلوية مستعدة لتقديم الغالي والرخيص في سبيل الحفاظ والدفاع عن النظام، وبهذه المناسبة من المهم الإشارة هنا لعبارة " نحنا الدولة ولاك " التي كثر استخدامها من قبل موالي النظام في زمن الثورة، هذا التعبير اللفظي العميق الدلالة للحالة التي يندمج فيها في مجتمع من المجتمعات كيان الدولة مع كيان السلطة السياسية من جهة وكيان الدولة والسلطة مع كيان العصبية الطائفية التي تستند عليها الدولة من جهة ثانية، فهذه العبارة أتت كدلالة عن حالة التماهي التي تمت بين ثلاث مستويات من الوجود السياسي والاجتماعي والطبقي الخاص حيث يصعب التمييز والتفريق بين السلطة والدولة - التي تم تفريغها من وظائفها العامة – والقاعدة الاجتماعية الطائفية التي استبدت اليها الطبقة العليا للدولة الاستبدادية الأسدية، فهذا التماهي والاندماج أنتجا فائضاً من القوة امتلكته الدولة والسلطة وقاعدتهما الاجتماعية الطائفية وهو الامر الذي لم ينتج الطغيان فحسب بل وفر الشرط اللازم والكافي لممارسة اقصى مستويات العنف واشكاله البدائية البربرية، فهنا العنف كان يمارس وهو محمل بشحنة مركبة سياسية وطبقية وعاطفية طائفية بدائية بربرية. وفي ضفة المعارضة والشعب الثائر فقد قاد هذا إلى تنامي مشاعر الحقد الطائفي المعاكس والاستقطاب الطائفي والإحساس العالي بالمظلومية الطائفية, وإلى سيطرة العواطف والغرائز على تصرفات وردات فعل البشر ( نخب وعامة البشر ), فبعد أن كانت شعارات السوريين في بداية الثورة " واحد واحد واحد الشعب السوري واحد " وبعد أن خلت الأشهر الأولى من الثورة من أي شعارات طائفية ودينية تذكر كحالة عامة ( باستثناء بعض الحالات الفرية النادرة ) نجد بعد أن بدأت أجهزة النظام الأمنية وشبيحته بنشر وتسريب مقاطع فيديوهات التعذيب والقتل التي كانت تقوم بها قواته متقصدة تبيان الإهانات لمقدسات معينة، كلنا يذكر الفيديوهات التي كان يطلب فيها من المعتقلين الركوع والسجود لصورة رأس النظام وشقيقه ماهر وبلهجة معروفة أصرت أجهزة النظام على إظهارها من أجل دفع الناس نحو الحقد والتطرف الديني والطائفي المضاد, وهنا علينا القول بأنه أذا كانت اللهجة العلوية قد استخدمت على مدار خمسة عقود كأداة قمع وأداة إشارة للانتماء للسلطة عند أزلام النظام على طول الخط خارج البيئة العلوية وفي بعض الحالات عند عامة الناس في وقت الحاجة لذلك ، فإن هذه اللهجة في زمن الثورة لم تستخدم لهذه الغاية، لقد جاء استخدامها كأداة استثارة طائفية لعدة أسباب متراكبة ومتداخلة بعضها مع بعض فأولاً : تقصد النظام على إظهار وجهه الطائفي وإخفاء وجهه الطبقي بهدف تقديم المظلومية الطائفية على المظلومية العامة وثانياً : بهدف توليد وخلق عصبية طائفية سنية مقابلة للعصبية العلوية التي يرتكز عليها، فالنظام كان يدرك بأنه مع خلق هكذا عصبية مقابلة يسهل عليه إحداث انزياح في حقل وميدان الصراع مع المجتمع الثائر. وقد جاء تكتيك المعارضة في نفس الاتجاه الذي كان يدفع به النظام فالمعارضة لم تعمل على توسيع الهوية الوطنية للثورة أو لنقل لم تحافظ على الهوية الوطنية للثورة كما بدأت في أيامها وأسابيعها وأشهرها الأولى فبدل من تركيزها على المظلومية العامة انجرت للتركيز على المظلومية الطائفية، فالمعارضة لم تراهن على الغالبية السكانية السنية فحسب بل راهنت على الكتلة غير المفيدة داخل هذه الكتلة البشرية وأقصد هنا الرهان على الإسلام السياسي السني بكل أشكاله وألوانه منطلقة بذلك من خطأ ووهم أن إرادة الغالبية السكانية السنية هي ذاتها إرادة الإسلام السياسي السني وهو الأمر الذي التقى موضوعيا مع مرامي النظام الذي كان يدفع لوضع الدولة العميقة العلوية ومشروعها في سوريا المفيدة لهم في مواجهة مع العصبية السنية التي مثلتها تحديدا الكتلة غير المفيدة داخل الطائفة السنية أقصد الإسلام السياسي السني ومشروعه لتكوين سوريا مفيدة لهم كذلك ، فكان هذا التقابل بين العصبيتين إيذاناً بفتح أبواب جهنم ونارها على النسيج الوطني السوري وسبباً في لجم تطور صيرورة الثورة نحو هويتها الوطنية الجامعة لكل السوريين بكل انتماءاتهم السياسية والدينية والقومية والطبقية. هنا علينا التذكير بأن النظام وحلفاءه أعدوا العدة في وقت مبكر لتحويل الصراع إلى حقله الطائفي ، وهنا علينا التذكير بتصريح مستشارة رأس النظام بثينة شعبان من اليوم الأول للحراك الثوري عندما وصفت هذا الحراك بأنه فتنة طائفية. وكذلك علينا أن نتذكر تصريح لافروف وزير الخارجية الروسية بأنهم لن يسمحوا بقيام حكم سني في سوريا حيث لم يكن المقصود الخوف من الإسلام السياسي بل كان المقصود استثارة المشاعر الطائفية عند السنة من جهة وإشارة إلى أنهم سيدعمون النظام في نوع كهذا من الصراع الطائفي. لقد نجح النظام وبتحالف غير مكتوب مع بعض الداعمين الإقليميين وعلى رأسهم قطر ومحطتها الإعلامية الفضائية ونقصد محطة الجزيرة الفضائية, كما السعودية التي سمحت لبعض الفضائيات أن تبث من أراضيها كمحطة وصال وغيرها من المحطات الفضائية التي كان يظهر عليها الشيخ العرعور وغيره من رجال الدين المشعوذين والطائفيين, كل ذلك بالتوافق والتناغم والرضا من حلفائهم السوريين ( الإخوان المسلمون بشكل أساسي ) داخل المعارضة السورية، وهنا علينا القول بأنه إذا كان النظام قد كان كاذباً عندما قال أن هذه المحطات الموالية للمعارضة كانت تصنع هياكل ومجسمات مفبركة للساحات والتظاهرات السورية فإنه علينا أن نعترف أن هذه المحطات استطاعت أن تجسم وتفبرك وتلبس الثورة الثوب الأسود الذي كان يريده ممولي وداعمي هذه الفضائيات من الدول الإقليمية. وما ساعد النظام في الوصول إلى أهدافه لم يكن التحالف غير المكتوب والمعلن مع قوى الإسلام السياسي الإخواني والجهادي ومع كل الدول التي اعتبرت نفسها حليفة للمعارضة والثورة السورية ( كلهم على الإطلاق ) فحسب بل كان سلوك النخب السياسية والثقافية السورية التي تعد نفسها أنها محسوبة على التيار العلماني والديمقراطي والليبرالي, فقد عملت هذه النخب على النفخ في المظلومية الطائفية على حساب وجثة المظلومية العامة التي يعيشها الشعب السوري بكل طوائفه وشرائحه الاجتماعية بهدف الكسب السياسي الرخيص، فالمعارضة السورية لم تدرك أو نسيت أو تناست أن المجتمع السوري لا يتكون من طائفة علوية حاكمة وطائفة سنية محكومة فحسب بل يوجد إلى جانب السنة طوائف أخرى مظلومة ومحكومة بنفس القدر والدرجة حيث يشارك السنة في مظلوميتهم الموحدون الدروز والإسماعيليين والمسيحيين ...الخ كما يشارك العرب في مظلوميتهم الاكراد والاشوريين والتركمان والشركس والأرمن ...الخ وإن كل هؤلاء يريدون الانعتاق من نير نظام طائفي مجرم مستبد، أي لم تدرك المعارضة أن جمع كل أصحاب المظلوميات كان يقتضي خطاب وطني يجمع كل هؤلاء ضمن هوية وطنية للثورة، وهو الأمر الذي كان يعني الابتعاد عن الأسلمة والابتعاد عن تمحور الخطاب السياسي حول المظلومية السنية، فنوع كهذا من الخطاب كان يلعب دوراً نابذاً وطارداً لرفد الثورة بأي رافد يوسع من نطاق هويتها الوطنية، فتحت شعار التعاطف مع المظلومية السنية في سوريا واحترام العقائد والطقوس والمشاعر والشعائر الدينية أصبح الخطاب الطائفي هو الغالب عند هذه النخب لغاية الكسب السياسي في الشارع السني وتكوين قاعدة جماهيرية تفتقدها أساساً هذه النخب, ولم تدرك هذه النخب أن الاستثمار في هذا الحقل وأن رأس المال السياسي والاجتماعي الذي يأتي من هذا الاستثمار هو رأس مال زائف وباطل ولن يفيد صاحبه بشيء, فملوك وأمراء الطوائف المحليين والإقليميين هم أصحاب رأس المال الحقيقي في مجال الدين والتدين والطائفية أو لنقل لم تدرك هذه النخب أن رأس المال الذي ستجنيه هذه النخب سيذهب في نهاية المطاف إلى جيوب هؤلاء الأمراء والملوك وإلى جيوب الإسلام السياسي الإخواني والجهادي بشكله البغدادي ( داعش ) والجولاني ( جبهة النصرة ) وغيرها من جيش الإسلام وحركة أحرار الشام ...الخ أن العمل على استيلاد وإدامة أكثر المشاعر الإنسانية انحطاطاً عن طريق التهويش والتهييج والتخوين والتخويف وكل أشكال التحريض الطائفي لم يكن سمة من سمات النظام فحسب بل كان سمة تميز بها النظام والمعارضة . فمن كان يتابع وسائل إعلام النظام ووسائل إعلام المعارضة أو المحطات التي انبرت للدفاع عن المعارضة كالجزيرة والعربية وأورينت نيوز وغيرها من المحطات يجد إلى أي حد انغمست هذه المحطات الموالية والمعارضة للنظام والنخب الموالية والمعارضة للنظام التي كانت تظهر عليها ليل نهار في التحريض والشحن الطائفي البغيض، إذ يكفي هنا الإشارة على سبيل المثال لا الحصر خطاب المعتوه طائفياً والمحسوب على المعارضة حكم البابا وكذلك المعتوه بسام جعارة الذي تسنم في مرحلة الناطق باسم الهيئة العامة للثورة، وهنا علينا أن نعترف أن النظام نجح في استجرار المعارضة إلى الميدان والساحة والمحطة التي أرادها منذ البداية, وبما يعني أنه نجح في جرها إلى الميدان الطائفي.
ثانياً : النظام يستخدم العنف والبربرية لاستجرار التدخل الخارجي :
لقد عمل النظام من اليوم الأول لاندلاع الثورة السورية في وجهه على مواجهة الثورة بأقصى درجات العنف والبربرية, فقد اتبع سياسة ما يمكن القول عنها أنها سياسة السحق والسحل وتكسير العظام أو لنقل السعي لتحقيق نصر على الثورة حتى ولو عن طريق الإبادة الجماعية والتدمير الشامل للمجتمع والذي طال البشر والحجر والشجر مستخدماً بذلك كل ما تملكه السلطة والدولة من وسائل قوة وقهر وجبروت مادي اقتصادي وعسكري وسياسي, وذلك بهدف إغراق المعارضة والثورة والشعب الثائر ببحر من الدم, حيث يقود ذلك إلى دفع الشعب والثورة الغريقة إلى طلب المدد والنجدة والحماية من الخارج, أو لنقل دفع الثورة إلى مد يدها إلى كل جهة تعمل على إنقاذها وانتشالها من الغرق والموت في بحر دمائها, فالنظام لم يترك ولم يفتح خياراً للشعب الثائر خارج خيار إما الاستسلام والعودة إلى بيت الطاعة حتى يأتي الوريث الثاني حافظ بشار الأسد أو الموت تحت سكين النظام أو لنقل الموت غرقاً بالدم النازف في الشوارع والساحات وتحت أنقاض البيوت المهدمة فوق رؤوس ساكنيها, والنظام هنا يدرك كما ندرك جميعاً أن الغريق لن يفكر بنوع اليد التي تمتد لإنقاذه, إن كانت يد الشيطان أم يد الملائكة, فالغريق كما يقال يتمسك بقشة عندما يدرك أنه سيهلك في عرض البحر أو عندما يدرك أن الأمواج العاتية ستغرقه لا محال, فالغريق هنا لا يميز إن كانت القشة المنقذة شيطاناً أو ملاكاً, وقد كان يدرك النظام من تجربة الشعب العراقي مع نظام صدام حسين ومن بعده تجربة الشعب الليبي مع نظام معمر القذافي, أن اليد التي ستمتد لإنقاذ الشعب السوري لن تكون سوى اليد الأمريكية على المستوى الدولي والسعودية والتركية والقطرية على المستوى الإقليمي, كما أن النظام كان يدرك أن المعارضة ستستلهم درس المعارضة العراقية في عملية إسقاطه نظام صدام حسين عام 2003، وهنا علينا الاعتراف أن المعارضة كانت تدفع بنفس الاتجاه وأن رهاناتها كان حتى في مرحلة ما قبل الثورة تقوم على استراتيجية الاعتماد على الخارج أكثر من اعتمادها على قوة شعبها مستلهمة السيناريو العراقي في التغيير، وهنا كان النظام يعيد إنتاج نظرية المؤامرة أو لنقل يعيد بناء نظرية المؤامرة من جديد, وهو النظام الخبير في هذا الشأن وهو النظام الذي عاش طيلة وجوده في قمة السلطة على هذه النظرية, فهنا يجد النظام الذريعة والحجة الدامغة والمؤكدة حسب اعتقاده لنقل المعركة من ميدانها الداخلي السوري السوري بوصفها معركة بين شعب ثائر ونظام استبدادي مجرم إلى ميدانها الخارجي بوصفها معركة يخوضها النظام ضد القوى الخارجية الإمبريالية التي تتآمر مع بعض السوريين المعارضين على الوطن والدولة والشعب، لقد استخدم النظام العنف والبربرية كي يدفع الشعب والثورة والمعارضة لطلب التدخل الخارجي, وهو بذلك كان يعمل على تثبيت التهم الكاذبة بالعمالة للخارج والتي ألصقها بالثوار والمعارضين وفيما بعد الصقها بالشعب كله. ولكي يعطي النظام بعض المصداقية لنظرية المؤامرة الكونية التي تستهدف ضرب كيان الدولة والمجتمع السوري حسب زعمه سارع من اليوم الأول للثورة والحراك السلمي للمتظاهرين إلى زج المؤسسة العسكرية ( الجيش ) التي تعد العمود الفقري وأهم المؤسسات السيادية للدولة في قلب المعركة, فهل من لا يتذكر كيف نشر ووزع فرقه العسكرية والدبابات والكتائب إلى درعا وبانياس وحمص ودير الزور وإدلب وحماه ودمشق وريف دمشق وحلب وريف حلب وإلى كل المناطق التي انتفضت بوحه النظام وقبل أن تطلق طلقة واحدة في سوريا أو لنقل قبل أن يكون في سوريا طلقة واحدة خارج الطلقات التي في يد النظام. لقد زج النظام الجيش السوري وقطعاته وقطعانه الخاصة العسكرية في معركته مع الشعب الثائر بهدف تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية هي :1 - التلويح للشعب منذ البداية بأكبر عصا غليظة يمتلكها في مواجهة الثورة وبما يعني تلويحه بأنه ماض بعملية السحق والسحل والتدمير إلى آخر إنسان سوري وآخر بيت وبناء وشارع ومدينة وبلدة وقرية سورية خرجت عن بيت طاعة النظام، أي التلويح بأنه ماض في تجسيد وتنفيذ شعاره الأسد أو نحرق البلد إلى آخر الشوط .2 - كما كان الزج بالجيش يهدف إلى استثمار مؤسسة الجيش بوصفها مؤسسة عامة ( من الناحية النظرية البحتة ) واعتبارها في نظر الكثير من المجتمعات تشكل العمود الفقري والرمز الأساسي للسيادة والوطنية ووجود الدولة ووحدة المجتمع, حيث يبدو استهداف الجيش من أي جهة كانت ثوار أو غيرهم وكأنه استهداف للسيادة الوطنية واستهداف لوحدة المجتمع السوري وتماسكه, وحيث يتم اتهام أي جهة تستهدف وتقاوم بطش الجيش بالخيانة الوطنية العظمى, وحيث تبدو أي مقاومة واستهداف للجيش وكأنها اعتداء على الدولة لا على السلطة واعتداء على الوحدة الوطنية ووحدة المجتمع السوري برمته, وحيث يبدو أي اعتداء على الجيش وكأنه اعتداء على الكرامة الوطنية السورية, وحيث يبدو استهداف الجيش ( وهنا بيت القصيد ) وكأنه استهداف لأكبر المؤسسات التي بنيت من أجل "حماية الدولة والوطن " ومن أجل محاربة أعداء الوطن من الإمبريالية العالمية وإسرائيل, وبما يعني اتهام من يستهدف الجيش (وهنا لب الموضوع ) بأنه أداة رخيصة وخائنة وعميلة تنفذ ما تتطلبه مصالح الدول الخارجية الإمبريالية أي حيث تبدو المعركة وكأنها بين جيش الوطن وأدوات التدخل الخارجي الإمبريالي. وهنا من المهم القول بأنه إذا كان الكثير من النخب السياسية والثقافية العالمية والعربية والسورية لا يدركون حالة الاندماج التي تتم وتحدث بين كيان الدولة وكيان السلطة السياسية في حالة النظم الشمولية, فإن هذه النظم تعرف أكثر من غيرها بعملية الاندماج التي تحصل وتتم بشكل وثيق بين كيان السلطة السياسية وكيان الدولة, حيث يأتي على رأس ذلك كيان مؤسسة الجيش بوصفها تشكل العمود الفقري الرابط بين كيان السلطة وكيان الدولة ففي حالة النظم الشمولية تبدو عملية التمييز والفصل بين كيان السلطة السياسية وكيان الدولة ( وكل مؤسساتها السيادية الأساسية ) محضاً من الوهم والعبث السياسي والفكري لا تصل بصاحبها إلا إلى الضلال والتضليل السياسي والفكري والنظري والمعرفي, وفي كثير من الحالات لا يوجد هذا الفصل إلا في ذهن من أجر عقله وفكره لكرسي السلطان المستبد أو في ذهن من رضع من حليب وثقافة نظم الاستبداد الشمولية الستالينية التي حكمت باسم الشيوعية، فهؤلاء يصح أن نطلق عليهم اسم اليسار العبودي المخاطي اللزج. وهنا ينبغي التأكيد على حقيقة أنه عندما تستولي النظم الشمولية على الدولة وتؤممها لصالحها فإنها بذلك تلغي الطابع والمضمون الوطني عن كل مؤسسات الدولة بدءاً بمؤسسة الجيش وصولاً لفريق كرة القدم ، وبلغة الفلسفة فإن الوطنية تصبح في هذه المؤسسات موجودة بالقوة وليست بالفعل، وبما يعني أن المضمون الوطني للدولة ولمؤسساتها لا يعود إلا بتحرير الدولة من السلطة التي سطت عليها واغتصبتها، فهنا فقط تصبح الدولة وطنية لا بالقوة وإنما بالفعل، إن النظم الشمولية تعلم أكثر من غيرها أن جيش الدولة في ظلها هو جيش النظام السياسي والسلطة السياسية لا جيش الوطن والشعب بل يمكن القول أن النظم الشمولية تعلم أن جيش الدولة هو جيش رأس النظام السياسي بالتحديد. لقد كان يعلم النظام السوري علم اليقين أن الجيش السوري هو في النهاية جيش بشار الأسد أو لنقل جيش بيت عائلة الأسد, فهو الجيش الذي تم بناؤه فرد اً فرداُ وصف ضابط بصف ضابط كما ضابط بضابط على يد عائلة الأسد الأب ( حافظ الأسد ) ثم الأبناء ( باسل وماهر ) ثم الابن القاصر بشار مع مساعديه من العصبية الطائفية التي ارتكز عليها النظام منذ نشأته, حيث تم بناء الجيش بطابع طائفي وعائلي صرف, وعلى هذا الأساس فقد أقدم النظام على زج الجيش في المعركة ضد الشعب الثائر دون تردد وخوف, فالنظام كان يعلم علم اليقين بأن القطعات العسكرية ( دعنا نقل القطعان العسكرية الطائفية ) التي يزجها بالمعركة والتي تشكل العمود الفقري للجيش السوري من ناحية التسليح والإعداد القتالي هي وحدات وقطعات عسكرية ( قطعان عسكرية ) ولاؤها لرأس النظام أكثر من ولائها للوطن السوري والشعب السوري, لقد جهز النظام منذ البداية التهمة ضد كل من يقاوم بطش الجيش فمن يرمي الجيش بحجر سيرمى بتهمة الخيانة والعمالة للخارج الإمبريالي، كما سيرمى بالمدافع والدبابات والطائرات وحتى بالأسلحة الكيميائية، لقد وقعت الكثير من النخب السياسية والثقافية وخاصة النخب اليسارية وذات الأصول اليسارية في هذا الشرك, وأقصد شرك الفصل بين السلطة السياسية وسلطة الدولة أو لنقل الفصل بين كيان السلطة وكيان الدولة, حيث اعتبرت هذه النخب أن إطلاق النار على الجيش هو إطلاق للنار على الدولة والوطن وأن الدعوة إلى الانشقاق عن الجيش ورفض الأوامر بإطلاق الرصاص على المتظاهرين هو عملية تهدف إلى تدمير الجيش والوطن والدولة السورية. فهذه النخب لا تدرك أن الجيش في النظم الشمولية التي ترتكز على العصبيات الطائفية أو القبلية ( الحالة العراقية والسورية واليمنية والليبية ) هي جيوش أنظمة أكثر منها جيوش دول وأوطان, ولا تدرك أن الدولة ذاتها هي دولة مؤممة لصالح رأس النظم الشمولية فهي دولة بيت الأسد، ألم يطلق على سوريا منذ نصف قرن سوريا الأسد؟؟؟ بالمحصلة فإن هذه النخب لا تدرك بأن الجيوش في ظل هكذا أنظمة هي جيوش فاقدة للطابع الوطني, وأن جيوش النظم الشمولية هي جزء عضوي من أجهزة ومؤسسات السلطة. لقد حقق النظام من عملية استجرار التدخل الخارجي ومن عملية زج الجيش في المعركة بأن وجد جوقة من النخب السياسية والثقافية ذات الأصول الشيوعية الكلبية الستالينية المجرمة تدافع لا عن النظام بوصفه نظاماً ممانعاً ومقاوماً للمشاريع الامبريالية والصهيونية في المنطقة العربية فحسب بل وجد من يدافع ويبرر الجرائم والأعمال البربرية التي يرتكبها النظام بحق السوريين
3 - لقد كان هدف النظام من زج الجيش السوري في معركته ضد الشعب هو أخذ كل الضباط وصف الضباط والمطلوبين إلى الخدمة الإلزامية في الجيش والمطلوبين للاحتياط كرهائن لدى القطعات والقطعان العسكرية الطائفية العلوية المسيطرة والمشرفة على تحركات كل العاملين في الجيش من ضباط وصف ضباط ومجندين في الخدمة الإلزامية أو في الاحتياط, وبالتالي وضع هؤلاء أمام ثلاثة خيارات صعبة ومصيرية بنفس الوقت, فإما أن يقوموا بإطلاق الرصاص على أهلهم في القرى والبلدات والمدن الثائرة أو الهرب والهجرة إلى خارج الوطن أو الانشقاق عن الجيش والانضمام والالتحاق بالمناطق الثائرة للدفاع عن أهاليهم الذي كانوا يتعرضون في كل يوم وفي كل ساعة لكل أنواع القتل والتنكيل والبربرية التي لم تعرف مثلها لا العصور القديمة ولا العصور الحديثة, وهنا كان يتم الدفع بالقوة باتجاه العسكرة كممر إجباري للشعب لا يمكن تجنبه وتفاديه ولا بأي شكل من الأشكال, وهنا نشأت النواة الأولى للجيش الحر من الضباط وصف الضباط والهاربين من الخدمة الإلزامية والاحتياط في الجيش السوري, ومع نشوء الجيش الحر والعسكرة على أرض الواقع كان يدفع النظام الثوار أكثر فأكثر باتجاه الاستعانة بالخارج, فالنظام كان يعلم أكثر من غيره أن العسكرة تتطلب دعماَ من طرف خارجي بالمال والسلاح, وهنا كان النظام يحول الصراع من صراع محلي سوري سوري إلى صراع إقليمي تتشابك فيه المصالح الإقليمية والدولية مع المصالح المحلية ولكن على حساب المصالح الوطنية السورية, كون الأطراف السورية هي الطرف الأضعف في هذه المعادلة والعلاقة, وهنا كان النظام يقوي ويمتن نظرية المؤامرة التي بناها واعتمد عليها من اليوم الأول من انطلاق الثورة السورية, وقد تم إعطاء دفع لنظرية المؤامرة من خلال عملية التآمر التي قام بها النظام بالتعاون غير المكتوب مع الأطراف الإقليمية والدولية " الداعمة " للمعارضة والثورة السورية عندما تم استبدال الجيش الحر بمجموعة فصائل عسكرية إسلامية تكفيرية ونصف تكفيرية .
ثالثاً : استخدام العنف والبربرية والحثالة من أجل توليد بربرية وحثالة مقابلة:
لقد مارس النظام القتل والبربرية بحق الشعب الثائر مستخدماً جيشه والقطعان الحثالية من شبيحته والقطعان الطائفية الحثالة من الميليشيات الطائفية اللبنانية والعراقية على مدار الساعة والأيام والأسابيع والأشهر والسنوات ومارس القتل في الشوارع والساحات ولاحق الموت والرصاص الثائرين إلى البيوت ثم إلى الجنازات والمقابر والحواجز والمعابر الحدودية وحتى مخيمات اللجوء في دول الجوار- فقد قصف النظام مخيم كلس في تركيا أكثر من مرة - كما قصف المدن والقرى بالدبابات والمدافع وصواريخ السكود وبالأسلحة الكيميائية المحرمة دولياً, لقد مارس حداً من العنف والبربرية لم يمارسه جيشاً محتلاً عبر التاريخ بحق شعب غريب وأجنبي, لقد مارس العنف بشكل متواصل على مدار الساعة والأيام والأسابيع والأشهر والسنوات على يد جيشه وقطعان شبيحته الطائفية, فلم يترك للبشر المنكوبين بتهديم بيوتهم فوق رؤوسهم وبموت أبنائهم وأقاربهم وأهل قراهم ومدنهم وبلداتهم, أقول لم يترك لهم فرصة وفترة من الزمن واستراحة ليضعوا حداً فاصلاً بين عالم الموت وعالم الحياة ولا فرصة ومساحة من الوقت كي يستخدموا عقولهم وتفكيرهم كي يتلفتوا من حولهم ليحددوا ويدققوا بالهوية الإيديولوجية والسياسية والشخصية والأهداف والمرامي للذين يحيطون بهم وللذين انبروا للدفاع عنهم وعن أعراضهم وممتلكاتهم وأولادهم وأقاربهم وأهل قراهم ومدنهم وبلداتهم, لقد كان هدف النظام من ذلك دفع المجتمع نحو الجنون السياسي المقابل لجنونه السياسي ونحو الجنون العسكري المقابل لجنونه العسكري, كما كان يهدف النظام إلى عدم ترك فرصة للمجتمع الثائر والجريح ليرى ويدقق في هوية القوى العسكرية التي انبرت للدفاع عنه, فكان سهلاً لا دخول الأراضي السورية لكل من ادعى أنه يريد الدفاع عن السوريين المظلومين فحسب بل كان سهلاً عليه أن يجد الحاضن الشعبي في المناطق التي تتعرض لكل أشكال وألوان القتل والدمار, ولهذا كان سهلاً أكثر أن تجد الفصائل الإسلامية المحلية والأجنبية والمختلطة الحاضن الشعبي في المناطق الثائرة أي كان سهلاً بلغة الأدب أن تركض الظباء إلى جانب الذئاب

كما كان يهدف النظام من سياسة استخدام العنف والبربرية المتواصلة إلى عدم ترك فرصة للمجتمع المنكوب كي يميز بين من هم في الأساس من حثالة المجتمع وبين من هم من النخب السياسية أو الاجتماعية المحترمة, فبهذا كان سهلاً أن تسيطر على المناطق المحررة الثائرة - عبر عملية وسلسلة من تعاقب وتبدل السيطرة - لا الفصائل العسكرية الإسلامية فحسب بل سيطرة الحثالة الاجتماعية والسياسية والدينية في تلك المناطق, إذ يكفي هنا إلقاء نظرة على أي منطقة في سوريا تم تحريرها من يد النظام وكيف تعاقبت السيطرة عليها حتى انتهت إلى يد الجماعات الإسلامية الأكثر جهلاً والأكثر انحطاطاً لا سيما بعد أن كان النظام قد زج في السجون بكل النخب الواعية في بداية الحراك الثوري السلمي، فالعنف والبربرية التي مارسها النظام لم تقد إلى إنهاء الحراك السلمي المدني في الشارع والمناطق الثائرة والمحررة, كما لم يقد إلى قطع رأس الثورة إن كان من خلال القتل والسحل أو من خلال زج الناشطين الثوريين في السجون بل إن ذلك فتح المجال لقاع المجتمع السوري وغير السوري – أقصد هنا من جاؤوا إلى سوريا من كافة أزقة العالم العربي والغربي من حثالات - بالمعنى الثقافي والاجتماعي والطبقي والمهني أن يتصدر قيادة الثورة والحراك الثوري في المناطق الثائرة, ومع تصدر قاع المجتمع للمشهد السياسي والإعلامي والثوري في المناطق المحررة توفر المناخ والتربة الخصبة لوقوع هذه القيادات ومعها الثورة والشارع الثائر في شباك الفصائل العسكرية الإسلامية المتعطشة لجر الشارع وخطف الثورة إلى برنامجها وخطها السياسي وفصائلها العسكرية التي أنشئت كبديل عن الجيش الحر، وقد ساعد النظام لتحقيق أهدافه هذه مجموعة الدول التي ادعت صداقتها للثورة السورية – وصمت المعارضة السورية عن كل القذارات التي كانت تولد على الأرض وفي الميدان - فهذه الدول كان لها مصلحة في أن تكون قيادة الفصائل العسكرية وحتى القيادات السياسية للثورة هم من الحثالات السياسية والاجتماعية والأخلاقية لسببين هما أولاً : كي يسهل على هذه الدول توجيه هذه الفصائل والقيادات وفق أجنداتها الخاصة، وثانياً : كي يتم حرف الثورة عن أهدافها من خلال عقول هذه الحثالات التي لم تعرف عقولها يوماً بشيء اسمة ثورة ديمقراطية، ومع قيام ونشوء هذه الفصائل الإسلامية وسيطرتها على المناطق المحررة والثائرة توفر الشرط اللازم والكافي لوجود وقيام البربرية المقابلة لبربرية النظام, وهنا نقول وباختصار إذا كانت بربرية النظام ناتجة عن عمله وسعيه إلى وقف تدفق التاريخ وتطوره في سوريا, فإن بربرية الطرف المقابل الإسلامي ناتجة من سعيه وعمله إلى العودة بالتاريخ نحو الوراء أو لنقل جر التاريخ نحو الوراء, لقد كان النظام يعلم حقيقة عدم التوازن في القوة والتدمير بين بربريته وبربرية الطرف الآخر الإسلامي, فقد مثل النظام بربرية قوية تمتلك كل جبروت القوة وإمكانيات التدمير في حين مثل الطرف الآخر بربرية غبية ومتخلفة وضعيفة من ناحية قدرتها على التدمير المادي، هكذا كان من الطبيعي والمنطقي أن ترد الفصائل الإسلامية التي تسيطر على المناطق المحررة بشكل غبي وبدائي على براميل النظام وعلى صواريخ السكود التي تطلق على المدن بشكل عشوائي من خلال إطلاق قذائف الهاون البدائية على المناطق التي يسيطر عليها النظام والتي كانت تصيب أهدافها العشوائية دون تمييز بين معارض أو موالي أو بين عسكري أو مدني, وكلنا يعلم أن هذه القذائف كانت تعطي للنظام الغطاء لإطلاق مئات القذائف المماثلة على المناطق التي يسيطر عليها واللقاء تهمة إطلاقها على فصائل المعارضة لتدعيم روايته أنه يحارب إرهابيين، كما كانت ترد على الخطف والقتل على أساس الهوية الطائفية بالخطف والقتل المقابل, وترد على عرض الجثث على الشاشات بعرض مقابل, وعلى أخذ الصورة التذكارية ( السيلفي ) مع جثث مقاتلي هذه الفصائل بأخذ الصور السيلفي مع جثث مقاتلي النظام, كما كان طبيعياً أن نجد ظاهرة التمثيل بالجثث سائدة لدى الطرفين, كما نجد هدف تحقيق أكبر قدر من الخسائر البشرية من عسكريين ومدنيين سائدة لدى الطرفين كذلك، إن من يقلب دفاتر وصفحات التاريخ القديم والحديث يجد أنها مليئة بالحروب القذرة, كما يجد أن التاريخ البشري عرف أنواعاً وألواناً كثيرة من هذه الحروب, كما ويجد أن أقذر أنواع الحروب هي تلك التي يكون فيها هدف الأطراف المتحاربة والمتصارعة هو لا تحقيق أكبر قدر من المكاسب العسكرية الميدانية على حساب الطرف الآخر, وإنما القضاء على أكبر قدر من الضحايا البشرية عند الطرف الآخر, أي يكون هدف الأطراف المتصارعة والمتحاربة ليس الانتصار العسكري الميداني على الطرف الآخر فحسب بل إبادته بالمعنى الشامل, وهنا نكون أمام تجسيد مشخص لحروب الإبادة الهمجية, وهي أقذر أنواع الحروب التي يعرفها التاريخ البشري في بعض محطاته وهذا النوع من الحروب غالباً تغذية المشاعر والغرائز الطائفية أو الدينية أو القبلية وأحياناً الكل معاً, وإذا كانت الحرب أي حرب هي السياسة وقد بلغت حد الجنون ( وهذا يتوافق مع مقولة كونها امتداد للسياسة بوسائل القوة ) فإنه في كثير من الحالات يكون لها قوانينها ونواميسها المعروفة عبر التاريخ, وبهذا المعنى هناك حد أدنى من العقلانية التي تحكم الأطراف المتصارعة والمتحاربة في الحرب, أما في الحالة التي تكون فيها الحرب منفلتة من عقالها ولا تحكمها القوانين والنواميس المعروفة بين البشر من مثل وضع أسرى الحرب والمعارك, ووضع الجثث المقتولة الميتة, ووضع المدنيين غير المشاركين في القتال وغير الحاملين للسلاح ...الخ, نقول في هذه الحالة نكون أمام نوع من الحروب لا تمتلك فيها الأطراف المتصارعة والمتحاربة حتى الحد الأدنى من العقلانية, أي نكون أمام الجنون العياني المشخص للسياسة وقد بلغ حدوده القصوى, أي نكون أمام نوع من الحروب الهمجية البربرية. .
الشروط التاريخية لنشوء وترعرع البربرية في سورية ( 8 ) lemonde.in 5 of 5
لومــــــوند : نبيل ملحم ثامناُ : استراتيجية النظام في جعل الظباء تركض وتحتمي بالذئاب الإسلامية والإقليمية والدولية : لا أتصور بوجود تع...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك