الاسلمة وخسارة الثورة السورية لقوتها الناعمة وتآكل تفوقها السياسي والثقافي والأخلاقي (1)

لومـــــوند : نبيل ملحم
يخطئ كثيراً من يظن أن الثورات الاجتماعية أو السياسية قد انتصرت عبر التاريخ من خلال القوة الخشنة العسكرية المادية للثورة, فمن يفتش في بطون التاريخ والثورات يجد أن القوة الناعمة للثورات كانت الأساس الذي بني عليه الانتصار, كما هي الأساس الذي جذب إلى صفوف الثورة الحلفاء والمناصرين والمتعاطفين, وبلغة الأدب نقول إنها الأساس الذي يجعل كل الأمطار التي تتساقط على السفوح المحيطة بالثورة تصب في مجراها وتسير في مسارها وطوفانها، فالثورة أي ثورة تعلن عن نفسها وعن أوجاعها وهمومها وما تصبو إليه عبر قوتها الناعمة أي عبر شعاراتها السياسية وثقافتها وقيمها الأخلاقية والأوجاع الإنسانية التي تعبر عنها وتصدر منها, فالقوة الناعمة للثورة هي القيم الثقافية والأخلاقية والسياسية التي تطلقها الجماهير لتشكل السيل الجارف الذي يهدر راعداً واعداً ويجرف في مجراه كل من يسمع صوته حتى ولو من بعيد، فقوة أي ثورة لا تكمن في كونها تضم في صفوفها العدد الأكبر من البشر، بل يأتي تفوقها من تفوق الكتلة الأخلاقية والإنسانية والسياسية التي تندفع وتتدفق من البشر المنخرطين في تيارها ومجراها, إنها الجمرة الساخنة السياسية والثقافية والأخلاقية التي تقول كفى لسيادة السائد البارد والمتعفن الطبقي والسياسي والأخلاقي للنظام القديم, إنها القوة التي ترفع قبة السماء لتكشف عن أفق جديد وفضاء جديد مختلف نوعياً عن الأفق والفضاء القديم الذي كان يعيش في ظله البشر. فالثورة أي ثورة تبدأ بإشعاعها الداخلي والخارجي الأخلاقي والثقافي والسياسي قبل أن تبدأ قواها الحية المادية العسكرية أو الاقتصادية بالانتشار والتمدد في ساحتها أو إلى خارج ساحة تفجرها, إن الفرنسيين الذين فجروا ثورتهم البرجوازية الديمقراطية في القرون الماضية خرجوا إلى كل أرجاء وأصقاع المعمورة بالقيم والثقافة البرجوازية الجديدة قبل أن يخرجوا بجيوشهم وعساكرهم الى ما بعد البحار والمحيطات , كما إن الثورة البلشفية الاشتراكية خرجت من ساحتها إلى كل العالم في بداية القرن العشرين واحتلت عقول وقلوب ملايين البشر قبل أن تخرج بجيوشها الحمراء إلى خارج حدودها السوفييتية. إن الثورة أي ثورة تمتلك نوعين من القوة, قوة ناعمة أخلاقية وثقافية وسياسية وقوة خشنة مادية مكونة من الجماهير الثائرة المدنية والعسكرية, حيث تشكل القوة الناعمة الكاسحة والفاتحة للطريق الذي تسير عليه القوة الخشنة المادية, فكل جيوش النظم القديمة وأجهزتها القمعية تمت استمالتها أو تحييدها وتم التغلب عليها وفصلها عن السلطات السياسية والنظم التي تستخدمها لقمع الثورات من خلال القوة الناعمة فالقوة الناعمة للجماهير المنتفضة, والمتدفقة من معاناتها وآلامها هي التي تجعل الجيوش والأجهزة الأمنية القمعية التابعة للنظم تصطف إلى جانب الثوار المنتفضين, وهي التي تجعل هذه الجيوش تطلق النار على أنظمتها القديمة بدل أن تطلق النار على المتظاهرين الثائرين, فالقوة الناعمة هي من تؤمن وتوفر المادة الكيميائية اللازمة والضرورية لفصل وفك الارتباط بين النظم السياسية وجيوشها وأجهزتها القمعية والأمنية, كما تؤمن فك الارتباط بين هذه النظم وقاعدتها الاجتماعية الطبقية السياسية وحتى بشكل جزئي قاعدتها الطائفية أو القومية ...الخ, وهي التي تؤمن للثورة لا فائضاً بشرياً من الناحية العددية فحسب بل فائضاً أخلاقيا وسياسياً وثقافياً يجعل من عملية الانتصار عملية حتمية لا مفر منها. فمن دون أن تظهر الثورة تفوقها الأخلاقي والثقافي والسياسي تكون قد خسرت المعركة العسكرية قبل أن تبدأ بشكلها الحقيقي وتكون الثورة قد حاصرت نفسها وكيانها وغيرت مجراها الحقيقي, ولا تعد كل الأمطار المتساقطة على سفوح الثورة تصب في مجراها ومسارها الذي بدأت فيه بالأساس. لقد كان النظام السوري ومنذ اليوم الاول لاشتعال الثورة السورية على دراية ووعي تام لمخاطر القوة الناعمة للثورة السورية وهو الامر الذي دفعه كأي نظام يعمل للدفاع عن نفسه بمواجهة ثورة إلى نعت ووصف الثوار بالطائفيين والمندسين والارهابيين والعملاء, فالنظام بعمله هذا لم يكن يهدف الى تشويه سمعة الثورة وقوتها الناعمة السياسية فحسب بل كان يسعى من خلف ذلك الى شد العصب الطائفي للقاعدة الاجتماعية الطائفية التي يرتكز عليها, أي كان يسعى الى تمتين المادة اللاصقة بينه وبين ذراعه العسكري والاجتماعي حيث تكون قوة الربط هنا اقوى من القوة الناعمة للثورة القادرة على فك الارتباط بينه وبين الاذرع العسكرية والاجتماعية, وهنا علينا ان نشير الى حقيقتين لا يمكن انكارهما ولا يجب علينا تجاوز المرور عليهما, الحقيقة الاولى هي انه في شروط الحالة السورية حيث قام النظام على مدى خمسة عقود من الزمن ببناء مؤسسة عسكرية تابعة له من خلال سيطرة قطعات وشخصيات عسكرية منتقاة وتابعة له بشكل مباشر على كل مفاصل هذه المؤسسة, يضاف الى ذلك ممارسة اقصى حالات القمع والبربرية لكل من تسول له نفسه الانشقاق عن هذه المؤسسة ولا سيما في المرحلة التي وضعت فيها هذه المؤسسة في مواجهة ثورة شعب يريد اسقاط النظام, اقول في مثل هكذا شروط لم تكن القوة الناعمة لأي ثورة في التاريخ قادرة على فك الارتباط بين النظام وهذه المؤسسة وهو الامر الذي يفسر عدم حدوث انشقاقات داخل هذه المؤسسة الا بشكل فردي. ولكن بنفس الوقت من المهم الاشارة الى ان اسلمة الثورة السورية وطغيان الخطاب الطائفي الديني في مرحلة لاحقة بعد ان تمت الاسلمة وتكرست لا في الخطاب والشعارات والواجهات التي تصدرت التمثيل السياسي للثورة فحسب بل في ظهور الفصائل الاسلامية مع كل ممارساتها وخطابها الديني التكفيري الطائفي قاد الى تمتين العصب الطائفي للجهة المقابلة والذي سعى اليه النظام عبر كل سنوات حكمه وفي زمن الثورة بشكل اكثر، فهنا ينبغي القول بانه اذا كان صحيحا استحالة فك الارتباط بين النظام وقاعدته الاجتماعية الطائفية وبما يعني استحالة جرها الى صفوف الثورة الا انه يجب القول في الوقت ذاته بانه لو لم تتم هذه الاسلمة فان هذه القاعدة التي اعتمد عليها النظام ما كان لها ان تصل الى حد استعدادها للدفاع عن النظام الى اخر نفس واخر قطرة دم تجري في عروق ابنائها فلولا اسلمة الثورة لما كان النظام قادرا على جر كل قاعدته الاجتماعية من حالة عدم الرغبة في المشاركة بالثورة الى حالة الرغبة في المشاركة في قمع الثورة ودفعها وبشكل موسع لتقديم الغالي والنفيس والى ما لانهاية وبإرادتها وكأنها تدافع عن نفسها وكيانها وليس عن كرسي حكم نظام عائلي فاسد ومفسد ومجرم، أي اذا كان صحيحا ان محافظتي طرطوس واللاذقية لم يكن لهما ان تصبحا عاصمة للثورة السورية او لنقل لم يكن لهما ان تشاركا بالثورة حتى ولو لم تتم الاسلمة الا ان الصحيح كذلك هو ان الاسلمة هي من حولهما الى عاصمتين لا تنضبان في تقديم الغالي والنفيس من اجل القضاء على الثورة التي رأوا فيها مع الاسلمة خطرا لا يهدد وجود النظام وانما خطر يهدد وجودهم كطائفة لها ذاكرتها التاريخية التي لطالما لعب النظام عليها وابقاها حية يقظة، ما اريد قوله ان الاسلمة رفعت عند ابناء الطائفة العلوية منسوب الكراهية ضد الثورة فالقاعدة الاجتماعية للنظام لو لم تتم الاسلمة اعتقد بانها كانت ستصل الى مرحلة يصيبها الانهاك والتعب واعادة الحسابات والوعي بكل مخاطر المستنقع الذي يجرها اليه النظام وهو الامر الذي كان يمكن ان يصل بهذه القاعدة بالحد الادنى الى مرحلة التوقف عن تقديم كل ما تملك وعلى نطاق موسع شمل لا فقراء الطائفة العلوية وعامة الناس التي بدأت تهتف للقتل بل وصل الامر الى النخب السياسية والثقافية داخل الطائفة العلوية التي لطالما عارضت النظام ودفعت ضريبة عالية من حياتها ودمها في مواجهته فمع الاسلمة تحولت الغالبية العظمى من هذه النخب الى موقف المتفرج على الاحداث وفي حالات تحولت بوعي منها او بدون وعي الى ابواق تبرر القتل وقمع الثورة أي ان الاسلمة جردت الثورة من أي امكانية وفرصة لبعث رسائل تطمين تنزع الخوف والرعب والرهاب الذي صنعه النظام في نفوس الطائفة العلوية على مدار خمسة عقود من الزمن. كما يمكن القول بانه لولا الاسلمة لتوقفت القاعدة الاجتماعية للنظام عن الانجرار الى ظاهرة تعميم ممارسة العنف المحمل بشحنة طائفية بدائية بربرية مع ما كان لهذا النوع من العنف من تداعيات على تمزيق النسيج والهوية الوطنية السورية الذي كان يسعى اليه النظام لشق وحدة وتماسك المجتمع كوسيلة للانتصار على المجتمع برمته. فخطر استمرار الارتباط بين النظام وقاعدته الاجتماعية الطائفية كان يفرض المراهنة بالحد الادنى على خلخلة هذا الارتباط او عدم جعله متينا ووثيقا الى الحد الذي اراده وسعى اليه النظام ، كما ان خطر الاسلمة هو ما جعل النظام ينجح في الوصول الى هدفه المتمثل في شد قسم لا باس به من ابناء الاقليات الطائفية الى خندقه او الى صف الحياد او الجلوس على مقاعد المتفرجين على مسرح الصراع والاحداث . فالاسلمة موضوعيا على المستوى السياسي خلقت ما كان يطمح له النظام بتشكيل تحالف الاقليات في مواجهة الثورة أي ان الاسلمة افقدت الثورة قوتها الناعمة السياسية القادرة الى جر كل المجتمع الى صفوفها والى حلبة الصراع والفعل الايجابي بدل التفرج على الاحداث او المشاركة فيها من الموقع السلبي المناهض للثورة . ففي المبدأ والوقائع الموضوعية والذاتية وحتى نقول عن طبقة أو تحالف طبقي أو تحالف سياسي أو ائتلاف قوى سياسية أو اجتماعية أنها جهة ثورية وقيادية وتحررية وقائدة لعملية تغيير ثوري تحرري في مجتمع من المجتمعات فعليها أن تمثل في برنامجها وفي سلوكها وممارستها السياسية العملية المصالح العامة للمجتمع , وبما يعني اولا : أنها تمثل مصالح الغالبية الساحقة من فئات المجتمع الراغب والساعي للتغيير أو التي من مصلحتها التغيير الثوري والتحرر , وثانيا : وهذا الاهم عليها أن تمثل الجهة التي بتحررها الذاتي تحرر المجتمع برمته , وبما يعني أنها تمثل المغناطيس والقطب الاجتماعي والسياسي الجاذب لكل قطاعات وفئات المجتمع , ففي هذه الشروط فقط يمكن أن نقول أن هذه القوة أو الجهة أو الائتلاف السياسي أو الطبقي الاجتماعي السياسي أنها قوة قائدة وتحررية وثورية , وبهذا المعنى فان الهوية الثورية والديمقراطية والتحررية لا تتحدد بدلالة مواجهة ومقاومة ومصارعة الاستبداد. فكثير ما نجد في الواقع قوى سياسية غير ديمقراطية من زاوية البنية السياسية والثقافية والفكرية تدخل في معارك ومواجهة مع النظم الاستبدادية كتنظيم القاعدة وداعش والنصرة ومشتقاتهم السياسية الجهادية الكثيرة كحركة أحرار الشام وجيش الإسلام وغيرهم , فدخول هذه التنظيمات الجهادية الإسلامية في معارك مع النظام ومهما بلغ إجرام هذه النظم لا يجعل منها تنظيمات ديمقراطية وثورية وبما يعني أنها صاحبة مشروع ديمقراطي تحرري ثوري . كما لا يجعل منها بحكم هويتها الطائفية قطبا مغناطيسيا جاذبا لكل فئات المجتمع ، فالمطالبة بالحرية من اجل اقامة دولة دينية هي رسالة الى المجتمع بان الجهة التي تطالب بالحرية وتريدها لا تريدها وتطالب بها من اجل كل المجتمع الامر الذي يعني اسقاطها عن ذاتها صفة التمثيل العمومي والتي جوهرها خلق شروط الحرية والتحرر لكل المجتمع . فالعكس كان الصحيح حيث مثلت الاسلمة فزاعة ضد الجميع استطاع النظام استغلالها وشكلت له طوق نجاة . على هذا الأساس من الفهم نجد أن اسلمة الثورة السورية وبما يعني سرقتها واحتكار تمثيلها السياسي والعسكري من قبل لون محدد سياسياً إيديولوجياً واجتماعياً أدى إلى فقدان الثورة السورية لطابعها العام , أي كونها ثورة تمثل المصالح العامة لكل السوريين , أي أدى إلى خسارتها لتفوقها السياسي الذي تمتعت به الثورة قبل الاسلمة . فمع الاسلمة أصبحت الثورة السورية وكأنها ناطقة باسم المصالح الخاصة لقوى سياسية واجتماعية وحتى طائفية داخل المجتمع السوري, فالاسلمة لم تكن تعني في نهاية المطاف سوى الرد على العصبية الطائفية التي يرتكز عليها النظام بعصبية طائفية مقابلة , أي الاعتماد على العصبية السنية في مواجهة العصبية العلوية , وبهذا فقدت الثورة طابعها المغناطيسي والتحرري والثوري الجاذب إليه للغالبية الساحقة من المجتمع السوري , كما قاد ذلك إلى وقف صيرورة الاستقطاب الاجتماعي والسياسي الجاذب نحو الثورة الأمر الذي تجلى أكثر ما تجلى في التفاف بقية الطوائف وتحديداً الأقليات الطائفية في سورية حول النظام أو في أحسن الأحوال الوقوف في ساحة الحياد والمراقبة والخروج من ساحة الحراك السياسي كما تجلى في فصل الحراك السياسي والثوري في بيئات الأقليات الطائفية ولا سيما الحراك الثوري الواسع داخل الطائفة الاسماعيلية والحراك الثوري داخل طائفة الموحدين الدروز عن الحراك الجاري في المناطق السنية , كما قاد الى عدم توسع هذا الحراك واستمراره بشكل تصاعدي ، كما قاد ذلك الى عزل حاد بين القشرة الرقيقة من النخب العلوية والمسيحية التي انخرطت في الثورة ومحيطها الاجتماعي وهو الامر الذي قطع الطريق على امكانية نمو هذه القشرة وتوسعها من جهة كما جعل هذا المحيط من جهة ثانية ينظر اليهم بعين العداء بوصفهم خونة ويجب التخلص منهم قبل غيرهم من الاسلاميين . وبهذا خسرت الثورة قسما لا بأس به من المجتمع السوري أو في أحسن تقدير انعزلت أو عزلت نفسها عن قسم من المجتمع السوري ، او لنقل هنا تم كسر سياق توسع وتطور صيرورة الثورة ، وإذا ما أضفنا إلى ذلك تداعيات خيانة طبقة كبار رجال المال والدين للثورة ولا سيما في دمشق وحلب مع قاعدتهما الاجتماعية الامر الذي وفر ملجأ وغطاء للنظام استطاع من خلاله الاحتفاظ ( وان يكن بشكل زائف ) بطابع عام للسلطة وللنظام والدولة بالرغم من كل مظاهر الاعتماد على قاعدته الطائفية وعلى حلفاء مكشوفة هويتهم الطائفية المذهبية نقصد هنا الميليشيات الطائفية الشيعية اللبنانية والعراقية , فبالرغم من عمل القوى الإسلامية التي تصدرت قيادة المعارضة والثورة سياسياً وعسكرياً على الاعتماد على العصبية الطائفية السنية إلا إن النظام استطاع استغلال خيانة طبقة كبار رجال المال والدين في دمشق وحلب أن يحاصر الثورة في جزء من الطائفة السنية , وقد أضاف النظام إلى رصيده هذا جزءا من الأقليات الطائفية التي التفت حوله أو التي وقفت على الحياد أو التي انعزلت موضوعياً عن المناطق الثائرة , وبهذا تم تجريد الثورة من طابعها الوطني العام فلا كانت ثورة سنية صرفة ولا كانت بعد الاسلمة ثورة وطنية سورية عامة, وبلغة الفلسفة يمكن القول بعد ان كانت الثورة في بدايتها ثورة وطنية بالفعل- أي تعبر عن كل السوريين- فإنها بعد الاسلمة تحولت الى ثورة وطنية بالقوة وهو الامر الذي كان يعني ويقتضي تخليص الثورة من يد القوى الاسلامية كي تتم اعادتها الى هويتها الاساسية بوصفها ثورة سورية بامتياز. وقد استطاع النظام النجاح في مسعاه في محاصرة الثورة إلى الحد الذي جعل حتى أصحاب الثورة وفلاسفتها يسمون الثورة بأنها ثورة سنية وهو الامر الذي كان يعني ضمنا – أي اطلاق هذه الاسم على الثورة - الموافقة على اسلمة الثورة او لنقل عدم وجود ارادة لتخليص الثورة من مخالب القوى الاسلامية التي انغرزت في جسم الثورة ، كما كان يعني القول انها ثورة سواء تدعشنت ( من داعش ) او تطيفت ( من الطائفية ) او تنصرنت ( من جبهة النصرة ) هو خلط مقصود بين الثورة وبين الثورة المضادة التي ولدت في احشاء الثورة او لنقل هو عدم اعتراف واقرار بان هناك ثورة مضادة تنمو وتولد في احشاء الثورة وقد تجلى ذلك الخلط اكثر ما تجلى عندما اعتبرت جبهة النصرة– في الوقت الذي كانت تشكل مع داعش تنظيما واحدا – انها تنظيم ثوري وانها احد قوى الثورة السورية وهنا وصلت الثورة ذروة خسارتها لتفوقها السياسي على نظام مكشوف ومذموم وفاقد للشرعية كونه يمثل نظاما يرتكز على العصبية الطائفية أي هنا فقدت الثورة تفوقها السياسي بوصفها ثورة تمثل كل الشعب السوري. إن خسارة المعارضة والثورة السورية لتفوقها السياسي يعود كذلك إلى كون المعارضة التي احتكرت تمثيل الثورة السورية بكل المراحل لم تستطع أن تشكل قطبا جاذبا يجمع تحت جناحه ومظلته كل الحساسيات والتعبيرات السياسية والإيديولوجية والفكرية والثقافية المعارضة في سوريا, والسبب لا يعود كما كانت تدعي المعارضة التي احتكرت التمثيل إلى كون السوريين لم يتمرنوا ويكتسبوا خبرة على الاجتماع والتوحد في ظل شروط ومناخ القمع والاستبداد طيلة عقود وعقود من الزمن فحسب, بل يعود لكون هذه المعارضة المكرسة اصبحت تمثل مصالح ومطامح القوى الدولية الإقليمية والعالمية التي ادعت مساندتها ودعمها للثورة والمعارضة - بدءاً من أمريكا مروراً بتركيا وصولاً إلى قطر والسعودية- أكثر من تمثيلها لمصالح ومطامح السوريين, لقد كان سهلاً على القوى السياسية التي احتكرت تمثيل المعارضة والثورة السورية, أي الإخوان المسلمون وعرابي الإسلام السياسي الاخواني نقول كان سهلاً عليهم ألف مرة التنازل لشروط وإملاءات الدول " الداعمة " , في حين كان التنازل للقوى السياسية السورية المحلية المعارضة أمرا مستحيلاً وصعب المنال, وهنا يمكن القول أن خضوع المعارضة التي احتكرت تمثيل الثورة لمشيئة ورغبات وإملاءات ومصالح ومطامح الدول " الداعمة " كان السبب الرئيسي وراء تمنع الكثير من النخب السياسية والثقافية السورية المعارضة في الانخراط في مؤسسات وهياكل المعارضة التي احتكرت التمثيل، وهو الأمر الذي جعل المعارضة السورية تبقى على مدار سنوات وسنوات مشتتة ومشرذمة في أكثر من جسم وتعبير سياسي أو تحالف سياسي أو حتى مشرذمة ومفتتة إلى نخب منفردة بذاتها لا حول لها ولا قوة, وهو الأمر الذي اضعف وافقد المعارضة والثورة السورية تفوقها السياسي وقوتها الناعمة الجاذبة بوصفها معارضة تعبر عن ثورة شعب ومجتمع بكل حساسياته وتعبيراته ومصالحه ومطامحه السياسية والثقافية والروحية.
لقد قاد اسلمة الثورة السورية وارتهان المعارضة التي احتكرت تمثيل الثورة للقرار السياسي التركي تجاه القضية الكردية إلى انشقاق داخل القوى السياسية الممثلة للشعب الكردي في سوريا, فقد انشق الحزب الديمقراطي الكردي ( ب- ي - د ) الشديد العداء للحكومة التركية كونه يمثل الفرع الكردي السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا ( ب-ك - ك ) عن تحالف قوى الأحزاب الكردية في سوريا التي انضوت بعد انطلاق الثورة السورية تحت مسمى المجلس الوطني الكردي, كما قاد ذلك إلى وقوع قطاعات كبيرة من الشعب الكردي تحت رحمة ونفوذ وسياسة الحزب الديمقراطي الكردي ( ب – ي – د ), فقد استغل الحزب الديمقراطي الكردي بقيادة صالح مسلم الحساسية التاريخية وحالة العداء التاريخي بين الشعب الكردي والحكومات التركية المتعاقبة التي عملت طيلة عقود وعقود من الزمن على اضطهاد الشعب الكردي ومارست بحقه شتى أشكال القمع والتنكيل والقتل والملاحقة, ورفضت حقه في تقرير مصيره القومي, كما استغل الحزب الديمقراطي الكردي وهذا هو الأهم عدم اعتراف المعارضة السورية– استجابة للرغبة التركية - بالحقوق القومية للشعب الكردي بشكل واضح وصريح, حيث بقي حق تقرير المصير للشعب الكردي حقاً مشروطاً وملتبساً وضبابياً عبر مقولة إن هذه الحقوق يحددها الشعب السوري ويبت بها بعد إسقاط النظام وانتصار الثورة. فبعد أن كانت الثورة السورية في بداية انطلاقتها قد فتحت باب الأمل للشعب الكردي في إمكانية حصوله على حقوقه القومية, وبعد أن عبرت الثورة عن مصالح ومطامح وحقوق كل المضطهدين في سوريا بكل أشكالهم وأنواعهم الطبقية والسياسية والاجتماعية والدينية والقومية, وبعد أن كان الحراك الثوري في الشارع الكردي يصب ويرفد ويكمل الحراك الثوري في الشارع السوري العربي في كل المناطق السورية التي اشتعلت فيها الثورة, أو لنقل بعد أن كان الحراك الثوري في الشارع الكردي جزءا عضويا وأصيلا من الحراك الثوري في سوريا, وبعد أن كانت الثورة السورية تجسد قمة التفوق السياسي على النظام الذي لطالما تنكر للحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي, وطالما مارس بحقهم الاضطهاد والعسف, نجد بأنه وبعد اختطاف الثورة من قبل القوى الإسلامية، وارتهان قرار المعارضة السورية للقرار السياسي التركي حيال القضية الكردية, فقد قاد ذلك إلى خسارة المعارضة والثورة السورية لتفوقها السياسي على النظام فيما يخص ويتعلق بالقضية الكردية, وهو الأمر الذي تجلى أكثر ما تجلى في قضية تحول القضية الكردية من ورقة قوة بيد الثورة والمعارضة وقضية التغيير الديمقراطي في سوريا بشكل عام إلى ورقة بيد النظام وحلفاء النظام, وهو الأمر الذي تجلى على ارض الواقع بانتقال الحزب الديمقراطي الكردي ( ب- ي- د ) بقيادة صالح مسلم إلى حليف تارة بشكل معلن ومكشوف وتارة بشكل سري للنظام وحلفاء النظام بدءاً بإيران مروراً بروسيا وصولاً إلى " حليفة " المعارضة السورية ونقصد هنا الولايات المتحدة الأمريكية التي استخدمت ما سمي بقوات سوريا الديمقراطية بقيادة الحزب الديمقراطي الكردي ( ب- ي د ) كعصا وأداة للضغط على تركيا الحليفة الثانية للمعارضة السورية من اجل قبولها بالحل الأمريكي الروسي المقترح للحل في سوريا بعيداً عن مصالح الشعب السوري من عرب وكرد وكل الهويات الاخرى التي تشكل الهوية الوطنية السورية وبعيدا عن أهداف ثورتهم الديمقراطية. اخيرا بقي ان اقول ان مساحة هذا المقال لا تتسع لتبيان كيف قادة الاسلمة لخسارة الثورة السورية لتفوقها الاخلاقي والثقافي وهو الامر الذي يجعلني اترك معالجة ذلك الى مقالين قادمين.


الاسلمة وخسارة الثورة السورية لقوتها الناعمة وتآكل تفوقها السياسي والثقافي والأخلاقي (1) lemonde.in 5 of 5
لومـــــوند : نبيل ملحم يخطئ كثيراً من يظن أن الثورات الاجتماعية أو السياسية قد انتصرت عبر التاريخ من خلال القوة الخشنة العسكرية المادي...
انشر ايضا على

عبر عن رأيك