أمريكا وترقيص المطامح العثمانية والفارسية على جثة شعوب المنطقة


لومـــــوند : نبيل ملحم :
من المؤكد أن أصحاب القرار في العواصم الغربية والإقليمية كانوا يعلمون كما نعلم جميعاً أن تركيا في العشر سنوات التي سبقت الربيع العربي كانت قد خطت خطوتين هامتين كدولة ومجتمع ونظام سياسي حيث كان أولاً: نهوضها ونموها الاقتصادي الداخلي وثانياً : كان خروجها الاقتصادي والسياسي إلى خارج حدودها القومية ولا سيما في محيطها العربي وبما يعني عملها على بناء نفوذ على المستوى الإقليمي من جهة ووضع هذا النفوذ في مواجهة النفوذ الإيراني الفارسي من جهة ثانية . ومع بداية الربيع العربي حاولت تركيا الأردغانية صاحبة الإنجازات في السنوات التي سبقته أن تكمل ما قد بدأته في عملية توسيع نفوذها في المنطقة وذلك من خلال العمل على تحويل الربيع العربي إلى ربيع إسلامي بحيث يكون مكمل للمشروع الإسلامي الذي يتبناه حزب العدالة والتنمية التركي بقيادة رجب طيب أردغان وحيث هنا يحدو تركيا الأمل في إحياء مجد وقوة إمبراطورتيها العثمانية بعد حوالي قرن من انهيارها . وأمام هذا الطموح والصعود التركي كانت أنظار الغرب بشكل عام والأمريكان بشكل خاص يراقبون المشهد ويتفاعلون معه - ولكن بعد الربيع العربي - لا كمراقبين وإنما كمشاركين في صناعة المشهد الكلي في المنطقة أي المشهد في تركيا ومحيطها وقد كانت الاستراتيجية الامريكية في صناعة المشهد الكلي تقوم على :
أولاً : الاستفادة من الطموحات التركية إلى حين تفريغ الربيع العربي من محتواه التحرري .
وثانياً: وضع حد للطموحات التركية أو لنقل تطويع هذه الطموحات ورسم سقفها وحدودها لا على صعيد دورها الإقليمي فحسب بل حتى على صعيد وضع ما يمكن تسميته بالعراقيل أمام اندفاع التطور التركي الداخلي . على هذا الأساس غضت الولايات المتحدة الأمريكية الطرف عن الدور والطموح التركي في الساحة السورية عندما عملت مع بعض حلفائها الإقليميين على أسلمة الربيع السوري , ولكن وبعد أن أيقن الأمريكان أن الربيع السوري سار بالاتجاه الذي أرادوه وبعد أن عقدوا صفقة مع الإيرانيين من جهة ومع الروس من جهة أخرى لتحديد لا مصير الثورة السورية فحسب بل مصير المنطقة برمتها فإنهم قاموا بالانعطاف بعكس الطموحات الأردغانية كما عكس طموحات الشعب السوري وهنا وجد الأمريكان بضرورة توجيه رسالة إلى تركيا الأردغانية تقول أن حصتها بالمنطقة هي غير ما تطمح إليه وإن من يحدد هذه الحصة في سوريا هو ما اتفقت عليه مع موسكو . وقد وجد الأمريكان أولاً بالقضية الكردية وتحديدا بحزب- ب- ي - د والتهديد بإقامة كيان قومي كردي شمال سوريا وعلى الخاصرة التركية خير عصا ليضغطوا بها على تركيا كي يطوعوها باتجاه الحل الروسي الأمريكي كما وجدوا في الانقلاب العسكري الخطوة الثانية والشعرة التي قصمت ظهر الطموحات الأردغانية العالية المتمثلة بوضع الساحة السورية كلها تحت العباءة التركية , وبما يعني ضرورة الاستدارة والتوجه إلى موسكو فورا فهناك الوكيل والشريك الذي كلف بتلقين كل الأطراف الإقليمية فحوى الحل وحجم الحصص لكل طرف في الساحة السورية . وقد جاء الاعتذار الأردغاني من بوتين على اسقاط الطائرة الروسية على الحدود السورية التركية وبعدها الزيارة التي قام بها أروغان إلى موسكو بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة كتعبير عن فهم الرسالة الأمريكية من جهة وكتعبير عن الحرد والزعل التركي من حلفائهم الغربيين حيث حرصت هنا القيادة التركية بإيصال رسالة تقول أن ثمة حليف وبديل دولي يمكن التعامل معه والتوجه إليه بدل الغرب وبدل الوقوف أذلاء على عتبات الاتحاد الأوروبي لعقود ودون أن ينالوا الرضا على تجاوز هذه العتبات باتجاه الداخل الأوروبي , فالأتراك –وكأي إنسان عاقل – لم يمكن لهم أن يصدقوا أن الانقلاب العسكري قام وتحرك من دون معرفة الولايات المتحدة الأمريكية به وهي الدولة التي تمتلك كل مقومات المعرفة والقوة الاستخباراتية وغيرها في الساحة التركية هذا أولاً , وأستطيع أن أجزم ثانياً : أن هذا الانقلاب ما كان له أن يقوم ويتحرك من دون ضوء أخضر أمريكي ولو على طريقة الضوء الاخضر الأمريكي الذي شجع وورط الرئيس العراقي صدام حسين على غزو الكويت في بداية التسعينيات من القرن الماضي , وثالثاً : أستطيع أن أجزم أن هذا الانقلاب تم إحباطه أمريكيا بنفس الوقت أو لنقل أن الإدارة الأمريكية كانت تعلم مسبقا بأنه لا فرصة لنجاحه على ضوء معرفتها كما نعلم جميعا وزن القوى المناهضة لانقلاب عسكري كهذا لا في صفوف حزب العدالة والتنمية الحاكم بل على نطاق عموم القوى المشكلة للخريطة السياسية للمجتمع التركي المعادية لعودة العسكر إلى السلطة , والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا أحدث هذا الانقلاب بإشارة أمريكية رغم إدراك الأمريكيين بعدم وجود أي فرصة لنجاحه ؟؟ أولاً : يمكن القول إن الوظيفة المباشرة لهذا الانقلاب كانت توجيه رسالة إلى الرئيس أروغان بأن عليه الانصياع إلى الاستراتيجية الأمريكية التي أصبحت معالمها واضحة بعد أن تم الاتفاق عليها مع الروس والإيرانيين وبأن على أردغان أن يقوم باستدارة معاكسة لما كانت وجهته وطموحاته في بداية الربيع السوري , أي إن عليه أن يتناغم مع ما توصلت إليه مع روسيا حول اقتسام الكعكة السورية وبما يعني بأنه يتوجب عليه التوجه إلى موسكو التي أوكل إليها دور المشرف على توزيع الحصص بالوكالة عن أمريكا التي وضعت نفسها وقادت العملية من الخلف ثم ثانياً : إن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن تريد من هذا الانقلاب سوى إحداث بداية عدم الاستقرار في تركيا أو لنقل ما يمكن تسميته بداية وضع تركيا في طريق عدم الاستقرار الساسي والمجتمعي وحتى الكياني ونقصد هنا النيل من وحدة وتماسك المجتمع التركي المتعدد الهويات الدينية والقومية هذه البداية التي انطلقت مع الإجراءات التعسفية المبالغ بها التي تمثلت بردة فعل حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردغان والتي وإن لم تلق أي ردة فعل مناهضة ومقاومة لها داخل المجتمع التركي في المدى القريب خوفا من البطش بها تحت ذريعة المشاركة في الانقلاب ومعاداة الديمقراطية إلا أن هذه الإجراءات ستلقى باعتقادي مقاومة من قبل شرائح اجتماعية وسياسية داخل المجتمع التركي في المدى المنظور والبعيد وستفتح صراعا لن يكون بمقدور أحد أن يتنبأ بنتائجه سوى القوى والدول الفاعلة والمسيطرة والتي تمتلك الأدوات والأوراق إن كان داخل المجتمع التركي أو في محيطه الإقليمي والذي يترتب دائماً على ضوء المصالح والرغبة الأمريكية , وهنا علينا أن ندرك أن الولايات المتحدة الأمريكية تعلم بشكل مسبق كما يعلم الكثيرون بأن أردغان سيستغل محاولة الانقلاب الفاشلة لتصفية خصومة وحساباته الداخلية داخل المجتمع التركي وبما يعني أنه سيندفع بكل قوة وإصرار إلى ما يحلم به من أخونة الدولة التركية وبما يعني كذلك ،نه سيقوم بهدم الدولة العميقة التابعة للعسكر من داخل كيان الدولة ليبني بدلاً عنه وفي مكانه الدولة العميقة التابعة لحزب العدالة والتنمية الإسلامي وهو الأمر الذي سيقود في المدى المتوسط والبعيد إلى فتح صراع وجودي وصراع هويات داخل المجتمع التركي بين أنصار اسلمة الدولة وأخونتها وبين أنصار علمانية الدولة وهذا الصراع لن يكون بمقدور أحد أن يتنبأ بنتائجه الأخيرة كما قلت أعلاه غير القوى الدولية الفاعلة في تركيا وفي محيطها. إن الأمريكيين في تركيا كما في سوريا وكما في كل عموم المنطقة ( ليبيا واليمن والعراق ) تقوم استراتيجيتهم وترتكز على خلق الشروط والمناخ اللازم لخلق عدم الاستقرار في هذه الساحات . وبما يعني خلق الشروط اللازمة والمناسبة للفوضى والدمار وعدم الاستقرار الشامل وعدم البناء في أي مجتمع من مجتمعات المنطقة . إن الأمريكان والأوروبيين معاً لا يمكن لهم في العصر الراهن أن يقبلوا بتركيا إمبراطورية عثمانية جديدة على حدود مجتمعاتهم أو لنقل على تماس مع القلعة القديمة للرأسمالية الأوروبية في حين نجد أن الأمريكان ومعهم الأوروبيين يقبلون بإيران ومشروعها ونفوذها في المنطقة وهو الأمر الذي يفسر عدم وقوفهم بحزم وجدية في مواجهة النفوذ والسياسة الإيرانية في المنطقة , ويعود السبب في عدم وجود هذا التخوف من المشروع الإيراني في المنطقة أولاً: لكون النفوذ الإيراني محمل بالأساس على مشروع طائفي مذهبي يشكل المحرك اللازم والضروري لخلق وتجسيد ما يلزم نظرية واستراتيجية الفوضى الخلاقة الأمريكية إن لم نقل أن هذا المشروع أصبح جزءاً عضوياً من الأدوات اللازمة لانطلاق وبدء الفوضى الخلاقة وثانياً : كون إيران معزولة جغرافيا وبشريا عن الأوربيين قياسا بتركيا التي تلاصقهم وتجاورهم , ثم إن إيران محاصرة مذهبيا من كل الجهات وهو الأمر الذي يجعل أقصى ما يصل إليه نفوذها محصور في دائرة ومحيط معادي لمشروعها الطائفي حيث نجد باكستان النووية وأفغانستان طالبان وتركستان من الشرق ونجد دول الخليج العربي بقيادة السعودية كحائط صد أول وجمهورية مصر كحائط صد ثاني من الغرب ونجد في الشمال حائط الصد التركي العثماني , أي إن الأمريكان ومعهم الغرب يعلمون أن إيران مهما تمادت في المنطقة فإنها ستبقى محاصرة – داخل هلال - ومستنزفة ولا يمكنها الخروج إلى أبعد من جغرافيا المنطقة وثالثاً : إن الأمريكان والأوروبيين لا يخافون المشروع الإيراني لكون هذا المشروع سيكون في حالة استنزاف وصراع لا يهدأ مع محيطة البشري المعادي له ثقافيا ومذهبيا الأمر الذي يعني أنه سيشكل العامل الأساسي في استنزاف مقدرات وطاقات شعوب وحكومات المنطقة . ورابعاً : إن هذا المشروع مفيد لكونه يصب في خدمة الاستراتيجية الأمريكية التي تقوم في المدى القريب على تفكيك الهويات السياسية الكيانية التي صيغت في سايكس - بيكو وحيث تعمل السياسة الأمريكية الراهنة على رسم وبناء هويات سياسية كيانية جديدة للمنطقة أي ما يمكن تسميته بسايكس - بيكو جديد سيبدأ من الساحات العربية وسيتمدد على المدى المتوسط والبعيد ليشمل الساحة الايرانية والتركية وحيث أتى الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا ثم الانقلاب الأردغاني – بحجة محاسبة الانقلابيين- ليشكلا بداية عدم الاستقرار في تركيا مضافا إليها ما سيتبع من تداعيات على الساحة التركية والإيرانية الناتجة عن أي شكل من أشكال إعطاء الحقوق والكيانية الذي قد يعطى للأكراد إن كان في الساحة العراقية أو السورية .
أمريكا وترقيص المطامح العثمانية والفارسية على جثة شعوب المنطقة lemonde.in 5 of 5
لومـــــوند : نبيل ملحم : من المؤكد أن أصحاب القرار في العواصم الغربية والإقليمية كانوا يعلمون كما نعلم جميعاً أن تركيا في العشر سنوات ا...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك