السياسة الاماراتية وتوالي الاخفاقات


لومـــــوند :
شهدت السياسة الإماراتية الخارجية عدة انتكاسات كشفت ضعفا ملحوظا في تدبيرها لملفات كانت تراهن عليها لدعما توازناتها الاستراتيجية في المنطقة. فبعد الخسارة التي منيت بها في القرن الأفريقي، حملت نتائج انتخابات تونس مؤشرا جديدا على هزيمة أبوظبي، فضلا عن اضطرار الإمارات إلى التدخل الخشن في جزيرة «سقطرى» اليمنية بعد رفض الحكومة الشرعية القبول بهيمنتها على الجزيرة. وحققت حركة «النهضة» التونسية، التي تمثل امتدادا لحركات الإسلام السياسي، فوزا كبيرا في الانتخابات البلدية التي انتهت مساء الأحد الماضي. إذ تمكنت من السيطرة على 12 بلدية من أصل 16، فيما فازت ببلدية العاصمة تونس «سعاد عبد الرحيم»، وهي مرشحة دعمتها «حركة النهضة» رغم أنها ليست عضوة بها. وستكون «سعاد» أول امرأة تشغل هذا المنصب في تاريخ البلاد. وحلّت حركة «النهضة» في المركز الأول من حيث حجم الأصوات التي حصدتها من الناخبين؛ حيث حصلت على أكثر من 27% من أصوات التونسيين، لتتفوق بذلك على حركة «نداء تونس» التي ينتمي لها الرئيس «الباجي قائد السبسي» والتي استقطبت 22% فقط من الأصوات. كما ألحقت «النهضة» هزيمة كبيرة بالقوى اليسارية والقومية في البلاد. انتخابات تونس لم تفرز فوز حركة «النهضة» بأغلبية مقاعد المجالس المحلية فقط، بل أفرزت أيضًا تقهقر العديد من الأحزاب التي تصدر قياديها البرامج التليفزيونية والإذاعية لأشهر قبل الانتخابات، وكانت تروج لنفسها أنها البديل الذي سيحكم تونس في الفترة المقبلة. أحزاب تلقت المال الكثير والدعم الوفير من دول أجنبية عديدة، على رأسها الإمارات، التي تكن كل العداء لتونس وثورتها التي كانت مهد ثورات الربيع العربي، حسب مراقبين. وهو دعم سعى من خلاله «آل زايد» إلى إفشال انتخابات تونس ووقف قطار الديمقراطية في البلاد، غير أنها فشلت هذه المرة أيضًا. فعلى سبيل المثال، حقق حزب «مشروع تونس» الممول إماراتيا نتائج هزيلة. وتقول وثائق مسربة تم كشفها في وقت سابق إن الأمين العام للحزب «محسن مرزوق» التقى مع ضباط في جهاز أمن الدولة الإماراتي في أكثر من مكان من ذلك تونس، وتلقى تمويلاً من أبوظبي. حليف «مشروع تونس» في «الائتلاف المدني» حزب «آفاق تونس»، الذي يقوده «ياسين إبراهيم»، هو الآخر لم ينجح إلا في بعض البلديات؛ حيث لم يكسب سوى عدد قليل من المقاعد لا تتجاوز العشرات من جملة 7 آلاف و212 مقعدًا في 350 دائرة بلدية، محققًا نسبة 1.06%. وتمثل هذه النتائج تأكيداً لفشل مشروع الإمارات في تونس؛ حيث تأتي هذه الانتخابات بعد خمس سنوات على الانقلاب العسكري في مصر، وبعد سنوات من الحملة الإعلامية الممنهجة التي تمولها الإمارات في تونس لتشويه حركة «النهضة». ويشير مراقبون إلى أن جرائم الاغتيال التي استهدفت قادة اليسار خلال فترة حكم حركة «النهضة»، التي كانت تهدف لخلط الأوراق في تونس وإشعال فتنة داخلية فيها فشلت أيضاً. ولعل تجديد انتخاب الحركة يؤكد أن الشعب التونسي يعي بأن تلك الأحداث كانت مؤامرة تهدف لضرب الثورة التي أطاحت بالنظام السابق، وإفشال التحول الديمقراطي في البلاد. كما أظهر التوتر الأخير الذي شهدنه جزيرة سقطرى اليمنية، نهاية الأسبوع الماضي، ارتباكا إماراتيا واضحا؛ فقد وصلت طائرات عسكرية إماراتية فجأة إلى مطار سقطرى، تزامنا مع زيارة كان رئيس الوزراء اليمني «أحمد عبيد بن دغر» يقوم بها على رأس وفد مكون من عشرة وزراء. ويبدو أن الهدف من زيارة «بن دغر» كان التأكيد على سيادة الحكومة الشرعية على سقطرى؛ لا سيما بعد أن رفع ناشطون، مطلع مارس/آذار الماضي، تقريرا إلى الرئيس «هادي»، تضمن اتهامات للإمارات، ثاني أكبر قوة في التحالف العربي، ببسط سيطرتها الكاملة على المحافظة واستغلال تنوعها الحيوي. اللافت في التطورات الأخيرة أن ما جرى في سقطرى تم تنفيذه بتدخل مباشر من القوات الإماراتية، وليس من قبل وكلاء أبوظبي الذين منعوا مرات عدة رئيس الحكومة ومسؤوليها من التنقل بين المحافظات المحررة؛ ما قد يشير إلى أن أبوظبي أدركت أن الجزيرة اليمنية أصبحت عصية على مؤامرات احتوائها ما تطلب تدخلا مباشرا. فقد جاءت زيارة رئيس الحكومة اليمنية للجزيرة في أوج ترتيبات أبوظبي لإحكام السيطرة عليها، كما فعلت في جزيرتي باب المندب وميون الاستراتيجيتين، وهو ما يفسر الانزعاج الشديد الذي أبدته السلطات الإماراتية. ولعل مشهد الحشود التي استقبلت «بن دغر» ورفعت الأعلام اليمنية، وليس أعلام «الجنوبيين» إلى جانب صور الرئيس «عبدربه منصور هادي»، إضافة إلى إطلاق الحكومة مشروعات تنموية في الجزيرة، ساهم في إشعال غضب الإمارات التي تريد الانفراد بالسيطرة على الجزيرة. ولعل الأخطر في هذا التطور هو ما قد يبدو ثقبا في جدار العلاقات السعودية الإماراتية؛ حيث أوضحت اللجنة السعودية التي تم إيفادها لحل أزمة الجزيرة، في اجتماع لها مع السلطة المحلية لسقطرى، أن هناك توجيهات من ولي العهد السعودي الأمير «محمد بن سلمان»، بعودة القوات الإماراتية بعد أيام. ولعل ذلك كان السبب الذي دفع المندوب الإماراتي إلى مغادرة الاجتماع وقد بدت عليه علامات الانزعاج والغضب مع اثنين من مرافقيه، دون أن ينتهي الاجتماع إلى أي اتفاق. ولم تجد أبوظبي في جعبتها الدبلوماسية ما تستطيع المناورة به؛ فواصلت ردودها المتشنجة بإرسال طائرة عسكرية جديدة، وعلى متنها 4 عربات عسكرية، ليصل إجمالي عدد الطائرات العسكرية التي أرسلتها أبوظبي منذ اندلاع الأزمة إلى 5 طائرات. وقد تركت هذه التطورات آثارها داخل التحالف العربي بالرغم من الشكوك المثارة حول حقيقة موقف السعودية؛ حيث يرى مراقبون أنها لا تتصرف كقائد للتحالف وإنما كمتواطئ مع مشروع الإمارات للسيطرة والتقسيم في اليمن، وأن هناك تبادل أدوار بين السعودية والإمارات. ومما ساهم في تأزم موقف الإمارات هو انتفاء أي مبرر مقبول لسيطرة أبوظبي على «سقطرى»، فلا يوجد فيها «حوثيون» ولا تنظيمات إرهابية، بل إنها من أقل المناطق بالعالم في مستوى الجريمة. كما ظهرت عدة مؤشرات في الآونة الأخيرة تشي بأن القرن الأفريقي بدأ يضيق ذرعا بالممارسات والتدخلات الإماراتية التي تخفي مطامع أوسع وأهدافا أعمق، تغذي السير وتحث الخطى نحوها دون تدرج. وتتعلق أهم هذه المؤشرات بفسخ عقود في بلدين مهمين في القرن الأفريقي مع شركة «موانئ دبي» أحد أهم الأذرع الاقتصادية لدولة الإمارات، كانت تدر أرباحا وتوفر حضورا جيوسياسيا لأبوظبي في منطقة ازداد التكالب الإقليمي والدولي عليها في السنوات الأخيرة. وتمكنت الإمارات خلال السنوات الماضية -وربما في غفلة من العديد من الفاعلين الإقليميين والمحليين- من إيجاد مواطئ أقدام لها في أغلب دول القرن الأفريقي، وتحقيق شراكات متعددة تنوعت بين الحضور الاقتصادي الذي تقود قاطرته «موانئ دبي»، والعسكري عبر استنبات قواعد عسكرية لا تتوفر الكثير من المعطيات عن أهدافها ومجالات تركيزها، وإن تم تسويقها غالبا في الأوساط المحلية عبر ذرائع تدريب الكوادر العسكرية المحلية ورفع الكفاءة العسكرية للدول المستضيفة. وساهم الحضور التركي بدعم من قطر في تراجع النفوذ الإماراتي، في منطقة القرن الأفريقي المطلة على طرق التجارة الدولية البرية والبحرية، والتي تمثل نقطة اتصال مع الجزيرة العربية الغنية بالنفط، والموانئ الاقتصادية الحساسة الموجودة هناك، كما أن حاملات النفط والغاز والبضائع وحتى الأسلحة تمر من تلك المنطقة. ورغم أن التململ داخل القرن الأفريقي من الدور الإماراتي كان يختمر منذ فترة، فقد تسارعت وتيرة رفض هذا الحضور وبشكل علني خلال الأسابيع الأخيرة، وكانت البداية حين أعلنت جيبوتي إنهاء عقد الامتياز الممنوح لشركة «موانئ دبي» والقاضي بأن تشغل الشركة الإماراتية لمدة 50 عاما ميناء «دوراليه» للحاويات، أكبر ميناء أفريقي للحاويات على البحر الأحمر. وحتى إن تمكنت موانئ دبي لاحقا من العودة إلى جيبوتي عبر التحكيم الدولي أو بتفاهمات جديدة، فالراجح أن الجيبوتيين لن ينسوا تصريحات رئيس مجلس إدارة «موانئ دبي»، «سلطان أحمد بن سليم»، التي قال فيها: «جعلنا من الجيبوتيين بشرا، لكننا سنرجعهم كما كانوا». ولم تقتصر انتفاضة القرن الأفريقي ضد الوجود الإماراتي على جيبوتي؛ فقد لحقت بها الصومال التي استثمرت فيها الإمارات سنين عديدة، قبل أن يتبدى للمسؤولين الصوماليين ما جعلهم يشكون في الدور الإماراتي ويعتبرونه خطرا على سيادة بلادهم. ففي مطلع مارس/آذار الماضي، وقعت شركة «موانئ دبي» مع كل من إقليم أرض الصومال (مناطق بشمال الصومال أعلنت انفصالها عن بقية الصومال من جانب واحد عام 1991) وإثيوبيا، بشأن الإدارة والاستثمار في ميناء «بربرة» على ساحل البحر الأحمر، وتوزيع حصص العائدات بواقع 51% لـ«موانئ دبي» و30% لأرض الصومال و19% لإثيوبيا. وعلى الفور رفضت حكومة الصومال الاتفاقية الثلاثية واعتبرتها باطلة وغير قانونية، ولاحقا وافق أعضاء البرلمان الصومالي بأغلبية كبيرة على قرار يمنع شركة «موانئ دبي» من العمل داخل الأراضي الصومالية، كما تقدمت حكومة الصومال بمذكرة احتجاج إلى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية تطالب فيها برفض اتفاقية «بربرة». ولا يبدو وضع الإمارات بخير في إرتيريا التي تواجه فيها منافسة من خصوم لها من بينهم إيران، كما أن إثيوبيا وإن كانت اشتركت معها في اتفاقية ميناء «بربرة» بأرض الصومال فإنها تنظر بريبة وتوجس إلى حضورها في القرن الأفريقي. وإجمالا، يمكن القول إن الإمارات تمر بمرحلة خريف قاسي، ستلقي بظلالها بالضرورة على المنطقة بأسرها، فإما أن تدفع تلك الخسائر أبوظبي لمراجعة سياساتها الخارجية التي خلفت توجسا ورفضا متزايدا لأي دور تقوم به، أو تحاول الإمارات الدفاع بشراسة عما تبقى لها من نفوذ فضلا عن استرجاع ما فقدته بغض النظر عن تكلفة ذلك من الأرواح والأموال، الأمر الذي قد يزيد المنطقة اضطرابا واشتعالا.
السياسة الاماراتية وتوالي الاخفاقات lemonde.in 5 of 5
لومـــــوند : شهدت السياسة الإماراتية الخارجية عدة انتكاسات كشفت ضعفا ملحوظا في تدبيرها لملفات كانت تراهن عليها لدعما توازناتها الاسترات...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك